|
اليمين المصرى يرتدى قمصان الشيوعية الحمراء!
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 2480 - 2008 / 11 / 29 - 07:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم أصدق عيناى عندما فتحت الصحف المصرية– القومية وحزبية وخاصة- لأجد إسم الثائر الأسطوري إرنستوتشى جيفارا يحتل مكاناً بارزا فى الصفحات الأولى والصفحات الأخيرة. نحيت الجرائد جانباً معتقداً أنى مازلت بين النوم واليقظة لكننى فوجئت بالقنوات التليفزيونية المصرية، الفضائية والأرضية، تتحدث عن الزعيم اليسارى الذى اغتالته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية غيلة وغدراً فى أحراش بوليفيا. إذن ما قرأته لم يكن أضغاث أحلام. ولابد أن "ثورة" قد اندلعت فى البلاد ونحن نيام، بحيث أصبحت صحفنا القومية مثل "البرافدا" و"الازفستيا" وغيرها من الصحف "الحمراء" إبان العصر السوفيتي السابق، تتصدرها صور رؤساء تحرير بعضها يجلسون مع إبنة الزعيم الماركسى- اللينينى إرنستوتشى جيفارا فى جلسات يبدو منها ومن الكلام المكتوب أسفلها أنها جلسات ودية وحميمة. وفى حدود معلوماتى فإن الدكتورة "إليدا" ابنة الثائر جيفارا لم تتنكر لمسيرة والدها ولم تستنكر أفكاره أو مواقفه، كما لم تتاجر بملحمته الكفاحية الأسطورية أو تسعى للتربح من ورائها، بل اكتفت بأن تحمل ذكراه بين حنايا القلب وان تمارس حياتها كطبيبة تقدم يد المساعدة لأكبر عدد ممكن من الذين يحتاجونها، حتى أنها جاءت إلى أفريقيا وقضت فيها بضعة سنوات، مثلما فعل والدها. الفارق الوحيد أنه جاء ليساند حركات الكفاح المسلح ضد القوى الاستعمارية وأعوانها المحليين بينما جاءت هى لتضمد الجراح وتخفف آلام ضحايا ذات القوى أو ورثتها. فإذا كانت إبنة جيفارا لم تتغير وتنتقل من اليسار إلى اليمين، فلا بد أن أصدقاءنا الصحفيين والإعلاميين الذين لم نسمع عنهم شبهة الانتماء لليسار، أو حتى التعاطف ولو من بعيد معه فى يوم من الأيام، قد تاب الله عليهم ومنّ عليهم بالانتقال من الظلمات إلى النور، ومن اليمين إلى اليسار، بين عشية وضحاها.. والله على كل شيء قدير! لكن المسألة لا تقتصر على صحافتنا وإعلامنا، بل إن "جيفارا" أصبح "رمزاً" فى سائر أنحاء المعمورة. ولم يعد هذا الرمز مرتبطاً فقط بأفكار الرجل الثورية، وإنما أصبحت له مظاهر متعددة ومتنوعة وفى حالات كثيرة أبعد ما تكون عن جيفارا ومسيرة النضالية. فقد انتشرت فى سائر قارات الدنيا سلسلة مطاعم ومقاهى تحمل اسمه، وأصبحت "التىشيرتات" التى تحمل صوره مألوفة فى حوارى وأزقة مدن العالم الثالث والعالم الأول على حد سواء، وكثير من هؤلاء الذين يرتدونها لا يعرفون شيئا يعتد به عنه أو يجهلون القراءة والكتابة أصلاً! وهذه مسألة ملفتة للنظر.. فهذا الثائر، الذى قامت وكالات المخابرات المركزية الأمريكية باغتياله فى 9 أكتوبر 1967 فى غابات بوليفيا، قد عادت "أسطورته الثورية" لتفرض نفسها على العالم بأسره. ومتى؟ فى الوقت الذى تخيل فيه كهنة الإمبراطورية الأمريكية والرأسمالية العالمية أن البشرية قد وصلت إلى "نهاية التاريخ"، حيث لا صوت يعلو فوق صوت "النيوليبرالية" و "المحافظين الجدد" وفلسفة الاقتصاد الحر فى أكثر طبعاتها توحشاً وأنانية وعدوانية. فى هذا الوقت بالذات، الذى تصور فيه كثيرون أن "اليسار" قد مات بالسكتة الدماغية أو الضربة الرأسمالية القاضية، عاد شبح هذا الثائر العجيب يحلق فى سماء العالم. وبينما كانت مدرسة "العولمة" تروج لقيم "جديدة" تزين للدنيا بأسرها الوقوع- الناعم حينا والدموى أحيانا- فى براثن "الأمركة" والهيمنة الأبدية للإمبراطورية الأمريكية، رأينا تيار العولمة "البديلة" يواجه العولمة المتوحشة بسيل من الأفكار والأسلحة المضادة من بينها صورة جيفارا.. لكن لماذا جيفارا بالذات؟! إن سلالة الثوار فى سائر أنحاء الدنيا لم تنقطع أبداً، بل إن قائمتها طويلة. لكن لماذا قفزت صورة جيفارا بالذات إلى الذاكرة الجمعية لشعوب العالم عندما دخلت البشرية فى مرحلة "الجزر الثورى" ووقعت تحت هيمنة أقصى اليمين منذ عصر تاتشر- ريجان؟! الأرجح أن قصة حياة جيفارا تختزل فى طياتها الملامح المثالية لصورة الثائر فى كل زمان ومكان. فهذا رجل ولد فى الأرجنتين ودرس الطب فى جامعة بوينس أيرس. وكان الطريق مفروشاً أمامه بالورود ليكون نجما فى المجتمع يمتلك الثلاثة "عين" الشهيرة: العزبة والعيادة والعربية.. وربما ماهو أكثر, لكنه ترك ذلك كله وراءه وانضم إلى المظلومين والمحرومين ونذر حياته للدفاع عنهم أينما كانوا. وكانت محطته الأولى هى كوبا حيث تزامل مع فيدل كاسترو فى إسقاط الدكتاتورية العسكرية بقيادة الجنرال باتيستا عام 1959. ورغم أن الثورة الكوبية نجحت وتم تعيين جيفارا محافظا للبنك المركزى ثم وزيرا للصناعة وممثلا لكوبا فى الخارج ومتحدثا باسمها فى الأمم المتحدة، فانه لم يتوافق مع حياة السلطة. فترك "الجمل بما حمل" وغادر كوبا سراً دون كلمة وداع حتى لأقرب أصدقائه فيديل كاسترو. وكل ما تركه رسالة يقول له فيها "أشعر أنى أتممت مالدى من واجبات تربطنى بالثورة الكوبية على أرضها. لهذا أودعك وأودع الرفاق، وأودع شعبك الذى أصبح شعبى. وأتقدم رسميا باستقالتى من قيادة الحزب، ومن منصبى كوزير، ومن رتبة القائد، ومن جنسيتى الكوبية، لم يعد يربطني شيء قانونا بكوبا". بهذه الرسالة المذهلة ودع جيفارا كل المناصب وكل الإغراءات، وكأنه على ابن أبى طالب وهو يقول دعاءه الشهير " يا دنيا إليك عنى .. يا دنيا غرى غيرى". لكنه لم يودع الكفاح بل بدأ فصلاً جديداً فى ملحمته الأسطورية حيث جاء إلى أفريقيا لمساعدة حركات التحرر، لكنها كانت تجربة غير ناجحة، عاد بعدها إلى البلاد التى طاف بربوعها على ظهر دراجة نارية وهو فى السنة النهائية من كلية الطب، وانضم إلى صفوف الثوار فى بقعة أخرى من بقاع أمريكا اللاتينية، فى بوليفيا، حيث لم يكن يحلم