لا زالت كلمات الشهيد باقرالحكيم رحمه الله ، ترن في اذني ،تلك التي قالها عند عودته من منفاه الذي اضطر اليه مجبرا : نريد قانونا يحترم الاسلام .
كلمات رائعة بحق ،فاي قانون لا يحترم الاديان هو قانون لا يحترم الانسان ايضا ،واي قانون لا يحترم الانسان هو بالضرورة قانون لا يحترم الاديان . فلولا الانسان لما وجد الدين اصلا ، فالانسان مقدم على الاديان ،ولولاه لما وجدت . لان الدين في خدمة الانسان وليس العكس .
واحترام الاسلام ،امر لا يختلف عليه اثنان ، وياتي هذا الاحترام في شكل مواد ونصوص قانونية ، تنص على ضمان حرية العبادة وعدم التدخل بالشؤون الدينية او اخضاعها لمتطلبات السياسة او لضرورات الموقف . احترام الاسلام يعني احترام المؤمنين وتوفير كافة المستلزمات الضروريه لاتباع ما يجدوه صالحا متوافقا ومعتقداتهم وطقوسهم العبادية .
غير ان المعادلة ستكون مشوشة وغير منصفة ،لو ان الدين فرض بحد السيف او بحد القانون ، فالقانون والسيف كلاهما يملك خاصية القطع ، سيكونا سلاحا للقمع والظلم ـ لو ان الدين فرض عن طرق الاجبار وليس عن طريق الاقناع ، وتولت احزاب تدعي وصايتها على الدين والسهرعلى مصالح الله تماما كما تفعل الشرطة السرية للايقاع بمخاليفين الاوامر الدكتاتورية والسهر على مصالح حاكم دجال . سيتحول الدين الى نير يرزخ تحته ملايين البشر ،ولا يستطيع احدا منه فكاكا حتى وان تضرعوا الى الله .
احترام الاسلام هو في إبعاده عن شؤون السياسة واطماع الناس ،في جعله ملاذا للسلام الروحي والنفسي ،للوعظ والارشاد لمن ظل الطريق .
فالقانون ، اي قانون كان ، له صفة ملازمة لا يمكن تصوره بدونها ، هي صفة القمع . اي قانون هو قانون قمعي ،واي دولة مهما كانت درجة ديمقراطيتها وانسانيتها ،هي ايضا اداة قمعية .اما الدين فهو الرحمة والتسامح والمحبة والصفاء . واي دين في العالم تجري صياغته بقوانين واوامر ملزمة التنفيذ، سيتحول الى شكل من اشكال القمع ويفقد خاصيته السماوية الواجبة الاحترام ، ويصبح شأنا دنيويا غير مقدس او مبجل ، سيجافيه الناس ،وتستهزأ برموزه ،وتستخف بممثليه ،وتنتهك تعليماته ووصاياه .والدين الوهابي هو خير دليل على ذلك ، وتعاليم الولي الفقيه في ايران ، اصبحت محلا للسخرية والانتقاد ، وسببا لهجرة ملايين الايرانيين الى الدول الاووربية ،ناقميين على الدين وعلى من يمثله . وهكذا الحال كان في افغانستان او بقية الدول التي يتحول فيها الدين الى الة قمعية ، من تعاليم سمحاء الى اوامر واجبة التنفيذ.
من يخاف على دينه من الضياع او من الازدراء ،عليه ان يبعده عن المصالح والاطماع ومغريات السلطة وانتهاكاتها .فلا خوف على الدين اذا كان جوهره التسامح والمودة .ولا يوجد قانون مهما كانت طبيعة الزامه ،الهية ام حكومية ، يستطيع الحد من الطبيعة الفطرية التي جُبل عليها الانسان وهي الحرية . واي دين يتعامل مع الانسان بصفته عبدا مطيعا واجب الخضوع لنفر من الناس ، لا يتميزون عن الاخرين سوى حفظ بعض النصوص عن ظهر قلب ،والتي لن تستحيل على الانسان ان هو خصص يوميا ساعة واحدة او ساعتين من وقته .
لا فرق بين رجل دين نصّي وبين اي طبيب خائب ، يوصف الدواء للمرضى ، لا عن تشخيص صحيح للداء ،وانما لانه يعرف اسماء الادوية واستعمالاتها فقط .وهذه المهمة تقوم بها هذه الايام اجهزة الكمبيوتر . ومثل معرفة الادوية عن طريق الحاسوب يمكن للانسان الاطلاع على تفسير اي آية للقران ، ليس من رجل دين ، بل من امهات الكتب المخزونة بالكمبيوتر . وتنتهي هذه الميزة ميزة حفظ النصوص واحتكار التفسير لبعض الالغاز في ظل ثورة تكنلوجية كبرى تتيح الاتصال باغلب مراكز التوثيق والتحليل والمعرفة ،وبحق نستطيع القول اذا ما كان من شخص يستحق وضع العمامة عن جدارة فوق راسه ، فهو الكمبيوتر . صحيح ان ما فيه هو نتاج انساني ،ولكنه بنفس الوقت يعطي حرية المقارنة والتحليل واتباع الاصوب والاصلح، ويوفر قاعدة من المعلومات عن جميع الاديان والطوائف ،ويبين مواقفهم ازاء المسائل العبادية والاجتماعية ،وما على الانسان سوى التحلي بنز قليل من الانتباه والفطنة لكي يعرف الاصلح والانسب ويحيط علما بكل ما يشغل رؤوس رجال نصبوا من انفسهم حماة لمصالح الله .
