تعرض الكثير من الكتاب والسياسيين إلى اعتقال النائب السابق رياض سيف من زوايا مختلفة واعتبرت إثارته لعقد الهاتف المحمول _رامي مخلوف_ في مجلس الشعب ومشاحناته معه السبب الرئيسي لاعتقاله حسب معظم التحليلات والاجتهادات.
والمتتبع للخط البياني التصاعدي لطروحات رياض سيف التي ظهرت جلية في البرنامج الانتخابي الشامل والجريء الذي قدمه إبان ترشيحه الثاني لعضوية البرلمان وتحديده لأهدافه المستقبلية ( دفع الصناعة الوطنية خطوات إلى الأمام، الإصلاح التقني والإداري ضمن القطاعين الخاص والعام.. وطرحه الخجول لبعض المطالب المتعلقة بالحريات في تلك الفترة) يصل في المحصلة العامة إلى أن رياض سيف يؤسس لمشروع ليبرالي.
مع تغير المناخ السياسي _ وفاة الرئيس حافظ الأسد وانتقال السلطة إلى الرئيس بشار الأسد وما تبعه من هوامش ديمقراطية، منتديات (ابتدأها رياض سيف) تشكيل جمعيات ساهم بها وأصبح أحد رموز وعناوين المرحلة الانتقالية،أو ما اصطلح واتفق على تسميتها_ربيع دمشق.
ترافق وتساوق تطور طرح رياض سيف مع تطور المعطيات والمتغيرات الداخلية إذ أنه نقل طرحه نقلة نوعية عندما اتخذ قرر تأسيس حزب سياسي وناقش برنامج الحزب في منتداه، ذلك الطرح الذي كان الشعرة التي تسببت باعتقاله ولكن لماذا ؟ وهنا بيت القصيد كما يقال، الحزب الذي أراد تشكيله هو في الجوهر حامل المشروع الليبرالي القادم، الأمر الذي لم تتحمله السلطة التي تمثل_ برجوازية بيروقراطية*_ إن صح المصطلح السياسي فأقدمت على اعتقال رياض سيف لتعتقل معه أية محاولة ليبرالية جديدة خارجها فهي تعتبر مشروع الليبرالية مشروعها الذي بدأت تنفيذه ببطء سلحفاتي منذ بداية التسعينات بعد المتغيرات العالمية الجديدة، ولن تسمح لأي تيار أن يحمله أو ينفذه سواها_ باعتباره أحد مآلات تطور البرجوازية البيروقراطية _
ما يعزز الرؤيا والتصور السابق هو صمت السلطة حيال طرح رياض سيف الإصلاحي وأحيانا الموافقة والدعم المبطن من بعض أطرافها لبرنامجه، ولكن عندما قرر تأسيس حزب ليبرالي أحست السلطة بالخطر من القوة الجديدة ، الخوف من مشاركة أو اقتسام السلطة معها وهذا ما ترفضه السلطة كلياً ولا يتفق مع بنيتها _سلطة شمولية _ وليست على استعداد لقبوله أو التفاوض حوله خصوصاً وأن المشروع لم تتبلور قواه السياسية داخلياً بعد .
إلا أن محاذير السلطة ويقظتها وحساسيتها حيال مشروع رياض سيف بما يمثله، دفعها إلى توجيه ضربة استباقية للمشروع الذي يهدد مصالحها ويلاقي بنفس الوقت قبولاً وموافقة من قوى عالمية ومحلية، أولها أوربا، وثانيها أمريكا، وثالثها جزءاً من صناعيي وتجار سوريا في الداخل رغم خلافهم مع رياض سيف حول الصناعة الوطنية وغيرها، كما أن المشروع يمثل في الوقت ذاته برجوازية سوريا في الخارج الفارة منذ زمن طويل_ البرجوازية التي هربت مع أمولها إلى الخارج إبان الستينات_ والبوابة لدخول رسا ميلهم من جديد إلى السوق السورية .
