أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - ياسين الحاج صالح - صـــراخ فـي لـيــل عــراقــي















المزيد.....

صـــراخ فـي لـيــل عــراقــي


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 761 - 2004 / 3 / 2 - 09:42
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    


صدر كتاب "صرخة من أجل العراق" عن "دار النهار" في بيروت في أواخر عام 2003، متضمنا 32 مقالا نُشرت في "ملحق النهار" قبيل غزو العراق،  ومثلها من الرسوم، ساهم فيه 23 كاتبا عراقيا ولبنانيا وسوريا، حاولوا إضاءة الجوانب المختلفة للحملة الأميركية ضد العراق ولطبيعة النظام العراقي وتحليل الرهانات المختلفة للعراقيين والأميركيين والعرب من وراء المشهد الحربي الذي كان ينبسط شيئا فشيئا. ركز بعض الكتّاب على الديكتاتور وآخرون على المحتل الأميركي، وتناول مساهمون عراقيون المنفى وأثره في وعي العراقيين وتشكيل خياراتهم. وحلل كتّاب تأثير وسائل الإعلام، وجزع غيرهم لضياع المفعول التحريري لسقوط الديكتاتور بإنجازه على يد المحتل الأميركي. وهاجم بعض المشاركين "مثقفين عربا ألّهوا صدام"، فيما كشف آخرون بعض شعرائه ومداحيه.
 
