قبل ايام ، زار الرئيس المصري حسني مبارك ، تركيا للتشاور حول العراق ، وجاء ذلك من تخوّف الجانب التركي من الفيدرالية الجغرافية – القومية الكردية ، وللتصدي لها اضافة الى طلب المعونة المصرية في هذا المجال ، لما لمصر من تاثير في الجامعة العربية وفي الاوساط الاقليمية ، حيث اتفق الجانبان على معاداة القضية الكردية بحجة حماية وحدة العراق . غير انه فاتهم ان الفيدرالية الكردية عبارة عن ( عقد شراكة ) لا يمكن ان تتم تلك الفيدرالية بدون هذا العقد ، ولكننا نضيف الى ذلك حقيقتين : الاولى ان الاكراد انفسهم منفسمون حول هذا الموضوع من جهة ، كما ان لهم حكومتهم برلمانهم ومناطقهم التي يديرونها بديموقراطية منذ اكثر من14 عاما والتي لا يمكن لاحد التجاوز عليها او نكرانها ، من جهة اخرى . وانطلاقا من رموز السيادة هذه .. يزور منطقة كردستان العراق ن العديد من رؤساء الوزارات ووزراء خارجية الدول العظمى : الولايات المتحدة الاميركية وممثلين عن حكومات روسيا الاتحادية وفرنسا وبريطانيا واسبانيا وغيرها من الدول ، كما قامت الحكومة الكردية المحلية بفتح العديد من مكاتب تمثيلها في العديد من دول العالم .
ان الكرد اليوم – وفي واقع الامر – منفصلون عن الحكومة المركزية منذ العام 1991 وبحماية قوة التحالف الدولي ، التي استطاعت طرد الكتاتور من دولة الكويت ، كما ان الفيدرالية هي من مطاليب النخبة السياسية – الثقافية الكردية والعربية من اجل تجنب المشاكل في المستقبل ولأن مصالحها تقتضي اقامة الشراكة مع الشعوب العراقية على اساس فيدرالي ، من اجل ان يكون عرب العراق عمقهم الاستراتيجي في المستقبل من جهة وللدفاع عن وطنهم العراقي ، بالتكاتف مع الجميع ، ضد اطماع الآخرين . ولكن يتبادر – ها هنا – الى الاذهان السؤال الوجيه التالي حول النشاطات المحمومة للعسكرتاريا التركية : لماذا تتناسى تركيا – او تنسى – مشاكلها مع اكرادها بالهروب الى خارج حدودها لدس انفها في قضية اكراد العراق ؟!!
تؤكد المصادر التاريخية الحديثة – ومنها التركية والمكتوبة عن تركبا – ان الطورانية التركية التي برزت على المسرح السياسي التركي بعد استيلاء حزب الاتحاد والترقي على مقاليد الامور في الدولة العثمانية منذ الانقلاب العثماني ( 1908 ) قد عاملت الاكراد بقسوة ، وللذكرى والتاريخ فان الاتحاديين هم اول من سنوا تشريعات التهجير والتشريد لاكراد جنوب شرقي تركيا الى الاقسام الغربية من بلاد الاناضول منذ بداية الحرب العالمية الاولى . وهي السياسية القمعية التي سارت عليها جميع الحكومات التركية في العهد الجمهوري ، بل ومنذ عشرينات القرن العشرين بتاريخها الدموي ضد الاكراد وبانكار وجود حوالي 15 مليون كردي في تركيا ، وحتى اختطاف عبدالله اوجالان ، زعيم حزب العمال الكردستاني التركي ، والحكم عليه بالاعدام . ولم تتوقف انتهاكات حقوق الاكراد في تركيا الا بضغوط الاتحاد الاوروبي وبالتلويح بقبولها في النادي الاوروبي ، ولكن ذيولها لا تزال مستمرة في كردستان العراق .
فهل تريد تركيا ان تدفن راسها – كالنعامة – في الرمال ، في تجاهلها للقضية الكردية في بلادها بدل محاولة حلها ؟
تؤكد المصادر العربية التي تناولت تركيا واوضاعها الاقتصادية والسياسية وموقفها من اكرادها " ان تركيا كانت تصرف سنويا اكثر من عشرة مليارات دولار لمكافحة نشاط حزب العمال الكردستاني ، منذ عام 1985 وحتى عام 2000 . وقد انخفض هذا المبلغ الى النصف تقريبا بعد الغاء منظمة ( حراس الحدود ) وهم الاكراد ( الجحوش ) من العشائر الكردية القاطنة في تركيا ، والتي ساهمت مع القوات التركية المسلحة في مكافحة حركة عبدالله اوجالان – زعيم حزب حزب العمال الكردستاني التركي – منذ عام 1987 " . وقد ادت هذه النفقات العسكرية الباهضة الى ان تقفز ديون تركيا الخارجة من 64 مليار دولار عام 1986 الى 96 مليار عام 1998 والى تدهور سعر الليرة التركية مقابل الدولار الاميركي ، من 9 ليرة للدولار عام 1972 الى مليون ليرة ونصف مقابل الدولار عام 1998 نتيجة التضخم النقدي الذي بلغ 216 بالمئة عام 1998 " . اضافة الى ان تجاهل واشنطن لتركيا بعد رفض برلمانها " مرور القوات الاميركية عبر الاراضي التركية لاسقاط نظام صدام حسين واحتلال العراق " اضاف اعباءا اقتصادية جديدة على كاهل تركيا ، كما انها فقدت مركزها الاستراتيجي في السياسة الاميركية الموجهة الى الشرق الاوسط ، بعد ان اصبحت واشنطن نفسها ، دولة شرق اوسطية باحتلااها للعراق .
