|
نار الإمتحان وبلوغ العالم الإنساني
راندا شوقى الحمامصى
الحوار المتمدن-العدد: 2476 - 2008 / 11 / 25 - 09:35
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لو نظرنا بعينٍ متفحصة وبصيرةٍ نافذة إلى تلك التغيرات والتحولات العظمى المتنامية والمتسعة بإطراد لاكتشفنا أن جميعها كانت بمنزلة وسائل وإرهاصات تمهد للتحولات الباهرة والتبدلات الفخيمة الجسيمة التي من المقدر لها أن تكون من نصيب البشرية في هذا العصر. شيء مؤسف يبعث على الحسرة بأن تكون شدة المصائب والبلايا هي السبيل الوحيد الذي يمكنه ظاهرياً أن يغير نهج الناس وآرائهم وطريقة تفكيرهم. أمرٌ محزن أنه ليس بإمكان شيء غير نيران الإمتحان والإفتتان الشديدة أن تصهر العوامل المتضادة والمتنافرة المؤلفة لأجزاء تمدننا المركب وتلحمهم بعضهم إلى بعض لتجعلهم جميعاً أجزاء مركبة في إتحاد العالم المستقبلي، وإن إنذار حضرة بهاءالله هذا لهو موجود في أواخر الكلمات المكنونة بما مضمونه: "قل يا أهل الأرض. إعلموا علم اليقين أن من وراءكم بلاءً مباغتاً وأن في أعقابكم عقاباً عظيماً يعقبكم". كأن مصير البشر المحزن والعاجل يقتضي بأنه طالما لم يخرج من بؤرة المشقات والبلايا بشكلٍ صحيحٍ ونقي فإن إحساس المسئولية -والذي هو من مستلزمات هذا العصر الجديد- سوف لن يتولد أبداً في قلوب قادة العالم. وأكرر هنا الإشارة إلى بيان حضرة بهاءالله الذي يتفضل فيه: "إذا تمت الميقات يظهر بغتةً ما ترتعد به فرائص العالم".
هل غاب عن بالنا يا ترى تصريح حضرة عبدالبهاء الذي تفضل فيه بما مضمونه: "ستقع بالتأكيد حربٌ أشد في المستقبل".
إن بزوغ فجر السعادة البشرية -والذي تغنى به الشعراء القدماء وتراءه الملهمون ذوو القلوب الرقيقة في مكاشفاتهم- لهو مرهون بتحقق وحدة العالم الإنساني، ذلك الأمر جليل الخطر الذي فشلت في تحقيقه القدرة السياسية للإمبراطورية الرومانية ولم تصل فيه جهود نابليون الحثيثة إلى شيء ذي بال. إن حصول وحدة العالم الإنساني إنما يحقق ويكمل نبوءات الأنبياء السابقين الذين قالوا بأن السيف سيتبدل بالمحراث في تلك الأيام وأن الأسد والغزال سيعيشان في عرينٍ واحد. إن حصول وحدة العالم الإنساني هي الوسيلة الوحيدة لتأسيس ملكوت الأب السماوي الذي تنبأت به المسيحية. إن وحدة العالم الإنساني هي الطريق الوحيد لتأسيس نظام حضرة بهاءالله البديع. ذاك النظم الذي هو إنعكاس لجلال الملكوت الإلهي وعظمته في بسيطة الغبراء. خلاصة القول أنه لا ينبغي لنا أن نقارن بين دعوة حضرة بهاءالله لوحدة البشرية -والتي هي أساس السلطنة الروحانية الشاملة لحضرة بهاءالله- وبين ما قاله الأولون من منطلق حب الخير وحسن النية. إن دعوة حضرة بهاءالله ليست مجرد دعوة أعلنها حضرته بنفسه الفريدة عندما كان أسيراً في سجن أعتى سلطانين في الشرق وإنما هي دعوة تحمل في طياتها إنذارات شديدة بما تحمل من ناحيةٍ أخرى بشارات مفادها أن نجاة هذا العالم البائس متوقف فقط على الإستجابة لتلك الدعوة الإلهية، كما تحمل بشارة أخرى مفادها أن تلك الإستجابة سرعان ما سوف تتحقق على أرض الواقع.
لقد إرتفع نداء وحدة البشرية هذا في وقتٍ لم يكن قد خطر فيه على بال أحد بصورة جدية. أما وعندما نفخ فيه حضرة بهاءالله روحاً جديدة بقوة سماوية فإن عوده قد بدأ يشتد يوماً فيوماً وهذا يفسر لنا بالتأكيد سر إزدياد حكماء العالم الذين لم يتفوهوا فحسب بإمكانية حدوث تلك الوحدة، بل إعتبروها أيضاً ضرورية وثمرة لقوى وعوامل تتحكم في عالم اليوم.
بلوغ العالم الإنساني
لو نظرنا بعين الأمانة والوفاء للاحظنا بيقينٍ أكيد أن دين حضرة بهاءالله -والذي لا هدف له إلا الإتحاد الشكلي والمعنوي لأقوام العالم وشعوبه- ليعتبر فاتحة حقبة جديدة ونقطة تحول في تاريخ بلوغ البشرية. يجب أن لا نعتبر الدين البهائي مجرد دينٍ من الأديان يهدف إلى إحياء الجانب الروحاني في مصير البشرية المتغير، كما لا ينبغي أن نعتبره مجرد دين في سلسلة أديان ظهرت تباعاً أو حتى أن نعتبره أوج أدوار النبوة. بل ينبغي لنا أن ننظر إلى الدين البهائي على أنه نموذج لآخر وأعلى مرحلة من التكامل الأعظم في الحياة الإجتماعية لبشر الكرة الأرضية.
