ميسون البياتي
الحوار المتمدن-العدد: 2478 - 2008 / 11 / 27 - 10:02
المحور:
سيرة ذاتية
بعد 16 يوم فقط من إعلان فيدل كاسترو تنحيه عن الحكم أي في يوم 7 آذار 2008 , تحدثت السيدة ( ألينا فيرناندز ) إبنة الرئيس الكوبي المتنحي , الى طلاب ( مدرسة إليز ) الواقعة في مدينة ( شادي سايد ) القريبة من نيويورك قائلة : (( كطفلة .. كنت في كوبا أصلي من أجل أن يُسمح لميكي ماوس بالعودة الى التلفزيون الكوبي لأن أبي الذي قاطع الطغيان الإمبريالي , أبدله بكارتون روسي )) .
الإبنة التي تبلغ الآن 51 عاما , قالت إنها لاحظت أن الكوبيين ومنذ كانت في العاشرة من العمر قد تعودوا طلب المساعدة منها فيما يخص القرارات التي يصدرها والدها الى الشعب .
عام 1993 دخلت حفيدة كاسترو من إبنته ألينا الى مدرسة داخلية , ثم هربت خارج البلاد بوثائق سياح إسبان مزورة الى الولايات المتحدة الأمريكية , فلحقت ألينا بإبنتها , وهما تعيشان الآن في الولايات المتحدة الأمريكية ..
السيدة ناتاليا ريفولتا ( والدة ألينا ) لم تكن متزوجة من فيدل كاسترو حين ولدت إبنتهما , لكن كاسترو إعترف بإبنته , وكان يزورها غالبا , ومعه هدايا ثمينة , لكن إهماله لها كان مؤلما , وأمها وحدها هي التي ربتها , ولم تزل تلك الأم تعيش في كوبا . تقول ألينا عن فراق أمها : (( جميع أبناء جيلي يعيشون بنفس الحال , فمن يعيش منا في الولايات المتحدة فهو ينتظر , والذي يعيش هناك في كوبا ينتظر أيضا )) .
شهر شباط الماضي قام الرئيس فيدل كاسترو بتسليم السلطة الى أخيه الأصغر ( راؤول ) , تقول ألينا عن ذلك : (( هناك حركة تبديل في الصفوف , هناك من يتبعون فيدل , وهناك من يتبعون راؤول , لكن جماعة فيدل الآن أصبحوا يسعون لرضا راؤول , في نفس الوقت هناك أعداد متزايدة من الكوبيين , يغادرون كوبا ويستقرون في ميامي وأحوالهم الإقتصادية صارت أفضل )) .
ثم تقول : (( قال الأمريكان الجمهوريون أنهم لن يتحدثوا الى ديكتاتور .. لكنهم فعلوا ذلك , وتعاملوا معه بإهتمام متزايد ... أنا لا أحب نفاق الجمهوريين )) .
وأثناء زيارتها للمدرسة , سألها الطلاب فيما اذا كان والدها قد قاد الثورة على أمل أن يصبح ديكتاتوراً فقالت : (( أنا أذكره كمقاتل رومانسي , ومثل هؤلاء الناس يكونون عرضه للتطرف , بالنسبة له , ربما لأنه وقع في غرام السلطة )) .
ربما يكون كلام ألينا عن والدها صحيحا .. ففي حديث له الى الصحافة عام 1959 , وبعد 3 أشهر على وقوع الثورة الكوبية قال : (( لا تهتموا للإنتخابات , فلست راغبا البقاء في الحكم دقيقة واحدة أكثر مما يجب )) .
لكنه وفي العام 1996 , حين هربت إبنته وحفيدته الى الولايات المتحدة الأمريكية , وبدأت قوارب الهاربين تغرق في الخليج قبل وصولها الى السواحل الأمريكية , بينما الأزمة الداخلية كانت خانقة , سأله الصحفيون والمواطنون : متى سينتهي كل هذا ؟؟ فكان رده : (( ماذا أفعل لكم إذا كان الله يمد في عمري ؟)) .
تعرضت كوبا منذ أزمة الصواريخ الروسية في بداية الستينات وحتى اليوم الى حصار إقتصادي أمريكي حّول حياة مواطنيها الى جحيم , وجعل بعضهم يكره فيدل كاسترو , فيما السياسة والدعاية والإعلام الأمريكي يصور الرجل على انه ديكتاتور , بينما عموم العالم , والبعض الآخر من المواطنين الكوبيين , لا يكرهون فيدل كاسترو , ويرون أن سياسته لابد منها , من أجل أن لاتعود كوبا ( مستعمرة أمريكية ) من جديد .. فمن هو فيدل كاسترو ؟؟
للجواب على هذا السؤال , سأستعين بكتاب ( حياتي ) تأليف فيدل كاسترو و أغناسيو رامونيت لنتعرف على الرجل , وعلى أوضاع بلده وسياسته فيها .
ولد ( فيدل كاسترو روز ) يوم 31 آب 1926 , وبعض الوثائق تقول 1927 , في ( لاس ماناكاس ) في مزارع قصب السكر التي يملكها والده وتبلغ مساحتها 9300 هكتار والتي صارت تدعى ب ( المقاطعة الشرقية ) . وكانت وقتها مقاطعة فقيرة , فقد كانت معظم الأرض ملكا أما لملاّك كوبيين أثرياء , أو تملكها شركات إستثمارية أمريكية . وكان عامة الكوبيين يعملون على هذه الأراضي كفلاحين ( بالأجور اليومية ) أو يقومون بصيد السمك , ولم تكن هناك عناية صحية , أو تعليم , وكانت البطالة تصل الى 50% من مجموع السكان .
كان فيدل من القلة المحظوظة , فوالده آنجيل كاسترو , ورغم أنه مهاجر أمي قدم الى كوبا من إسبانيا عام 1905 , إلا أنه عمل بكد وكوَّن ثروة مكنته من شراء قطعة أرض لزراعة قصب السكر ومن هناك إنطلقت ثروته بالتوسع . عند ولادة فيدل كان والده ثريا جدا , وكان يرغب بحصول أولاده على التعليم الذي حرم هو منه .
وضعية الوالد فتحت آفاقا كبيرة للولد فيدل , مع هذا كان الناس ينظرون الى فيدل نظرة دونية , لأنهم كمجتمع كاثوليكي , لم يكونوا يحترمون الأطفال التي تولد بلا زواج , ويعتبرون وجودهم في الحياة خطيئة .
السيد آنجيل كاسترو كانت له زوجة أولى ( ماريا أرغوتا ) وله منها ولدين . لكنه أغرم ب ( لينا روز غونزاليس ) التي تعمل خادمة في بيتهم والتي تصغره ب 25 سنة , عندها طلقته زوجته ماريا , وخلال السنوات التالية ورغم أنهما لم يتزوجا , فإن آنجيل ولينا كانا قد أنجبا 3 أطفال : أنجيلا , رامون , فيدل . وفيما بعد عند زواجهما عام 1933 أنجبا 4 أطفال آخرين هم : جوانا , راؤول , إيما , أوغستينا .
