|
ثقافة (الأفكار النمطية)
طارق حجي
(Tarek Heggy)
الحوار المتمدن-العدد: 2478 - 2008 / 11 / 27 - 10:09
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الأفكارُ النمطية" هي ترجمتي الخاصة لتعبير (Stereotype) الإنجليزي وأُرحبُ من البدايِة بأن أعرف أن هناك ترجمةً أو مصطلحاً عربياً أفضل من ذلك (وقد أستبعدت أن أسميها الأفكار الإكليشيهاتية – لأن كلمة "إكليشيهات" وإن كانت مستعملة في حديثنا اليومي إلاِّ أنها من أصل فرنسي). وما أقصده بالأفكارِ النمطيِة، تلك الصيّغ التي تشيع بين الناسِ بحيث يرددها كثيرون دون أن يتصدى معظمُهم لفحصِها وتمحيصِها وعرضِها على "العقلِ" و "المحصولِ المعرفي" لرفضِها أو قبوِلها. و"الأفكارُ النمطية" ظاهرةٌ إنسانيةٌ – بمعنى أَنها توجد (بدرجاتٍ مختلفةٍ) في كلِ المجتمعاتِ – وإن كان ذلك "الشيوع" أو "الذيوع" لا يمنع من وصفِها بأنها "ظاهرةٌ إنسانيةٌ سلبيةٌ".ففي الغربِ، عشراتُ "الأفكارِ النمطيةِ" عن المجتمعاتِ والحضاراتِ والثقافاتِ الأخرى. ولدينا أيضاً الكثير من هذا الفيضِ من الأفكارِ التي يكررها الناسُ لا لسببٍ إلاَّ لشيوعِها وذيوعِها. والذي يحضني على وصفِ هذه الظاهرةِ بأنها وإن كانت "إنسانية" إِلاَّ أنها "سلبية" أنها ظاهرةٌ تعمل لصالحِ "النقلِ" (وهو الوقود الأكبر لها) وتعمل في نفسِ الوقتِ ضد مصلحةِ العقلِ (وهو الذي كان يستوجب عرض تلك الأفكار عليه وعلى المحصولِ المعرفي (من تراكماتِ العلمِ والتجربةِ الإنسانيةِ) للرفضِ أو القبولِ. وفي إعتقادي أن الإنسانيةَ لن تتخلص بشكلٍ مطلقٍ من "الأفكارِ النمطيةِ" ولكن بوسعِها أن تحد من ذيوعِها. وفي تصوري أن أهم مصادر إستفحال حجمِ وعددِ وتأثيرِ "الأفكارِ النمطيةِ" هي أربعةُ مصادرٍ أساسيةٍ.أما المصدرُ الأول فهو عدم وجود محصولٍ معرفي ثري ومتعددٍ الجوانب وعصري. وأما المصدر الثاني فهو عدم شيوع "الحوارِ الحرِ والمتواصلِ" بصفته –في ظني- أكبر أعداء "الأفكار النمطية".وأما المصدر الثالث فهو عدم خروج (عولمة إنسانية) من رحمِ إرهاصات العولمةِ الحاليةِ والتي تقف على أرضيةٍ "إقتصاديةٍ/سياسيةٍ" أكثر بكثيرٍ من وقوِفها على أرضيةٍ "إنسانية/ثقافية" .وأما المصدرُ الرابع فهو التواجد نفسياً في حالةِ دفاعٍ عن النفسِ متفاقمة – وسأحاولُ إلقاء بعض الضوءِ على تلك المصادر الأساسية وعلى الأدوات الفكرية التي أظنُ أنها ذات قدرةٍ عاليةٍ وفعاليةٍ كبيرةٍ في "تحجيمِ" و"تقزيمِ" "ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ".
أًما المصدرُ الأول من مصادرِ شيوعِ "ثقافة الأفكار النمطية" فهو إتسام المحصول المعرفي لأفرادِ أي مجتمعٍ بوجهٍ عام وأعضاءِ النخبةِ المتعلمةِ والمثقفةِ بوجهٍ خاص إما بهزالِ التكوينِ أو بمحليةِ التكوينِ أو بعدمِ الإتساعِ الأفقي للتكوين – وهي كلها عناصر تجعل العقول غير مزودةٍ بالآراءِ الأُخرى العديدة المحتملة في كلِ حالةٍ . وقد يكون حتى أعضاء النخبة المتعلمة والمثقفة أصحابَ محصولٍ معرفي لا بأس به ولكنه قد يكون من جهةٍ "محصول تقليدي" أي لا يضم مستحدثات المعرفة ولا سيما في العلومِ الإجتماعيةِ .. وقد يكون محصولُهم المعرفي لا بأس به ولكنه إما مغرق في الماضويةِ (بقرونٍ) أو نسبي الماضوية (بعقودٍ) - فما أكثر المثقفين (لا سيما في العالم الثالث) الذين ينتمي محصولُهم المعرفي لعقدِ الخمسينيات والستينيات أكثر من إنتماءهِ للزمنِ الآني . كذلك قد تحول ظروفٌ عديدةٌ دون إتسام محصولهم الثقافي بالتخلي عن الإغراقِ في المحليةِ والإبحارِ في ما وراء حدود ذلك . كذلك قد يكون المحصولُ المعرفي ثرياً في جوانبٍ ومفتقراً لجوانبٍ عديدةٍ لا سيما من جوانبِ العلومِ الإجتماعية الأحدث . وهكذا يتضح أن وجودَ محصولٍ معرفي (لأفرادِ أي مجتمعٍ بوجهٍ عامٍ ولأعضاءِ النخبةِ المتعلمةِ والمثقفةِ بوجهٍ خاصٍ) متسم بثراء التكوين وعدم الإستغراق في المحلية والإتساع الأفقي بما يعنيه من ضم مناطقٍ جديدةٍ من مناطقِ المعرفةِ هي عوامل تجعل العقلَ أكثر تحصناً (بشكل نسبي) من المجاراةِ الكاملةِ (أو شبه الكاملة) لصيغِ الأفكارِ النمطيةِ - إذ يكون متاحاً لهذا العقلِ التعرف على بدائلٍ فكريةٍ قد تكون (عند التمحيص والمفاضلة) هي إختياره عوضاً عن ترديد ما لا قوة دفع له في الكثير من الحالات إلاِّ الشيوع والذيوع والإنفراد بالساحة .
