في آخر لقاء له مع الكتاب والصحفيين أكد عظمة الملك المفدى أهمية تحقيق الشفافية وتدفق المعلومات في وسائلنا الإعلامية سواء فيما يتعلق منها بالقضايا العامة الوطنية أم بالأحداث المحلية الطارئة ، وأبدى في هذا السياق استياءه من أقدام بعض وسائل الأعلام الإقليمية المعروفة على نحو دؤوب على تناول وتغطية بعض الأحداث المحلية بصورة مفصله وشاملة اكثر من وسائل أعلامنا المحلية ، وهى تغطية لا خلو في كثير من الأحيان من الدس والتشويه .
وقد لمست من جانبي من خلال جملة لقاءات الملك مع الصحفيين ومن خلال متابعتي لتصريحات وخطبه ، انه مهما بلغت وسائلنا الاعلاميه من درجة في النقد القاسي أو التصريح أو الشفافية في تناول القضايا المحلية أهون لدى ملكنا المفدى – مادامت تتم في إطار البيت الداخلي – من تناولها في وسائل الأعلام الإقليمية والدولية على ذلك النحو المغرض والمدسوس .
لكن وبالرغم من تأكدت الملك تلك فان من الملاحظ في هذا السياق مازالت قوة العادة ونزعه المحافظة والتردد والتخوف هي التي تحكم إدارات وقيادات مختلف وسائلنا الإعلامية المقروءة والمرئية والمسموعة ، ولعل قضية ( العقيد الهارب ) المتفجرة منذ شهر خير مثال على ذلك فمن المفارقات أن وسائلنا الإعلامية المرئية والمسموعة ممتنعة كليا عن تناول هذه القضية ، بينما لا يتوانى بعض وسائل الأعلام المرئية والمسموعة العربية عن تخصيص بعض برامجه لهذه القضية ، بل تستضيف فيها بحرينيين .
أما إذا أتينا إلى وسائل أعلامنا هذه تعامل مع ملف القضية بحذر شديد أو بمرونة نسبيه في احسن الأحوال .
لكن حتى هذه المرونة النسبية أمنا جاءت كرد فعل على تفوق بعض الصحافة العربية ومنافستها لصحافتنا المحلية ( وجميعها تدخل البحرين وفى متناول يد القارئ البحريني ) في حجم الشفافية وتدفق المعلومات المرتبطة بملابسات القضية.
ولعل من المفارقات المؤلمة أن معظم ذلك التفوق في الشفافية وحجم المعلومات تحقق على أيدي مراسلين إعلاميين وصحفيين بحرينيين معظمهم يعملون في مؤسسات إعلامية محلية .
الادهى من ذلك هو ما ينتابك من الدهشة المزدوجة بالحيرة الشديدة وأنت تسمع وتقرأ هذا السيل المتدفق من التصريحات والمقابلات الصحفية للعقيد _ الهارب ) كأنه يعيش بين ظهورنا داخل البحرين وخاصة أننا في عصر القرية الكونية دونما أن تسمع ما تخذ من إجراءات لاستعادته ، حتى بدا هذا العقيد وهو من دولة صغيرة مسالمة يمتلك قدرات وخبرات خارقة في الاختفاء والتخفي اخطر واعظم من ( كارلوس ) الذي دوخ مخابرات العلم ولم تقتف أثره ألا بعد مضى ربع قرن لا بل بالرغم من هذه السهولة المتناهية التي ( هرب ) من خلالها إلى الخارج لا تسمع حتى الآن عن أي تحقيقات أو مساءلة جرت لكشف سر هذه ( السهولة ) .
وأنت إزاء هذه المعلومات المتوافرة أو الملتبسة حول سيناريو القضية لا تملك سوى 3 أفلام عربيه شهيرة تستعين بها لكنك تحتار في اختيار أي منها اصلح لمطابقته مع سيناريو قضية ( العقيد ) .
في ضوء التعتيم وندرة الحد الأدنى من المعلومات الأساسية والتحقيقات الصحفية المحلية حول قضية انحرافات العقيد بجهاز أمن الدولة البحريني عادل فليل ، ومثل هذه الندرة غير مستغربة في القضايا المتعلقة بأجهزة المخابرات العربية المحاطة كل شاردة وواردة منها بهوس الكتمان والسرية المفرطة ... نقول في ضوء هذه الندرة يصعب على المرء أن يكون صورة متكاملة موثقه لسيناريو قضية العقيد الهارب بحيث تتضمن اخطر أوراق ملف القضية ( تعذيب المعتقلين ) وليس فقط الاحتيال المالي عبر الابتزاز الأمني .
