في منتصف السبعينات وخلال ندوة في مقر ( اتحاد الأدباء ) حدث خلاف حول دلالات مصطلح ( national ) وهل يعني ( وطني ) أم ( قومي ) ؟! أي هل الدلالة تتعلق بالانتماء العرقي أم الوطني. أتذكر أن الخلاف تحول إلى لغط ولم يُحسم رغم أنه استمر لوقت ليس بالقصير !! والغريب أن هذا ( الالتباس ) كرره المرحوم هادي العلوي في أحد مقالاته في التسعينات، عن مفهوم الوطن والوطني !!
والواقع أن المصطلح بحد ذاته ليس ملتبساً، إنما الالتباس حاصل في طريقة فهمنا له، بسبب ضعف مفهومنا الحقوقي للدولة الناتج بدوره عن تخلف الثقافة الحقوقية للدولة ذاتها، تلك التي عشنا في ظلها أو تحت وطأتـها كرعايا وليس كمواطنين منذ 1921 !!
هل تمتع الإنسان العراقي بحقوقه المدنية والسياسية ذات يوم ؟! لا بالتأكيد !!
ولإيضاح طبيعة هذا الالتباس نعود إلى الخلفيات : إذا كان لمصطلح ( التخلف ) underdevelopment تعاريف عديدة، فإن ما يهمنا في الجوهر نحن العراقيين، هو الجانب الحقوقي المتعلق بطبيعة ثقافة الدولة وكيفية عملها وعلاقتها بالمواطن والمجتمع. الدول المتطورة في العالم المعاصر هي الدول الصناعية، ذات المراكز الاقتصادية والمالية التي تعمل ضمن النظام العالمي المعروف وخاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتطورها تاريخياً اقترن بتطور النظام الديمقراطي ودولة القانون، لذلك فالناس فيها لا يختلفون حول مفهوم الانتماء للوطن، فهم يمتلكون الحقوق المدنية والسياسية التي تجعلهم يشعرون كمواطنين بأن الدولة هي هويتهم الحضارية. والعدالة أو تكافؤ الفرص إن لم يصبح مطلقاً بعد، لكن لا توجد عندهم مفاجآت كالتي تحصل عندنا، كأن يصبح شرطي مثل وطبان الحسن وزيراً للداخلية أو أن رئيس ( الجمهورية ) يُخرج قلمه في ندوة أمام الجمهور ويقول: ( ما هو القانون ؟! هذا هو القانون – مشيراً إلى قلمه – نحن نكتبه ونحن نمحوه ) وقد كان بوسع صدام حسين أن يكون على صواب تام لو قال ( ما هو التخلف ؟! التخلف هو أن أكتب القانون، أنا المسؤول الأول في الدولة، وأمحوه كما أشاء ).
لقد بقي العراق متخلفاً رغم توفر غالبية عوامل التطور والتقدم الصناعي والحضاري فيه، لكن العائق الأساسي، الذي ألغى أهمية ودور جميع العوامل الأخرى كالثروة الطبيعية والكفاءات والأيدي العاملة والسوق، هو تخلف الثقافة الحقوقية للدولة : أي تخلف نظامها السياسي المتجسد في غياب الدستور الدائم الذي يكفل الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين، وغياب الديمقراطية التي تكفل سيادة القانون والتداول السلمي للسلطة.
هذا المعنى للتخلف هو الذي أربك مفهوم الانتماء عند العراقيين، وجعل التباين القومي والطائفي مصدراً لحساسيات معروفة، مكرساً نوعاً من الفوضى الواضحة في عموم المفاهيم السائدة حول طبيعة السلطة وعلاقتها بالدولة ودور الأطراف المعنية وعلاقتها السلبية أو الإيجابية بـها !!
هذا المعنى للتخلف هو المسؤول عن مشكلتين أساسيتين كنا وما نزال نعاني منهما.
