في تأمل العالم الحسي(على طريقة فيورباخ) يصطدم المتأمل، بالضرورة بأشياء هي في تناقض مع وعيه وعاطفته تعكر تناسق جميع أجزاء العالم الحسي الذي افترضه بصورة مسبقة وعلى الأخص تناسق الإنسان والطبيعة، وكما يطرح هذه الأشياء(يحذفها) فهو ملزم بالالتجاء إلى أسلوب مزدوج في النظر، فهو يتأرجح بين أسلوب في النظر عامي لا يدرك إلاّ "ما هو مرئي بالعين المجردة" وأسلوب في النظر أرفع فلسفي يدرك "الماهية الحقيقية" للأشياء" راجع ص35 ترجمة د.أيوب. إن نتيجة التأمل الفيورباخي، هو هذه الازدواجية بين أسلوب في النظر عامي من جهة، وبين أسلوب رفيع لإدراك الماهية الحقيقية. ما يزال يوجد هنا فصل ميكانيكي بين الجوهر والمظهر. هذا ما نجده عند كانط، والمادية الميكانيكية الفرنسية، وعند دافيد هيوم. يكتب هيغل: "إن الظاهرات بالنسبة إلى لـ هيوم و كانط، ليست –شيئاً في ذاته- يظهر، إنهما يفصلان الظاهرات عن الحقيقة الموضوعية، ويشكان في موضوعية المعرفة، ينتزعان كل التجريبي من- الشيء في ذاته- ".[نقلاً عن لينين "الدفاتر الفلسفية-1 ص228]. نلاحظ هذا الفصل الميكانيكي عند صادق العظم في مقالته "ما هي العولمة؟" حيث يقسم فيها نمط الإنتاج الرأسمالي إلى دائرتين: دائرة الإنتاج من جهة أولى، وهي عمق نمط الإنتاج الرأسمالي، ودائرة التبادل والتوزيع من الجهة الأخرى، وهي سطح نمط الإنتاج الرأسمالي. ونلاحظ هذا الفصل بين "العادي، أو اليومي" من جهة وبين "الفلسفي" عند جاد الكريم الجباعي في قراءته للإمبريالية المعولمة، وعلاقتها بالمسألة القومية والفلسطينية. ويمكن للمتابع أن يلاحظ شيوع هذا العيب في الفكر السياسي العربي المعاصر.
لا يرى الفيورباخي أن العالم الحسي الذي يحيط به ليس موضوعاً معطى بصورة مباشرة منذ الأزل ومشابه لنفسه دون انقطاع، أي لا يراه على أنه نتاج الصناعـــة (الممارسة الصناعية) وحالة المجتمع، أي نتاج ممارسـة البشر في التاريخ. هذا يعني أنــه (العالم الحسي) نتاج تاريخي ونتيجة فعالية كاملة من الأجيال.[راجع ص35 من ترجمة د.أيوب].
""إن أشياء" "اليقين الحسي" الأبسط ليست هي نفسها معطاة لـ فيورباخ إلاّ بفعل التطور الاجتماعي، والصناعة والمبادلات التجارية ".
"لم تعط شجرة الكرز لـ "يقين فيورباخ الحسي" إلا بفضل هذا الفعل(المبادلات التجارية) الذي مارسه تجمع معين في عصر معين" ص35[ أيوب].
ينظر إلى النشاط التجاري هنا كممارسة بشرية مثلها مثل الصناعة والممارسة السياسية والتطورات والانقلابات الاجتماعية. "إن التصور الذي يرى الأشياء كما هي فعلياً، وكما جرت فعلياً، تنحل (عبره) أية قضية فلسفية عميقة بكل بساطة إلى واقعة تجريبية ". ص35 [أيوب]. إن الذين يتكلمون عن "التناقضات في الطبيعة والتاريخ " يتحدثون وكأن ثمة "شيئين" منفصلين هنا، كأن الإنسان لم يواجه على الدوام طبيعة هي تاريخية وتاريخاً هو طبيعي". يقول ماركس: "إن الصناعة والتجارة، والإنتاج ومبادلة الحاجات الحيوية تشترط من جانبها (تشرط)[1] التوزيع، وبنية الطبقات المختلفة، كيما تكون بدورها مشروطة من قبل هذه الأخيرة في نمط عملها ". ص36 . بكلام آخر: إن القوى المنتجة للإنسان والتي تطورت على أساس مناسب، ووصلت إلى درجة محددة تشرط التوزيع وبنية الطبقات. أي توفر الأساس لقيام طبقات بعينها وتوزيع بعينه . لكن هذه القوى المنتجة تكون بدورها مشروطة في شكل أدائها وطبيعتها بالطبقات الاجتماعية أو ما يمكن أن نسميه شكل الملكية الخاصة المسيطر والذي أسس لسيطرته ذلك التطور للقوى المنتجة ، وأنجز تلك السيطرة الممارسات السياسية للطبقات الاجتماعية الفاعلة.
يتابع ماركس ملاحظاته النقدية بخصوص فيورباخ قائلاً : "يتحدث فيورباخ بصورة خاصة عن قصور علم الطبيعة لكن أين يكون علم الطبيعة لولا التجارة والصناعة؛ وحتى هذا العلم الطبيعي الذي يسمى "صرفاً " أليست التجارة والصناعة نشاط البشر المادي، هي التي تعين له(لعلم الطبيعة) هدفاً وتزوده بالمواد؟ وهذا النشاط، هذا العمل ، هذا الخلق المادي المتواصل من جانب البشر، باختصار هذا الإنتاج (نشاط البشر الإنتاجي) هو أساس كل العالم الحسي، كما هو موجود في أيامنا..." ص36 . و "من المفرغ منه أن أولية الطبيعة الخارجية تظل قائمة مع ذلك " ص36 ، أي يبقى كل هذا النشاط الإنتاجي للإنسان هو تحويل لمواد طبيعية موجودة مسبقاً أو سلفاً. "الكلام السابق بالطبع لا ينطبق بالتأكيد على البشر الأولين المنتَجين بالتوالد العفوي[المنفعلين بالطبيعة؛ غير الفاعلين] " ص36 . هذا التمييز بين البشر الأولين المنتَجين بالتوالد العفوي وبين البشر الحاليين (الحاضرين) "لا يملك معنى إلا بقدر ما يعتبر الإنسان مغايراً للطبيعة. وفيما عدا ذلك، فإن هذه الطبيعة التي تسبق تاريخ البشر ليست في حال من الأحوال الطبيعة التي يحيا فيها فيورباخ، إن هذه الطبيعة السابقة لتاريخ البشر لا وجود لها في أي مكان في أيامنا الحاضرة ربما باستثناء بعض الجزر المرجانية الأسترالية الحديثـة التشكل ". ص36 "إن فيورباخ يدرك الإنسان [الفرد] بوصفه "شيئاً حسياً" فحسب وليس بوصفه "فعالية حسية" ذلك أنه يتمسك هنا أيضاً بالنظرية ولا يدرك البشر في ساقهم الاجتماعي المعطى " ص36 . بـ كلا م آخر : يدرك فيورباخ الفرد بوصفه ذات متأملة أو موضوعاً بيولوجياً للتأمل من قبل فرد آخر، ولا يراه كفعالية حسية، كنشاط تجاري وصناعي وسياسي وفكري الخ..، أي لا يراه في سياق إنتاجه لنفسه ولشروطه المادية انطلاقا من شرط اجتماعي معطى. "يتمسك فيورباخ بتجريد "الإنسان" ولا يتوصل إلى الاعتراف بالإنسان "الفعلي" الفردي الذي من لحم ودم إلا في العاطفة، بـ كلام آخر فإنه لا يعرف علاقات إنسانية أخرى "الإنسان مع الإنسان" إلا الحب والصداقة" ص36-37. الحب والصداقة المؤمثلين أيضاً . الفعالية الحسية الوحيدة عند فيورباخ هي العاطفة (الحب وربما الشفقة)، وذلك على شكل مشاعر فحسب وليس ممارسة الحب الجنسي الفردي أو ممارسة الإحسان بدافع الشعور بالشفقة. "بهذا الشكل لا يقوم فيورباخ بنقد الشروط الحياتية الراهنة، العالم الحسي من حيث هو حصيلة الفعالية الحية والجسدية للأفراد الذين يشكلونه". "وحين يرى فيورباخ على سبيل المثال، بدلاً من الناس الأصحاء، عصابة من الناس الجياع المصابين بداء الخنازير[2]، المجهدين والمسلولين، فإنه مجبر بأن يلتجئ إلى " تصور الأشياء الأعلى وإلى تعويض المثالي في النوع (البشري) "، بالتالي فإنه يسقط من جديد في المثالية ... لأنه بالضبط هناك [عند تلك العصابة من الجياع] يرى المادي الشيوعي [وعلى الضد من فيورباخ] في وقت واحد، ضرورة