كلما حل الصيف على ربوعنا في الخليج بأجوائه الرطبة الخانقة ، واقترب موعد قدوم الشهر السابع، سرح تفكيري بعيدا إلى الرابع عشر من تموز 1958 ، ليجتر ذكريات لا تنمحي من المخيلة رغم تقادم الزمن. كنت وقتها في الثامنة من العمر، وكانت السنة الدراسية في مدرستي الابتدائية تكاد تلفظ أنفاسها، وأقراني يستعدون لتسلم شهاداتهم ودرجاتهم و توديع صفوفهم وأساتذتهم، ويترقبون بشوق إجازة صيفية طويلة وحارة، لكنها أيضا مليئة باللهو والمفاجآت و التخلص من الكتاب والقلم والسبورة والواجبات الثقيلة ، وأيضا العقاب الجسدي الذي لطالما عذب أجسادا طرية لكنه أثمر في النهاية عن عقول سليمة مشبعة بالقيم و الأخلاق والانضباط.
وتشاء الأقدار أن يكون الطريق الترابي المؤدي إلى المدرسة يمر من أمام مقاه شعبية كان روادها يتحلقون – بخلاف الأيام الأخرى- حول أجهزة المذياع الكبيرة المثبتة على الجدران ، وهي تذيع بنبرات قوية وجمل حماسية، دعوات وتعليقات لم تتمكن سنوات العمر الثمانية من استيعاب مفاهيمها ومراميها. فظلت تلك الصورة متعلقة بجدران العقل الطفولي البريء، تبحث عن الإجابات الشافية لسر ذلك التغيير المفاجيء في أجواء مقاه كانت على الدوام شبه هادئة، وفي طباع أناس كانت ردود أفعالهم في الغالب حذرة خوفا من أجهزة المباحث. وأيقنت بحس الحقبة الخمسينية الغني ، وبزخم أحداثها المتأججة ، وأنا لم أزل طفلا صغيرا ، أن في الأمر خطبا عظيما والا لما تدافع الناس في الصباح الباكر نحو المقاهي لسماع الأخبار. ذلك أن المقهى كان في ذلك الزمن الاقتصادي المتواضع خير سبيل لاستقصاء الأخبار العربية مجانا من مذياع لم يكن اقتناؤه متاحا لشرائح كبيرة في المجتمع.
ومع مرور ساعات النهار التموزي، كانت التساؤلات الحادة تتزاحم في المخيلة الغضة دون أن تجد الإجابات المناسبة. فمن كان يجرؤ في تلك الحقبة على أن يرفع صوته أمام المتعلم ليسأل سؤالا في صميم الدرس ، حتى يتجرأ ويسأل سؤالا عما لا علاقة له بالمقرر المدرسي؟ وبدا لي أن لا سبيل لإشباع فضولي سوى الانتظار إلى حين العودة إلى البيت وسؤال الأهل عما يجري في الخارج من حالة لم تكن مألوفة بكل المقاييس. وكان نصيبي من طرح تساؤلاتي الفضولية على الوالدة المنهمكة في أعمال المنزل اليومية والتي لم تكن ثقافتها تتجاوز شئون قدورها وصحونها ومطبخها ، زجرا لا أنساه معطوفا على نصيحة " خليك في حالك ولا تتدخل فيما لا يعنيك". وفي ظل عدم الجدوى من انتظار الوالد المرتحل دائما، وخلو عائلتنا من الأخوال والأعمام والأخوة الأكبر سنا وإدراكا ، لم أجد بدا من اللجؤ إلى جارنا " سالم" صاحب البقالة الوحيدة في حينا البسيط، لأراه هو الآخر منشغلا بإدارة عقارب المذياع الضخم يمينا ويسارا وتحريك بطاريته وأسلاكه وهوائياته، عله يتمكن من التقاط صوت بدا وكأنه غريق بين عشرات الأصوات واللغات هو صوت إذاعة الجمهورية العراقية من بغداد.