وأًما المصدرُ الثاني من مصادرِ شيوعِ "ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ" فهو عدم قيام الحياةِ التعليميةِ والثقافيةِ والإعلاميةِ على أساسٍ متينٍ من ثقافةِ الحوارِ (الديالوج) . فكلما كانت أساليبُ التعليمِ على دربِ التلقينِ وإختباراتِ الذاكرةِ وكلما كانت العلاقاتُ في دنيا التعليمِ بل وفي المجتمع بوجهٍ عامٍ هي علاقات تقوم على المنولوج (أي مرسل ومستقبل) ولا تقوم على الحوار (الديالوج) فإن شيوعَ الأفكارِ النمطيةِ يجد مناخَه الأمثل ، إذ أن "المنولوج" هو أداةُ إنتقالِ وشيوعِ وسيادةِ الأفكارِ النمطيةِ. والعكسُ صحيح : فالحوارُ (الديالوج) هو أداةُ تحجيمِ فرصِ شيوعِ الأفكارِ النمطيةِ .
وأًما المصدرُ الثالث من مصادرِ شيوعِ "ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ" فهو أن أنصارَ ودعاة العولمة لم ينجحوا بعد في تحويلها من ظاهرةٍ تقف على "أرضيةٍ سياسيةٍ/إقتصاديةٍ" إلى ظاهرةٍ تقف (في نفسِ الوقتِ) على "أرضيةٍ إنسانيةٍ/ثقافيةٍ" . فلا تزال مفاهيمُ العولمة بحاجةٍ ماسةٍ لبعدٍ إنساني وبعدٍ ثقافي يجعلها في عيونِ أبناءِ العالمِ غير المتقدم أقل توحشاً وأقل قابلية للفتكِ بمجتمعاتهم (سواء كان الفتكُ هنا سياسياً أو إقتصادياً أو ثقافياً) . ورغم عدم وجود حساسية عندي للإيمان بأن "الغرب" (وهو منبع مفاهيم العولمة) هو الجهة التي تجلس اليوم على مقعد قيادة التقدم (بكل المعاني) فإن ذلك لا يمنعني من أن أؤمن بوجودِ حاجةٍ ماسةٍ لأن يقوم الغربُ بإضافةِ بعدين على نفسِ الدرجةِ من الأهميةِ لمفاهيمِ العولمةِ ، وهما البعد الإنساني والبعد الثقافي – وأتصوَّر أن وجودَ قيادةِ العالم اليوم في يدِ الولايات المتحدة الأمريكية هي من أسبابِ هذا القصور الكبير – وإن كنت أتصورُ أيضاً أن تجاوز هذا القصور يكون بالحوارِ لا بالعداءِ والمقاطعةِ وكيلِ التهم (من الجانبين). وهذا القصور لا يعتري فقط "مفاهيمَ العولمةِ" ولكنه يعتري مفاهيماً أخرى مثل "حقوق الإنسان" و"الحريات العامة" و"الديمقراطية": فلا شك عندي أن الغربَ (الذي طوّر هذه المفاهيم في مجتمعاته) بحاجةٍ لأن يدرك حتمية إضفاءه بعداً إنسانياً على هذه المفاهيم ، بمعنى أن يتعامل معها كمفاهيمٍ عامة سامية (غير إقليمية) ينبغي أن تعم وتضم سيادتها كل الإنسانية ، وإلاِّ يشوب ذلك ما هو متواتر اليوم من كيلٍ بمكيالين حتى لا تكفر شعوبُ العالمِ بهذه المفاهيم (أو "القيم") التي تسمع عن وجودِها في الغرب ولكنها لم تر حرصاً كبيراً من الغرب (خلال نصف القرن الأخير) على أن تكون "منافع إنسانية عامة" . وفي تصوري ، أن عدمَ تطويرِ مفاهيمِ العولمةِ بحيث تكون وحداتُ بناءِها الإنسانية والثقافية مماثلة لوحداتِ بناءِها السياسيةِ والإقتصاديةِ هو أحدُ أهم مصادر شيوع الأفكار النمطية – لأننا (مرةً أُخرى) بصدد حالةِ دفاعٍ بالغةِ الذعرِ عن النفسِ .