من بين المقاربات التي سيتوقف عندها هذا العرض، مدرك "الفرهود" المثير للتأمل الذي تناوله الكاتب العراقي المنفي في اسوج سلام عبود. ولعل هذه الكلمة تستحق أن تدخل في القاموس السياسي العربي كمفهوم اساسي لدراسة بنى الاجتماع والسلطة. فالفرهود هو حال النهب والعدوان التي ينغمس فيها أناس، البدو بخاصة، حين تنهار السلطة، أو أثناء ما كان يسمّى في سوريا بعد انهيار السلطنة العثمانية "فلتة حكم". والأرجح أن المفهوم يضمر تصورا للسلطة كشيء براني ومركب من خارج على المجتمع المحكوم وفقا لتحليل ميشيل سورا عن السلطة السورية في عهد الرئيس حافظ الأسد.
وقد يمكن القول إن الفرهود والسلطة البرانية ليسا متناقضين بل متكاملان: فالسلطة التي يتحيّن الناس فلتانها هي فرهود منظم، والفرهود هو شكل التحرر من هذه السلطة، أو هو اللاسلطة التي يتوق إليها من خبروا الوطأة الرهيبة للسلطة البرانية. لكنه بالطبع شكل منحط من التحرر يحاكي في مستواه شكل السلطة الفرهودية التي كانتها سلطة صدام وابنيه. الجديد في الوضع العراقي بالطبع هو تدخل سلطة برانية وخارجية قولا وفعلا: السلطة الأميركية. والأرجح ان الفرهود العراقي عام 2003 ليس بريئا من مداخلاتها.
يعثر القارئ في مقالة عبود "أقنعة الفرهود" على معلومات وعناصر مفيدة لتحليل الفرهود، وفي الخصوص نوع من ثقافة فرهودية في خدمة... السلطة الأميركية: الشاعر الذي يفتخر بأنه لم يرف له جفن حين رأى القتلى والجرحى من مواطنيه على شاشات التلفزيون بينما "ارتجف هلعا وأسى" حيال منظر القتلى والجرحى الأميركيين; مقالات عناوينها: "سلاما أيها الاستعمار، مرحبا أيتها الخيانة"، و"أهلا بالحرب والاحتلال"; قاص يؤكد أن الحرب ضد بلده "خيار وحيد وإنساني"; ومنظمات عراقية تعزي الأميركيين بقتلاهم الذين وقعوا أثناء احتلال العراق الذي أوقع أكثر من عشرة آلاف قتيل عراقي.       
لوعة عراقية
ليس لنا أن نتوقع وحدة فكرية أو سياسية أو معنوية تجمع مقالات "صرخة من أجل العراق". ففي ما عدا أنها في الأصل مقالات مجمعة، فإن كتّابها مختلفو المشارب والخلفيات والولاءات. ثم إنه، الكتاب، يكاد يغطي ثلاثة اشهر عاصفة يصعب على أي من المساهمين أن يُجمِع رأيه على موقف واحد أثنائها، دع عنك أن يجمع 23 كاتبا من ثلاثة بلدان متشابهة جدا ومتباعدة جدا في الوقت نفسه: لبنان والعراق وسوريا.
رغم اختلافها في أشياء كثيرة تتوحد نصوص الكتاب العراقيين في حرارة انفعالها ورطوبته إن جاز التعبير. بل قد نرصد في غير قليل منها "شيئا بعثيا"، رغم أن مرتكز إجماعها الوحيد هو العداء لنظام صدام حسين ولحزبه الكارثي. هذا الشيء البعثي هو اليقينية العالية الصوت والأحادية الصوت معا، وفي الوقت نفسه الممانعة للوضوح في الموقف والتحليل، يضاف إليهما تعصب لا يكاد يخفى. وإذا حاكينا لغة سلام عبود فإن لهذا الشيء صلة بـ"ثقافة العنف" التي لا تتعارض حسب تحليل الكاتب العراقي المنفي نفسه مع "ثقافة الخضوع".
هناك كذلك درجة أعلى من التورط الانفعالي في كتابات العراقيين يفسرها، بلا شك، جزعهم على بلدهم الذي لم تكن أقداره رحيمة في تاريخه الحديث، لكنها كانت فريدة في قسوتها خلال عقود حكم صدام حسين. يميز هذه النصوص أيضا مشاركة ناتئة لذات الكاتب في ما يكتب، وهو ما قد يرجع كذلك إلى أن جميع المساهمين في مقالات "الملحق" المنشورة في الكتاب هم من الكتاب المنفيين الذين تتدخل تجربة المنفى في تشكيل وعيهم وموقفهم من العالم; فكيف إذا تعلق الأمر ببلدهم وهو يمر ببرزخ لا يُعرف إلى أين يفضي!
ويلمس القارئ أيضا عاطفية رطبة، تكاد تكون سائلة في بعض النصوص. ولا شك  أن عوامل متعددة تتواطأ هنا: فالديكتاتورية كوصاية على الناس واستبداد بأمرهم وبث للخوف في نفوسهم تقطع مسار النضج النفسي عند ضحاياها وعند الموالين لها على حد سواء. ولتجربة المنفى، المديدة والمؤلمة، دور أكيد في إنتاج الهشاشة وتثبيتها. ولعل اللوعة العراقية "الأصيلة" التي تنعكس في الغناء الشعبي العراقي تساهم كذلك في هذا التلوين العاطفي المميز للثقافة والسياسة في العراق.
وربما لم تستطع مقالة تجسيم ما يفعله الطغيان بضحاياه من تثبُّت على الانتقام ورعاية للحقد وقطع لمسار النضج النفسي والانفعالي أكثر من مقالة منعم الفقير، "ماذا أفعل لو وقع في يدي سفاح بغداد؟". يجيب أحد المنفيين العراقيين في باريس على سؤال عنوان المقالة بالقول: "لن أتوانى عن فرمه وعمله كبابا". ثم لا يلبث أن يهتدي إلى عقاب آخر: "أضعه في قفص حديدي عاريا تحت، لا ليموت بسبب تقلب الأنواء، بل من احتقار ضحاياه ورجمه بالحجار، البيض، الطماطم والشتائم". ويقترح المنفي الثاني: "أغرس اصابعي في عينيه واقلعهما، ثم افرغ الويسكي في فمه".
بصرف النظر عما في اقتراح صب الويسكي من مخيلة مترفة وشاذة في آن واحد، فإننا نخطىء إذا تعجلنا باستنكار مواقف ضحيتي "سفاح بغداد" المذكورين. فما يفعله الطغيان بالناس هو أنه يجعلهم محض ضحايا، محض سجناء سابقين، محض أصحاب ثأر محروري القلوب. إن التعذيب أو الإذلال العنيفين اللذين تعرض لهما مئات الألوف من العراقيين (والسوريين والفلسطينيين واللبنانيين والمصريين...) تقيدهم إلى هذه الرضة، هذه التجربة الكاوية، التي يقضي الكثيرون عمرهم وهم يدورون حولها، لا يستطيعون نسيانها ولا مواجهتها والتحرر منها بطريقة غير فرهودية. فالفظيع في التعذيب أنه يربط مستقبل الضحية بحبل قصير إلى رضة الماضي العنيفة. إسرائيل تُحكم رضة الهولوكوست بمستقبل الفلسطينيين وعرب المشرق عموما، وتأسر "أنظمة الشرق الأوسط" الإسرائيلية شعوبها في دائرة الانتقام من هولوكوستات مقسطة. وفي الحالين تبقى المذبحة والحريق قدر هذه الأرض الملعونة والمقدسة.
في سجن آخر، وفي مسابقة أخرى عن نوع المصير المدّخر لطاغية آخر لو وقع في أيدي معذَّبيه، فاز الاقتراح الآتي: أضعه في حفرة ضيقة لا يرتفع من فوهتها غير رأسه، ثم أملأ الحفرة بالبراز حتى ذقنه. وبين الفينة والأخرى يتقدم منه جاريا رجل يحمل سيفا فيضطر إلى تغطيس رأسه في الخراء ... وهكذا دواليك.
الطغيان قبل كل شيء تلوث مدمر للمخيلة. وعبر الأمثلة المذكورة ينبغي أن يسجل للطغيان البعثي نجاحه في تحويل ما لا يحصى من الناس إلى حالات عيادية.
لا ريب في أن اللوعة العراقية، العنصر المأسوي في الشخصية العراقية، مصنوع من تجارب من هذا النوع.
"زنزانة نفسي"
من أكثر مواد الكتاب تأثيرا نص جميل بعنوان "المنام البغدادي"، كتبه إلياس خوري مخاطبا عبد الرحمن منيف. يقول رجب اسماعيل بطل رواية "شرق المتوسط" الذي "فاز" بالعمى بعد آخر تعذيب في آخر اعتقال له إنه "حمل زنزانته في عينيه"، ويضيف: "لم أعد اخاف شيئا، صرت زنزانة نفسي". يقول أيضا إنه يحمل زنزانته على ظهره: "انزلها حين أشعر بالخطر، وأدخل إليها وأقفل الباب، وعندها افتح عيني فأرى كل شيء".
إذا كان غريغوار كافكا قد تحول إلى صرصار ضخم بفعل الرأسمالية، فإن رجب منيف قد تحول إلى حلزون أعمى يحمل قوقعته على ظهره بفعل الديكتاتورية.
رجب الذي لا يرى إلا في محبس القوقعة/ الزنزانة يطلب من الشاهد الأخير على تحوله: "اذهب إلى صديقي عبد الرحمن، أنا اعرف أنه يعيش بين بيروت ودمشق، وقل له ان رجب يسلّم عليه، ويقول له إنه لا يحق لكم أن تغرقوا أنتم في العتمة، لأن الخوف يشلكم. قل له إن الديكتاتورية سلّمت بغداد للاحتلال، وأن عليكم أن تفتحوا عيونكم الآن، قبل ان يغرق ضوؤها الأسود في عتمة البياض".
عبد الرحمن مات، واستبطنته دمشق.
لكن وصية رجب بعدم الاستسلام للخوف الشامل هي باب نهاية الديكتاتوريات المفتوح دائماً.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سوريون ضد حالة الطوارئ!
- هل سيكون 2004 عام التحول في سورية؟ عرض تقرير -التحديات السيا ...
- سورية والتحديات الخارجية عرض لتقرير -مجموعة الأزمات الدولية-
- نقاش حول الدفاع الوطني
- بلاد الموت السيء
- نحو مؤتمر تأسيسي لحزب ديمقراطي يساري - مناقشة عامة لمشروع مو ...
- وقــائــع ثــلاثــة أشـــهـر زلـزلـت ســـوريــا
- من الحزب الشيوعي إلى اليسار الديمقراطي
- لم ننجح في حل المسألة السياسية، فنجحت المسألة السياسية في حل ...
- الآثار السياسية للعولمة واستراتيجية التعامل معها
- بداية العولمة ونهاية إيديولوجيتها1 من 2
- المثقف المستشار والرائي الأميركي
- تغيير الأنظمة وإعادة تشكيل المجال الشرق أوسطي
- المثقفون والأزمة العراقية ردود قلقة على واقع مأزوم
- فوق العالم وفوق التاريخ التحول الامبراطوري للولايات المتحدة
- الوطنية الاستبدادية والديمقراطية المطلقة
- نزع الديمقراطية من الملكية الأميركية
- الولايات المتحدة، العراقيون، والديمقراطية قضايا للنقاش
- جدول الحضور والغياب في الميدان السوري العام
- أفق مراجعة الإشكالية القومية


