يمكن الآن وبعد أن قطعت البشرية أشواطا كبيرة, تفهّم أسباب موقف الفيلسوف الكبير سقراط , بعد موافقته على مبدأ عدم منح الديموقراطية للعبيد و النساء أو للشعوب الشرقية, التي وصفها بالهمجية, و اقتصار ذلك الإبداع البشري – أي الديموقراطية – للنبلاء و الأحرار من أبناء جلدته.. حيث أيّد و دعم النص القانوني في عصره و مجتمعه, "حقوق الترشيح و التصويت للذكر الحر البالغ عشرون عاما فقط" .
ذلك أن البشرية لم تكن تعرف أنماطا من تطور المجتمعات, أكثر من الذي كان قائما في حينه, و هو النمط العبودي, و لم تكن تصّورات أفلاطون عن جمهوريته الفاضلة قد اكتملت, فانحصر ذلك الإبداع ـ أي الديمقراطية ـ في صنع و صياغة أرقى شكل يمكن أن يتخيله العقل حين ذاك للدولة, التي يمكن أن يدير فيها أبناؤها " الأحرار" شؤونهم و يرسموا ملامح مستقبلهم, دون أن يؤدي الاختلاف بينهم إلى العنف, و دون أن يعيدوا إنتاج العنف وصناعة الديكتاتورية.
أي أن ذلك الجهد و ذاك الإبداع انصب لإعادة صياغة الواقع, بما يخدم تحسينه , ويؤسس لبناء المستقبل, حيث عيونهم المشدودة إليه. و لم تكن محاولة أفلاطون إلا ضمن هذا السياق.. فهرع يجوب الأصقاع ليرسم لأجيال البشرية اللاحقة ملامح مستقبلهم في مجالات مختلفة, و كما سمحت له خيالاته الإبداعية..... إلا أنه بالرغم من مرور قرونا عدة على تطبيقات الديمقراطية في الغرب ونتائجها المذهلة بقينا نحن العرب نحرمّها على أنفسنا وعلى غيرنا أيضا.....
في سؤال إلى أستاذيّ قسم الفلسفة في جامعة دمشق , أثناء محاضرة تحدّثا بها عن الديمقراطية و أهميتها و ضرورتها الحالية :
لماذا لم تدرسّا هذه الأفكار الجميلة للأجيال العديدة من الطلبة , التي تخرّجت من عندكما,و منذ أربعة عقود ؟! والتي تم منذ ذاك هدم الركائز الديموقراطية التي كانت قائمة, و تطبيق حالة الطوارئ.؟!
كان جواب الأستاذين : أن هذه الأفكار لم تكن مسّوغة .
كان الجواب تكثيفا لواقع الحال التي عاشته شعوبنا منذ ذلك التاريخ إلى اليوم. و اليوم حيث أثبت الواقع بفجاجة كبيرة عجز هذا الحال عن الاستمرار و فشل تلك الشمولية. و إيصال البلاد إلى الدمار اكتشف أساتذتنا أهمية الديمقراطية أخيرا.
عندها تيّقنت أن أساتذتناـ مع شديد احترامي ـ ليسوا أفضل حال من تلك الشعوب, في مستوى النظر إلى المستقبل, و في طريقة رسم ملامحه ,رغم صحة الإجابة والتوصيف.