كانت العائلة تسكن في بيت حقلي كبير محاط بالكلاب وبقية حيوانات الحقل , وكانت لفيدل حياة نشيطة في مزارع والده , فقد كان يصيد السمك , ويطارد الحيوانات ليصطاد بعضها , ويسبح , ويركب الخيل , وكان نشيطا جدا مظهرا معدلات طاقة عالية , كما ورث عن والده صفة الحماية والرعاية التي ستلازمه طول حياته ليتحول بها الى قائد .
لأن عائلة كاسترو كانت تعيش في منطقة متخلفة من كوبا , فقد كان العنف غالبا مايندلع فيها , ولذلك حرص الأب على تعليم أولاده كيف يحملون السلاح اذا إقتضت الضرورة للدفاع عن أنفسهم , لذلك تعلم فيدل وبسرعة كيف يستعمل ( البنادق الهوائية , والمسدسات , والغدارات , والرشاشات الآلية , وحتى الأقواس والسهام ) وحين كان يداوم في مدرسته الثانوية كان يحتفظ في غرفته بمسدس , وخبرته مع السلاح هذه ستفيده كثيرا في المستقبل عندما سيصبح ثوريا .
الحياة في ( لاتيفوندو ) أي : مزرعة قصب سكر , شكلت أفكار ومعتقدات فيدل عن الحياة , فقد صادق عمال قصب السكر الذين يعانون من ساعات عمل طويلة في أوضاع مقرفة , ليتمكنوا من الحصول على لقمة عيش خشنة لعوائلهم , ودون ضمان صحي أو تعليم . وكان على أطفالهم أنفسهم أن يعملوا منذ سن مبكرة جدا وينسون التعليم . رامون شقيق فيدل يتذكر أن فيدل كان يقول وقتها عن تلك الأوضاع : (( أن يكون الأطفال بلا طعام وآباؤهم بلا عمل , فذلك هو ما يصنع العصيان والتمرد )) .
بدأ فيدل الدراسة وهو بعمر 4 سنوات في مدرسة صغيرة في المدينة القريبة , وحين صار عمره 6 سنوات كان والداه يرسلانه الى مدينة سانتياغو بالقطار مع أخيه رامون وأخته أنجيلا , ولأن سانتياغو كانت تبعد عنهم 100 كيلومتر فقد كان الأطفال يعيشون في بيت للرعاية طيلة مدة الدراسة .
منذ البداية كان فيدل طالبا مشاغبا , يتعارك مع بقية التلاميذ على أتفه سبب , ويصاب بنوبات غضب عندما يحاول المعلمون كبح جماحه . لذلك قرر والده أن يرسله الى مدرسة أخرى في سانتياغو وهو بعمر 7 سنوات . وبعد عام واحد إلتحق به كل من رامون وأنجيلا .
العوائل الموسرة كانت ترسل أبناءها الى ( مدارس يسوعية ) وهي مدارس كاثوليكية , وكانت هذه المدارس لاتقبل الأبناء غير الشرعيين , لذلك صار على والدي فيدل أن يتزوجا ويعمِّدا أبناءهما في الكنيسة , ومع هذا فقد دخل فيدل في معارك كثيرة مع طلبة يستهزأون بوالديه ( الفلاحَيْن ) اللذين تزوجا بعد فترة طويلة من ولادته .
كان فيدل طالبا لامعا وله ولع خاص بدرس التاريخ , درس بجهد كل دروسه العملية والنظرية , وكان موهوبا كرياضي , برع في كرة القدم والسلة وكرة المضرب طيلة فترة دراسته .
عام 1942 وكان عمره 15 سنة تسجل في ( بيلين ) وهي مدرسة يسوعية مشهورة في هافانا , وبدلا من النظر الى فيدل بدونية نتيجة إنحدار والديه الفلاحي أو قضية زواجهما , فإن المدرسين الإسبان اليسوعيين تعرفوا مباشرة على نبوغه العقلي وقدراته القيادية , وكان متميزا بشكل خاص في التاريخ والجغرافيا ودروس المناقشة وبالأخص ولعه بالقضايا الإجتماعية .
خلال هذه الفترة أصبح فيدل مهتما بقضايا الفقراء والإستغلال الذي تتعرض له الطبقة العاملة الكوبية , وحياتها الخالية من الأمل . وعلى الرغم من عدم حاجته الى عمل إلا أنه كان يقضي عطلاته الصيفية عاملا كسائق مركبة زراعية في مزارع والده . مستمتعا بوقته مع العمال ومستمعا الى قضاياهم , وقبل دخوله المدرسة الثانوية كان قد قاد العمال الذين يدفع لهم والده أقل مما يستحقون من أجور , لإعلان الإضراب في مزارع الوالد مطالبين برفع أجورهم .
على الرغم من أن الوالد كان فخورا بإبنه ويدفع له كل أقساط دراسته , وبضمنها أجور دراسته في كلية القانون في جامعة هافانا ... إلا أن الولد .. والوالد , كانا شخصين عنيدين بمزاج متفجر , لذلك كانت العلاقة بينهما عاصفة . ودائما ما يتعارك فيدل مع والده وبقية العائلة حول أجور العمال في مزارع قصب السكر , ودائما ما يتهم والده إنه يهين العمال بوعود مزيفة .
في المدرسة الثانوية أولع فيدل بدرس ( السياسة العالمية ) , ودرس أعمال ( خوسيه مارتي ) القائد الكوبي الشهير في معارك الإستقلال عن الإسبان , تعلم كاسترو منها كيف أن كوبا كانت قد تضررت أثناء القرون 17 _ 18 _19 من الإستعمار الإسباني , وإشتعل سخطا حين عرف أن الأمريكان وبعد طردهم الإسبان عام 1898 من أمريكا الشمالية ... فإنهم حلوا محل الإسبان في تدمير إقتصاد كوبا . كان سعر باون السكر الكوبي 22 سنت , لكنه حين إنهار الى 4 سنت للباون عام 1922 وأفلس الكوبيون , جاء المستثمرون الأمريكان وإشتروا مزارعهم بأسعار ( التنزيلات ) .
فوق ذلك ففي الفترة التي أصبحت فيها تجارة الخمور محرمة في الولايات المتحدة الأمريكية ( 1919 _ 1933 ) فإن كوبا أصبحت مكانا مفضلا لتجار الخمور الأغنياء ليفتتحوا فيها تجارتهم وبذلك تحولت هافانا وهي واحدة من أقدم العواصم الأمريكية الى مكان شهير للكازينوهات وصالات القمار والملاهي الليلية .. بما يصاحب ذلك من تأثيرات إجتماعية .