وفى حدود مشاهداتنا الشخصية ثمة ثلاثة أفلام عربيه شهيرة لعل سيناريو واحد منها يصلح للمقاربة مع سيناريو العقيد ( الفار ) فيلم ( البريء ) من بطولة احمد زكى ، والثاني فيلم ( زوجة جل مهم ) من إخراج محمد خان وسيناريو رؤف توفيق وبطولة احمد زكي أيضا ، والثالث فيلم ( جعلوني مجرماً ) من بطولة فريد شوقي وهو فيلم قديم ، قدم قضية العقيد ( الفار ) منة حيث جذورها وأبعادها وتشابكاتها مع بعض الجهات السياسية العليا ذات النفوذ .
في سيناريو الفيلم الأول يتم تجنيد احمد في السجن الحربي ويعطى جرعات يومية من غسيل المخ وسلخ الروح عبر تلقينه بان المعتقلين مخربون وهم أعداء الوطن فيشارك في تعذيبهم ، ويقتل أحد المعتقلين اثر محاولته الهرب ، لكن احمد يصحو ضميره فجأة اثر اعتقال حصن صديق طفولته دمث الأخلاق فيرفض التصديق بان حسن مخرب وعدو للوطن فيتمرد ضد قادته العسكريين وعلى مهنته المخابراتيه لكن نهاية هذه الحبكة ( صحو الضمير ) لا تتطابق مع نهاية سيناريو العقيد ( الفار ) وان تطابق مفاصلها وخيوطها الأساسية معه .
وفى سيناريو الفيلم الثاني نحن أمام فتاة طيبه ( يعنى على نيتها ) تتزوج من هشام العميد بمباحث أمن الدولة والمعروف بتلفيقة مئات الاتهامات في أحداث 19 ، 18 يناير 1977م التي عصفت بمصر السادات والتي لعب فيها الطلبة دوراً هاماً ، لكنه يستغل طيبه منى للتحري عن زملائها النشطين سياسياً دون أن تعرف مراميه من هذا التحري فتثور على زوجها بعد ما حامت الشكوك من حولها من قبل زملائها الذين اخذوا يقاطعونها فتشعر بالعزلة الخانقة ، لكن هو الآخر يدخل في عزل جديده من أن هوى نجم سطوته المخابراتيه اثر أحالته على التقاعد وذلك بعد ثبوت براءة المعتقلين والإفراج عنهم لكن هذه المرة يمارس سلطته عليها فيحول حياتها إلى جحيم مضاعف ،ويقرر والدها تخليصها منه باستضافتها في منزله مما حدا بالعميد هشام بقتل والد زوجته تم ينتحر .
وهذا السيناريو هو الآخر لا تصلح نهايته للمقاربة بنهاية سيناريو القصة الحقيقة ناهيك عن أن هذه النهاية ما زالت معالمها النهائية لم تكتمل بعد ، وان كانت الكثير من خيوط ومفاصل حبكة هذا السيناريو تتشابه مع خيوط ومفاصل السيناريو الواقعي لصاحبنا حسبما نشر باقتضاب في الصحافة المحلية والصحافة العربية على الأقل ، ناهيك عن كلام الناس المتداول ولا سيما على السنة ضحايا العقيد وذويهم .
أما فيما يتعلق بسيناريو الفيلم الثالث ( جعلوني مجرما ) من بطولة فريد شوقي فانه لا يتصل بالسياسة ألا من زاوية انعكاسات النظام السياسي القائم على البنية الاجتماعية فنحن هنا أمام شاب انحرف بعد وفاة أبيه إذ تزوج عمه من ولدته عرفياً ويستولي على ميراثه ويبدده على لهوه وملذاته فتضيع بوصله الشاب في الحياة وتتلفه العصابات تباعا للعمل معها ، يقع في حب مطربة كباريه فينافسه عمه عليها ثم يلفق العم لابن أخيه تهمة جريمة قتل فيسجن وتنجح المطربة في إثبات براءته في الوقت الضائع أي حينما يهرب من السجن ( لا المطار ) فيصبح مجرما بالفعل ومع أن عنوان الفيلم موفق للغاية في الدلالة على الظروف التي صنعت من بطل القصة مجرماً سواء قبل دخوله السجن أم بعد هروبه منه ألا أن سيناريو الفيلم لا يصلح لا في البداية ولا في النهاية لمطابقته مع سيناريو صاحبنا ، وان كان عنوان الفيلم بالطبع جديراً بالاستعارة هذا إذا ما أردنا ألا نجعل من بطل السيناريو الحقيقي ( العقيد) مجرد كبش فداء أو محرقة .
والحال أن هذه الأفلام الثلاثة مجتمعه تصلح لنخرج منها بتوليفة واحده لسيناريو واحد يقارب إلى حد كبير سيناريو العقيد ( الهارب ) و لا سيما الفيلمين الأول والثاني ، أما الفيلم الثالث جعلوني مجرما فهذا العنوان يصلح بامتياز لان يكون عنواناً لقضية العقيد ( الفار ) من جذورها وعنواناً لقلبها بل وعنواناً لقالبها برمته ... ! .