وشرط تحويل جذري للصناعة وللبنية الاجتماعية على حد سواء " . ص37 . إن تحويل الصناعة الجذري يعني تغيير الطبيعة الاجتماعية للاقتصاد. ولا يحصل هذا إلا عبر تغيير جذري للبنية الاجتماعية عبر ثورة اجتماعية ترفع طبقة تقدمية تاريخياً إلى صدارة الحركة الشعبية، حيث تؤسس لسيطرتها السياسية وهيمنتها الاجتماعية على باقي الطبقات التي تغدوا هامشية ، مساندة أو معادية. بكلام آخر يماثل تغيير الطبيعة الاجتماعية للاقتصاد فكرة التحويل الجذري للصناعة ، بما يعنيه من تغيير جذري لعلاقات الإنتاج السائدة [أي تغيير شكل الملكية السائد]. لاحظ أيها القارئ أن إعادة توجيه العملية الاقتصادية بما يخدم الطبقات الكادحة يغير من طبيعة الاقتصاد الاجتماعية ويحدث تحويلاً جذرياً للصناعة. يكتب هاري ماجدوف: "من الطبيعي أن يقول بعضكم أننا يجب أن نكون أكثر وعياً للإيمان الأعمق بفعالية رأس المال، وأنه يجب أن ننتبه إلى العلاقات الاجتماعية. لكن ماذا عن العناصر المادية ؟ وهل من الممكن التخلص من شرور التخلف دون تكنولوجيا حديثة. إن وضع السؤال بهذا التصميم، وبهذه الطريقة التي تنطوي على التكرار ، هو بالتحديد ما يؤدي إلى الاصطدام بالعقبات . لأن التكنولوجيا وحدها وبحد ذاتها ليست هي العلاج الشافي من جميع الأمراض إذ هي أيضاً يجب أن تخضع للاختبار حسب مقتضيات الظروف الاجتماعية . إن الأسئلة الحاسمة يجب أن تكون: أي نوع من التكنولوجيا؟ وبأي هدف ؟ ومن الذي يختارها ؟ ومن الذي يطبقها؟ [أي ما هي طبيعة الطبقة المسيطرة التي تختار هذا الشكل من التكنولوجيا؟، ولمصلحة من اجتماعياً اختيار هذا الشكل التكنولوجيّ؟]" [ راجع : هاري ماجدوف "الإمبريالية من عصر الاستعمار حتى اليوم" مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة العربية الأولى 1981، ص 229 والطبعة الإنكليزية الأصلية 1978 ] . يضيف ماجدوف: "فمثلاً ، إذا كان الهدف الاجتماعي ، سواء حدده رأس المال الخاص أو الحكومات ، هو أولاً، تلبية حاجات سوق الناس الذين يملكون المال (الأثرياء) على أمل أن تستفيد الطبقات الدنيا بالتدريج، من خلال توسيع التنمية الصناعية، وزيادة عدد الناس العاملين في التكنولوجيا الحديثة ، فإن أحدث التكنولوجيا الغربية هي الأفضل، وهي ضرورية . لكن إذا كان الهدف الاجتماعي مغايراً كلياً ، ويشمل تغييراً السلطة الطبقية [تغييراً في الطبيعة الاجتماعية للسلطة] التي تعطي حاجات كل الناس من الغذاء والكساء والإسكان والدواء والتعليم والثقافة الأولوية المطلقة فإن التكنولوجيا الحديثة ليست هي الدواء الشافي لكل الأمراض . مع أنه على المدى الطويل لا بد من أن تستدعي الحاجة جوانب هذه التكنولوجيا . أما الإدخال السريع للتكنولوجيا فيمكن أن يكون ضاراً لأنه قد يتطلب تحويل الموارد المهمة للبلاد ، عن الحاجات الأكثر إلحاحاً للأغلبية العريضة من السكان. [الإمبريالية.. ص 230 ].
هذا هو المقصود بالتحويل الجذري للصناعة والذي ورد في "الأيديولوجية الألمانية" " فالمقترضين الناجحين (للتكنولوجيا) هم أولئك .. الذين يقترضون هذه التكنولوجيا طبقاً لشروطهم وبطرقهم الخاصة ". [الإمبريالية.. ص 233 ].
نعود مع ماركس إلى فيورباخ حيث عنده(أي فيورباخ) "التاريخ والمادية منفصلان كلياً " [أيوب 37] . أي لا يمكن إدخال الأمرين معاً في تصوره فهو مادي من دون تاريخ أو هو تاريخي من دون المادية.
مقدمات الوجود البشري- المقدمة الأولى: "ليس لنا بد [والكلام لـ ماركس] مع الألمان المجردين عن أية مقدمات ، من أن نبدأ بتقرير المقدمة الأولى للوجود البشري بكامله، وبالتالي للتاريخ بأسره، ألا وهي المقدمة التي تنص على انه لا بد للبشر أن يكونوا في مركز يمكنهم من العيش كي يكون في مقدورهم أن "يصنعوا التاريخ" . بيد أن الحياة تشتمل قبل كل شيء على المأكل والمشرب والمسكن والملبس وأشياء عديدة أخرى. وهكذا فإن العمل التاريخي الأول هو إنتاج الوسائط القمينة بسد هذه الحاجات، إنتاج الحياة المادية بالذات . وبالفعل، فإن هذا العمل عمل تاريخي ، شرط أساسي للتاريخ بكامله ، لا بد في اليوم الحاضر ، مثلما كانت الحال قبل آلاف السنين ، من تحقيقه يوماً فيوم وساعة فساعة لمجرد الإبقاء على الحياة الإنسانية " [أيوب ص37] . .. إن الفرنسيين والإنكليز، حتى إذا هم لم يتصوروا علاقة هذه الحقيقة بما يسمى التاريخ إلا بطريقة بالغة الضيق وعلى الأخص بقدر ما ظلوا سجناء الأيديولوجيا السياسية قد قاموا مع ذلك بالمحاولات الأولى من أجل إعطاء كتابة التاريخ أساساً مادياً ، وذلك حين كانوا السباقين إلى كتابة تواريخ المجتمع المدني، والتجارة والصناعة " ص 37-38 . يلاحظ هنا أن ماركس يشير إلى المجتمع المدني كبنية تاريخية عينية؛ أي إلى مجمل العلاقات التجارية والصناعية لمرحلة تاريخية محددة.
المقدمة الثانية: "أن تلبية الحاجات الأولى (عمل التلبية وأداة التلبية التي تم اكتسابها) تدفع إلى حاجات جديدة، وهذا الإنتاج لحاجات جديدة هو العمل التاريخي الأول " ص38 [أيوب]. أول عمل للتاريخ هو إنتاج حاجات جديدة. "إنهم [الألمان الذين يتحدثون عن ما قبل التاريخ] لا يفسرون لنا كيف ننتقل من هذه السخافة "ما قبل التاريخ" إلى التاريخ بكل معنى الكلمة " ص 38 . بكلام آخر ، على الذين يفترضون "ما قبل التاريخ" تفسير هذا الانتقال من " اللّا تاريخ " إن صح القول إلى التاريخ، تاريخ البشر.
المقدمة الثالثة: "التي تدخل هنا في التطور التاريخي هي أن البشر، الذين يصنعون من جديد حياتهم الخاصة في كل يوم، يشرعون في صنع بشر آخرين، (يشرعون) في التكاثر. تلك هي العلاقة بين الرجل والمرأة، بين الأهلين والأولاد، (تلك هي) السرة " ص 38 . .. إن هذه الأسرة التي كانت في الأصل العلاقة الاجتماعية الوحيدة تصبح في وقت لاحق ثانوية، عندما تخلق الحاجات المتعاظمة علاقات اجتماعية جديدة وتخلق زيادة السكان حاجات جديدة " ص 38 [أيوب] . زيادة السكان، التي تعتبر زيادة كمية في قوى الإنتاج، تخلق حاجات جديدة وهذه الحاجات المتعاظمة تخلق علاقات اجتماعية جديدة وتحول الأسرة من العلاقة الاجتماعية الوحيدة إلى علاقة اجتماعية ثانوية . "نتيجة ذلك فإنه يجب أن نعاج ونحلل موضوع هذه الأسرة وفقاً للوقائع التجريبية القائمة.." ص 38. يقول ماركس: "لا يجوز اعتبار هذه المظاهر(المقدمات) الثلاثة للنشاط الاجتماعي على أنها ثلاث مراحل مختلفة، بل على أنها ثلاثة مظاهر فحسب، أو إذا شئنا أن نستعمل لغة ألمانية ..، ثلاث "لحظات" توطدت منذ فجر التاريخ ومنذ البشر الأولين، وهي لا تبرح تتظاهر في التاريخ اليوم " ص 38 .