بالرغم مما توّفر لشعوبنا و أساتذتنا المقياس المحقق, و المنجز على الأرض, و نتائج انتصاراته تبهر العقول و الأبصار,و الذي بوشر بتطبيقه في الغرب قبل أكثر من قرنين من الزمن. وهو نموذج الدولة الديمقراطية ,دولة المؤسسات والقانون ,والذي عرفته بلادنا قبل حلول الدولة الأمنية الشمولية .إلا أن تلك الأفكار عن الديموقراطية لم تكن مسوّغة للشعوب والأساتذة معا منذ أربعة عقود !.. والأصح أنها لم تكن مسوغة لشعوبنا منذ قرون .. لذا ضاعت صرخات المنورين النهضويين الأوائل في الهواء, والتي طالبت بتمثل النموذج الديمقراطي الغربي. بينما الذي كان مسوّغا هو الشموليّة على الطريقة السوفيتيّة, و التي بالرغم من علائم انهيارها المبكر قبل عقدين, لم تلمحها شعوبنا و نخبنا الثقافية, و لم يلمحها أيضا أساتذتنا. والسبب في ذلك أن النظام الديمقراطي تصنعه الشعوب التي تريد التأسيس لبناء المستقبل,وهو سوّية من التطور الحضاري والارتقاء الثقافي تفتح الأفق الواسع للنظر إلى المستقبل والتعاطي معه . ونحن نفتقد إلى شروطه .
* * *
إن مجافاة المستقبل والنظر إليه, والتعاطي معه لم يكن سببه يقتصر عند حدود الإحباط و اليأس من المستقبل,و من إمكانية بناء شيء جميل في المستقبل, أو انعدام الأمل في ردم شيء من الهوة الحضارية القائمة بيننا و بين الغرب الحضاري, و الذي أضحى يرمز إلى المستقبل الافتراضي. بالرغم ما للإحباط و اليأس من نتائج سلبية مؤثرة على ما هو قائم في مجافاة ذلك المستقبل. إلا أن الأمر يعود إلى العلاقة مع الماضي. . و مدى قوة و تأثير ذلك الماضي في هذا الحاضر الذي نعيشه.. وما يتسبب ذلك في إغلاق زاوية الرؤيا الضّيقة أصلا تجاه المستقبل .
العلاقة مع الماضي المقصود بها هنا هو: الثقافة الماضّوية الحاضرة دوما . الثقافة الماضّوية المترابطة عضوّّيا, مع مكونات الواقع القائم في مختلف جوانب الحياة . ومكوّنات الثقافة الحالية المكونة لوعينا وسلوكنا هي : أــ التاريخ كما هو مرسوم في الأذهان
ب ـ الدين كما هو عليه اليوم.
أ ـــ التاريخ: إن تاريخنا لم يكن سوى تاريخ العنف وممارسته وإعادة إنتاجه. وهذا ما صبغ الثقافة الماضّوية و الحاضرة , بصباغ الشمولية ومكوناتها العنفية, و الخاضعة لثنائية( قمع / خضوع، سيد / عبد). والذي تمثل بدور الدولة ونموذجها. نموذج الدولة الخراجية, التي اعتاشت طوال حياتها منذ تشكلت الدولة العربية على يد معاوية, إلى أن أهدمها المستعمرون الغربيون في مطلع القرن العشرين. اعتاشت على جهد القوى المنتجة المدينية, و إجهادها المتواصل لتلك القوى و الذي منحها الاستمرار قرونا طويلة , و حولهّا إلى امرأة عاقر عاجزة عن ولادة البديل المختلف وهو نمط الإنتاج الرأسمالي. وكان الإجهاد المتواصل بسبب عاملين, فرضا على مجمل الحضارة العربية مساراتها الخاصة , و دفعاها إلى اتجاهاتها العدمية ونهايتها المأساوية .
ــ الأول: كان نفق العسكرة و التوسع, الذي ولجت فيه الدولة الخراجيّة و الذي شكّل استنزاف هائل و مستمر. ـ الثاني : هيمنة الموجات الرعوية المتتالية على المدنية العربية و عناصرها و قواها. الموجات الرعوية التي شكلت خزّانا بشريا لا ينضب للجيوش, صانعة السياسة و أصحاب القرار .