لكن حب المادة، التي كان سالم يسلبها رغم قلتها من جيوب الأطفال بطريقة أبوية ودودة لقاء قطع تافهة من الحلوى أو كمية متواضعة من العصائر ، جعله يترك المذياع جانبا لبعض الوقت ويلتفت إلي متسائلا عن طلباتي. وكان لطلبي وقع الصاعقة على سالم ، و حيرة لم أرها من قبل في عيني الرجل الخمسيني محدود الثقافة.
وبدا لي لبعض الوقت أن الرجل سينهرني كما نهرتني أمي عقابا على فضوليتي وتدخلي في ما كان يفعله الكبار. لكن الحقيقة هي أنه كان يفكر في طريقة الرد بأسلوب يتلاءم مع صغر سني ومحدودية فهمي. هل كان سالم موهوبا في طرق وفنون التعامل مع أسئلة الأطفال المحرجة؟ لا أدري! لكني أتذكر أنه قال بعد شيء من الصمت والتردد : يا ولدي، أنت تجمع طوابع البريد ، وكثيرا ما زودتك بطوابع عراقية بعد اقتطاعها من اغلفة الرسائل القادمة من العراق ، فهل تتذكر الطفل الذي تظهر صورته فوق تلك الطوابع؟ أجبته على الفور: نعم انه ملك العراق. فقال: أحسنت! إنهم قتلوه ، وما هذا الذي تراه من حولنا إلا بسبب تلك الحادثة.
عند هذا الرد ، كنت أطلق قدمي للريح عائدا إلى البيت وفي جوفي خليط من مشاعر السرور لإشباع فضولي و مشاعر الخوف والرهبة لسماع كلمة القتل وما يصحب القتل من فناء. ويبدو أن طفولتي انحازت لطفولة الملك القتيل ، فانزويت باكيا في أحد أركان دارنا ، متسائلا عما يكون ذلك الطفل الوسيم ذو الهندام المرتب، بحسب ما كانت تظهره طوابع البريد العراقية، قد فعله حتى يستحق عقوبة القتل بدلا من عقوبة الضرب التي كانت تمارس ضدنا كلما أخطأنا ، وهل كان هذا الملك الصبي سيئا إلى الدرجة التي يهدرون معها دمه؟ أسئلة كثيرة تزاحمت وقتها في مخيلتي, ولم أجد إجابات شافية لها إلا في فترة لاحقة حينما اكتمل نموي وتوسعت مداركي.
حوادث ذلك اليوم الحار كانت بالتأكيد سببا فيما بعد لمطاردة لا شعورية لكل ما كتب وصدر ونشر وقيل عن ثورة الرابع عشر من تموز وقادتها وإنجازاتهم وإخفاقاتهم ومذكراتهم وشهاداتهم للتاريخ ، وهو كثير وحافل بالروايات المتناقضة والأخبار الكثيرة والجدل الواسع. ومع الرحيل المبكر لصانع الثورة ومفجرها الشهيد عبدالكريم قاسم ، ومن ثم توالي سقوط رفاقه ومن انقلبوا عليه في ظروف مأساوية وأحداث درامية ، إما قتلا أو تعذيبا أو غيلة وإما مرضا أو جنونا – وكأنما القدر ينتقم له منهم- كان الجدل يزداد حدة ويثمر عن القليل من الحقائق والكثير من الادعاءات عن حدث كبير غير مجرى التاريخ العربي المعاصر. فالكثيرون ممن كتبوا عن الثورة وزعيمها طغت على كتاباتهم صفة الثأر والانتقام المؤدي إلى تزييف التاريخ والوعي وإطلاق الأوصاف البطولية على ذواتهم أو من يقفون معهم في نفس الخندق الفكري مقابل تشويه سمعة خصومهم والتقليل من أدوارهم وإنجازاتهم ، أو طغى عليها الحذر الشديد والهروب المتعمد من ذكر التفاصيل الحقيقية خوفا من انقطاع علاقتهم بالنظام الصدامي. ذلك أن الحديث المؤسس على الحقيقة والإنصاف عن عبدالكريم قاسم كان يمثل انتحارا في ظل سلطة رمزها الأكبر كان مخططا وشريكا في محاولة اغتيال الرجل في عام 1959 ، وظل هو وحزبه ينظرون إلى تلك المحاولة كعمل بطولي ، وبالتالي فان إنصاف قاسم كان يعني تلقائيا نفي صفة البطولة عن العمل ووضع صاحبه في خانة القتلة.