المقدمة الرابعة: "إن إنتاج الحياة ، سواء [أكانت] حياة المرء الخاصة بالعمل أم الحياة الجديدة بالتناسل، تظهر لنا منذ الآن على أنها علاقة مزدوجة علاقة طبيعية من جهة، وعلاقة اجتماعية من جهة ثانية وأننا نقصد بالعلاقة الاجتماعية التعاون بين أفراد عديدين كائنة ما كانت الشروط، وبأي طريقة كانت ولأي غاية كانت " ... ويترتب على ذلك أن نمطاً معيناً للإنتاج ، أو مرحلة صناعية معينة، تتداخل على الدوام مع نمط معين للتعاون أو مرحلة اجتماعية معينة، هذا النمط للتعاون هو بحد ذاته "قوة منتجة" . ويترتب على ذلك أيضاً أن كتلة القوى المنتجة التي هي في متناول البشر تحدد الحالة الاجتماعية وبالتالي فإن "تاريخ البشرية" يجب أن يدرس ويعالج دائماً في علاقته بتاريخ الصناعة والمبادلة" ص 38-39 . في العلاقة بين الحاجات ونمط الإنتاج أقول: نمط الإنتاج هو شكل تلبية الحاجات، وأدوات تلبية هذه الحاجات . أي كيف تلبي جماعة بشرية حاجاتها، وما هي أدوات هذه التلبية.
"منذ البداية، إن ثمة رابطة مادية تجمع البشر ببعضهم بعضاً تتحدد بحاجاتهم ونمط إنتاجهم، وهي قديمة قدم البشر أنفسهم ". .."إن هذه الرابطة [المادية] لتتخذ على الدوام أشكالاً جديدة، وبذلك تمثل " تاريخاً " حتى دون أن يوجد بعد أي هراء سياسي أو ديني يحقق علاوة على ذلك التماسك بين البشر " ص 39 . "الهراء السياسي والديني" يحقق علاوة على الرابطة المادية التماسك بين البشر . وهو يتحول بالفعل إلى هراء حين يقوم على فراغ، على وهم، أي من دون رابطة مادية.
"الآن فقط، بعدما أخذنا بعين الاعتبار أربع لحظات؛ أربعة مظاهر للعلاقات التاريخية الأولية، نجد أن الإنسان يملك وعياً أيضاً. بيد أنه ليس على أي حال بالوعي الأصيل، ليس بالوعي "الخالص" منذ الوهلة الأولى. فمنذ البداية "تثقل" لعنـــــة على "الروح" ( spirit ) لعنة أثقال المادة عليها، هذه المادة تتظاهر هنا في صورة طبقات مطربة من الهواء ، وأصوات، وباختصار في صورة اللغة . إن اللغة قديمة قدم الوعي، فاللغة هي الوعي العملي، الفعلي، الموجود أيضاً من أجل البشر الآخرين، بالتالي موجود إذاً بصورة فعلية من أجلي فقط " ص 39[أيوب]. تصبح قوتي الفعلية وحاجتي الفعلية للاتصال مع الجماعة البشرية، للاتصال مع الناس الآخرين. فاللغة أو الوعي الفعلي هي الواقعة التجريبية التي تخصني والتي تثبت أنني في علاقة مع البشر الآخرين. نضيف هنا أن "بعدية" الوعي للحظات الأربعة الأولية هي "بعدية عينية" ، أي نرتب لحظات الظاهرة البشرية بعد بحثها بشك كلي ومفصل حسب الأساسي منها ، ولكنها في الواقع متزامنة كظاهرة كلية فالإنسان الجائع الذي يبحث عن الطعام يدرك أنه جائع وأنه يبحث عن الطعام. "(إذاً) فاللغة إنما تنشأ، مثلها مثل الوعي، من الحاجة، من ضرورة التعامل مع الناس الآخرين، فهي موجودة بالنسبة إلي حيث توجد علاقة، إن الحيوان "ليس في علاقة" [الحيوان لا يدخل في "علاقات مع أي شيء " the animal does not enter into relations with anything"] ص 42 من الطبعة الإنكليزية "] لا يقيم أية علاقات على الإطلاق. فعلاقة الحيوان بالآخرين لا توجد بالنسبة إليه على أنها علاقة"
..."وهكذا فإن الوعي، منذ البداية نتاج اجتماعي، وهو يبقى كذلك ما بقي البشر " ص 39 [أيوب] .."من المفروغ منه أن الوعي هو بادئ الأمر، مجرد وعي البيئة الحسية الأقرب، ووعي الرابطة المحددة مع الأشخاص الآخرين والأشياء الواقعية خارج الفرد الذي يعي، وفي الوقت ذاته، فإن وعي الطبيعة التي تنتصب بادئ الأمر في وجه البشر على أنها قوة غريبة كلياً، فائقة القدرة ، تامة المنعة، يتصرف البشر حيالها بطريقة حيوانية خالصة، وهم يرهبون جانبها مثل الحيوانات . ونتيجة لذلك فإنه وعي حيواني خالص للطبيعة (الدين الطبيعي) "[3] . يقول ماركس في هذا الشأن: " نرى في الحال أن هذا الدين الطبيعي ، أو هذه العلاقات المعينة حيال الطبيعة، مشروطة بشكل المجتمع والعكس بالعكس. فهنا كما هي الحال في كل مكان آخر، تظهر هوية الإنسان والطبيعة في هذا الشكل أيضاً، ألا وهو أن سلوك البشر المحدود حيال الطبيعة يشرط سلوكهم المحدود فيما بينهم. وأن سلوكهم المحدود فيما بينهم يشرط بدوره علاقاتهم المحدودة مع الطبيعة، بالضبط لأن الطبيعة تكاد ألا تكون قد تعرضت لأي تغيير من قبل التاريخ " [هامش ص 40 أيوب]. في شروط قوى إنتاجية متناهية إلى الصفر، وبشر منفعلون بالطبيعة كالحيوانات نرى الاشتراط المتبادل للاجتماعي والطبيعي، أي قبل أن تتعرض الطبيعة لأي تغيير من قبل التاريخ وممارسة البشر. وفي شروط كهذه من تدني درجة تطور القوى المنتجة يلعب العامل الجغرافي دوراً عظيماً .
"إن وعي ضرورة الارتباط مع الأفراد من حوله يشكل من جهة أخرى ، بالنسبة إلى الإنسان ، بداية الوعي بأنه يحيا في مجتمع . إن هذه البداية لحيوانية بقدر الحياة الاجتماعية نفسها في هذه المرحلة. إنه وعي قطيعي خالص ، ولا يمتاز الإنسان من الخروف في هذه النقطة إلا بالحقيقة التالية ، ألا وهي أن الوعي يتخذ عنده مكان الغريزة ، أو أن غريزته هي غريزة واعية " [ص40 أيوب] . شكلين للاتصال، اتصال غريزي ، واتصال واعي ، أو وعي الاتصال والغريزة. هنا لدينا انتقال كيفي في الوجود ناجم عن تراكمات مستمرة ومديدة، حيث يحل وعي الاتصال مكان غريزة الاتصال. وهو لا يعني أن الغريزة قد أبيدت تماماً وانتفت، ولكن أعيد تشكيل تمظهرها وفق الأشكال التاريخية للوعي والثقافة. يحقق هذا الوعي القطيعي أو القبلي تطوره وامتداده اللاحقين من خلال:
1- تعاظم الإنتاجية
2- ازدياد الحاجات 3- زيادة عدد السكان NB [4] . هذه الزيادة في السكان هي أساس العنصرين السابقين.1 و 2 . [راجع ص 40 أيوب] . مع ازدياد عدد السكان الذي يؤدي إلى تعاظم الإنتاجية وازدياد الحاجات، يتطور تقسيم العمل. "لم يكن هذا التقسيم للعمل في الأصل سوى تقسيم للعمل في العملية الجنسية" ص 40 أيوب . .."يتطور هذا التقسيم للعمل تلقائياً أو "طبيعياً" بفضل الاستعداد الطبيعي(القوة الجسدية على سبيل المثال) والحاجات والطوارئ.." ص40 أيوب. يقول ماركس: "لا يصبح تقسيم العمل تقسيماً للعمل حقاً وفعلاً إلا انطلاقاً من اللحظة التي يحدث فيها تقسيم للعمل المادي والذهني". ص40 أيوب أول تقسيم طبيعي للعمل هو تقسيم العمل في العملية الجنسية بين الرجل والمرأة. وأول تقسيم فعلي (تاريخي) للعمل هو انفصال العمل الذهني عن العمل العضلي. عند هذا المستوى من تقسيم العمل يشير ماركس إلى "الدين" و "الأيديولوجيا" بصفتها اعتقاد أو إيمان، أي بصفتها نوع من الإيمان. بمعنى آخر ، لا يمكن توقع ظهور أيديولوجيا أو دين "اجتماعي" [متجاوز للدين الطبيعي] من دون ظهور هذا الشكل من تقسيم العمل (بين الذهني والعضلي). [علاقة تاريخ الأيديولوجيا بظهور تقسيم العمل "التاريخي" أي التقسيم إلى عضلي وذهني. ويمكن اعتبار الأيديولوجيا أحد تمظهرات هذا التقســـيم للعمل (على سبيل المثال، كهنة المعابد كأيديولوجيين)] . "ابتداءً من تلك اللحظة [لحظة ظهور هذا الشكل من تقسيم العمل] يستطيع الوعي أن يتباهى فعلاً بأنه شئ يختلف عن وعي الممارسة القائمة، وأنه فعلاً يمثل شيئاً فعلياً (إذا جاز القول)، إن الوعي هو من الآن فصاعداً في مركز يستطيع فيه أن يتحرر من العالم ، وأن ينصرف إلى تكوين النظرية "الخالصة"؛ اللاهوت والفلسفة والأخلاق الخ.." ص40 أيوب. في سياق التعاطي مع الأيديولوجيا كمظهر مستقل عن الأساس الذي ولدها، يمكن الحديث عن قوة العادة، وعن انفصال "المعنى"[5] عن حقيقة الواقع التي هي تاريخية في أساسها. "إذا دخلت هذه النظرية في تناقض مع العلاقات القائمة، فإن هذا لا يمكن أن يحدث إلا لأن العلاقات الاجتماعية القائمة قد دخلت في تناقض مع قوى الإنتاج القائمة " ص40 أيوب.
