أصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري «فصيل رياض الترك» موضوعات أسمتها «موضوعات المؤتمر السادس للحزب الشيوعي السوري» وقد طرحتها للمناقشة العامة، وعليه، فقد كانت هذه المساهمة.
تمتاز هذه الموضوعات -مقارنة بغيرها- بأنها كتبت بتقنية عالية مستلهمة من تقنيات أبدعتها مراكز الأبحاث والدراسات في الغرب. ولعل السمة السائدة لهذه التقنية تتبدى في حشد هذا الكم الهائل من العبارات والأفكار الجزئية والمصطلحات التأسيسية للأفكار الرئيسية التي تدور حولها الموضوعات، فلا يبقى أمام المتلقي سوى خيارين: فهو أما أن يتوه في الجزئيات، وأما أن يسلم بمعظمها -وإن اختلف مع نتائجها- ليقعد مستريحاً ومريحاً.
أمام هذه الحالة لا يتبقى أمام الرؤية النقدية العلمية سوى تفكيك النص وإعادة بنائه مجدداً على أساس رد مجموع الأفكار الجزئية إلى أصولها المعرفية؛ ليتسنى لنا بذلك إعادة تنظيم الفوضى؛ حينها تتوضح فوضى الفوضى.
ويقتضي ذلك بداهة، البدء في تناول:
منهج الموضوعات
تنطلق الموضوعات من منهج براغماتي واضح يرتكز على إقرار رؤيا مستقبلية محددة مسبقاً، وتبحث هذه الرؤيا عن سند معرفي وتاريخي للتدليل على صحتها. ولما كانت هذه الرؤيا في كل ثنايا الموضوعات تسير في تناقض دائم مع معطيات الحياة والعلم، لزِم من ذلك اللجوء إلى ليِّ عنق النظرية والوقائع بهدف إحراز التساوق المطلوب -حتى وإن كان شكلياً-.
فالفكر وأدواته المعرفية -حسب رأي كاتبي الموضوعات- «في سيرورة مستمرة، يحاول الفكر فيها لا أن يعي التطور الواقع وحسب، بل أن يسبقه ويستشرف آفاقه». ولا ندري إن كانت هذه الرؤيا لمهمة الفكر هي تطوير خلاق لرؤية ماركس من أن جميع الفلاسفة الذين سبقوه كانوا يسعون لتفسير العالم، وإنما القضية عنده هي في تغييره، أم أن المسألة تتوضح في رفع الراية البيضاء منهجياً والاستسلام أمام الواقع العالمي وفقدان الثقة المطلق بقضية انتصار المستضعفين في الأرض. والواضح في كل ثنايا الموضوعات أن هذه الفكرة المبدئية لدى كاتبيها تضغط بكل قوة على كل أفكارها الجزئية، بل يمكننا القول أنها تصبح محددة للاتجاه العام في الموضوعات التي لا ترى من مهمة لهذا الحزب الجديد سوى التعامل مع الواقع القدري للرأسمالية (ولا ندري إن كانت هي نهاية التاريخ حسب تعبير فوكوياما) لتكون أكثر عدلاً... أكثر إنسانية... باتجاه المزيد من الأنسنة... وتقليص الفوراق بين الشعوب...
وهذه الفكرة المبدئية تقود بالضرورة إلى استحقاقات في مقدمتها التخلص التدريجي من وزر حمل الماركسية لسنوات طويلة. ولضرورات تكتيكية نفعية لا بد من إرضاء بعض من تعز عليه الماركسية، وهنا لا يجد كاتبو الموضوعات ضرراً من تقديم القليل من التنازل فيجودوا عليهم بأن الماركسية «كانت وستبقى جزءاً رئيساً من مكونات نبع المعرفة والحياة»، ولكي لا يبالغ من تعز عليه الماركسية في أوهامه عليه أن يفهم حقيقة الماركسية ، ولكي لا يُصدم ، تتدرج الموضوعات في تعريفه إياها مستفيدة من نتائج عمل آلة الدعاية المعادية لها خلال عشرات السنين، فبعد أن رسخت تلك الدعاية ديكتاتورية ستالين وجهله في خُلد المعتز بالماركسية ، يمكن الحديث عن اللينينية بالقراءة الستالينية، ومن ثم، اعتبار اللينينية ظاهرة روسية، ومن ثم، الحديث عن البراغماتية اللينينية، ومن ثم، الحديث عن البنية السياسية - الاجتماعية للينينية والبنية الفلسفية الإنسانية للماركسية ، عندها يمكن الحديث بوضوح كامل عن الفارق بين ماركس وماركس الشاب «المهموم بالفرد وعوالمه» مع ضرورة الاهتمام بكتاباته المبكرة!!. دون أن ينسوا الإشارة إلى أفق «رأس المال» المفتوح.
