|
الشفافيَّة!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2467 - 2008 / 11 / 16 - 10:35
المحور:
المجتمع المدني
إنَّها شيء جديد لجهة اشتداد حاجة العالم والدول والمجتمعات إليه في كل أوجه الحياة.. في السياسة والاقتصاد والإعلام والاجتماع..
وفي العولمة، غدت "الشفافيَّة" مطلباً عاماً عالمياً، يُنْظَر إلى تلبيته على أنَّها شرط لحل كثير من المشكلات، ولتخطِّي كثير من الأزمات، ولإحراز مزيد من التطوُّر والتقدُّم في كل مناحي الحياة، ولشحن الديمقراطية، بأوجهها كافة، بمزيد من ماء الحياة.
واشتداد الحاجة إلى "الشفافيَّة" إنَّما يُظْهِر ويؤكِّد أنَّ العالم يعاني نقصاً في "الشفافيَّة"، وعجزاً مساوياً، بالتالي، عن حلِّ مشكلاته، وتخطِّي أزماته؛ ويُظْهِر ويؤكِّد، أيضاً، أنَّ كثيراً، وكثيراً جداً، من "المعلومات" المهمة والحيوية والضرورية ليست في متناوله، نظراً وسمعاً وعقلاً، وكأنَّ في حجب وإخفاء تلك المعلومات تكمن مصلحة للقوى النافذة المسيطرة في عوالم السياسة والمال والاقتصاد والأمن..
وينبغي لنا أن نفهم تلك الظاهرة، أي ظاهرة احتباس واحتجاز تلك المعلومات، على أنَّها دليل قوي على وجود مصالح شخصية وفئوية ضيقة لا يمكنها أن تتصالح مع "الشفافيَّة"، أي مع الإفراج عن تلك المعلومات، وجعلها في متناول الناس جميعاً.
وسائل النشر، وأدواته، هي الآن على درجة عالية من التطوُّر، فـ "المعلومة"، أكانت سمعية أم بصرية، كلمة أم صورة، تنتشر، بفضل تلك الوسائل والأدوات، بسرعة البرق، متخطِّية حدود الدول والقارات، لتصبح في ثوانٍ في متناول الملايين من الناس في أنحاء العالم كافة، مع ما يترتَّب على تفاعلها من نتائج وعواقب.
ولكن هذا يقترن، على ما نرى، بتشديد الحراسة على كثير من المعلومات المهمة والحيوية والضرورية لأسباب كثيرة، في مقدَّمها نزاع وتضاد المصالح، فـ "الشفافيَّة" هنا لا يمكنها أن تعود بالنفع على فئة من الناس من غير أن تضر، في الوقت نفسه، بفئة أخرى.
وذوو المصلحة في الاحتفاظ بتلك المعلومات في جوف "ثقب أسود" يستذرعون دائماً بـ "الأمن".. "أمن الدولة" و"الأمن القومي" و"الأمن التجاري والاقتصادي" و"الأمن المهني".. حتى بات "الأمن" وحشاً مفترساً، يحقُّ له أن يفترس كثيراً من "الحقوق".. الحقوق والحريات الديمقراطية للأفراد والجماعات، وحقوق الإنسان، والحقوق المدنية للمواطنين.
ولولا نزاع وتضاد المصالح بين المنتمين إلى تلك الفئة المُحْتَكِرة والمُحْتَجِزة لتلك المعلومات لما تسنَّى للصحافة ووسائل الإعلام الوصول إلى بعضٍ من تلك المعلومات، وإيصالها، من ثمَّ، إلى الناس.
وفي أنظمة الحكم الأوتوقراطية نرى اجتماعاً للمأساة والمهزلة، فالشعب أو المجتمع لا يملك شيئاً من تلك المعلومات، التي يكفي أن تغيب عن سمعه وبصره حتى يستبد بعقله العجز عن الفهم والتحليل والتفسير والتعليل.. وعن إنشاء وتطوير المواقف بالتالي؛ أمَّا المهزلة فنراها في برلمانيين ووزراء ومسؤولين حكوميين يشبهون "الزوج المخدوع" لجهة كونهم آخر من يعلم من أمور ينبغي لهم أن يكونوا على علم بها!
و"الطغمة الحاكمة" هي الآن، وفي وجه من أهم وجوهها، "طغمة معلوماتية"، لديها أخصائيون وخبراء وعلماء في إدارة المعلومات الثمينة، والتحكُّم فيها، فبعض تلك المعلومات يظل في بروج مشيدة لا تدركها أبداً "الشفافيَّة"، وبعضها يُنْشَر بعد تزوير وكأنه "النقد المزوَّر" يلقونه في سوق التداول كدليل على وجود "النقد الحقيقي" المختزن والمخبَّأ، وبعضها يحوِّلونه إلى "عملة إيديولوجية" عبر كتَّاب وصحافيين، فإذا كانت "المعلومة" تفيد أنَّ الاقتصاد يعاني أزمة حادة فإنَّ الصحافة تمتلئ ببيانات رسمية، وبآراء وتعليقات، وردية، وكأنَّ الأمور تسير على خير ما يرام. ونحن يكفي أن نقرأ ذلك حتى نستنتج أنَّ الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، فـ "السوق الحرَّة" هي توأم "السوق المعلوماتية اللا حرَّة".
ولقد علَّمتنا التجربة أنَّ هبوط منسوب "الشفافيَّة" وارتفاع منسوب "الفساد" يتَّحدان دائماً اتِّحاد "السبب" و"النتيجة"، فكلَّما هبط منسوب "الشفافيَّة" ارتفع منسوب "الفساد"؛ وكلَّما ارتفع منسوب "الفساد" هبط منسوب "الشفافيَّة".