حينما كان في المدرسة الثانوية إندلعت الحرب العالمية الثانية , ووصل ( فولجينشيو باتيستا ) الى موقع الرئاسة الكوبية . كانت الحرب جيدة على كوبا لأنها كانت تجهز السكر والنيكل والمنغنيز الى الدول الأوربية , وعلى الرغم من الرخاء المتحقق إلا أن باتيستا خسر إنتخابات عام 1944 أمام الإشتراكي ( الدكتور رامون غراو ) وكان ذلك بسبب أن كل ( الثروة ) التي تحققت لكوبا تلك الفترة حاز عليها الأغنياء بينما ظل العمال يعملون بأجور ( يومية ) , وقد وعد الدكتور غراو بإصلاحات قانونية تضمن حقوق الأغلبية الكوبية الفقيرة .
تنبه فيدل أكثر من أخوته الى مثل هذه المشاكل , فقد كان ( حبيب ) والدته التي دللته ومنحته فرصة أكبر للتعليم أكثر من جميع أخوته وأخواته . أخوه رامون ترك المدرسة لأنه لا يحب الدرس وذهب للعمل في مزارع العائلة , أما راؤول فقد كان مشاكسا أكثر من فيدل ,, وللتخلص من مشاكسته فقد أخذته أمه وأخته الكبرى وألحقتاه في أكاديمية عسكرية منذ كان في الخامسة من العمر , أما فيدل فقد كان معاندا بشراسة على عدم الذهاب مع أخيه .
كتب مدرسو فيدل في تقرير تخرجه من الثانوية : (( حاز على إعجابنا وتقديرنا جميعا , وسيقوم بدراسة القانون لذلك نتوقع له وبلا شك إسما لامعا , يقوم بكل ما بوسعه عمله ولذلك فسيصنع من نفسه شيئا )) .
خارج المدرسة كان فيدل لصيقا بأخته الكبرى أنجيلا التي كانت تواضب الدوام في مدرسة للبنات في سانتياغو . أما والدهم فقد أصبح ثريا بما يكفي لأن يرسل جميع أولاده الى هافانا للدراسة , لذلك قامت أختاه إيما وأوغستينا بتأجير شقة قرب جامعته في هافانا , فعاش معهما فترات متقطعة , خصوصا حين كان يحتاج مكانا للإختباء .
تقديرا لمحبة كاسترو للسياسة والمجادلة , فليس من الصعب فهم سبب رغبته العمل محاميا , لكن بعض زملائه في كلية القانون كان من الصعب عليهم تفهم رغبة زميل ثري بدراسة القانون من أجل أن يدافع عن حقوق الفقراء وضد الأغنياء !!
دخل كاسترو جامعة هافانا عام 1945 بعمر 18 سنة ومباشرة أصبح شخصية سياسية معروفة بين الطلاب , وكان يتحدث في السياسة بين الزملاء في كل مكان , في الصف أو النادي , ويجعلهم مأخوذين بالإستماع إليه .
جزء من جاذبية كاسترو كانت تعود الى طلعته البهية , فقد كان طويلا وسيما واثقا من نفسه , ويرتدي عادة بدلة زرقاء غامقة وربطة عنق يبدو بهما منذ الان محاميا مهما .
كان جميع الأساتذة والطلاب يعرفونه بسبب نشاطه ولذلك سرعان ما أصبح قائدا طلابيا لمجموعة مهتمة بالسياسة أطلقت على نفسها تسمية (( إدارة جيل الثلاثينات )) وعلى الرغم من أن الشيوعية كانت قد إنتشرت في كوبا منذ العام 1925 , وعلى الرغم من أن كاسترو قد أصبح شيوعيا فيما بعد , إلا أنه في فترة دراسته الجامعية لم يكن شيوعيا بل كان معاديا لها . ففي العام 1945 كانت السياسة القومية والوطنية هي الشغل الشاغل للناس في كل مكان على هذا الكوكب , وكان الأمريكان هم الذين يشجعون ذلك ليدفعوا سكان المستعمرات البريطانية والفرنسية والبرتغالية والإسبانية والهولندية الى التمرد على مستعمريهم .
حكومة الرئيس الدكتور رامون غراو إنحرفت عن المباديء الإشتراكية التي وعدت بها الناس أيام الإنتخابات , وأصبحت حكومة فاسدة , لذلك فلا غرابة إذا نشرت الصحف الكوبية تفاصيل 100 عملية إغتيال , و 64 عملية إغتيال فاشلة وقعت في الفترة ما بين 1944 _ 1948 .
في الكلية إنضم كاسترو الى قوة مسلحة يقودها ( إيدي جيباس ) الشاب العنيف المعادي للشيوعية , وقد كان جيباس سياسيا محبوبا معروفا بدفاعه عن الفقراء ضد فساد الحكومة وممارسات الأثرياء .
أسس جيباس حزبا راديكاليا في ربيع 1947 يدعى ( حزب الشعب الكوبي ) وكان كاسترو واحدا من 100 أعضاء مؤسسين , وناضل من أجل وصول جيباس الى البرلمان رغم أنه كان يعرف أنه أفضل من جيباس نفسه . على كل فقد تعلم كاسترو الكثير من جيباس , وفيما بعد أصبح كاسترو واحدا من قادة هذا الحزب , وساعد على وقوع العديد من المظاهرات العنيفة كما انه أتهم مرتين بقتل قادة طلابيين من أحزاب أخرى .
لم يكن إعتراض كاسترو ورفاقه على السياسة في كوبا وحدها , لكن أفكارهم إمتدت الى جميع الفقراء المضطهدين من قبل حكوماتهم في أميركا اللاتينية , التي تتزعمها إمبريالية الولايات المتحدة الأمريكية .
عام 1947 إنضم كاسترو الى 1200 مسلح منفي من جمهورية الدومنيكان , وخططوا لغزو هذا البلد والإطاحة بالدكتاتور المكروه ( رافائيل تروجيللو ) , لكن الغزو لم يقع , فقد علم به تروجيللو وإشتكى الى الولايات المتحدة التي أوعزت الى رامون غراو بالتدخل لوقف الهجوم , فقامت القوات البحرية الكوبية باللحاق بسفينة المقاتلين التي كان كاسترو على متنها قبل أن تصل الى شواطيء الدومنيكان , قفز كاسترو من السفينة مخافة الإعتقال , وسبح 14 كيلومتر في مياه موبؤة بسمك القرش حتى وصل الى السواحل الشرقية ومنها واصل طريقه الى هافانا حيث عاد الى الكلية .