ولا يتوقف استرضاؤهم لمن تبقى لديه بعض الاعتزاز بالماركسية عند هذا الحد، بل يتقاطر جودهم فيعتبرها جزءاً مع غيره من منجزات التراث الإنساني والقومي السابق واللاحق، وفي هذا ما يوضح أصلاً من أصول التفكير عند كاتبي الموضوعات، إذ يتبدى منهج سكوني تلفيقي يرى نتائج الفكر والعلم مجموعات متراصفة أفقياً بجانب بعضها البعض مغضياً النظر عن بدئية منهجية تراه في تطوره التعاقبي الشاقولي.
ويستمر المشروع الليبرالي عبر الموضوعات في محاولات حشد الماركسين حوله باعتبارهم لا يحملون تاريخياً «عقدة الأجنبي»، فيتذاكى في تفسيره لمصطلح العولمة ممهداً بالحديث عن الخطاً الذي ارتكِب بالنظر إلى الامبريالية على أنها شر مطلق، ليرى في العولمة جوانب إيجابية يجب العمل على تعزيزها، ويُنظِّر فلا يجدها سوى عملية معقدة عديدة الأبعاد ، ولكي لا يتوقف عند هذا التعريف يلجأ إلى البيان الشيوعي (مضى على كتابته 156 عاماً) فينتزع مجموعة من العبارات من سياقها ويلصقها بتعريفه ، ولا يجد غضاضة أيضاً من إضافة بعض العبارات اللينينية المجتزأة من «الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية» /لزوم الشغل/. وتبلغ المفارقة ذروتها عند مجاراته لروح العصر، فيرى في حركات مناهضة العولمة، الحركات الأكثر حرصاً على الجوانب الإنسانية في العولمة، ولا يسعنا هنا سوى تنبيهه بأن بعض هذه الحركات تعلن ليل نهار أنها حركات «أناركية = فوضوية جديدة» نضالها يصب في الجهة المناقضة تماماً لموقعه من حيث سعيه لبناء «الدولة القوية».
ولا تغفل الموضوعات المراعاة النظرية للفئات التي تسعى للتحالف معها فتقدم تنازلاً جديداً لها، ولكن هذه المرة في الفلسفة، فترى الديالكتيك قد أصبح مجموعة من الثنائيات السكونية على يد معتنقيه وتضرب مثالاً على هذه الثنائيات الساكنة «المادية في مواجهة المثالية» وتستنتج أن هذه الثنائيات الساكنة هي التي جمدت الفعالية الفلسفية طويلاً!!!. لتجد الحل في العقلانية التي تتعارض مع التخطيطية!!!.
كيف تبدت هذه الرؤى والأصول النظرية في الطروحات السياسية التي من أجلها كانت:
أولاً: في المحور الوطني:
أحد فصول الموضوعات يبدأ بالعنوان التالي: «فلسطين - إسرائيل: سبب إضافي كبير للحالة العربية». ولا يحتاح القارئ إلى مجهود كبير في معرفة دلالة مثل هذا العنوان، الذي أول ما يلفت الانتباه فيه غياب مصطلح «القضية الفلسطينية» ليحل عوضاً عنه «فلسطين - إسرائيل»، بما يحمله من حيادية ملفتة تشف عن طبيعة رؤيا كاتبي الموضوعات للصهيونية، ومن نافل القول أن العنوان بحد ذاته يفصح عن مستوى من التعامل مع القضية الفلسطينية يتحدد: بما تعنية من آثار على الوضع العربي، ليس أكثر.
وبعد الدخول في متن الفصل نرى العجب العجاب فلا نستغرب حينها العنوان.
يقدح معدو الموضوعات زناد فكرهم لمعرفة طبيعة الدولة الإسرائيلية فلا يجدونها أكثر من «حاجة امبريالية واستثمار امبريالي»! وعليه فإن الامبريالية تسعى إلى الإمساك بمنطقة المشرق العربي «وسوف تكون إسرائيل على ما يبدو المرتكز الاستراتيجي في هذا القوس الواسع»! هذه هي طبيعة إسرائيل عند معدي الموضوعات، إبداع في التحليل ما بعده إبداع! فلا غرابة بعد ذلك أن يتجه التحليل إلى تحديد الفترة التي أرادت فيه الولايات المتحدة إنجاز تسوية مع الدول العربية، وتلك الفترة التي لم ترد.
ولنا أن نتساءل ألا تشكل إسرائيل باعتبارها الوجود الاستيطاني للصهيونية على الأرض العربية قمة من الهرم بالنسبة إلى النظام الرأسمالي العالمي الإجرامي؟ وهل هي حاجة امبريالية (بما تعنيه هذه الكلمة من دلالة زمنية مؤقتة) أم دولة للصهيونية المتحكمة بالرأسمال المالي العالمي؟ ألم توعَد الصهيونية بأرض فلسطين في نفس الفترة التي سيطر فيها الرأسمال المالي العالمي؟ أولا يتحكم الرأسمال المالي بكل حركة الرأسمال في العالم أجمع.
فلما كانت هذه هي طبيعة إسرائيل عند كاتبي الموضوعات لم نستغرب كثيراً ما جاء بعدها من ترهات، من مثل:
■ إسقاط حق العودة عن اللاجئين الفلسطينيين!!!
■ اعتبار ثقافة الاستشهاد قد تحولت إلى ثقافة للموت!!!