ويمكنا أن نلفت الانتباه في هذا السياق إلى أن المشروع الليبرالي الصناعي عند رياض سيف يعتبر بمثابة التحول والتوجه الجديد، التوجه السلمي الداخلي في سوريا بعد التجربة العنيفة والدموية للمشروع الليبرالي الذي قاده التيار الأصولي_ الجناح العسكري الممثل والمعبر عن مصالح البرجوازية التقليدية السورية المتخلفة* و المدعومة خارجياً من أمريكا ودول الخليج ، وبموافقة أوربية، وكان لنجاح ذلك المشروع أن يقلب الأوضاع في سوريا على كل المستويات والأصعدة والحقول ويحول سوريا كسلطة واقتصاد إلى نسخة أقرب للكربونية عن دول الخليج_ توافق وتحالف بين رجال الدين والرأسمال، لعبة الشراكة_ ولن ننسى دخول الرفيق اللدود صدام حسين الصراع ودعمه للتيار الأصولي ولأسباب مختلفة. ذلك المشروع الذي قاده التيار الأصولي بنهاية السبعينات وبداية الثمانينات وحاولوا فرضه بالقوة المسلحة، ودخلوا في صراع كسر العظم مع السلطة السورية ، فشل المشروع وكانت نتائجه شبه كارثية_ ضرب مدينة حماة، زيادة الانشطار العامودي في المجتمع السوري الطائفي والأسري_ وازدياد حدة القمع الذي أدى إلى تصفية بعض التيارات العلمانية اليسارية المعارضة ..الخ.
في بداية التسعينات بدأت السلطة في سوريا خطواتها الخجولة والوجلة والبطيئة نحو ليبرالية السوق والتي لا تزال تسم المرحلة الراهنة بميسمها الخاص وقد اشتقت السلطة هذا المسار البطيء وانتهجته لأسباب كثيرة تتعلق ببنيتها الداخلية المعرقلة وعدم أهليتها وتخوفها من انفراط عقد السلطة من يدها في حال أقدمت على خطوات سريعة _ كان درس أوربا الشرقية بما فيها تجربة السوفييت ماثلاً أمامها..الخ وهذا أيضاً لم يضعه رياض سيف بالحسبان، وأعتقد أن المناخ السياسي والاقتصادي مؤات لطرح حامل سياسي جديد للمشروع الليبرالي المتداخل مع مشروع صناعة وطنية ، ولم يتنبه إلى أن السلطة لن تشرعن توجهه ولن تسمح به، إضافة إلى الشرط الموضوعي والذاتي القاصر_تجربة سوريا الليبرالية بعد الاستقلال وفشلها الذريع في السوق الداخلية والخارجية نتيجة ضعف هذه القوى اقتصادياً أولاً وسياسياً ثانيا ًرغم وجود
بعض الشروط المؤاتية لها آنذاك من هيكلة المؤسسات التي خلفها الفرنسيون ورائهم إضافة إلى النفوذ الاقتصادي والسياسي الفرنسي، ما بالك وإن المشروع المطروح، مشروع صناعة وطنية ولن ننسى أن نذكر في هذا السياق محاولة المرحوم خالد العظم تشكيل قوة اقتصادية وطنية تحمل المشروع الليبرالي ذو الطابع الوطني وفشله ؟؟؟.
وفي هذا المنحى أعتقد أن الليبرالية تحتاج إما إلى كتلة جماهيرية تقف وراء المشروع، أو اقتصاد مؤهل، أو اقتصاديين يحملون المشروع ولهم قوتهم الاقتصادية إضافة إلى الشرط الخارجي الذي لعب ويلعب دوراً حيوياً خصوصاً في الدول المتخلفة التطور وهذه الشروط مجتمعة إما ضعيفة أو قاصرة ولا يتوفر منها سوى الشرط الأخير وهنا سأزدلف من جديد إلى مشروع رياض سيف الذي أعطى الدور الأوربي أكبر مما يستحق في مشروعه الجديد وظن أن أوربا لن تسمح للسلطات السياسية في سوريا باعتقاله فجاءت ردة فعل الأوربيين أقل مما كان يظن ويعتقد هو أو أياً من المثقفين السوريين، حكم رياض سيف بذرائع الضرائب وغيرها
وأخفي السبب الرئيسي لاعتقاله، وكل ما فعلته أوربا راقبت المحكمة المدنية واستنكرت قرار الحكم !!! ربما وعدتهم السلطات السورية بأنها ستقوم بتنفيذ مشروع رياض سيف وفقاً لأوضاعها الداخلية وأجندتها الخاصة ومقتضيات مصالحها.