هذا التاريخ لم يقرأ بما هو عليه وبحقائقه, ولم يدرسّ أيضا كما هو, ليتم الاستفادة من دروسه كما تعمد كل الشعوب المتحضّرة. لم يصل إلينا واضحا بتفاصيله المظلمة والمضيئة,بل وصل إلينا مزورا .ومبالغا في نقاطه المضيئة حتى باتت إرتكاسات الحاضر لغزا معقدا,وبات ذاك الماضي المبالغ فيه عبئا ثقيلا يشوّش على محاولات تفسير عجزنا الحالي ,وبالوقت نفسه يشكل فسحة عريضة للهاربين إليه والمشدودين إلى انتصاراته المزعومة. وعملية التزوير هذه ما تزال سارية إلى اليوم . .
وهذا التاريخ الذي لم يكن سوى تاريخ انتصارات الجيوش الرعوية في الحروب مع الآخر المختلف, يدعو الرعاة للزهو, ويدفع العقل المهزوم أمام مشكلاته إلى الارتباط أكثر به, و يرفض الانفصال عنه, إلى درجة محاولة تطويع العصر و الحاضر لحساب ذلك الماضي الدموي, و الذي لم تجف بعد أنهر دمائه إلى اليوم .
2 ــ الدين: بعد أن حولته سلطة الخليفة ( ممثل الله على الأرض ) إلى مؤسسة تأبيد سلطتها, ومنبعا للثقافة (الرعوية), بعد أن تم غربلته من جميع المفاهيم و القيم التي تعاكس و تخالف ذلك, و بعد أن استخدم سلطته و سطوته المعرفية, لتجابه وتعطل سير وانتشار كل التيارات الفكرية الفلسفية المخالفة. أصبح الدين أيديولوجيا الرعاة الذين يريدون إيقاف التاريخ عند استحواذهم على مفردات المدينة و السلطة السياسية و الاقتصادية .أصبح الدين المكوّن الرئيس والمصدر الوحيد للثقافة الشعبية .بعد احتلاله كامل الفضاء المعرفي.
* * *
لذا نجد الإنسان العربي في العصر الحالي هو قنبلة موقوتة, عنفا مكتوما. ينتظر لحظة انفجار,
فكيف به لا يتمثل نموذج شمولي يتطابق مع وعيه الظاهر و الباطن. ولا يتعرف على الآخر إلا بوصفه مطيّة لصعوده, و ثروة مستباحة له,وشخص يمكن استعباده. و القبيلة هي النموذج الأرقى في عالم اجتماعه وانتمائه .
عند تشكل الدول الشمولية في عالمنا العربي, بعد أن دكّت جيوشها البرلمانات العربية, و الديموقراطية المحدثة حديثا, والتي كانت جيوشا تحمل قادة ريفيون, يحملون معهم معانات الريف المفهور و أحقاده على المدنيّة و المدينة التي همشته. و عقلية القبيلة الحاضرة في الوعي والثقافة,حينذاك اجتثت الموجة الريفية المدنية ـ الحديثة الولادة ـ من جذورها. وظلّت الديمقراطية غريبة كل الغرابة عن عالمنا و عن ثقافتنا و عن سلوكنا. و بالتالي يبقى المجهول يحمل الكثير من الخوف و هي ـ أي الديمقراطيةـ هذا المجهول بكل مخاوفه.
لهذه الأسباب جميعها ظل وعينا حتى اليوم يمانع و يرفض الدخول في نفق هذا المجهول .إضافة لما يروج له أعداء الديمقراطية من أضاليل وإشاعة المزيد من المخاوف والأوهام منها.
لكن الغد الواعد بالدخول في نفق الديموقراطية أصبح قريبا لسبب مهم, و هو أن الاكتواء بنار الشموليات الريفية القبلية,وصل إلى حد عدم الاحتمال, وأوصلت برامجها البلاد إلى الحائط . وسوف يبدّد ذلك الخوف قسرا عن كل الأوهام التي يصنعها الطغاة .وسوف تدوّر الرؤوس من اتجاه رؤيتها وارتباطا بالماضي الرث إلى اتجاه المستقبل المأمول به.
25 /2 /2004