المزيد.....




- كيف يعصف الذكاء الاصطناعي بالمشهد الفني؟
- إسرائيل تشن غارات جديدة في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بع ...
- أضرار في حيفا عقب هجمات صاروخية لـ-حزب الله- والشرطة تحذر من ...
- حميميم: -التحالف الدولي- يواصل انتهاك المجال الجوي السوري وي ...
- شاهد عيان يروي بعضا من إجرام قوات كييف بحق المدنيين في سيليد ...
- اللحظات الأولى لاشتعال طائرة روسية من طراز -سوبرجيت 100- في ...
- القوى السياسية في قبرص تنظم مظاهرة ضد تحويل البلاد إلى قاعدة ...
- طهران: الغرب يدفع للعمل خارج أطر الوكالة
- الكرملين: ضربة أوريشنيك في الوقت المناسب
- الأوروغواي: المنتخبون يصوتون في الجولة الثانية لاختيار رئيسه ...


المزيد.....

- فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال ... / المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
- الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري ... / صالح ياسر
- نشرة اخبارية العدد 27 / الحزب الشيوعي العراقي
- مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح ... / أحمد سليمان
- السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية ... / أحمد سليمان
- صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل ... / أحمد سليمان
- الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م ... / امال الحسين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - ياسين الحاج صالح - صـــراخ فـي لـيــل عــراقــي