أما القلة التي كتبت بروح منصفة وعقل متسامح، فقد ضاع صوتها وسط أصوات المطبلين والغوغاء ومرتزقة الكتابة التاريخية. وفي هذا السياق يمكن الإشارة تحديدا إلى كتاب حسن العلوي "رؤية بعد العشرين" كأحد أهم الكتب التي خطت بأقلام خصوم قاسم من أجل إعادة الاعتبار إلى الأخير بعد مرور أكثر من ثلث قرن على استشهاده في مجزرة لا تقل بشاعة عن مجزرة قصر الرحاب ، كانت ساحتها هذه المرة دار الإذاعة في الصالحية ، وكان أبطالها هم رفاق الأمس الذين رأف بهم قاسم فلم يشنقهم- وكان بمقدوره إن أراد دون أن يحاسبه أحد- إكراما لزمالة السلاح والقسم المشترك واحتراما للقمة أكلت ذات يوم على سفرة طعام واحدة.
وأهمية كتاب العلوي ، تكمن في أن مؤلفه لم يكن يوما على وفاق مع العهد القاسمي ، بل أنه اعتقل وسجن في ذلك العهد بسبب وقوفه في الخندق المعادي ، وتحديدا في خندق القوميين والبعثيين الذين انقلب عليهم لا حقا و فر من بطشهم. إلا أن مشاعر الكراهية لجلاده القديم لم تعم بصره وبصيرته إلى الدرجة التي تجعله مستسلما لهواجس الانتقام ، وبالتالي خرج من بعد صمت طويل ليقول بجرأة استعصت على الكثيرين ، أنه حان الوقت لنعيد لقاسم اعتباره ونسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية.
لم يكن قاسم إطلاقا بتلك الصورة الدراكولية البشعة ، ولا بتلك الشخصية الكرتونية الهزلية الموصوفة بالجنون تارة وبالنرجسية تارة أخرى، ولا بتلك الخلفية الثقافية الضحلة المنعوتة بالتفاهة تارة وبالسطحية تارة أخرى ، مثلما صورتها أجهزة الإعلام العربية المنافسة في حينها. بل على العكس من ذلك كله ، فان أكثر الروايات والشهادات تتفق على أن الرجل كان عسكريا مقداما شهدت ساحات " كفر قاسم" الفلسطينية ببسالته في مواجهة العدو الصهيوني ، وجنديا منضبطا في سلوكه ، مجتهدا في واجباته ، حسنا في مظهره ولياقته، مما أثمر عن حصوله على الرتب العسكرية واحدة بعد الأخرى بجدارة وامتياز ، واجتيازه لكل الامتحانات والدورات في جيش كان من أكثر جيوش الشرق الأوسط انضباطا ومناقبية ، أي على العكس من بعض العسكريين الذين يطيحون بالأنظمة وهم عرفاء، ثم يمنحون أنفسهم في غمضة عين رتب العقداء والفرقاء.
وكان قاسم ، إضافة لما سبق ، عفيف اللسان ، نزيه الكف ، ملما بقواعد العربية الفصحى ، حافظا للشعر العربي ، بحيث لا يجد المرء في خطبه المسجلة كلمة نابية في حق خصومه أو جملا وعبارات تنسف جهود سيبويه ، ولا يعثر في سجلاته أنه حقق جاها أو مالا لنفسه أو لأهله وعشيرته من وراء استغلال مناصبه سواء قبل الثورة أو بعدها. ولعل هذا كله لم يترك خيارا لرجل من ألد خصومه مثل علي صالح السعدي ( نائب رئيس وزراء انقلاب 14 رمضان ووزير داخليته ، وأحد كبار منظري البعث الحديث) غير أن يصرح بالقول " إن قاسم زعيم وطني تقدمي جريء ، إلا أن وسائل تحقيقه لأهدافه كانت ملتوية " ، وذلك طبقا لما أورده الشاعر العراقي شريف الربيعي في مقال له بجريدة "الحياة" اللندنية قبل سنوات.