واحد من مواجهات كاسترو السياسية الأكثر دموية , وقع عندما كان طالبا عام 1948 في بوغوتا / كولومبيا . ففي نيسان كان الرئيس الأرجنتيني بيرون راغبا في إيقاف مؤتمر سياسي تم الإعداد له من قبل الولايات المتحدة الأمريكية , لذلك إستدعى كاسترو وعدد من زملائه من كوبا / جامعة هافانا , للقدوم الى بوغوتا والقيام بمظاهرات معادية للأمريكان من أجل عرقلة المؤتمر .
كان المؤتمر مهما بالنسبة الى الولايات المتحدة الأمريكية الذي دعي إليه ممثلون عن دول أمريكا اللاتينية للتباحث , وتوقيع معاهدة تأسيس منظمة للدول اللاتينية تعمل على مناهضة الشيوعية .
بيرون وبقية القادة اللاتينيون رأوا أن ذلك يعد تدخلا سافرا من الولايات المتحدة في سياسة بلدانهم , وكذلك رأى الشيوعيون , وأيضا .. فيدل كاسترو ورفاقه الطلبة .
لم يبدأ المؤتمر بشكل طيب , فقد تم إغتيال ( جورج جيتان ) رئيس حزب العمل الليبرالي الكولومبي من قبل أن يتمكن من إلقاء كلمته في المؤتمر , وقد كان جيتان حزبيا مناهضا للسياسات القمعية في أمريكا اللاتينية وبالأخص حكومة كولومبيا , ولذلك فقد أطلق عليه الرصاص فقتل عند مدخل مكتبه , حين كان يغادره لحضور المؤتمر , فعمّت المظاهرات المعادية للحكومة , ولسياسة الولايات المتحدة مدة 5 أيام , وكانت أهم تلك المظاهرات هي التي قادها كاسترو .
قاد الجموع لمهاجمة مخازن السلاح الحكومية للحصول على البنادق , والقذائف المسيلة للدموع ليهاجموا بها قوات الشرطة في بوغوتا . عندها إحتلت صوره الصفحات الأولى من الصحف الكوبية وهو يقود المتظاهرين في كولومبيا , فأصبح كاسترو بطلا قوميا في بلده كوبا نفسها .
على الرغم من أن كاسترو لم يكن شيوعيا في تلك الفترة , إلا أن الحكومة الكولومبية وبعد تلك الأحداث إعتبرته ( مشاغبا شيوعيا ) مما كان سيؤدي الى سجنه أو حتى إحتمال إعدامه , لذلك قام السفير الكوبي في بوغوتا ( جليرمو بيليت ) بتهريبه وبقية رفاقه الطلبة على متن طائرة تنقل الماشية .
لم تأخذ السياسة كل وقت كاسترو أثناء دراسته الجامعية , ففي صيف 1948 كان قد تزوج من ( ميرتا دياز _ بالارت ) طالبة الفلسفة الجميلة وزميلته في جامعة هافانا , وهي إبنة عائلة ثرية مرتبطة سياسيا بالرئيس الكوبي باتيستا , وكانت ميرتا أخت لزميل لكاسترو في كلية القانون يدعى : ( رافاييل ) .
ما أزعج والدي الفتاة أن إبنتهم قررت الزواج من طالب ذي سمعة أنه من مثيري الشغب والعنف , لكن أسرة كاسترو كانت مسرورة لذلك الزواج بشدة فقد أقامت والدة كاسترو حفلا كبيرا للزفاف , وأرسلت العروسين الى شهر عسل في الولايات المتحدة الأمريكية , وأهدتهما سيارة جديدة .
لم يكن كاسترو متعجلا العودة الى كوبا , فقد إستأجر مع زوجته شقة في نيويورك , وإنتسب الى الدراسة لتقوية لغته الإنكليزية , وفكر أن يواصل الدراسة في جامعة كولومبيا , لكن السياسة غيرت رأيه وجعلته يعود الى كوبا , حيث عاش الزوجان في أحد فنادق هافانا لمدة عام , ثم رزقت ميرتا بولد في عام 1949 تمت تسميته ( فيليكس فيدل كاسترو _ دياز ) وكانا يناديانه تحببا بإسم ( فيديليتو ) ورغم أن الأب كان متعلقا بولده بشدة إلا أن ذلك لم يمنعه من مواصلة عمله في السياسة .
تخرج من كلية القانون عام 1950 وكان عمره 23 سنة , وإفتتح مكتب محاماة يهتم بشؤون الفقراء رافضا تقاضي أي أتعاب منهم , ومارس العمل الإجتماعي , وإهتم بسياسة بلده .
حكومة الرئيس ( برايو سوكاراس ) التي وصلت الى الحكم عبر إنتخابات عام 1948 تحولت هي الأخرى الى حكومة فاسدة , وكان ( حزب الشعب الكوبي ) المعارض لسوكاراس يحوز على دعم الشعب ومن المؤمل صعوده الى سدة الحكم خلال الإنتخابات المقبلة .
فولجينشيو باتيستا , الرئيس الكوبي السابق الذي هزم في إنتخابات عام 1944 رغب العودة الى الحكم من جديد لذلك كان عليه أن يتصرف بسرعة , ولذلك ففي آذار 1952 , وقبل أن تعقد إنتخابات جديدة ... قام بإنقلاب أبيض للإستحواذ على السلطة بمساعدة عدد من الضباط الشباب , إستغل فرصة عطلة نهاية الأسبوع حيث أغلب حرس وحماية الرئيس الحالي في إجازة , وعند الساعة 2 ونصف صباحا , قامت مجموعة من الضباط الشباب التابعين له بالتسلل الى القصر الرئاسي وإعتقال كل الحرس الموجودين فيه ... فيما قامت مجموعة أخرى بالسيطرة على الإذاعة والتلفزيون وشبكة الإتصالات . لم يبد أحد أية مقاومة , فلم يقتل أحد .
عند الساعة 5 صباحا كان الإنقلاب قد تم . وحين وصلت الأخبار الى الرئيس سوكاراس حاول أن يحصل على الدعم من وحدات عسكرية مختلفة , لكنه لم يجد من يناصره ضد باتيستا , أو يحاول إعادته الى السلطة .
تحت سيطرة الديكتاتور القديم باتستا .. سارت البلاد من سيء الى أسوأ , عمَّت البطالة , وأكثر من نصف السكان كانوا يعيشون في أحياء فقيرة خالية من الخدمات , وتنتشر الأمراض والأوبئة بشكل كبير بلا متابعة صحية , والتمايز الطبقي والإجتماعي ضد السود وبقية أقليات المجتمع لم يكن شائعا فقط , إنما كان قانونيا ايضا .
تحت حكم باتيستا , عم الفساد الإداري , وكانت السيطرة الأجنبية متفشية . وأكثر الصناعات إزدهارا في كوبا كانت مملوكة لمستثمرين من الولايات المتحدة الأمريكية . ونسبة 1% فقط من الناتج القومي كانت تصرف على الشعب , هذا هو ما يتبقى للشعب بعد طرح الأقيام التي ( يشفطها ) الفساد الإداري الحكومي , ومستثمرو الولايات المتحدة الأمريكية .