اما اذا كان رجل الدين مثل طبيب ماهر ، يعطي الدواء عن تشخيص صحيح وسليم بعد دراسة لحالة المريض ، ودراية كاملة للتأثيرات المضرة للدواء ، ومعرفة كاملة لسجل المريض وحالته السريرية ، ليوصف بعد ذلك الدواء الشافي بما يتوافق ومقدار تحمله الجسدي والبدني ، فلا يمكن تعويضه بجهاز كمبيوتر او قاعدة بيانات . فرجل الدين الذي يتعامل مع النصوص والاحاديث والاحكام وفق الحالة الفكرية والاجتماعية والتطور الذي وصل اليه العالم والانسان ،فيقوم بتشذيب الدين مما علق به من اثار الماضي وبناءه بناء جديدا بما يتوافق مع متطلبات العصر الروحية والحضارية ،وابعاد الاحكام ووجهات النظر التي جائت وفق تصورات لم تعد مناسبة ولا ملائمة للواقع الجديد ، ويعيد النظر مرات ومرات قبل ان يعطي رأيا او حكما دينيا ، وينأى به بعيدا عن بيئة التلوث بالاطماع والاحقاد والمنافسات السياسية ، مثل هكذا رجل ، لا يمكن الاستغناء عنه او تعويضه .
و عندها سيليق رجل الدين بمنصبه وسيتحول بحق الى عالم دين وباحث اجتماعي . ستكون حالة الانسان والمجتمع المتحركة والمتغيرة والواقع المادي هي الاسس التي يسند عليها رأيه ،وليس قولبة الانسان ليتوافق مع نصوص او فتاوى انتهى مفعولها واصبحت كالدواء الذي يتحول الى سم زعاف اذا انتهت صلاحيته .
نحن بحاجة الى علماء دين وليس لرجال دين ،علماء يستندون على العلم والابحاث وينظرون الى الانسان من منظار القدسية التي حباها الله للبشر وخصهم بها وحدهم ، بصفتهم افضل المخلوقات ،وليس تحويلهم كعبيد يجلدون في الشوارع وتقام عليه حدود التعزير او التشهير . عالم دين يستطيع ان يساهم في مساعدة الناس على التغلب على مصاعبهم اليومية وايجاد الحلول لمشاكلهم الروحية ، لا يفرق بين رجل وامراة ، ولا يميل الى التشدد او التشنج ، يبرر لا يقرر .
كما ان الخوف على الدين حجة لا سند لها ،وقلق ليس له من مسبب ، فالدين المندائي قد بقى حيا رغم كل ظروف القهر والتسلط ، وكذلك بالنسبة للدين اليزيدي او المسيحي في البلدان العربية ، فليس من سند قانوني يحميه او من اجبار يجبر الناس على اتباعه ،الاقتناع وحده هو من جعل الناس ورغم كل شيئ تتمسك بدياناتها. ولا زال ملايين المسلمين في الغرب يدفعون الزكاة ويأمون الجوامع ، ويقيمون شعائرهم في الدول العلمانية التي تحترم الدين ولاتغصب الناس على مخالفة ما يعتقدوه.
الاحزاب الاسلامية تحاول ان تنصب من نفسها الحامي الاوحد للدين ،بل انها حتى لا تأتتمر بأمر الفقهاء ان افتو بحرمة العمل السياسي او اتخاذ الدين وسيلة للوصول الى الطموح الشخصي .
نظرة واحدة على قمة هرم الاحزاب الاسلامية سنجد ان اكثر القياديين ليس لهم ما يدعوه من تفقه او اطلاع بالمسائل الدينية ،وليس من كتاب قد الفوه ،ولا يحق لهم الافتاء بل لا يحفظون معظم الايات القرآنية ،هم اقل من رتبة ممرض لدكتور خائب ، فكيف لهم الادعاء او تنصيب نفسهم حراسا و مدافعين عن امر لا يفقهون فيه.؟ .الا يعني ذلك ان الدين اصبح وسيلة مثل بقية الوسائل الدنيوية لتحقيق الاطماع في الشهرة والثروة .؟ واذا كان ذلك صحيحا فهل يمثل هذا احتراما للدين .؟