حتى في نواحي حياتنا البعيدة كل البعد عن "الأمن" في معناه الضيِّق نعاين ونعاني عواقب تلك العلاقة بين "تضاؤل الشفافيَّة" و"تعاظُم الفساد".
أُنْظروا إلى "المعلومة" في إعلان تجاري يخصُّ سلعة ما، أو منتوجاً ما. إنَّكم لن تروا فيها، أي في تلك "المعلومة"، وبعد "الاستهلاك" ونتائجه، إلاَّ الكذب والخداع والغش والتدليس، وكأنَّ الخواص المضادة هي الخواص الحقيقية للسلعة أو المنتوج.
وتقف "الدولة" على الحياد وكأنَّها غير مُلْزَمة أنْ تُلْزِم "المُعْلِن التجاري" أن يكون صادقاً شفَّافاً في حديثه عن خواص السلعة التي يسعى في ترويجها عبر "الإعلان".
وفي مهن كمهنة الطب يحتاج المجتمع إلى الشفافيَّة في درجتها العليا؛ ولكننا لا نرى من تلك الشفافيَّة إلاَّ ما يشجِّع على مزيد من الفساد.
ولقد راعتني تلك "الورقة (القانونية)" التي يُكْرَه المريض على توقيعها قبل، ومن أجل، أن يوافق الطبيب على إجراء معالجة جراحية له.
إنَّها "ورقة" تُجرِّد المريض من كل حقٍّ له، وتجعل الطبيب بمنأى عن العقوبة القانونية ولو كان الخطأ الذي ارتكب من النوع الذي يمكن ويجب أن يعاقب عليه قانونياً.
وهذا التحصين القانوني يتعزَّز بانتشار ظاهرة "إساءة الاستعمال لعقيدة القضاء والقدر"، فإذا الطبيب نجح في معالجة المريض نَسَب النجاح إلى مهارته وكفاءته؛ أمَّا إذا فشل، أو تسبَّب بما يؤدِّي إلى إصابة المريض بمرض أعظم، أو إلى موته، فإنَّه ينسب هذا "الفشل"، الذي قد يعدل "جريمة"، إلى "القضاء والقدر"!
إنَّنا في أمسِّ الحاجة إلى أنْ نُلْبِس كل عمل أو نشاط عام، يؤثِّر تأثيراً قوياً في حياتنا، أفراداً وجماعات، ثوباً رقيقاً (شفَّافاً) يُسْتشفُّ ما وراءه، ويَظْهَر ما تحته، فإذا لم نجعل الباطن ظاهراً، من خلال تحرير المعلومات السمعية والبصرية من قيودها فإننا نجعل للفساد سلطاناً على كل أوجه حياتنا، ونمده بمزيد من أسباب الحياة والقوة والنماء.
إنَّ شيئاً يشبه "الأشعة السينية" يجب أن يخترق "الجسم الاجتماعي" بكل نواحيه حتى يصبح لدى المجتمع، بأفراده وجماعاته ومنظماته ومؤسساته، عيوناً تبصر، وآذاناً تسمع، فلا رقابة أجدى من رقابة المجتمع الحر المنظَّم، الذي أنهى الملكية الخاصة لـ "المعلومات"، محوِّلاً إيَّاها إلى ملكية عامة اشتراكية، فيستخدم "الشفافيَّة المعلوماتية" بما يخدم مصالحه العامة فحسب.
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فلسطينيو -توتسي- وفلسطينيو -هوتو-!
-
قصة الولايات المتحدة مع النفط المستورَد!
-
-الرئيس- الذي يصنعونه الآن من أوباما المنتخَب!
-
سرُّ أوباما!
-
فاز أوباما.. وظهر المهدي!
-
نظام الرواتب يحتاج إلى إصلاح!
-
بوش يتوعَّد العراق ب -القاعدة-!
-
النظرية الاقتصادية الإسلامية في حقيقتها الموضوعية!
-
حملة غربية للسطو على السيولة العربية!
-
-الاقتصاد السياسي الإسلامي-.. تجربة شخصية!
-
ما وراء أكمة البوكمال!
-
عندما نعى بولسون -الإمبراطورية الخضراء-!
-
-الرأسمالية المُطْلَقة-.. بعد الموت وقبل الدفن!
-
-الاقتصاد الافتراضي- Virtual Economy
-
العرب.. -يوم أسود- بلا -قرش أبيض-!
-
قاطرة الاقتصاد العالمي تجرُّها الآن قاطرة التاريخ!
-
.. وإليكم الآن هذا الدليل -المُفْحِم- على عبقرية الدكتور زغل
...
-
رجل البورصة ماكين!
-
ماركس!
-
نهاية -نهاية التاريخ-!
المزيد.....
-
منظمة التعاون الإسلامي ترحب بإصدار المحكمة الجنائية الدولية
...
-
البنتاجون: نرفض مذكرتي المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتني
...
-
الأونروا: 91% من سكان غزة يواجهون احتماليات عالية من مستويات
...
-
الإطار التنسيقي العراقي يرحب بقرار الجنائية الدولية اعتقال ن
...
-
وزير الدفاع الإيطالي: سيتعين علينا اعتقال نتنياهو وغالانت لأ
...
-
قرار الجنائية الدولية.. كيف سيؤثر أمر الاعتقال على نتانياهو؟
...
-
أول تعليق للبنتاغون على أمر الجنائية الدولية باعتقال نتانياه
...
-
كولومبيا عن قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو وج
...
-
تتحجج بها إسرائيل للتهرب من أمر اعتقال نتنياهو.. من هي بيتي
...
-
وزير الدفاع الإيطالي يكشف موقف بلاده من أمر اعتقال نتنياهو
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|