مباشرة بعد نجاح باتستا في الصعود الى السلطة من جديد , تقدم كاسترو بطلب الى المحاكم الكوبية , لإعلان حكم باتيستا حكما غير شرعي .
لكن كاسترو خسر القضية . عندها عاد الى العنف وبدأ يستعد القيام بثورة ... فإنتظم هو ورفاقه عدة أشهر في تدريبات عسكرية , قرأوا خلالها كل أعمال الثائر الكوبي خوسيه مارتي , ونظموا خطة للحصول على السلاح والدعم المالي .
يوم 26 تموز 1953 قام كاسترو و100 من رفاقه بمهاجمة موقع ( مانكادا ) للتجهيزات العسكرية قريب من سانتياغو للحصول على البنادق , فقام الحرس بمقاتلة المهاجمين وتم إعتقال كاسترو الذي حكمت عليه المحكمة بالسجن 15 عاما .
أثناء وجوده في السجن كان يقرأ بشغف , بالأخص لكتّاب مثل ماركس أو لينين , ويتبادل الأخبار مع رفاقه داخل وخارج السجن بواسطة رسائل يضعها داخل ( سيكار ) , وكتب البيانات التي كانت تهرب بنفس الطريقة لنشرها . كما كتب الرسائل لزوجته ميرتا وإبنه فيديليتو .
عند إكتشافه أن زوجته قد حصلت على عمل مع حكومة باتيستا بعد رميه في السجن , غضب غضبا شديدا ورفع دعوى لتطليقها , على الرغم من أنها كانت قد نظمت حملة صحفية للمطالبة بإطلاق سراحه (( أطلق سراحه بعد عامين )) وحين تم الطلاق عام 1955 غادرت ميرتا لتعيش في إسبانيا ومنذ ذلك اليوم , لم تتحدث مطلقا عن تلك العلاقة أو ذلك الزواج .
لم تكن ميرتا هي المرأة الوحيدة في حياة فيدل كاسترو , ففي فترة وجوده في السجن كان يراسل إمرأة متزوجة جميلة وغنية تدعى ( ناتاليا ريفولتا ) كان قد التقى بها عام 1950 , عندما دعاها تعاطفها مع الثوريين الى قبولها إستعمالهم بيتها كمقر لإجتماعاتهم . كان هو وإياها يتقاسمان حب السياسة والفلسفة .
بعد إطلاق سراحه قام كاسترو بجولة في الولايات المتحدة لجمع التبرعات فجمع 8000 دولار ورحل الى المكسيك حيث نظم مجموعة صغيرة من الثوريين الراديكاليين , على أمل إجتياح كوبا والإطاحة بحكم باتيستا . ضمت هذه المجموعة العديد في عضويتها وبضمنهم الطبيب الأرجنتيني ( إرنستو تشي جيفارا ) وقد أطلقت الحركة على نفسها تسمية ( حركة 26 تموز ) تخليدا ليوم مهاجمة مخازن السلاح في مانكادا الذي إعتقل فيه كاسترو .
عرف كاسترو أن صديقته ناتاليا التي كان يراسلها من السجن قد أصبحت حاملا منه رغم أنها كانت متزوجة من طبيب أمراض القلب ( أورلاندو فيرنانديز ) في نفس الوقت . ثم وضعت إبنة أطلق عليها أسم ( ألينا ) التي سمعناها تتحدث عن والدها في بداية هذا الموضوع , والتي لحد اليوم تستعمل إسم زوج والدتها ( فيرناندز ) . وكان كاسترو يزور إبنته ويمنحها هدايا ثمينة , لكنها في مذكراتها التي أصدرتها عام 1997 تحدثت بمرارة عن سنوات من الإهمال الذي تعرضت له من قبل والدها .
عاد كاسترو و 80 من رفاقه الى كوبا على متن قارب يدعى ( جرانما ) وقد كانت رحلة كارثية بحق , فليس باتيستا وحده من كان يعلم بوصولهم , لكن الأحوال الجوية السيئة , وإنقطاع الإتصالات , جعلتهم يصلون في الوقت الذي كان فيه جنود باتيستا بإنتظارهم فقتل الجميع عدا 12 واحدا منهم .
وعلى الرغم من الخسارة الهائلة فإن فيدل كاسترو وشقيقه راؤول ورفيقهما جيفارا .. واصلوا القتال , ولمدة سنتين إستخدموا جبال ( سييرا مايسترا ) مكانا لقاعدتهم , حيث كانوا يشننون هجمات فدائية صغيرة العدد سريعة التحرك تهاجم أعداد كبيرة من الجنود .
كما قامت الجماعة بتوزيع المنشورات وحصلت عام 1958 على محطة راديو ( من أين ؟؟ ) ثم بدأ كاسترو يذيع وعوده للشعب الكوبي بإصلاح الدستور , والقضاء على الفساد الإداري , وعقد إنتخابات حرة , وتحسين التعليم والخدمات الصحية .
تزايد عدد المتطوعين للقتال معه فصار عددهم 2000 شخص بحدود عام 1958 . في أول يوم من عام 1959 كانت هذه القوة قد سيطرت على هافانا .
حكومة الولايات المتحدة الأمريكية نفسها هي التي كانت تدعم وتعزز حركات الإنقلاب والإطاحة في دول أمريكا اللاتينية على وجه الخصوص , لأن شيوع الإضطرابات في هذه الدول يسهل عملية السيطرة عليها .
لم يؤسس الثوريون بقيادة كاسترو حكومة جديدة فقط , لكنهم أسسوا مجتمعا جديدا بواسطة كمية كبيرة من الإصلاحات المالية والإجتماعية .. ثم بدأ كاسترو ( يأمم ) جميع المصالح التي يملكها أشخاص من الولايات المتحدة الأمريكية معلنا .. أنه يضعها في خدمة الشعب الكوبي .
بعد ذلك توجه الى حملة شاملة للإصلاح الزراعي , أمم كل المزارع التي يزيد حجمها عن 400 هكتار , وتم توزيع الأرض على الفلاحين بمعدل 27 هكتار لكل واحد منهم . وبعض قطع الأرض الأخرى تحولت الى مزارع جماعية .
ثم قام بتحديد صلاحيات جميع الأديان , وبضمن ذلك الكاثوليكية التي هي العقيدة الرئيسية في كوبا , فلم يعد لأحد من رجال الدين الحق بالتدخل في السياسة أو أمور التعليم والثقافة .
بعدها تم الشروع في تقديم الخدمات الصحية مجانا .. ثم أصبح التعليم إلزاميا ومجانيا إعتبارا من مرحلة الحضانة والروضة حتى أعلى المستويات في الجامعة .