"إن دخول النظرية في تناقض مع العلاقات القائمة (على أساس أن هذه العلاقات قد دخلت بدورها في تناقض مع تطور القوى الإنتاجية) يمكن أن يحدث في مجال قومي معين من العلاقات لأن التناقض في هذه الحال يحدث ليس ضمن هذا المجال القومي، بل بين هذا الوعي القومي وممارسة الأمم الأخرى" [ص40 أيوب] .
أزمة الأخلاق وتطور القوى الإنتاجية الجديدة. هذه مسألة. الوعي القطري(القومي) والقوى الإنتاجية العالمية. هذا يحتاج إلى توسيع وبسط نظراً لأهميته الخاصة. على سبيل المثال ، تطور الفلسفة النظرية الألمانية على أساس ممارسة الفرنسيين الاجتماعية والسياسية إبان الثورة الفرنسية العظمى. التناقض بين الوعي النظري الجديد من جهة أولى وبين ما هو سائد من علاقات عالمية من الجهة الأخرى على أرضية التأخر الألماني؛ تأخر البورجوازية الألمانية عن إنجاز مهامها القومية في التصنيع والتحديث وبناء السوق القومية الواحدة وما يعنيه بالتالي من وجود تناقض بين الوعي القومي الألماني الجديد بضرورة التقدم والوعي العام السائد في ألمانيا وقتها والمستسلم للتأخر. أيضاً يمكن لتحرك طبقة عاملة روسية فتية وصاعدة مثلاً أن يولد تناقضاً كهذا بين النظرية (الوعي) من جهة وشكل العلاقات القائمة قومياًً و عالمياً (سيطرة الملكية الخاصة الرأسمالية). أيضاً يمكن أن نأخذ الطبقة العاملة الكورية في الوقت الحاضر كمثال. إذاً يمكننا الحديث في هذا السياق عن وعي قومي محمول على حوامل اجتماعية عالمية ، أي خارج القطر. إن وعياً قومياً متقدماً يمكن أن يحمل على تطور قوى إنتاجية عالمية . وهذا ما ظهر بشكل واضح في التجربتين الروسية والصينية نتيجة التفاوت البنيوي للرأسمالية أو ما يمكن أن ندعوه بالتطور المتفاوت والمركب للنظام الرأسمالي . إن أخطر ما يواجه العالم اليوم هو أن الإمبريالية المعولمة تعيد إنتاج عالمها الطرفي ممزقاً ومفككاً على كافة المستويات ، وبهذا تساهم في إنتاج وإعادة إنتاج أشكال التفكير ما قبل الرأسمالية ، وبعض علاقاتها . وبهذا فهي تعمل جاهدة على توجيه العاطفة نحو الماضي مما يعني خلق الأرضية لجنون العنف.
ما يعنيه القول السالف الذكر أن "التناقض(حاصل) بين الوعي القومي والوعي العام (الوعي السائد) لأمة ما . بالضبط لأن التناقض لا يمثل في الظاهر إلا بوصفه تناقضاً في أحشاء الوعي القومي" [ص40 أيوب]. يظهر إذاً هذا التناقض بين"النظرية" والعلاقات السائدة ،ظاهرياً، على أنه تناقض في أحشاء الوعي القومي، بينما هو في الواقع تناقض بين علاقات الإنتاج القائمة(علاقات الملكية الخاصة السائدة) والقوى الإنتاجية العالمية. أو هو تناقض بين العلاقات السائدة في وطن ما وبين ممارسة أمم أخرى أكثر اندفاعاً . لدينا هنا ثلاث لحظات:
" قوى الإنتاج والحالة الاجتماعية والوعي، يمكن ويجب أن تدخل في تناقض فيما بينها لأن تقسيم العمل يتضمن إمكانية" ذلك [ص41 أيوب]. اللحظات الثلاث:
أولاً: قوى الإنتاج ودرجة تطورها عالمياً ، ثانياً :الحالة الاجتماعية، أي علاقات الإنتاج الاجتماعية والاقتصادية ، أي علاقات الملكية الخاصة السائدة وعلاقات السوق من تبادل وتوزيع. ثالثاً: الوعي السائد من جهة، والوعي الذي تحرر على أرضية التناقض الحاصل بين درجة محددة لتطور القوى الإنتاجية وبين شكل الملكية الخاصة المسيطر. هذه اللحظات الثلاث "يمكن ويجب أن تدخل في تناقض فيما بينها لأن تقسيم العمل يتضمن إمكانية ، بله واقع أن يؤول النشاط الذهني والمادي إلى أفراد مختلفين يقتسمونه بينهم" [ص41 أيوب] . يضيف ماركس: "الإمكانية الوحيدة لعدم قيام التناقض بين هذه [اللحظات الثلاث ] تكمن في إلغاء تقسيم العمل من جديد". [ص 41 أيوب] . ويجب أن نلاحظ هنا نتيجة النشاط والنشاط نفسه كفعالية ذهنية أو مادية. وأن نلاحظ التناقض بين الوعي الذي تحرر وبين نمط الإنتاج السائد(القائم) [6]. "الوعي الذي تحرر والذي يدخل في تناقض مع نمط الإنتاج القائم لا يشكل ديانات وفلسفات فحسب بل دولاً أيضاً" [هامش ص41 أيوب]. أي إن نتائج النشاط ليست نظرية وأيديولوجية فحسب، بل سياسية أيضاً . "إن هذا التقسيم للعمل ، الذي تنطوي فيه جميع هذه التناقضات والذي يرتكز بدوره على تقسيم العمل الطبيعي في الأسرة وانفصال المجتمع إلى أسر مفردة ومتعارضة ، يتضمن بصورة متواقتة توزيع العمل ومنتجاته، وهو توزيع غير متكافئ في واقع الأمر ، كمياً وكيفياً على حد سواء، بالتالي فإنه يتضمن الملكية التي تقوم نواتها ، شكلها الأول، في الأسرة حيث الزوجة والأولاد عبيد الرجل . إن هذه العبودية ، بالرغم من أنها لا تبرح بدائية جداً وكامنة في الأسرة، هي الملكية الأولى، لكنها تقابل على أكمل وجه ، حتى في هذه المرحلة الباكرة تعريف الاقتصاديين المحدثين الذين يسمونها القدرة على التصرف بقوة عمل الآخرين. وفيما عدا ذلك فإن تقسيم العمل والملكية الخاصة تعبيران متماثلان يعبر الأول فيما يتعلق بالنشاط عما يعبر عنه الثاني فيما يتعلق بنتاج هذا النشاط" [ص41 أيوب].
تقطيع الفقرة السابقة:
1- أول تقسيم للعمل هو تقسيم طبيعي بين الرجل والمرأة. انفصال المجتمع إلى أسر مفردة ومتعارضة.
2- نواة الملكية أو شكلها الجنيني ظهر في الأسرة حيث يستطيع الرجل التصرف بقوة عمل الزوجة والأولاد. ويمكن أن نعرف الملكية على أنها القدرة على التصرف بقوة عمل الآخرين.
3- تقسيم العمل يتضمن بصورة متزامنة توزيع أدوات العمل ومنتجات العمل. تستطيع أن تعرف ماذا يملك فرد من خلال دوره في العملية الإنتاجية ، أي موقعه في النشاط ومكانته في تقسيم العمل القائم. ويمكن الاعتماد على ذلك في تعريف الطبقة في ذاتها أي الوجود النقابي للطبقة أو وجودها بعيداً عن امتلاكها لوعي هذا الوجود، أي من دون وعيها لذاتها. وهنا نشير إلى شكل تقسيم العمل الدولي الراهن والملكية الخاصة الرأسمالية في شكلها الاحتكاري. كوجهين لعملة واحدة، كأمرين متماثلين. أي يشيران إلى سيطرة طبقة بعينها .
4- التوزيع اللامتكافئ يفترض بالضرورة الملكية الخاصة. والتطور اللامتكافئ في التشكيلة العالمية الرأسمالية الاحتكارية القائمة يفترض الملكية الرأسمالية الاحتكارية. وأي محاولة لتعديل هذا التقسيم للعمل سوف يصطدم بمصلحة وإرادة الرأسمالية الاحتكارية ودولها.(الأرض والسماوات السبع)
5- حتى هذا الشكل المبكر من الملكية والذي هو قدرة الرجل على التصرف بقوة عمل الزوجة والأولاد يقابل أكثر التعريفات الاقتصادية حداثة عند الاقتصاديين . والذي يشير على أن الملكية هي القدرة على التصرف بقوة عمل الآخرين.