اعتقل رياض سيف دون اعتراضات من الصناعيين أو التجار السوريين والذين اعترضوا كانوا من المثقفين الذين تحالف معهم رياض سيف كبدائل عن الصناعيين والتجار الحذرين من المضي معه إضافة إلى بعض التكنوقراط، أي النخب التي وجدت في مشروع رياض سيف مكاناً لها بعد أن همشت السلطة الجديدة المثقفين ، ولف الصمت غرفة تجارة وصناعة المدن السورية ولعل البعض ارتاح من مشروع رياض سيف وبقي تحت حماية السلطة وقوانينها وهم منذ البداية لم يقطعوا الحبال والجسور معها ولم يعلنوا دعمهم لرياض سيف وبقوا يترقبون تفاعل المشروع وتطوره، وما تبقى من تجار وصناع سوريا فمشروع رياض لا يمثلهم فهو أقرب إلى العلمانية ومفهوم الليبرالية الأوربية منها إلى توجهات ليبراليي المنطقة المتحالفين مع رجال الدين أو الذين يوظفون الدين لتحقيق أهدافهم الاقتصادية والسياسية. لتلك الأسباب مجتمعة تحالف رياض سيف مع نخب المثقفين وبعض التكنوقراط كبديل عن البرجوازية المحلية ولأنه أدرك عقم البرجوازية بأجنحتها وشرائحها المختلفة التي تحالفت مع السلطة أو التي تضررت منها وخاضت صراعاً مسلحاً بأدوات دينية ؟؟؟؟ أما البرجوازية السورية الفارة فليس لها ثقل في السوق الداخلية..وبقيت تترقب خلف الأبواب والحدود.
وربما توقع رياض سيف مشاركة ودعم بعض أطراف السلطة ممن لهم مصلحة في الانفتاح الاقتصادي وتشغيل رسا ميلهم في السوق المحلية بحماية قانونية. والذي حدث أن السلطة بأجنحتها المختلفة لا تريد شريك فعلي داخلي في توجهاتها الليبرالية وهي التي تمتلك القرار السياسي وخيارات القرارات الاقتصادية بحيث تبقى في سدة السلطة السياسية والاقتصادية دون منازع فعلي لها.
بقي ملاحظة صغيرة: تحالف رياض سيف مع الدكتور عارف دليله جعل السلطة تتخوف أكثر من تحول الخبراء التكنوقراط إلى مشروعه، لذا أخذت الموضوع على محمل الجد وجد
الجد ؟؟؟؟.
*البرجوازية البيروقراطية هي الطبقة التي تسيطر على أجهزة الدولة المختلفة وتتحكم به عبر امتلاكها لمفاتيح القرار السياسي وهيمنتها بنفس الوقت على الشرائح البرجوازية الأخرى ، أما رأسمالها فهو من نهب ثروات ومؤسسات الدولة وتعيد إنتاج نفسها بآلية النهب البيروقراطي.
*البرجوازية التقليدية المتخلفة ومركزها مدينة حلب، وهي امتداد للبرجوازية الحلبية التي كادت أن تودي باستقلال سوريا في نهاية الأربعينات وحتى عام الوحدة وتلحق سوريا بالتاج الهاشمي في العراق. والتي تحالفت آنذاك مع العشائر في الشمال الشرقي من سوريا وتحالفت أبان صراعها مع السلطة1979_1982مع بقايا الإقطاع المنهار في مدينة حماة. وكان وقود الصراع من الفقراء؟؟؟؟؟