وعندما تريد تركيا اليوم ، إظهار نفسها كدولة اقليمية ذات تأثير في مجريات امور المنطقة فانها تحاول الهاء شعبها عن مشاكلها الداخلية من جهة ونسيان – او تناسي – ان تأثير الدول ناجم عن قوة اقتصادها ، وهي اليوم مفلسة ، وعن طريق قوتها العسكرية المسلحة ... في حين انها قد اصبحت مكتوفة الايدي بعد 9 نيسان وتواجد القوات الاميركية بكثافة في المنطقة ، ناهيك عن مشاكل تركيا الداخلية ومع الاتحاد الاوروبي وفي قبرص وبحر ايجة – مع اليونان – ولذلك فانها تحاول تصدير مشاكلها الى دول الجوار هروبا الى الامام .
ونعود مرة اخرى لموضوع زيارة الرئيس المصري الى تركيا فنقول : ان تركيا عندما تطلب مساعدة مصر لها لحل الاشكالات الكردية في كردستان العراق ، على اساس ان لمصر ثقلا مزعوما في العالمين العربي والاسلامي ، فان تركيا تنسى ان مصر دولة تجرع المهانة والذل على مدى 24 ساعة في اليوم ولا تستطيع ان تحرك ساكنا ، بل انها ورغم مطالبتها باقامة الدولة الفلسطينية ، فانها لا تستطيع ان تقول " ان عاصمتها القدس " . كما انها ترى وعلى مدار الساعة ما يحل بالفلسطينيين من ابناء جلدتها ... فلا حول ولا قوة لها غير تملق الولايات المتحدة واسرائيل التي ترفرف علمها فوق العاصمة المصرية رغم انف جميع المصريين الذين لا يقبلون بهذا الوضع المشين .
اما عن موقف مصر من القضية الكردية ، فثمة تناقض واضح في سياستها تجاهها، بل انها تناقض نفسها حول الموضوع . حيث ان " الدراسات الاستراتيجية في جريدة الاهرام المصرية تؤكد بان قيام دولة كردية في كردستان العراق ، لا يضر بالامن القومي العربي وانما هو في صالحه ، لان تلك الدولة الوليدة ستصبح جدارا بين العرب والاتراك " . فاذا كانت الدولة الكردية غير قادرة اليوم على صد تهديدات تركيا – مثلا - بالاجتياح ، فان قيام هذه الفيدرالية سيجعل من العرب عمقا استراتيجيا لها بحيث تستطيع ان تصمد بوجه كافة التحديات " . وهنا ايضا يتبادر الى الذهن الاسئلة المشروعة : هل ان الرئيس المصري – وهو العسكري المحنك – لم يدرس الاستراتيجية العربية ، ام ان مستشاره السياسي لم يطلعه عليها ؟ ! ثم من اين ولأي سبب كان هذا التوافق المصري – التركي ضد الاكراد ؟ ! وهل هو اتفاق المفلسين على توزيع المغانم ؟ ام انها محاولة لايذاء الاكراد وتحطيم احلامهم المشروعة ؟ !! بدل الانصراف لحل مشاكل الشعب المصري : البطالة والهبوط المستمر لقيمة الجنيه المصري ، وعدم توفير الدولة لكسرة الخبز لملايين المصريين . فيا اخوتنا الاعزاء كفوا اذاكم عنا ... لاسيما وان الاكراد لا يريدون اقامة الدولة المستقلة لهم ، وهو الامر الذي كفلها لهم جميع الشرائع الوضعية والسماوية وبيانات حقوق الانسان الدولية ، ضمن حق تقرير المصير الذي اقره – ايضا – برلمانهم ، وانما يريدون الوحدة – وليس الاستقلال – حفاظا على هويتهم القومية وللعمل مع العراقيين – كل العراقيين – لبناء العراق الديموقراطي السعيد .