6- تقسيم العمل والملكية متماثلان من حيث أنهما يشيران إلى عملية واحدة. تقسيم العمل يشير إلى النشاط أو الفعالية أثناء العملية الإنتاجية (مكانة الأفراد في العملية الإنتاجية) من جهة واحدة ، والملكية تشير إلى نتاج هذا النشاط ومآله ، أي لمن يعود، ومن يستحوذ عليه.
"إضافة لذلك، فإن تقسيم العمل ينطوي في الوقت ذاته على التناقض بين مصلحة الفرد المنعزل أو العائلة الفردية والمصلحة الجماعية لجميع الأفراد الذين يقوم تعامل فيما بينهم... هذه المصلحة الجماعية لا تقوم في المخيلة وحدها [بوصفها فكرة تصورية] بوصفها "المصلحة العامة" (هكذا كتجريد) ، بل قبل كل شئ في الواقع ، من حيث هي التبعية المتبــادلة للأفراد الذين يقسم العمل فيما بينهم " [ص41 أيوب] ..يقدم تقسيم العمل لنا المثال الأول على الحقيقة التالية: "ما دام البشر باقون في المجتمع الطبيعي، يعني ما دام هناك انشقاق بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة المشتركة ، وبالتالي ما دام النشاط مقسماً ليس بصورة طوعية، بل بصورة طبيعية[قسرية] ، فإن عمل الإنسان الخاص يتحول إلى قوة غريبة معارضة له، تستعبده بدلاً من أن تكون خاضعة لإشرافه" [ص42 أيوب] نعلق بالقول: ماركس يضع المجتمع الطبيعي حيث تقسيم العمل قسري ومفروض، مقابل المجتمع الإنساني، حيث النشاط مقسم بصورة طوعية، اختيارية. في المجتمع الأول يعيش الأفراد في حالة اغتراب عن منتجاتهم، حيث يتحول عمل الإنسان إلى قوة غريبة عنه تستعبده بدلاً من أن تحرره (الاغتـراب alienation. في الدين تنفصل أفكار الإنسان وتصوراته عنه لتصبح قوة غريبة عنه وفوقه تأخذ اسم الإله. وهذا ما يسمى بالاغتراب الديني).
فـ "حالما يقوم توزيع العمل ، فإن كل امرئ يحصل على مجال لنشاط خاص به ومقصور عليه، وهو مجال يفرض عليه ولا يستطيع الإفلات منه... ولا بد له من أن يثابر على ذلك إذا لم يكن راغباً في فقدان وسيلة معيشته " [ص 42 أيوب]
"إن هذا التثبيت للنشاط الاجتماعي ، هذا التحجر لمنتجنا الخاص في قوة تعلو علينا وتفلت من رقابتنا [إشارة إلى الملكية الخاصة، حيث تنقلب من خادمة للبشر إلى سيدة مستبدة ] ، تخيب آمالنا وتفسد تقديراتنا هو أحد العوامل التاريخية في التطور التاريخي حتى يومنا الحاضر" [ص 42 أيوب] نلاحظ هنا الإشارة إلى الضرورة التاريخية للملكية الخاصة كعامل رئيسي في التطور التاريخي كإنتاج واستهلاك، وكمؤسسات حقوقية ودولة. ويجب أن نشير إلى بداية أفول هذه الضرورة مع ظهور البروليتاريا ومشروعها الاجتماعي السياسي الذي أظهر المخاطر الإنسانية لاستمرار سيطرة الملكية الخاصة.
"إن هذا التناقض بالذات بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية هو الذي يدفع هذه المصلحة الجماعية لأن تتخذ شكلاً مستقلاً على اعتبارها الدولة، وهو شكل منفصل عن المصالح الفعلية للفرد والجماعة. ولأن تتخذ في الوقت ذاته صورة الجماعة الوهمية، لكن القائمة بصورة دائمة على الأساس المشخص للروابط القائمة في كل تجمع عائلي وقبلي – كروابط اللحم والدم ، واللغة وتقسيم العمل على نطاق واسع وغير ذلك من المصالح ... مصالح الطبقات المشروطة مسبقاً بتقسيم العمل [أي مشروطة بالملكية الخاصة] وهذه الطبقات التي تنفصل في كل تجمع من هذا النوع ، والتي تسيطر إحداها على جميع الطبقات الأخرى" [ص 42 أيوب] عندما تسود طبقة تحاول إظهار مصلحتها على أنها المصلحة العامة، فإذا ما شعر الأفراد المتضررين من هذه السيادة بالعداء ظهر عداؤهم وكأنه مواجهة بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، وتظهر الدولة هنا كجماعة وهمية "مستقلة " تقمع الأفراد وتحافظ على المصلحة "العامة" التي هي في حقيقة الأمر مصلحة الطبقة السائدة.[7] "يترتب على ذلك أن جميع الصراعات داخل الدولة، والصراع بين الديموقراطية والأرستقراطية والملَكية، والصراع من أجل حق الاقتراع، ليس سوى الأشكال الوهمية التي تجري فيها الصراعات الفعلية للطبقات المختلفة فيما بينها " [ص 42 أيوب] موضوع الأشكال الوهمية للصراعات ، والصراعات الفعلية بين الطبقات، موضوع جدير بالتوسع والبحث . كمدخل كاف وأولي لهذا الموضوع راجع: الحوليات الألمانية الفرنسية لماركس وإنجلز، والعائلة المقدسة(الأسرة المقدسة) لذات المؤلفين، أيضاً راجع جان سيغمان ، "الثورات الكبرى في التاريخ" ص 72، 75 . وأيضاً راجع كتابنا "ما بعد الحداثة" ص152، 153 .
"ويترتب على ذلك أن كل طبقة تطمح إلى السيادة ، حتى إذا كانت سيادتها تفترض ، كما هي الحال بالنسبة إلى البروليتاريا، إلغاء الشكل القديم للمجتمع بكليته وإلغاء السيادة بالذات ، لا بد أن تفوز بادئ الأمر بالسلطة السياسية كيما تمثل بدورها مصلحتها على أنها المصلحة العامة ، وهو أمر لا مناص لها من القيام به بادئ الأمر" [ص 43 أيوب] نلاحظ هنا إمكانية خطر تكريس هذه المصلحة ، وبالتالي خطر ظهور أيديولوجيا زائفة في فترة الانتقال من التشكيلة الرأسمالية إلى الأسلوب الاشتراكي. وهنا نلاحظ جذور الأيديولوجية الاعتباطية الزائفة في مرحلة الانتقال من الرأسمالية كنظام عالمي إلى الاشتراكية. علينا أيضاً أن نلاحظ المفارقة الكامنة في مفهوم الدولة ، فـ الدولة هي "العام" الذي تشخص بخصوصية خادعة لها وسائل مميزة عن المجتمع، وكيان "مستقل" عنه أيضاً.
"لما كان الأفراد لا يطلبون إلا مصلحتهم الخاصة وحدها التي لا تتطابق بالنسبة إليهم مع مصلحتهم الجماعية، نظراً لأن العام ليس في آخر الأمر سوى شكل وهمي للحياة الاجتماعية [ليس سوى مصلحة خاصة بطبقة تدّعي أنها المصلحة العامة] فإن هذه المصلحة الأخيرة (المصلحة الجماعية) سوف تمثل ، لهذا السبب بالضبط، على اعتبارها مصلحة "غريبة" عليهم و"مستقلة" عنهم وهي بدورها مصلحة "عامة" خاصة وخصوصية ، أو يجب عليهم أن يبقوا ضمن هذا النزاع [ بين مصلحة "عامة" غريبة عنهم لأنها بحقيقتها مصلحة طبقة خاصة، وبين مصالحهم العملية الخاصة] كما هي الحال في الديموقراطية (النظام البورجوازي كمقابل للأرستقراطية والنظام الإقطاعي المراتبي) " [ص 43 أيوب]. نلاحظ هنا : مصالح جماعية حقيقية والتي هي مصالح القبيلة والعائلة، والطائفة التي تقوم على روابط القرابة والدم أو مصالح طبقة اجتماعية، والتي تقوم على المصلحة النقابية(الاقتصادية) وعلى الموقع المتماثل في العملية الإنتاجية هذا من جهة ، ومن الجهة الأخرى، مصلحة جماعية وهمية، والتي تعبر عنها الدولة. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى: "إن الصراع العملي لهذه المصالح الخاصة ، التي تتعارض باستمرار بصورة فعلية مع المصالح الجماعية والمصالح الجماعية بصورة وهمية(الدولة)، يجعل التدخل العملي والكبح من جانب المصلحة "العامة" الوهمية في صورة الدولة أمرين ضروريين " [ص43 أيوب] .