بعدها تحول الى برامج العمل العام , فتم بناء المستشفيات والمدارس وتعبيد الطرق . أما سياسة التمايز الطبقي فقد أصبحت غير قانونية وبشكل رسمي .
إصلاحات مثل هذه لا يمكن أن تحدث دون مقابل , فحرية الكلام أصبحت ممنوعة , ومناهضي كاسترو أُرسلوا الى السجون أو تم إعدامهم دون محاكمة . والحكومة كانت تراقب الصحف والإذاعة والتلفزيون . تصريح السفر خارج البلاد صار من الصعب الحصول عليه . ومع هذا فإن أعداد كبيرة من الكوبيين كانت تغادر البلد الى الولايات المتحدة الأمريكية , بحلول عام 1961 كانت كوبا قد ضَيَّعت نصف أطبائها ومعلميها .
حين سيدخل كاسترو الحرب الباردة من أوسع أبوابها عبر أزمة الصواريخ الروسية على أرضه .. كان شخصية كارزمية , وكان يحب دور القائد , لذلك صار يلقى الخطب الطويلة التي إستمر بعضها (( 9 ساعات )) يناقش فيها الشؤون المحلية والسياسات الخارجية , عبر التلفزيون على الأخص الذي ينقل صوته وصورته الى كل بيت .
إلتقى الرئيس السوفييتي ( نيكيتا خروشوف ) مع كاسترو أثناء ما كانا مدعوين الى نيويورك لحضور الذكرى 15 لتأسيس الأمم المتحدة عام 1960 . رفض كاسترو أن ينزل في فندق فخم في نيويورك , بل ذهب ليعيش في غرفة متواضعة في حي هارلم , عندها زاره خروشوف في محل إقامته .
رأى خروشوف على الفور .... أن كاسترو هو صوت الشيوعية الموعود في قارة أمريكا اللاتينية , كما إنتبه الى أن موقع كوبا المميز الملاصق لحدود الولايات المتحدة الأمريكية حيث يبلغ البعد بينهما ( 145 كيلومتر فقط ) قد يكون مفيدا . لكن الولايات المتحدة الأمريكية رأت أن هذا التحالف بين خروشوف وكاسترو ( تهديد لأمنها القومي ) .
ومنذ ذلك التقارب مع السوفييت صار كاسترو لا يتمكن من البقاء في مكان واحد لفترة طويلة , فقد سكن في فندق هافانا المكون من 23 طابق , كما إستعمل بيوت أصدقائه أو بيوتا ريفية , أو بقى دائرا بموكب من 3 سيارات ( أولدزموبيل ) مليئة برجال الحماية المسلحين بالبنادق , وبعد سنوات حين إنتقل للعيش في القصر الرئاسي , بقيت عادة التنقل الدائم ملازمة له , لأنه يريد أن يُعَرِّف أن هناك من يسعون الى قتله بأية طريقة .
في نيسان 1961 وقعت نقطة تحول في سياسة الحرب الباردة . فقد بدأت الولايات المتحدة تنتبه للموقع الحساس لكوبا القريب من أراضيها والذي لا يبعد أكثر من 145 كيلومتر عن شواطيء فلوريدا , ومن ناحية ثانية بالإنتباه الى علاقة كوبا مع الإتحاد السوفييتي . لذلك سعت وكالة المخابرات المركزية الى الإطاحة بكاسترو ونظام حكمه .. لماذا لم تتمكن من ذلك ؟ .. لا أحد يعرف .
قامت المخابرات الأمريكية سرا بتسليح وتدريب 1500 لاجيء كوبي في الولايات المتحدة لإجتياح كوبا من نقطة على سواحلها تدعى ( بلايا جيرون ) أي : خليج الخنازير . لم تكن الولايات المتحدة تريد إجتياح كوبا بجيش أمريكي بسبب الرأي العام العالمي وعلاقة كوبا مع السوفييت . وحتى آخر لحظة كان الرئيس الأمريكي جون كينيدي مصرا على عدم إرسال طائرات مقاتلة لحماية المهاجمين ( كوبيون يقتلون كوبيين ولا علاقة للولايات المتحدة بذلك ) وكانت النتيجة أن الجيش الكوبي هزم المهاجمين , وتعرضت الولايات المتحدة الى إدانة دولية بسبب هذه المذبحة .
كان على الولايات المتحدة أن ترسل 50$ مليون على شكل معدات الى كوبا لمبادلة الأسرى ( الأمريكان من أصل كوبي ) الذين تسللوا عبر خليج الخنازير الى كوبا , بعد فشل محادثات البلدين على تطبيق هذه الخطوة صرح كاسترو : (( الإمبرياليون لا يمكن أن يغفروا لنا قيامنا بثورة إشتراكية رغما عن أنوفهم )) .
مباشرة بدأت كوبا تتسلم السلاح من الإتحاد السوفييتي , الذي أصبح الداعم المالي لكوبا وشريكها التجاري . في أكتوبر 1962 أعلمت المخابرات المركزية الرئيس كينيدي بأن الإتحاد السوفييتي قد نصب سرا ( 42 صاروخ نووي متوسط المدى ) على الأراضي الكوبية والتي من المحتمل أن تصل الى أراضي الولايات المتحدة . فقام الرئيس كينيدي بمطالبة السوفييت بسحب هذه الصواريخ , كما أرسل قوات من البحرية الأمريكية لخفر سواحل كوبا لمنعها من التزود بالمزيد من السلاح .
حبس العالم أنفاسه , فالقوتين الكبيرتين في العالم قد وصلتا الى حافة الإنفجار , أخيرا إنتهت الأزمة بموافقة خروشوف على سحب الصواريخ من كوبا مقابل وعد من الولايات المتحدة بعدم الإطاحة بكاسترو أو نظامه السياسي .
وافقت الولايات المتحدة على ذلك في العلن لكنها في السر دبرت ( عملية مونجوس ) بتجنيد 2000 من اللاجئين الكوبيين على أراضيها وتزويدهم بميزانية مقدارها 50$ مليون لدعم هجومات صغيرة ومحددة على السواحل الكوبية .
أما كاسترو فقد تعرض الى حوالي 50 عملية إغتيال خلال الأربعين سنة الماضية , وكالة المخابرات المركزية كانت تشرف على تخطيطها منذ بداية عام 1960 , مرات بواسطة ( سيكار ) مسمم , ومرات بواسطة تسميم قناني ( البيكاردي ) الفاخر الذي يفضل إحتساءه , ومرة بواسطة سيكار متفجر , وأخرى بتسميم حذائه مما يصيبه بمرض خطير يؤدي الى موته , ومره بتجهيزه بجهاز تنفس عند الغوص حاوي على بكتريا السل الرئوي , كما أجروا الرجال من أجل قنصه , ومرة بتسميم كل المحار الملقى على الشواطيء الملاصقة لبيته في هافانا , عله يدوسه أو يأكله لتكون بذلك نهايته , لكن أي واحدة من هذه المحاولات لم تنجح . يقول كاسترو عن ذلك ساخرا : (( بعد كل هذا , ينبغي ان أحصل على وسام لأني الوحيد , العصي على الموت , الذي بقي حيا )) .
