في واقع الأمر إن سيرورة النقد لا تتوقف باعتبار أنه ما هو صالح الآن يصبح متجاوزا غدا، ونذلك يكون التفكير النقدي العلني الضامن لتطوير القضايا والممارسات والقناعات والخطط والقرارات والسياسات المتجاوزة، وبالتالي فهو السبيل الأجدى والأنجع للسعي نحو الأحسن والأفضل.
ولم يعد يخفى الآن على أحد أن التفكير النقدي المجدي هو ذلك التفكير المطبوع بالتاريخية وبالنسبة اعتبارا لتعقد وتداخل الظواهر الإنسانية والاجتماعية، واعتبارا لتفاعل عوامل متعددة قد يختلف فعلها حسب الظرف والمكان، لذا فالتفكير النقدي المجدي هو بالأساس تفكير يرفض الانغلاق سواء على صعيد الخطاب أو على صعيد الفعل، ولهذا السبب تصبح ضرورة ضمان حرية النقد والمراجعة والفحص وإعادة النظر وعدم وضع القيود على الإبداع والابتكار والاختلاف ضرورة قائمة لا مندوحة بالإقرار بها وبحمايتها وبتوفير مختلف الشروط لإستمراريتها كضرورة.
وفي هذا الصدد لا يمكن أن توجد مناطق محظورة مؤمنة بخطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، إذ لا وجود لمجالات محفوظة للبعض دون البعض الأخر علينا أن نتخلى بشأنها عن التفكير النقدي باعتبار أن الفكر النقدي أصلا لا يقبل التجزأ.
فكيف يعقل إبعاد القضايا الكبرى – التي تهم المجتمع ومصيره- عن التفكير النقدي، فكل القضايا خاضعة للتفكير النقدي وتظل موضوعا له، إذ لا يمكن اعتبارها حقيقة نهائية، أراد من أراد وكره ومن كره، بالرغم من أن بعض المثقفين يتخلون عن تبنيهم للتفكير النقدي بدعوى نفعية الواقعية وتفاديا لكشف قضايا ارتأوا من الأحسن تركها، أو بدعوى التوافق المراد فرضه في كل المجالات بما فيها تلك التي تحتمله، غافلين خطورة هذا الفرض الذي قد يتحول إلى تحكم سياسي قد يشل القدرات على المدى المتوسط والبعيد، وهذا ما عاينه المغرب على امتداد ما يناهز 4 عقود.
ويزيد الطين بلة بالمغرب إذا علمنا أن هناك تبعية الثقافي للسياسي، في وقت المطلوب من المثقف الصراع من أجل قول ونشر الحقيقة ويرفض أن تملى عليه سلوكياته بدعوى ضرورة احترام خط الحزب أو مصلحته أو بدعوى عدم تجاوز الخطوط الحمراء، خصوصا وأن هذه السيرورة قد جعلت المغرب يؤدي الثمن غاليا، وهو الآن يتخبط في انعكاساتها.