"القوة الاجتماعية ، يعني القوة الإنتاجية المتضاعفة التي تنشأ من تعاون أفراد مختلفين كما تتحدد بفعل تقسيم العمل ، لا تظهر بنظر هؤلاء الأفراد على أنها قوتهم الموحدة الخاصة، لأن هذا التعاون ليس إرادياً ، بل نشأ بصورة طبيعية [غير واعية وقسرية] ، إنها(قوتهم الإنتاجية) تظهر لهم على العكس من ذلك ، على أنها قوة غريبة قائمة خارجاً عنهم ، هم جاهلون بأصلها وهدفها، وبالتالي فهم عاجزون عن التحكم فيها ، بل هي على النقيض من ذلك تجتاز سلسلة خاصة من أطوار التطور ومراحله المستقلة جداً عن إرادة الإنسانية ومسيرتها، بحيث تتحكم هي في الحقيقة في هذه المسيرة وتلك الإرادة " [ص43 أيوب] . القوة الاجتماعية يعني القوة الإنتاجية المتراكمة بفعل تعاون أفراد مختلفين.
قراءة الفقرة السابقة:
1- القوة الإنتاجية المتضاعفة تنشأ من تعاون أفراد مختلفين.
2- يتحدد هذا التعاون بتقسيم العمل، أي بشكل الملكية الخاصة المسيطر. نفترض مبكراً (هنا) أن هذه القوة الاجتماعية تظهر غريبة وخارجية عن الأفراد الذين أنتجوها وينتجونها بفعل تقسيم العمل نفسه وبالتالي يكون هذا الإنتاج مشروط بشكل الملكية الخاصة المسيطر.
3- بفعل تقسيم عمل قسري وغير واعي لا تظهر هذه القوة الاجتماعية في نظر هؤلاء الأفراد على أنها قوتهم الموحدة الخاصة، لأن تعاونهم هذا ليس إرادياً، فهو مشروط بتقسيم العمل، وبالتالي بالملكية الخاصة.
4- تظهر هذه القوة الاجتماعية على أنها قوة غريبة قائمة خارجاً عنهم ، هم جاهلون بأصلها وهدفها ، بالتالي فهم عاجزون عن التحكم فيها.
5- هذه القوة الاجتماعية والملكية الخاصة التي تحددها وتجعلها غريبة عن البشر، هي في أساس كل اغتراب بما فيه الاغتراب الديني(انفصال أفكار الأفراد عنهم والسيطرة عليهم كأنها خارجهم ومستقلة عنهم وكذلك انفصال الدولة عن الأفراد).
"تجتاز هذه القوة الاجتماعية سلسلة خاصة من أطوار التطور ومراحله المستقلة جداً عن إرادة الإنسانية ومسيرتها ، بحيث تتحكم هي ، في الحقيقة، في هذه المسيرة وتلك الإرادة " [ص43 أيوب] ..هذا الاغتراب estrangement (كي نستخدم عبارة مفهومة لدى الفلاسفة) لا يمكن طبعاً إلغاؤه إلا بتوفر شرطين عمليين: أولاً، حتى يصبح قوة "لا تطاق" يعني قوة يقوم (الأفراد المتحدين) بثورة ضدها وهذا يفترض بالضرورة أن يكون (الاستلاب أو الاغتراب alienation) قد جعل الكتلة العظمى من البشرية كتلة "محرومة من الملكية" ... هذا السواد الأعظم من البشرية والمحروم من الملكية، هذه الكتلة تجد نفسها في الوقت ذاته في تناقض مع عالم من الثراء والثقافة قائم فعلياً. وهما شيئان يفترض كلاهما(الحرمان والثراء) زيادة عظمى في القوة الإنتاجية، يعني مرحلة عليا لتطورها " [ص43 أيوب] إن رأس المال وهو يعيد إنتاج ذاته تراكمياً (توسعياً) يعيد إنتاج تقسيم العمل وبالتالي يعيد إنتاج وتكريس الملكية الخاصة السائدة بشكل أكثر حدة . فكلما توسعت دائرته ضاقت دائرة المحرومين من الملكية والثروة. وأضحى تقسيم العمل أكثر قسوة وشراسة، بالرغم من التدخلات المعدلة من قبل الدولة القائمة.
ثانياً ، "فإن هذا التطور للقوى الإنتاجية (الذي يتضمن سلفاً أن وجود البشر التجريبي الفعلي يجري على صعيد التاريخ العالمي بدلاً من أن يجري على الصعيد المحلي) هو شرط عملي مطلق الضرورة، لأن الفاقةwant من دونه لا تصبح عامة ولا بد مع الإملاق من تجدد الصراع من أجل الضروريات ومن السقوط مجدداً في الأعمال القذرة filthy business (الخسة) القديمة. وفضلاً عن ذلك فإنه شرط عملي لازم، لأن التعامل العمومي بين البشر لا يمكن أن ينشأ إلا بفعل هذا التطور العمومي للقوى الإنتاجية، ولأنه يولد من جهة واحدة لدى جميع الأمم بصورة متواقتة ظاهرة الكتلة "المحرومة من الملكية " (المزاحمة العمومية) ، ويجعل من بعد كل أمة رهناً بثورات الأمم الأخرى، وقد وضع أخير البشر العموميين تجريبياً، الذين يحيون التاريخ العالمي ، مكان الأفراد الذين يحيون على صعيد محلي. وبدون ذلك 1- لا يمكن للشيوعية أن توجد إلا على اعتبارها ظاهرة محلية؛ 2- ما كان يمكن لقوى التعامل نفسها أن تتطور على أنها قوى عمومية ، وبالتالي قوى لا تطاق، ولظلت "ظروفاً " داخلية مطوقة بالأوهام المحلية؛ 3- إن هذا الامتداد للتعامل سوف يلغي الشيوعية المحلية. فلا تكون الشيوعية ممكنة تجريبياً إلا على اعتبارها فعلاً تقوم به الأمم السائدة "دفعة واحدة" وبصورة متواقتة ، الأمر الذي يفترض بصورة مسبقة التطور العمومي للقوى الإنتاجية والتعامل العالمي الوثيق الصلة بالشيوعية " [ص44 أيوب]. لقد أسيء فهم هذه العبارة كثيراً . تقول العبارة: "لا تكون الشيوعية ممكنة تجريبياً إلا على اعتبارها فعلاً تقوم به الأمم السائدة "دفعة واحدة " “all at once” وبصورة متزامنة " . وحتى نتيح للقارئ متابعة أفضل لهذه المسألة، وحتى نزيل الإشكال الذي خلقته العبارة، سوف نقتطف بعض العبارات من كتاب ماركس، "الصراعات الطبقية في فرنسا 1848-1850" . يكتب ماركس: "ومن الطبيعي أن تحدث الانفجارات العنيفة في أطراف البدن البورجوازي بالأحرى منها في قلبه، ما دامت إمكانية التكيف أعظم هنا منها هناك. ومن جهة أخرى فإن درجة رد فعل الثورات القارية هي في الوقت نفسه المقياس الذي يشير إلى مدى ما تطرح هذه الثورات حقاً وفعلاً مسألة الشروط البورجوازية للحياة على بساط البحث ، أو مدى ما تكتفي بصدم تشكيلاتها السياسية " [الصراعات.. ترجمة فؤاد أيوب ، دار دمشق ص 132] . ويضيف ماركس: "ولا يبدأ الإنجاز إلا في اللحظة حيث تدفع البروليتاريا ، بواسطة الحرب العالمية ، إلى طليعة الشعب الذي يسيطر على السوق العالمية، إلى طليعة إنكلترا [كانت إنكلترا تسيطر على السوق العالمية منتصف القرن التاسع عشر] . وليست الثورة التي لا تجد هنا خاتمتها، بل بدايتها التنظيمية بالثورة القصيرة العمر". [الصراعات الطبقية .. ص 110].
نعود إلى عبارة ماركس في الأيديولوجية، التي تقول: "التعامل العمومي بين البشر لا يمكن أن ينشا إلا بفعل هذا التطور العمومي للقوى المنتجة ، ولأنه يولد من جهة أخرى لدى جميع الأمم بصورة متواقتة ظاهرة الكتلة "المحرومة من الملكية" (المزاحمة العمومية ) " [ص43-44 أيوب]. هناك ظاهرة عالمية لم يذكرها ماركس هنا لأنها جاءت بعد مرور زمن، ومع بوادر تبلور الظاهرة الإمبريالية في الرأسمالية. وهي الانقسام في الطبقة العاملة العالمية، والذي أشار إليه لينين في كتابه "الإمبريالية..". يكتب لينين: "هنالك كتاب يحبون تحاشي واقع الصلة بين الإمبريالية والانتهازية في حركة العمال – هذا الواقع الذي يبدو اليوم للعيان بوضوح خاص – عن طريق عبارات "متفائلة بصورة رسمية" من هذا النوع : إن قضية خصوم الرأسمالية تكون في حالة تدعو للقنوط فيما لو كانت الرأسمالية المتقدمة تؤدي إلى تقوية الانتهازية أو فيما إذا كانت العمال الذين ينالون أعلى الأجور يميلون إلى الانتهازية" .[الإمبريالية ص170] . ويضيف : "إن الأرباح الاحتكارية الفاحشة التي يبتزها رأسماليو فرع من فروع صناعة عديدة ، بلد من بلدان كثيرة . تمكنهم اقتصادياً من رشوة فئات معينة من العمال وبصورة مؤقتة ، أقلية من العمال كبيرة لحد ما ومن جذبهم إلى جانب بورجوازية فرع صناعي معين أو أمة معينة ضد جميع الآخرين . ويشدد هذا الميل اشتداد التناحر بين الأمم الإمبريالية من أجل تقسيم العالم . وعلى هذه الصورة تنشأ الصلة بين الإمبريالية والانتهازية " ["الإمبريالية.. ص 170"] .