فقط بخلق حركة كفاح مسلح فى بوليفيا، وإنما بتوحيد حركات التحرر فى أمريكا اللاتينية بأسرها لمواجهة الهيمنة الأمريكية ونهبها الاقتصادى المرعب لمقدرات هذه البلدان. والنهاية .. معروفة وتوجع القلب.. شأنها شأن نهاية "الحسين" حيث لا فرق بين كربلاء وأحراش بوليفيا. هذه الملحمة تنطوى على كل عناصر الدراما، والتراجيديا، والرومانسية فى آن واحد. ولا عجب أن تستعيدها الذاكرة الجمعية للبشرية.. عندما حاولت الرأسمالية المتوحشة أن تكتب نهاية تعسفية للتاريخ وأن تحول الشعوب إلى دكاكين وشركات والمواطنين إلى مجرد مستهلكين أو حتى سلع. ومن هنا عادت ذكرى جيفارا كأحد التعبيرات عن أشواق الناس الأزلية الأبدية فى العدل والحرية. ولا بأس- فى ظل هذه الأشواق الإنسانية- من أن يتاجر البعض بصورة الثائر الأسطوري وإسمه الذى يحوله البعض إلى ماركة تجارية اليوم بعد أن كان مجرد ذكره بالأمس فى ثنايا أى مقال بصحفنا القومية الغراء كفيلا بإيداعك غياهب السجون والمعتقلات.. فسبحان مغير الأحوال!
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقيب النقباء .. كامل زهيرى
-
هل يشكل طه حسين حكومة الأمل؟!
-
اكتشافات كامل زهيرى الرائعة
-
رغم الاحتفالات بالمئوية: فضيحة ثقافية تهدد الفنون الجميلة
-
التعليم المفتوح.. يفتح عكا .. والمنصورة!
-
اليوم السابع
-
الرأسمالية ليست نهاية التاريخ
-
أرامل- ماما أمريكا-!
-
دفاتر يسارية تقاوم السقوط بالتقادم (2) .. الجماهير تدخل الثك
...
-
دفاتر يسارية تقاوم السقوط بالتقادم (3).. عناصر موالية لعبد ا
...
-
دفاتر يسارية تقاوم السقوط بالتقادم (4).. -إشتراكية- ملطخة بد
...
-
دفاتر يسارية تقاوم السقوط بالتقادم (5) ..النهاية: صفقة غير م
...
-
دفاتر يسارية تقاوم السقوط بالتقادم (6-6).. ملحمة من الأمجاد.
...
-
دفاتر يسارية تقاوم السقوط بالتقادم1 ..الشيوعيون.. حدوتة مصري
...
-
نهاية عصر الدولار
-
عادل سيف النصر
-
عندما ينافس -تليفزيون الواقع- مسلسلات رمضان!
-
مبادرة مبارك الشجاعة: الوطن هو الرابح الأول
-
من مبطلات الصيام: تقرير الحريات الدينية
-
أشواك فى طريق حب الوطن
المزيد.....
-
العراق يعلن توقف إمدادات الغاز الإيراني بالكامل وفقدان 5500
...
-
ما هي قوائم الإرهاب في مصر وكيف يتم إدراج الأشخاص عليها؟
-
حزب الله يمطر بتاح تكفا الإسرائيلية ب 160 صاروخا ردّاً على ق
...
-
نتنياهو يندد بعنف مستوطنين ضد الجيش الإسرائيلي بالضفة الغربي
...
-
اشتباكات عنيفة بين القوات الروسية وقوات كييف في مقاطعة خاركو
...
-
مولدوفا تؤكد استمرار علاقاتها مع الإمارات بعد مقتل حاخام إسر
...
-
بيدرسون: من الضروري منع جر سوريا للصراع
-
لندن.. رفض لإنكار الحكومة الإبادة في غزة
-
الرياض.. معرض بنان للحرف اليدوية
-
تل أبيب تتعرض لضربة صاروخية جديدة الآن.. مدن إسرائيلية تحت ن
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|