الأولى : هي ارتدادنا إلى الوراء، أي استمرار إقامتنا في ثقافة ومفاهيم الماضي !! في نظرتنا لدور ( البطل ) أو ( المنقذ ) رغم أننا شهدنا العديدين منهم في العراق ودول عربية أخرى وكانت النتيجة مخيبة دائماً. والغريب أو ليس بالغريب أن ترتفع أصوات بعض العراقيين في هذه الفترة بالقول أن المشكلة الآن تكمن في غياب ( الشخصية ) التي تستطيع أن توحد العراقيين. طبعاً إذا توفرت مثل هذه الشخصية فأهلاً وسهلاً بـها، لكنها لن تتوفر بسبب طول فترة الانقسام والتمييز الاجتماعي والسياسي الذي كرسه النظام السابق، وأن توفرت فهي ستتحول إلى الديكتاتورية بالتدريج لأن المقومات التي أنتجت الديكتاتورية السابقة ما تزال قائمة. هذه الأصوات تريد أن تحل المشكلة من خلال تشبثها بالأسباب التي أنتجت المشكلة ذاتـها، وهذا التباس ثقافي خطير !! لكنها لا تشعر بذلك بسبب هيمنة ثقافة الماضي ومفاهيمه عليها. والجواب أو الرد على هذه الأصوات حسنة النية، هو : إننا نعيش في عصر دولة المؤسسات العلمانية الديمقراطية، وليس في عصر الإقطاع السياسي أو ملكيات الماضي. وفي الدولة المعاصرة وعالم السياسة عموماً لا تعود المرجعية للأشخاص بل للمبادئ والمفاهيم الحقوقية التي تُقام على أساسها دولة المؤسسات التي يحميها الدستور والنظام الديمقراطي على ضوء مصالح المجتمع ، ومن خلال هذا النوع من المؤسسات يتم إنتاج مئات الشخصيات والكوادر القيادية وفي مختلف المجالات. وهي التي ستقوم بتطوير عمل الدولة وثقافتها الحقوقية وسياستها الداخلية والخارجية بموازاة تطويرها لدور المجتمع المدني والقطاع الخاص. فالعدالة تعني ضمناً أن تتوفر الفرص لمزيد من المواطنين لتطوير أنفسهم وقدراتهم في الاختصاصات المختلفة، بحيث لا تعود الكفاءة والميزات القيادية حكراً على شخص معين أو عدد محدود من الأشخاص ينتمون لحزب معين أو منطقة دون سواها.
المشكلة الثانية : وهي نتيجة للأولى، وتكمن في نظرتنا نحن العراقيين للدولة، فقد علمتنا الأحزاب الثورية الانقلابية دون استثناء، على أن الدولة ( غنيمة ) وليست طرفاً حقوقياً محايداً. غنيمة بمعنى أن من استولى على الدولة صار من ( حقه ) أن يستولي على البلاد والعباد، والمغريات الكبيرة أعادت أهل الدولة والمستفيدين منها، إلى مرحلة غريزية عمياء لذلك أكلوا الأخضر واليابس، لأن السلطة المطلقة تغري أصحابـها بمزيد من الامتيازات وتصبح الشراهة لا حدود لها بحيث أصبحت الدولة ذاتها إحدى ضحايا نظام صدام حسين. وهذا ما يفسر همجية النظام التي وصلت إلى حد الإبادات الجماعية للعراقيين المعترضين على ظلم النظام وطغيانه، وليس بسبب نزعة العنف المتأصلة عندهم كما يعتقد البعض موغلاً بالتعسف والتخلف وسوء فهم التاريخ والحياة عموماً !! إلى درجة وصل معها الابتذال بالبعض إلى القول بأن العراقيين لا ينفع معهم إلا حكم الحديد والنار !!
تلك الشراهة وذلك الطمع الغريب هو الذي جعل المواطن العراقي ينظر إلى ما يدور حوله بعيون حائرة !! وإذا تساءل أحدهم : هل اختلف الأمر كثيراً الآن ؟! أقول أن هذه المرحلة انتقالية واستثنائية، وبحكم التوجه الديمقراطي العام وإصرار غالبية العراقيين على تحقيق العادلة، فإن المساوئ والسلبيات التي نشأت في ظل الفوضى القائمة لن تستمر طويلاً. وبالنسبة لي فأنا منحاز إلى المواطن العراقي المغلوب على أمره، أي للأكثرية الصامتة، وليس للجماعات السياسية الجديدة النافذة التي تقاسمت الامتيازات والنفوذ بتنافس محموم.
وإذا عدنا للبداية نذكر بعض التفاصيل ذات الصلة : طوال تاريخ محافظات الفرات الأوسط والجنوب لا يتم تعيين ( المتصرف سابقاً ) والمحافظ لاحقاً، من أهل المحافظة نفسها بل هو يأتي دائماً من أهل الدولة !! بالإضافة إلى مدير الشرطة ومدير الأمن .. الخ، والأسوأ من ذلك، عندما كنت في مدينة الديوانية حيث ولدت وعشت، كانت هناك مجموعة من البيوت الجيدة ( فيلات صغيرة ) تسمى دور الإدارة المحلية، وهي مخصصة عادة لبعض الموظفين من المهندسين والإداريين في المحافظة، ولكن لا يسكنها أحد من الموظفين من أهل المحافظة أنفسهم، بل سكانـها دائماً يأتون من المناطق الغربية أو شمال بغداد، أي من أهل الدولة وحاشيتها !! وفي الخارج أي بعد مغادرتي العراق في 1979 سألت العديد من الأصدقاء من محافظات الفرات الأوسط والجنوب فقالوا لي أن هذه الظاهرة موجودة في محافظاتـهم أيضاً !! وبالتأكيد فإن هذا النوع من التمييز والقسوة والاستئثار بأبسط الامتيازات وسرقتها ممن يستحقوها، يترك آثاراً وانطباعات سلبية لدى أكثرية المواطنين إزاء الدولة التي تبدو دنيئةً أكثر من المتوقع !!