عودة إلى ماركس: "تنحل علاقة العرض والطلب [قدر الأقدمين] وتذهب هباء منثوراً مع إلغاء القاعدة [قاعدة العرض والطلب أو علاقات السوق] التي هي الملكية الخاصة ، وقيام التنظيم الشيوعي للإنتاج الذي يلغي عند الإنسان ذلك الشعور بأنه يقف حيال إنتاجه الخـــاص وكأنه يقف حيــال قوة غريبة " ...ليست الشيوعية بالنسبة إلينا أوضاعاً ينبغي إقامتها ، مثلاً أعلى ينبغي للوقائع أن تتطابق معه ، إننا ندعوا الشيوعية الحركة الواقعية التي تلغي الأوضاع القائمة حالياً . وإن شروط هذه الحركة لتنتج عن المقدمات الموجودة في الوقت الحاضر". [ص 44 أيوب].
قراءة الفقرة السابقة: تتكون علاقات الإنتاج الرأسمالية من علاقات اقتصادية، التي هي العرض والطلب أو علاقات السوق بما فيها التبادل والتداول والتوزيع هذا من جهة ، وعلاقات اجتماعية قيميِّة هي الملكية الخاصة وعلاقاتها من الجهة الأخرى. والملكية الخاصة وعلاقاتها تشكل قاعدة العلاقات الاقتصادية ، بمعنى آخر تكون العلاقات الاقتصادية محددة ومشروطة بشكل الملكية الخاصة المسيطر وعلاقاته. وهذه الأشكال التاريخية للملكية الخاصة هي التي تحدد المراحل التاريخية(بورجوازية، إقطاعية الخ..). في هذا السياق ليست الشيوعية يوتيبيا أو حلماً أو مثلاً أعلى منقطع عن الحياة وحقيقة الأوضاع القائمة، ولكنها ، أي الشيوعية هي الحركة الواقعية التي تلغي الأوضاع القائمة حالياً والقائمة جوهرياً على سيطرة الملكية الخاصة الرأسمالية. الشيوعية هي الحركة الواقعية بكل تعقيداتها والتي تسعى لإلغاء الشرط البورجوازي إلغاءً عالمياً. وهذا الإلغاء قائم على المقدمات القائمة بالفعل. تسعى الشيوعية لإلغاء الاغتراب عبر السعي لتحطيم الملكية الخاصة الرأسمالية وعلاقاتها.
إن فكرة العالمية متضمنة في مفهوم رأس المال ذاته. بالتالي ، "إن كتلة الشغيلة المعدمين .. تفترض السوق العالمية . هكذا فإن البروليتاريا لا يمكن أن توجد إلا على صعيد التاريخ العالمي كقوة عمل كتليه منفصلة عن رأس المال وعن أي نوع من تلبية الحاجات حتى المحدودة منها" ص 44 ( ككتلة حية محرومة من الملكية في مقابل رأس المال كعمل متراكم ميت) . نذكر مرة أخرى بالانقسام الذي أصاب البروليتاريا العالمية بفعل الإمبريالية و ما نتج عنها من انتهازية في حركة العمال العالمية. راجع كتاب "الإمبريالية.." لـ لينين. نشير هنا أيضاً إلى ظهور الأفراد المرتبطين بالتاريخ العالمي وبشكل فعلي. إن كتلة الشغيلة المعدمين تفترض السوق العالمية ، تماماً كما الشيوعية التي هي نشاطها(الطابع العالمي للشيوعية). لقد كانت الاندفاعات والهبات الثورية في بعض البلدان كروسيا والصين وكوبا وغيرها هبات قومية تحت قيادة بروليتاريا هذه البلدان للخروج من التخلف الصناعي ، عبر التغلب على العقبة الإمبريالية "الخارجية" ، والتمهيد لهبات في مراكز النظام الرأسمالي.
يقول ماركس: "إن شكل التعامل المعين بالقوى الإنتاجية الموجودة في جميع المراحل التاريخية السابقة، والمعين بدوره لهذه المراحل، هو المجتمع المدني" [ص 45 أيوب] . اقرأ [8] :
1- درجة تطور القوى الإنتاجية في مراحل تاريخية معينة تضع بشكل أولي حدود التعامل أي شكل علاقات الإنتاج المادية ومنها العلاقات الاقتصادية وعلاقات الملكية. إما تكريساً أو تهديداً بالزوال بحكم عدم تناسب وتكيف علاقات الملكية السائدة مع تلك الدرجة من تطور القوى المنتجة.
2-هذه العلاقات (هذا الشكل المسيطر للملكية الخاصة ) تحدد المراحل التاريخية السابقة [ملكية مشاعة، ملكية العشيرة أو القبيلة، ملكية إقطاعية، ملكية بورجوازية أو رأسمالية الخ..]
3- هذا الشكل للتعامل ، هذه العلاقات المادية والتجريبية ، هذا الشكل المسيطر للملكية الخاصة وعلاقاته هو المجتمع المدني . يظهر المجتمع المدني من حيث الأساس هنا كبنية تحتية، وهذا يفترض وجود بنية فوقية خاصة به حقوقية وأخلاقية وسياسية. أما غرامشي المفكر الماركسي الإيطالي ، فهو ينظر إلى المجتمع المدني على أنه بنية فوقية أو جزء منها. فالدولة البورجوازية الحديثة تتكون من سلطة، وأجهزة. السلطة بدورها مكونة من البرلمان والقضاء والحكومة. أما أجهزة الدولة فهي تقسم إلى قسمين: أجهزة إكراه ، ويشمل الجيش والبوليس، وأجهزة هيمنة ، وتشمل التربية والتعليم والإعلام والاقتصاد. يعرف غرامشي المجتمع المدني على أنه أجهزة الهيمنة في الدولة الحديثة. بالتالي فهو يعتبره بنية فوقية ، أي جزء من بنية الدولة الحديثة.
"هذا المجتمع المدني يشكل البؤرة الحقيقية ، المسرح الحقيقي للتاريخ كله... إن المجتمع المدني يشتمل على مجمل الحياة التجارية والصناعية لمرحلة معينة وبذلك يتعالى على الدولة والأمة. بالرغم من أنه يتوجب عليه [المجتمع المدني]من الجانب الآخر أيضاً، أن يؤكد نفسه في علاقاته الخارجية بوصفه قومية، وأن ينظم ذاته في الداخل بوصفه دولة" [ص 45 أيوب]
اقرأ :
يتمظهر المجتمع المدني في علاقاته الخارجية بوصفه أمة أو قومية، هذا أولاً . ثانياً : ينظم ذاته في الداخل- داخل حدوده القومية- بوصفه دولة. وهذا التنظيم هو تمظهر لشكل تعاون هذا المجتمع، و شكل تقسيم العمل داخله .
"إن عبارة المجتمع المدني Burgerliche Gesellchaft قد برزت في القرن الثامن عشر حين كانت علاقات الملكية قد تخلصت من المجتمع الجماعي القديم والوسيط الإقطاعي، وإن المجتمع المدني بصفته هذه [متخلص من المجتمع الجماعي القديم ومن الملكية الإقطاعية] لا يتطور إلا مع البورجوازية ".
اقرأ : مجتمع مدني تخلص من المجتمع الجماعي القديم، أي من الملكية الجماعية للقبيلة، ومن الملكية الإقطاعية هو مجتمع بورجوازي. أو مجتمع مدني بات جاهزاً كي يعبر عن ذاته بالأفكار ، أي يدرك ذاته كمجتمع مدني. وهذا ما حصل في القرن الثامن عشر. لقد أضحت الملكية الخاصة في هذا المجتمع مجردة من كل علاقة عاطفية أو عائلية، أو مراتبية. كما تخلصت دولة هذا المجتمع ، أي الدولة البورجوازية من الامتياز الديني والعائلــــي، والطائفي- الحرفي، وأصبحت دولة مواطنين متساويين تجريدياً أمام القانون. وانقسمت حياة الأفراد بالفعل إلى حياة عامة في الدولة وحياة خاصة في المجتمع المدني. وباعتبار أن الدولة البورجوازية هي دولة "جميع " مواطنيها ، فقد غدت دولة مربية، تدخل غليها أفراد من الطبقات الأخرى وتخرج آخرين في حركة لا تنقطع. وهكذا نقلت الدولة البورجوازية جزءاً من المجتمع المدني إلى البنية الفوقية عبر أجهزتها الأيديولوجية (التربية والتعليم والإعلام) وعبر أجهزتها الاقتصادية كدولة رعاية اجتماعية. ولكن علينا ملاحظة أن المربي هو نفسه بحاجة إلى تربية. يكتب ماركس في المطارحة الثالثة بخصوص فيورباخ: "إن النظرية المادية التي تقر بأن الناس هم نتاج الظروف والتربية، وبالتالي أن الناس الذين تغيروا هم نتاج ظروف أخرى وتربية متغيرة ، هذه النظرية تنسى أن الناس هم الذين يغيرون الظروف وأن المربي نفسه بحاجة إلى تربية" [ص 38 مختارات ماركس- انجلز مجلد-1 دار التقدم ].