من ناحية أخرى تم فرض الحصار على كوبا منذ تلك الفترة , لكن كاسترو كان يطالب دوما بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة ورفع هذا الحصار , ولم ترفض الولايات المتحدة ذلك وحدها ولكن مواطنيها من أصل كوبي الذين غادروا كوبا خلال الأعوام الماضية , كانوا قد حصلوا على دعم الكونغرس من أجل تشديد العقوبات على كوبا , وكانوا يشيرون الى أعداد الهاربين من كوبا للبرهنة على فشل ثورة كاسترو .
خلال السنوات القليلة الماضية مات آلاف الكوبيين وهم يحاولون مغادرة بلدهم بواسطة أي قارب أو طوف أو شيء عائم يمكن أن ينقلهم الى أراضي الولايات المتحدة الأمريكية .
وعندما فتح كاسترو ( ميناء ماريال ) وسمح للكوبيين بالمغادرة , فإن أكبر مجموعة مهاجرة كوبية كانت قد غادرت في تلك السنة . قام الرئيس جيمي كارتر بجعل سفن الولايات المتحدة تقل 150 ألف كوبي ظنا أنهم لاجئون سياسيون , تبين فيما بعد أن عددا كبيرا منهم , من عتاة المجرمين .
ثم وصل معدل اللاجئين الى أعلى مدى له مرة ثانية عند التسعينات . ما يزيد على 3500 كوبي وصلوا الى سواحل فلوريدا عام 1993 . وفي صيف 1994 كان يصل الى الولايات المتحدة 2000 لاجيء يوميا . لكن الحكومة الأمريكية حددت الهجرة الكوبية اليوم الى أراضيها فلا تقبل اكثر من 20 ألف لاجيء سنويا , وأن لا يكون ذلك عبر إقتحام سواحلها ولكن من خلال إستمارات منظمة للهجرة أو اللجوء الى الولايات المتحدة .
كرر كاسترو لوم الحصار الأمريكي على بلده الذي يتسبب في كل هذا , عن طريق إفقار البلد وتخريب إقتصاده .. ومعظم دول العالم وأصحاب الرأي يتفقون معه في ذلك . وكان ذلك يضع الولايات المتحدة في موقف صعب أمام العالم . لذلك فخلال ست سنوات على التوالي مبتدأة منذ العام 1998 قام الأمين العام للأمم المتحدة بمناقشة موضوع إنهاء الحصار على كوبا . ومن مجموع 146 دولة صوتت على رفع الحظر , فقد عارضت ذلك 3 دول هي الولايات المتحدة الأمريكية , إسرائيل , وأوزبكستان .
عام 1999 قام مجموعة من السيناتورات الأمريكيين بمحاولة إنهاء حظر بيع الغذاء والدواء الى كوبا , لأن أصحاب المصالح الأمريكيون الذين يريدون تصدير بضاعتهم الى كوبا جادلوا الرئيس في تخفيف الحصار عنها . وعلى الرغم من تزايد الضغط العالمي لإنهاء الحصار ففي بداية عام 1995 أصدر الكونغرس الأمريكي قرارا يقتضي بتعزيز هذا الحصار بمنع ليس الشركات الأمريكية من التعاطي مع كوبا , بل جميع الشركات الأجنبية .
العديد من الأمريكان من أصل كوبي يتحججون أن ذلك في مصلحة الكوبيين أنفسهم , لأنه سيساعد على إسقاط كاسترو وحكومته , متعللين بأن ( حقوق الإنسان ) في كوبا قد خرقت بشكل فظ خلال فترة حكمه , ولأن الحصار لم يؤد الى إسقاط حكومته , لذلك ينبغي تشديد الحصار لأنه سيعجل الإطاحة به .
لكن غالبية الشعب الكوبي يدعمون سياسة كاسترو الثورية منذ ما يزيد على 4 عقود , فقد منحهم كل ما يتمنون : الرعاية الصحية , التعليم والثقافة , وفرص العمل .
وغالبية أعضاء أسرته يدعمونه أيضا , رغم أن هروب إبنته وحفيدته , الى الولايات المتحدة الأمريكية كان قد جلب له الكثير من الإنتقادات . أما أخته جوانا فمنذ إعلان نفسه شيوعيا , كانت قد غادرت كوبا الى المكسيك ولم تتصل به منذ ذلك الوقت . وعلى الرغم من أن أخوه راؤول لا يتفق معه على طول الخط بشأن السياسة الخارجية ... لكنه في العلن يبين الولاء له .
كما لم تكن له أية علاقة حميمة مع إمراة منذ إنفصاله عن زوجته ميريتا عام 1955 ثم علاقته مع ناتاليا التي إنتهت بعد ذلك بسنوات . وعلى كل حال فإن علاقته مع مساعدته ( شيليا سانتشيز ) لم تكن أكثر من علاقة صداقة إمتدت منذ أيام بداية الثورة , وحتى قتال شيليا من أجل أن تحصل على وظيفة ( مساعدة ) له , وحتى وفاتها بمرض السرطان عام 1980 .
عام 1989 قام البابا جون بول الثاني بزيارة كوبا , فعلى الرغم من 40 سنة من التقاطع مع الكنيسة , فقد سمح كاسترو بزيارة البابا , ربما لأن البابا يعارض الحصار على كوبا . إضافة الى أن البابا ( من أجل إرضاء كاسترو ) تحدث ضد الإستعمار قائلا أنه ضد حياة الشعوب ويحدد الوضع الإقتصادي لفقراء المجتمع وهو أي ( الوضع الإقتصادي ) يعتبر (( الحرية الحقيقية )) بالإضافة الى أنه تحدث عن حقوق الإنسان والعدالة الإجتماعية مثلما تحدث عن حرية التعبير عن الراي , والحرية الدينية , وعلى الأخص , حرية الكنيسة الكاثوليكية .
بالنسبة الى كاسترو , فإن زيارة البابا وتخفيف القيود الدينية , عدلت تصورات العالم عنه , كما منحته دعم الكوبيين الذين كانوا يطالبون بحرياتهم الدينية .
كما أن اللقاء المباشر بين الرجلين جعلهما يؤكدان أن لا خلاف جذري بين عقيدتيهما اللتين تنشدان صالح الطبقات الفقيرة حول العالم . وأنهما مقتنعان أن الشعوب أينما تكون فعليها أن تفعل ما بوسعها من أجل الصالح العام .
أظهر كاسترو الإحترام للبابا جون بول الثاني , بينما كان البابا يظهر دفئأ في معاملة ( معتنق للكاثوليكية ) منذ زمن طويل .