وأًما المصدرُ الرابع من مصادرِ شيوعِ "ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ" فهو وجود مناخ ثقافي ونفسي عام متسم بالرغبةِ الملحةِ في الدفاعِ عن النفسِ . فالشعورُ بالإنجازِ وصنع التقدم يعطي أبناء أي مجتمعٍ رغبةً أقل في أمرين: الأول هو الدفاع عن الذات ، والثاني هو إلصاق تهمة عدم الإنجاز والتقدم بالآخرين . ونحن هنا أمام مصدرين كبيرين ليس فقط من مصادر الشعور القوي بالرغبة في الدفاعِ عن النفسِ بل والإمعانِ في الإيمانِ بنظريةِ المؤامرةِ . ويخلق هذان العاملان مناخاً أمثل للأفكارِ النمطيةِ ، إذ تكون الأفكار النمطية عادةً في خدمةِ درءِ الشعورِ بلومِ الذاتِ (عن عدم الإنجاز والتقدم) وتفعيلِ عمليةِ الدفاعِ عن الذاتِ وإلقاءِ مسئوليةِ الأوضاعِ (أوضاع عدم الإنجاز وعدم التقدم) على "الآخرين" .
وإذا كانت تلك – في تصوري – هي أهم مصادرِ شيوعِ ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ ، وإذا كان القضاءُ المبرم على الأفكارِ النمطيةِ مستحيلاً (لوجودها في كلِ المجتمعاتِ بنسبٍ متفاوتةٍ) فإن أدواتِ التعاملِ مع هذه المصادر تبقى واضحة وإن كانت نسبيةَ الأثرِ .
وهنا ، فإنني أعتقدُ أن المهمةَ الكبرى منوطةٌ بالتعليمِ (البرامج والفلسفة والمعلم والمناخ التعليمي العام) إذ أنه القادرُ على بذرِ قيمةِ "التعدديةِ" من جهةٍ وقيمةِ "العقلِ النقدي" من جهةٍ ثانيةٍ وقيمةِ "العقلانيةِ" (أي عرض الأفكار على العقلِ من جهةٍ ثالثةٍ) – وكلها أدوات تحد من إمكانيةِ سيادةِ ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ . إلاِّ أن دورَ وسائلِ التثقيفِ والإعلامِ أكثرُ جدوى على المدى القصير والمتوسط: فهي القادرة على فضحِ تهافت ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ وخلوها من الحجة والمنطق - وإيضاح الصلة بينها وبين عيوب أخرى في التفكيرِ مثل "ظاهرة الكلام الكبير" و"المغالاة في مدحِ الذاتِ" و"الإيمان المتطرف بنظريةِ المؤامرةِ" – إذ أن هناك علاقات جدلية لا شك في وجودِها بين كل تلك الظواهر الفكرية السلبية .
#طارق_حجي (هاشتاغ)
Tarek_Heggy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التيه الثقافي
-
الاعتقاد المطلق في (نظرية المؤامرة)
-
ضيق الصدر بالنقد
-
الإقامة في الماضي
-
الآخرون: -معنا-...أم -ضدنا-؟
-
هامش -الموضوعية- المتآكل
-
ثقافة الكلام الكبير
-
المغالاة في مدح الذات
-
تقلص السماحة في تفكيرنا المعاصر
-
تحية لسدنة الحرية في مصر
-
دانات...
-
قيم التقدم وبناء مجتمع قوي
-
قيم التقدم والخصوصيات الثقافية
-
قيم التقدم : المنبع والهوية
-
أهم قيم التقدّم
-
ملاحظات جوهرية حول موضوع: قيم التقدّم
-
لماذا أكتب ؟
-
اختيار المفكر المصري طارق حجي للفوز جائزة -غرينزين- الدولية
-
سجون العقل العربي المعاصر
المزيد.....
-
كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب
...
-
شاهد ما رصدته طائرة عندما حلقت فوق بركان أيسلندا لحظة ثورانه
...
-
الأردن: إطلاق نار على دورية أمنية في منطقة الرابية والأمن يع
...
-
حولته لحفرة عملاقة.. شاهد ما حدث لمبنى في وسط بيروت قصفته مق
...
-
بعد 23 عاما.. الولايات المتحدة تعيد زمردة -ملعونة- إلى البرا
...
-
وسط احتجاجات عنيفة في مسقط رأسه.. رقص جاستين ترودو خلال حفل
...
-
الأمن الأردني: تصفية مسلح أطلق النار على رجال الأمن بمنطقة ا
...
-
وصول طائرة شحن روسية إلى ميانمار تحمل 33 طنا من المساعدات
-
مقتل مسلح وإصابة ثلاثة رجال أمن بعد إطلاق نار على دورية أمني
...
-
تأثير الشخير على سلوك المراهقين
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|