"إن التنظيم الاجتماعي المترتب بصورة مباشرة على الإنتاج والتجارة ، هذا التنظيم الذي يشكل في جميع العصور أساساً للدولة وبقية البنية الفوقية المثالية ، قد سمي على الدوام بالا سم ذاته" [ص 45 أيوب]
اقرأ : لقد شكلت مجمل علاقات الإنتاج من صناعة وحرف وتجارة وزراعة وعلاقات ملكية في جميع العصور أساس الدولة وبقية البنية الفوقية المثالية من دين وأخلاق وفلسفة الخ..
. يكتب ماركس : "ليس التاريخ سوى تعاقب أجيال مختلفة يستثمر كل جيل منها المواد و الرساميل والقوى الإنتاجية التي تنقلها إليه الأجيال السابقة ... تنقل إلى الجيل الأحدث هذه المواد و الرساميل والقوى الإنتاجية ، لكن في ظروف متحولة جذرياً وبالتالي مجبر هذا الجيل الأحدث على الانخراط في نشاط مختلف جذرياً " [ص 45-46 أيوب]. يواصل كل جيل من جهة واحدة نمط النشاط المنقول إليه، ولكن في ظروف متحولة جذرياً. ومن جهة أخرى يعدل الظروف القديمة بانخراطه في نشاط مختلف جذرياً .
هذه الفقرات من الصعوبة بحيث تتوجب صياغتها بعدة أشكال.
تدخل مواد البناء القديمة في بنية جديدة بوظيفة مختلفة كأن يدخل جلد بقرة في نسج يدوي لخيمة أو يدخل في صناعة حذاء عبر معمل للأحذية. إن نفس المادة المنقولة من الماضي في شرطين تاريخيين مختلفين تعني انخراط البشر في نشاطين مختلفين جذرياً . الجيل الجديد يعدل الظروف القديمة بانخراطه في نشاط مختلف جذرياً . أي أن الجيل الأحدث يواصل نمط النشاط المنقول إليه في ظروف متحولة . أيضاً يعدل الظروف بانخراطه في نشاط مختلف جذرياً . في الظروف المتحولة جذرياً لم يعد النشاط "المتواصل" "نفسه" بل يغدو نشاطاً مختلفاً جذرياً . هكذا بانخراطهم في هذا النشاط المختلف جذرياً يعدل الأفراد ويواصلون تعديل الظروف القديمة.
إذا جعل التاريخ الأحدث هدفاً للتاريخ السابق فإن الوقائع السابقة تتشوه، أي يظهر ما يمكن أن نسميه بـ "الغائية" في فهم التاريخ حيث يكون التاريخ الأحدث هدفاً للتاريخ الأسبق . ويصبح للتاريخ أهدافه الخصوصية، ويتحول إلى شخص. يكتب ماركس بهذا المعنى : "إن ما يقصد بعبارة "تقرير" ، و "هدف" ، و"فكرة" للتاريخ المنصرم لا يعدو كونه تجريداً للتاريخ السابق .. تجريداً للتأثير الفاعل الذي يمارسه التاريخ السابق على التاريخ الأحدث" [ص 46 أيوب] . ليس الماضي منفعلاً دوماً ، إذ يمكن للتاريخ السابق أن يكون ذا تأثيرات فاعلة . قد يظهر هذا التأثير الفاعل في فترات لاحقة أنه كان ذا غاية أو هدف خاص . أي يظهر وكأنه يفكر كالفرد الخاص، كالشخص. بهذا الشكل يكون لدينا ملايين التواريخ نظراً لوجود ملايين الغايات في رؤوس الأشخاص. الفكرة الصوفية تشخص المراحل التاريخية . ويكون الماضي أكثر فاعلية من الحاضر لا بل يكون مهيمناً على هذا الحاضر. أي تسيطر عقلية "النقل" بدلاً من "العقل" . ويكون هدف النقل ليس نقل قوى إنتاجية من الماضي والنشاط عبرها في ظروف متحولة جذرياً . ولكن يسخر هذا الشرط للحفاظ على أشكال من لتاريخ قديمة، أشكال تفكير وأشكال سلوك. وهذه الحركة رجعية كونها توجه الحركة نحو الخلف ، نحو الماضي بدلاً من دفعها إلى الأمام.
يورد ماركس الملاحظة التالية بخصوص التاريخ العالمي : "تقسيم العمل بين الأمم وتحول التاريخ أكثر فأكثر إلى تاريخ عالمي... هذا التحول للتاريخ إلى تاريخ عمومي ليس مجرد حقيقة مجردة [روح العالم مثلاً] أو أي شبح ميتا فيزيقي آخر . بل فعلاً مادياً بصورة خاصة يمكن التحقق منه بصورة تجريبية، فعلاً يقدم كل فرد الدليل عليه باعتبار أنه طاعم وشارب وكاس. مثال ، إن السكر والبن قد أثبتا.. أهميتهما بالنسبة إلى التاريخ العمومي في القرن التاسع عشر من جراء أن النقص في هاتين المادتين الناجم عن الحصار القاري الذي فرضه نابليون قد أدى إلى انتفاضة الألمان ضد نابليون ، وبذلك أصبح الأثاث المشخص لحرب التحرر المجيدة في عام 1813 " [ص 46 أيوب] . السكر والبن ليسا "روح العالم" ولا "وعيه الذاتي" .
"من الحقائق التجريبية في التاريخ حتى الوقت الراهن أن الأفراد المنفصلين قد استعبدوا بصورة متعاظمة، على امتداد نشاطهم إلى صعيد التاريخ العالمي، (استعبدوا ) إلى قوة غريبة عنهم .. وهي قوة تضخمت أكثر فأكثر، وتبين آخر الأمر أنها السوق العالمية "... هذه القوة تجريبياً وبصورة لا تقل عنها قوة سوف تلغى بفعل قلب الحالة الاجتماعية القائمة من قبل الثورة الشيوعية ... وإلغاء الملكية الخاصة التي تشكل معها كلاً واحداً . [أيوب ص 46]
السوق العالمية هذه القوة الغريبة عن الأفراد. السوق العالمي والثورة الشيوعية وإلغاء الملكية الخاصة كل لا يتجزأ . بقدر ما يكون استعباد الأفراد من قبل السوق العالمية عالمياً وشاملاً بمقدار ما يكون التحرر منه شاملاً أيضاً . يكتب ماركس: "القوى التي نشأت عن تأثير البشر ببعضهم بعضاً أرهبت البشر وتحكمت فيهم حتى الآن كما لو كانت قوى غريبة عنهم كلياً " [أيوب ص 47 ]. نلاحظ هنا اغتراب الأفراد عن القوى الناتجة عن تعاونهم. ومن هنا فـ "إن ثراء الفرد الفكري الحقيقي يتوقف كلياً على ثراء علاقاته الحقيقية " [أيوب ص 47 ].
[1] مادة الشرط ، " اشترط عليه: شرط " القاموس المحيط ص869
[2] داء الخنازير: هو التهاب العقد اللّمفية الرقبية السّلي.
[3] الدين الطبيعي والخوف من الطبيعة نتيجة الجهل بها . ما تزال الآلهة أشياء أو أجزاء أشياء أو حيوانات. ستمر مرحلة طويلة حتى يتأنسن الإله ويشخص بالبشر. الإله هنا (في الدين الطبيعي) رمز وليس شخصية.
[4] NB تعني NOTA BENE أي لاحظ جيداً ، باللاتينية.
[5] يتحول المعنى ، أي العلم التاريخي إلى أسماء، إلى أيديولوجيا، ونتحول من العلم إلى العاطفة، وقوة العادة. هكذا تتحول الحركات السياسية إلى فرق وطوائف مغلقة.
[6] " قيود وتحديدات تجريبية جداً يتحرك ضمنها نمط إنتاج الحياة وشكل التعامل المقترن به " ص41 أيوب
[7] شكلان للمصلحة عبر التاريخ البشري : مصلحة العائلة والقبيلة القائمة على روابط الدم والقرابة واللغة من جهة أولى ، ومصلحة الطبقة القائمة على التعاون والقوة الإنتاجية من الجهة الثانية. وهي مقدمات للمجتمع الشيوعي. [راجع هامش ص 45 أيوب]
[8] اقرأ باسم: أي بين بالمفاهيم المبينة معنى القول. القراءة والمفهوم.