أما ما يعيد الاعتبار أكثر إلى الرجل فهو أن أهداف ثورة 14 تموز ، التي اتهم قاسم ظلما من قبل خصومه بعدم احترامها والانقلاب عليها كمبرر للخروج عليه بثورة مضادة ومعاقبته بالقتل دون محاكمة أو كما قيل في حينه "لتصحيح مسار الثورة وإعادة الوجه العربي القومي الوحدوي إليها" ، لم تحترم ولم تنجز من قبل هؤلاء الخصوم حينما فرشت لهم الأقدار سجاجيد الوثوب إلى السلطة ، سواء بعد 14 رمضان 1963 أو بعد 17 تموز 1968 . بل كان مآل تلك الأهداف، التي جاء على رأسها إشاعة الحريات وإصدار دستور جديد ودائم وإقامة الحياة البرلمانية والسعي للتوحد مع الأقطار العربية التقدمية وحل المعضلة الكردية وتحرير فلسطين ، الإهمال والتحريف والتسويف. ويمكن القول في هذا السياق ، أن قاسم قد أنجز جزءا كبيرا من الأهداف التي قامت من اجلها الثورة في عهده القصير، والتي هي طبقا لبيانات الثورة في أيامها الأولى، إزالة القواعد العسكرية البريطانية والخروج من حلف بغداد والاتحاد الهاشمي مع الأردن و فك ارتباط الدينار العراقي بالجنيه الإسترليني واسترداد حقوق العراق النفطية و إطلاق سراح السجناء السياسيين والقضاء على الإقطاع وتوزيع الأراضي على الفلاحين والانضمام إلى حركة عدم الانحياز وإقامة العلاقات مع دول المنظومة الاشتراكية ، فضلا عن إلغاء الملكية وإقامة النظام الجمهوري وتشكيل مجلس للسيادة. وبهذا فان الهدف الوحيد الذي اجله قاسم وحال دون تحقيقه عشوائيا مثلما كان يريد بعض رفاقه هو الالتحاق بالجمهورية العربية المتحدة وتسليم زمام قيادة العراق إلى جمال عبدالناصر ، ناهيك عن رفضه لإقامة مجلس لقيادة الثورة يضم الضباط المشاركين في الثورة.
لقد مثل قاسم ، بخلفيته العائلية وأصوله العرقية والمذهبية ، أفضل مشروع لحكم اللوحة الفسيفسائية العراقية. فهو من أب ترجع أصوله إلى القومية الكردية ومن أم عربية. وبينما كان الأب سني المذهب كانت الأم شيعية. وفضلا عن ذلك فان البيئة المحلية التي ترعرع فيها الرجل وتلقى فيها تعليمه الأولي كانت بيئة خليطة يزدحم فيها العرب والأكراد والآشوريون واليهود وغيرهم جنبا إلى جنب ، فنما متسامحا يحب الجميع ، وخاليا من أمراض التعصب العرقي أو الطائفي وعقدها. كما كان لنشأته في مجتمع يغلفه الفقر المدقع أثرا ملحوظا على تلمسه لمعاناة غالبية العراقيين والشعور بمشاعرهم والتعاطف مع آمالهم ، الأمر الذي جعله ينحاز نحو الفقراء في كل قراراته ويفضل التقشف في حياته بدليل انه استمر في الإقامة في غرفة متواضعة في بيت شقيقه حامد رغم وصوله إلى أعلى المناصب في الوطن وتحكمه في خزائن الدولة ومواردها ، باستثناء الفترة الأخيرة من حكمه حيث انتقل للعيش في غرفة بوزارة الدفاع كوسيلة لمنع المتآمرين من الوصول إليه بسهولة.
ويذكر العراقيون ممن عاصروه، بمختلف مشاربهم وميولهم ، انه لم يمر في تاريخ العراق الحديث حاكم حقق للفقراء ما حققه لهم قاسم من امتيازات. وفي هذا الصدد يقول الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري الذي اختلف أيضا مع الرجل وهجاه شعرا ونثرا: " كان عبدالكريم من أكثر أقرانه نظافة ومن أكثرهم وطنية ومن أشدهم انتماء للفقراء. وكان متوقد الذهن ويتمتع بشخصية قوية ويملك ضميرا ونزاهة نادرة".