ناهيك عن أن هذا النوع من الدناءة قد تطور لاحقاً على تاريخ مغادرتي وبشكل أبشع. أليست هذه هي ثقافة الماضي في أبشع صورها ؟! حيث تتحول الدولة إلى إقطاعية لفئة دون سواها !! إلا يُحدث كل هذا الشعور بالحيف نوعاً من الخلل في طبيعة انتماء المواطن لبلده ؟! وبالمناسبة إلا يفسر، ولا أقول يبرر، هذا الشعور بالحيف ذلك الانفلات الغريب الذي عاشته مدن العراق خلال الأسابيع الأولى لسقوط النظام ؟!
أن ذلك الاستئثار وتلك الدناءة هي نتاج انحطاط غريب من نوعه إذا نظرنا إليه على ضوء مفاهيم التطور والتحضر والعدالة السائدة في العالم المعاصر. والمشكلة أن الانحطاط السياسي والحقوقي في العراق تحول إلى ( ثقافة ) تعزل الإنسان عن المفاهيم السوية والشرعية حول العلاقة بالوطن ومعنى المواطنة.
إن العلاج يبدأ من إنقاذ العراقيين من آليات ومفاهيم ثقافة الانحطاط هذه وبطريقة عملية تذهب إلى تفاصيل الواقع مباشرةً. لذلك كثيراً ما كررتُ في مقالاتـي خلال العام الماضي، أهمية تبني نظام الحكم اللا مركزي في المحافظات، أي أن يتم انتخاب المحافظ وقائم المقام ومدير الناحية والمجالس البلدية من أبناء المحافظة أنفسهم، وأن يتمتع أبناء كل محافظة بامتيازات محافظتهم دون تمييز ، بالإضافة إلى امتيازاتـهم وواجباتهم كمواطنين عراقيين.
أن مفهوم الحكم اللا مركزي سائد في غالبية الدول المتحضرة أن لم يكن جميعها، وبالنسبة لنا في العراق فإن هذا المفهوم لا يتناقض مع مفهوم الفدرالية كما فهمه بعض المسؤولين الأكراد وأعلنوا رفضهم له وكأنه بديل عن الفدرالية !! اللا مركزية في إدارة المحافظات يمكن أن توجد في ظل دولة اتحادية أو دولة واحدة وهذا لا يناقض ذاك.
عندما يصر العراقيون على النظام الديمقراطي ودولة القانون كثمن لا بد منه لتضحياتـهم الجسيمة والتي لا يمكن أن تذهب هدراً، عند ذلك سيعاد تشكيل الثقافة العراقية من خلال إعادة تشكيل الهوية العراقية على أسس حقوقية وحضارية، وسيكون بوسع العراق أن ينتمي للدول المتطورة، وقتها لا يعود ثمة خلاف على معنى ( national ) عند العراقيين لأن الوطني والقومي لا يعودا في حالة تضاد ومواجهة، حيث مبررات التصعيد القومي أو الطائفي ستتلاشى باستمرار مع تلاشي سياسة التمييز والاضطهاد فتصبح الدولة ذاتـها هوية حضارية وحقوقية لجميع المواطنين وتصبح الحقوق والتمايزات الثقافية والإنسانية للقوميات العراقية تنوعاً يغني المجتمع والدولة، حيث وقتها يمكن الحديث عن ( أمة عراقية) كما هو حاصل في دول العالم المتحضر، كالأمة البريطانية التي تضم قوميات عديدة أصيلة ووافدة مثلاً لا حصراً. وهذا الطموح، لو أدركنا الحقيقة، أمر ممكن التحقيق إلا إذا سيطر علينا العمى السياسي المطبق لا سمح الله. ومعنى العمى السياسي هنا هو استمرار هيمنة الشعارات والمفاهيم الأيديولوجية المستهلكة والمضرة على أحزابنا العتيدة، دون أن تفتح عيونـها على مفاهيم ومبادىء الثقافة الحقوقية التي تبني الدولة والمجتمع المعاصرين.
على هذه الأحزاب أن لا تطرح على نفسها سؤال : كيف نستولي على السلطة ؟! السؤال الوطني والضروري هو : كيف نساهم في بناء دولة ومجتمع معاصرين ؟! وقبل ذلك عليها أن تعي ماذا يعني دولة معاصرة ومجتمع معاصر سياسياً وثقافياً وحقوقياً ؟!