ومنذ زيارة البابا بدأ كاسترو يسهل ممارسات الكنيسة , وفي ديسمبر 1998 إعترف لأول مرة بعيد الكريسماس ك ( يوم عطلة ) في بلاده , بعد أن كان لا يفعل ذلك منذ سنوات طويلة .
في اليوم التالي 1 يناير 1999 إحتفل كاسترو بالذكرى 40 للإطاحة بنظام الديكتاتور باتيستا , بحضور أكثر من 1000 قائد كوبي إضافة الى جميع الهيئات الدبلوماسية في البلد , حيث وقف بينهم كاسترو بلحيته المميزة مرتديا بدلة ( عرضات ) وليست بدلة القيافة العسكرية الخاكية اللون التي يجب على العسكري إرتداءها في مثل هذه المناسبات .. مدللا بذلك على أن حربه مع الأمريكان ( لم تنته بعد ) .
تحدث عن سقوط ( الإتحاد السوفييتي ) لكنه لم يشر الى محاولات إغتياله التي لاتعد , أو عقود من الزمن في التقاطع مع السياسة الأمريكية .... فحكمه مازال قائما , والمئات من المعتقلين السياسيين مازالوا في السجون , واللاجئون مستمرون بالهرب من البلد , وجماعات من المعادين له ما زالوا يخططون للإطاحة به , كما أنه مازال حريصا على كتمان أمور عائلته عن الشعب , ففي عام 1963 تحدث في تشييع والدته الى مثواها الأخير , ومنذ ذلك الحين لم يتطرق الى أي شان عائلي في العلن .
زوجته السابقة ميريتا تزوجت من جديد برجل إسباني , وكان إبنهما فيديليتو لم يزل صغيرا , لذلك عاد الولد الى كوبا ودرس ( الهندسة النووية ) في جامعة هافانا , فعينه والده فيما بعد رئيسا للجنة الطاقة النووية الكوبية .
طيلة فترة الحرب الباردة , شعر كاسترو أن من مسؤوليته مواصلة الثورة في أنحاء العالم ضد الظلم والطغيان , لهذا دعم ثورات دول أمريكا اللاتينية مثل نيكاراغوا , السلفادور , وتشيللي . كما أرسل جيوشا كوبية للمحاربة في أفريقيا , في الحرب الأهلية الأنغولية مثلا , أو عند إجتياح أثيوبيا من قبل الصوماليين , لذلك تعد دول العالم الثالث كاسترو واحدا من أبطالها .
بالنسبة الى إنتشار الشيوعية في أمريكا اللاتينية , قامت الولايات المتحدة بتأسيس برنامج ( الإتحاد من أجل التقدم ) الذي يقدم الدعم المالي , والتجهيزات العسكرية , والتدريب , لمكافحة الثوريين والشيوعية في أمريكا اللاتينية . وفي الثمانينات من القرن الماضي واصل الرئيس ريغان والرئيس بوش الأب دعمهما لوكالة المخابرات المركزية لمحاربة الشيوعية في دول مثل شيللي ونيكاراغوا والسلفادور .
خلال الحرب الباردة رأى الإتحاد السوفييتي كاسترو قائداً يمكنه نشر الشيوعية في أمريكا اللاتينية , لكن حين سقط الإتحاد السوفييتي عام 1991 , توقفت مساعداته المالية الى كوبا من أجل نشر تلك الشيوعية في أمريكا اللاتينية , وكان ذلك بمثابة كارثة على الإقتصاد الكوبي المحاصر أمريكيا , وكان على كاسترو لتعويض جزء من هذه الخسارة أن يسمح ببعض نشاطات التجارة الحرة , ورغم ذلك فإن كوبا صارت أكثر فقرا .
ومع أن بعض الكوبيين ينظرون الى كاسترو كبطل , لكن اللاجئين الكوبيين في الولايات المتحدة يقولون إنه دكتاتور بلا رحمة , يمارس أهواءه الشخصية مخربا الإقتصاد الكوبي .
يوم 19 شباط 2008 أعلن فيدل كاسترو تنحيه رسميا عن منصب رئيس البلاد والقائد العام للجيش الكوبي في بيان نشرته صحيفة ( غرانما ) الكوبية الرسمية بسبب تقدمه في العمر ( 82 سنة ) وبسبب وضعه الصحي الحرج , فتولى الحكم من بعده أخوه راؤول .
إنتخب فيدل كاسترو رئيسا لحركة عدم الإنحياز للمرة الأولى .. بين عامي ( 1979 _ 1983 ) ثم أعيد إنتخابه رئيسا لها في قمتها الرابعة عشرة في 16 أيلول 2006 رغم وضعه الصحي الحرج الذي لم يؤهله لشغل منصبه هذا بشكل فاعل .
غير أن دول منظمة عدم الإنحياز ما هي إلا أوراق لعب أمريكية تم رميها في ساحة الحرب الباردة لتلعب مثل ( جوكر ) مع جميع الأوراق الأخرى , وبإسم حرية الشعوب .
نحتاج الى قراءة تاريخية لمنظمة عدم الإنحياز .. ومثلها لتواريخ قادتها المؤسسين .. ومثلها أيضا لتواريخ بلدانهم وما آلت إليه فيما بعد , لنقرر هذه الحقيقة غير مأخوذين بالصوت العالي الذي يصدره البوق والطبل الإعلامي لتزويق هذه الصورة , فهذه الدول كانت مثل ( همزات ) الوصل والقطع وكل حسب دورها لتعزيز سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأقصى , أو في قلب أوربا , أو الشرق الأوسط , أو في قلب الهند , أو أمريكا اللاتينية .. وما آل إليه حال شعوبهم على وجه الخصوص , وشعوب مناطقهم بشكل عام .. خير دليل على ماهية ما كانوا يفعلون .
السؤال الأهم المفترض في نهاية هذا الموضوع هو : هل كان فيدل كاسترو شيوعيا ؟ والجواب : كلا بالطبع , فإذا جاز لنا أن ننتحل عبارة كتبها شكسبير على لسان ( بروتس ) في مسرحية ( يوليوس قيصر ) تقول : (( ما قتلت قيصر كرها بقيصر , ولكن قتلته حبا بروما )) ووضعناها على لسان فيدل كاسترو واصفا بها علاقته بكل من الشيوعية والولايات المتحدة الأمريكية فسنجده يقول : ما دخلت الشيوعية حبا بخروشوف , ولكن دخلتها لأضع الشيوعية على حدود الولايات المتحدة الأمريكية لأبرر لها كل ما تفعله بالشيوعية في كل مكان من العالم , وعندي سبب مشروع لذلك , هو بحثي عن إستقلال كوبا عن التبعية للولايات المتحدة الأمريكية .
#ميسون_البياتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