كما أنه ولئن كان تكون جامعة عالمية والإعتقاد الحقيقي الصادق بإعتبار العالم وطناً واحداً وتأسيس المدنية والثقافة العالمية -والذي لابد وأن يكون مترافقاً مع أولى مراحل العصر الذهبي للدور البهائي- يعتبر أول مرتبة في سلم تنظيم البشرية إلا أنه من المؤكد بأن رقي الأفراد سوف لن يتوقف ببزوغ تلك الجامعة العالمية وإنما سيستمر إلى ما لانهاية بمعنى أن المجال مفتوح دوماً أمام الترقيات الفردية.
لو أمعنا النظر في بيانات حضرة بهاءالله لاكتشفنا أن تلك التغييرات الحقيقية الممتنعة عن الوصف وبالغة التأثير في مرحلة البلوغ الجسماني للفرد واللازمة مثلاً لنضج ثمرة الشجرة هي بعينها ضرورية أيضاً لتكامل نظام الجامعة الإنسانية. لابد أن تظهر -عاجلاً أو آجلاً- مرحلة مشابهة في بلوغ الحياة الإجتماعية البشرية وتتسبب في ظهور وبروز علامات أكثر إثارة للحيرة والإعجاب في مضمار العلاقات الدولية وتسلح العالم وتمده بقوى تجعله قادراً -على مر القرون والأعصار- أن يحصل على ما هو سبب فلاحه ووصوله إلى خاتمته المبهرة التي قدرت له. ولو وقفنا بصدق على عظمة دعوى حضرة بهاءالله لأيقنا حينها بأن ظهور مرحلة من هذا النوع في نظام الحكم البشري لابد وأن يكون مرتبطاً بظهور النظم الرباني البديع.
تفضل حضرة بهاءالله بشرحٍ موجزٍ عن حقيقة هذا الإعتقاد البهائي المميز في أحد فقرات آثاره المهمة بمنتهى الصراحة والحسم بما يلي: "ولكن قدرنا ظهور الكلمة وما قدر فيها بين العباد على مقادير التي قدرت من لدن عليمٍ حكيم، وإنها لو تتجلى على العباد بما فيها لن يحملنها أحد فانظر إلى ما نزل على محمدٍ رسول الله وإنه حين النزول قدر له كنوز المعاني على ما ينبغي له من لدن مقتدرٍ قدير ولكن الناس ما عرفوا منه إلا على مراتبهم ومقاماتهم وكذلك إنه ما كشف لهم وجه الحكمة إلا قدر حملهم وطاقتهم فلما بلغ الناس إلى البلوغ تجلى عليهم بما فيه في سنة الستين حين الذي ظهر جمال القدم بإسم عليٍ قبيل نبيل ...". يتفضل حضرة عبدالبهاء في تبيين هذه الحقيقة الأصلية بما مضمونه: "كل الكائنات لها مرتبة بلوغ خاصة بها، فمثلاً بلوغ الشجرة هو في إثمارها، وكذلك الحيوان له مرتبة رشد وكمال. أما البلوغ في العالم البشري فيتحقق عندما يبلغ عقل الإنسان وإدراكه أوج ذروتهما وقوتهما ... وعلى نفس المنوال فإن الحياة الإجتماعية الإنسانية لها بدورها مراحل بلوغ ففي البداية كان طفلاً ثم يبلغ عنفوان الشباب أما الآن فقد بلغ مرحلة البلوغ التي ظهرت آثارها في جميع الجهات ... إن ما كان يسد حاجة البشر الضرورية في مراحل الطفولة الأولى لم يعد قادراً الآن على سد حاجته في مراحل التجدد والبلوغ التي يمر بها فالإنسان قد خلف وراءه مراحل الطفولة والبدائية منذ زمن وينبغي له اليوم أن يتحصل على فضائل وقوى متجددة وأن تكون هناك قوانين متطورة وإستعداد مناسب. فقد إختص الإنسان في هذا الزمان بمواهب وفيوضات عظيمة ولم تعد تلك المواهب والفيوضات الملازمة له منذ أيام الطفولة قادرة على سد حاجته في مرحلة بلوغه الحالية رغم أنها كانت في وقتها وزمانها كافية وافية".(من كتاب- النظام العالمي لحضرة بهاءالله)
#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المنادي الرباني
-
بيان المقصود من عتاب الله لحضرات الانبياء في الكتب المقدسة
-
استمرار الهداية الإلهية
-
الشموع السبعة التى ستضيء العالم الإنسانى وتأخذ بيده نحو اتحا
...
-
أتوقف أم أستمر فى السير
-
آيات الرحمن في أنفس العباد
-
عظمة الكلمة الإلهية وتأثيرها فى قلوب البشر
-
تحري الحقيقة
-
المبادئ التي أعلنها حضرة بهاءالله
-
دين عالمي موحد
-
الوحدة الدّينيّة
-
رسالة حضرة بهاءالله
-
دواعي التجديد
-
خروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها
-
الشمس والكواكب
-
الأمة الوسط
-
قضية ماريو وأندرو إلى أين وإلى متى؟؟؟؟!!!
-
قادة عمي يقودون عميانا
-
أسباب اعتراض الإنسان على رسل الله
-
الميزان
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|