■ المطالبة بوقف التدهور العربي بهدف وقف تعميم ثقافة الموت!!!
■ حل إشكالية مسار التقدم والديمقراطية في المستوى القومي ، هو طريق السلام العادل للقضية الفلسطينية!!!
■ اعتبار العمليات الاستشهادية تعبيراً عن اليأس والخلاص السهل!!!
■ تنزع إسرائيل نحو البحث عن سبل الخلاص من العيوب المصاحبة للتجربة الصهيونية!!!
وبعد... فلا أجد ضرورة للتعليق.
ثانياً: في المحور الاجتماعي -الاقتصادي:
يتلخص هذا المحور بنقطتين:
الأولى: مفهوم الحق البرجوازي، والثانية: قطع مسار التطور الطبيعي في سورية.
من خلال الإقرار بمفهوم الحق البرجوازي تنقلب الحقائق في الموضوعات رأساً على عقب، فتصبح حرية الفرد الاقتصادية معياراً لحسن الأداء الاقتصادي، وتؤخذ الإحصاءات من المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، ولا يُعاب على البرجوازية الهبّاشة أنها لاتأتي بمسروقاتها إلىالداخل لتستثمرها لفقدان الأمان من هبّاشين آخرين، وياللعار.. وياللفضيحة.. فإن بعض الهبّاشين يأخذون حصة أكبر من الكعكة، على المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان والشرعية الدولية أن توقفهم.
ولا ندري كيف قُطِع التطور المجتمعي الطبيعي عندما حلت رأسمالية الدولة بدل البرجوازية؟ وهل التطور المجتمعي الطبيعي يتحدد بطبيعة علاقات الإنتاج أم في أي رأسمالي هو مالك لوسائل الإنتاج؟ وهل يعيق التطور الرأسمالي أن تكون الدولة هي الرأسمالي الكبير، أو حتى غير الدولة؟ أم الأمر في حقيقته «قم لأقعد مكانك»؟ والسؤال الذي يطرح نفسه على الدوام: أليست الاشتراكية هي رأسمالية دولة مترافقة مع ديمقراطية قصوى؟ ولئن كان الأمر كذلك أليس من الأجدر على من يجعل الديمقراطية همه الأول والأخير أن يرافق نضاله الديمقراطي بالدفاع عن قطاع الدولة ليحقق أكبر عدالة؟
ومما يدعو إلى الإعجاب بالقدرات العقلية الفائقة لمعدي الموضوعات استنتاجهم: أن قطع التطور الطبيعي وظهور رأسمالية الدولة بدل البرجوازية الصناعية جعل الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقراً، مما يعني أن التطور الرأسمالي الطبيعي كان سيغني الأغنياء والفقراء على حد سواء.
ثالثاً: في المحور الديمقراطي:
في هذا المحور يحيلنا معدو الموضوعات إلى نتائج الفكر الإنساني ما قبل ماركس، إذ أن الكثير من جوانب الماركسية قد شاخت، أما ما قبل ماركس فلم يشخ!. نعود وإياهم في قرائتنا للموضوعات إلى نظرية العقد الاجتماعي، فما الديمقراطية سوى اتفاق طوعي بين الحاكم والمحكوم، وهي الوصفة السحرية التي يمكنها الإجابة عن أسئلة أنطولوجية كبرى من مثل: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟ أما الدولة لديهم فهي «تعبير ملموس عن العقد الاجتماعي والمصلحة الجمعية، لا مجرد أداة قمع بيد الطبقة السائدة»، هكذا يطور كاتبو الموضوعات مفهوم الماركسية للدولة ! والديمقراطية لديهم «لا ترفض الليبرالية، ولكنها تربطها بالحقوق الجمعية للشعب، عكس الاتجاه الذي يحاول به الليبراليون أن يتملّصوا من الواجبات العامة»! وبعبارة أوضح تتسول الجماهير الشعبية بعض حقوقها منها.
أما ضمانات التغيير لديهم فهي الشرائع الدولية وتزايد التوافق على الشرعية وما يمكن توثيقه بالبنى والمؤسسات الاقليمية وتطور العالم بإعلامه ورقابته وشرائعه و...
ومن غرائب الموضوعات الكثيرة وهي التي جعلت الديمقراطية دينها وديدنها أنها تنظر إلىالطلاب وقد تحولوا إلى«حياة القطيع المردّد للشعارات التي تمجّد السلطة الاستبدادية وعبادة الفرد، الممارس للكذب والتطبيل والتزمير» وإلىالعمال وقد تحولوا «إلى أعضاء نقابات من غير حياة إلاّ على أساس التسلّق والتملّق..»!!.
بهذه السطحية وبهذا الاستخفاف الشديد بعقل المتلقي يتم تناول مفهوم الديمقراطية والدولة، ولا نعثر في كل ثنايا الموضوعات على ما هو أعمق من ذلك. وبهذا أتوقف في هذا المحور رغم أهميته البالغة لعدم العثور على ما يمكن مناقشته مناقشة جادة.
■ ماهر حجّار
[email protected]