وربما يتساءل سائل هنا ، لماذا لم يرق قاسم إلى مصاف القادة الجماهيريين على مستوى الوطن العربي ، طالما انه امتلك كل تلك الخصال والمناقب الرفيعة؟ ولماذا انطوت صفحته وغابت صورته سريعا عن الذاكرة الجمعية العربية؟ في رأيي المتواضع أن أفضل رد على هذا التساؤل هو استعارة ما سبق أن ألمح إليه أكثر من باحث ومؤرخ في أكثر من دراسة وتحقيق ، من أن عدم بروز قاسم كزعيم عربي جماهيري يعود إلى ظهوره على ساحة السياسية العربية في وقت كان نجم عبدالناصر هو الطاغي والمسيطر والملهب لعواطف الجماهير العربية ، وفي زمن لم يكن ليسمح بوجود نجمين جماهيريين على ذات الساحة.
لقد كتب الكثير في العقود الثلاثة الماضية عن الرجل مدحا وذما ، واختلفت الآراء حول عقيدته السياسية ما بين من وصفوها بالشيوعية تارة والإنجليزية تارة أخرى مرورا بالليبرالية والقومية والشعوبية وغيرها. إلا أن ما يبدو أقرب إلى الحقيقة هو أن قاسم كان " عراقيا" قبل كل شيء ، وكان فوق الميول والعقائد طبقا لما كرره هو نفسه في أكثر من خطاب وتصريح. وفي اعتقادي أنه كانت للرجل رؤى وحدوية وقومية ووطنية خاصة لكنها لم تتقاطع أو تتطابق مع رؤى رفاق الثورة ، فكان ذلك سببا في انفضاضهم عنه بما عرف عنهم من حب فرض معتقداتهم على الآخرين دون حوار أو محاولة للوصول إلى صيغ وحلول وسط (نموذج عبدالسلام عارف مثلا الذي عرف بالتهور والتهريج السياسي دون أدنى اعتبار لفنون الحكم وشروط اللعبة السياسية) ، وتركه وحيدا يصارح الأمواج ويبحث عن الحلفاء ، الأمر الذي سمح لبعض القوى الانتهازية عملية المشاركة في السلطة وارتكاب الأخطاء باسم العهد القاسمي.
سوف يذكر التاريخ أن قاسم ، رغم كل ما شهده عهده القصير من أخطاء وتجاوزات ارتكبت باسمه ، أنه مات كما لم يمت غيره من صناع القرار العراقي ، وحيدا دونما جاه أو قصور أو أطيان أو حتى ملابس مدنية ، ودونما أحزاب ومتحزبين وميليشيات ، بل دونما زوجة أو وريث من صلبه ليرث حسابا مصرفيا بمبلغ عشرة دنانير وستمائة فلس وملابس عسكرية وبضعة كتب هي كل ما خلفه وراءه.
ولسوف يذكر التاريخ أيضا أن الرجل الذي فجر الثورة وأسس الجمهورية وتحالف مع الفقراء ووهب الوطن كل حياته ، لم يجد في ارض العراق الواسعة الممتدة من الخليج إلى جبال كردستان مترين من الأرض لتحتضن جثته الطاهرة المثقوبة بالرصاص. فقد فضل رفاق الأمس ، في ظاهرة تكشف قلة الوفاء وسيطرة النوازع الانتقامية ، أن يرموا جثة من اغتالوه صائما في شهر فضيل في نهر دجلة لتكون طعاما للأسماك ، كيلا يعود العراقيون ذات يوم حينما يعود الوعي الغائب أو المغيب قسرا إلى الترحم على رجل لم يبخل على أهله بشيء فبخل الأهل عليه بكل شيء بما في ذلك القبر.
د. عبدالله المدني
باحث ومحاضر أكاديمي في الدراسات والشئون الآسيوية
البحرين ، ص.ب. رقم 15220
هاتف: 39458120 -973
فاكس: 17712103 -973
البريد الالكتروني:[email protected]