- 1 -
يقفز الحديث حول نشر الدمقراطية في الشرق الاوسط وفي البلدان العربية تحديدًا الى موقع متقدم من الاهتمام سواء بالنسبة للدول المعنية او لشعوبها او للقوى الخارجية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية.
وتزايد الاهتمام في هذا الموضوع بعد تصريحات المسؤولين الامريكيين حول تصميمهم على نشر الدمقراطية في المنطقة. وجاء هذا الاهتمام في أعقاب الحرب الامريكية ضد الارهاب!!! ولكن وتيرته تزايدت واتخذت ابعادًا لافتة للنظر بعد احتلال العراق، خاصة وان نشر الدمقراطية اصبح جزءًا من المخطط الامريكي في بناء شرق اوسط جديد!!! وتكوين سوق شرق اوسطية!!!
واذا كان المسؤولون الامريكيون يعبرون عن نيتهم في نشر دمقراطيتهم في منطقتنا بوسائل مختلفة، فانهم في الآونة الاخيرة اصبحوا اكثر تحديدًا واشد وضوحًا، حيث اخذوا يطرحون خططهم بصراحة ووضوح. وكان من أبرز ضغوطهم في الآونة الاخيرة ما يتعلق بضرورة اعادة النظر في المناهج التعليمية في البلدان العربية لتنقيتها، كما يعتقدون، من ثقافة العنف وقد استجاب عدد من الدول العربية لهذا المطلب وبادرت بجدية واضحة في عمليات واجراءات اعادة النظر هذه!! وفي الايام الاخيرة الماضية نشرت بعض الصحف نص المشروع الامريكي لـ"الشرق الاوسط الكبير". وينطلق هذا المشروع من ان الشرق الاوسط عند مفترق طرق وان البديل للوضع القائم هو الاصلاح الشامل الذي استجاب له عدد من الدول. ويقول المشروع الامريكي ان مجموعة الثماني تؤيد هذا الخيار من خلال الشراكة الاوروبية المتوسطية ومبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الاوسط، علمًا انها لم تطلع عليه بعد.
ويحمل المشروع الامريكي في جوهره توجهًا لتغيير شامل في منطقة الشرق الاوسط من حيث الادارة والسياسة. وقد أعدت واشنطن ورقة عمل لهذا الغرض ستقوم بعرضها على مجموعة الثمانية في وقت قريب. وتنص الورقة بأن هدف المشروع هو الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة الامنية ومصالح حلفائها.
تقول الدوائر الامريكية المعنية ان تصوراتها للتغييرات المطلوبة في منطقة الشرق الاوسط مستنبطة من تقريري عامي 2002 و2003 لبرنامج التنمية التابع للامم المتحدة حول العالم العربي. وتحدد في تصوراتها للتغيير ثلاث اولويات تبدو حسب زعمها مشتركة للجميع وهي: 1 - تشجيع الدمقراطية والحكم الصالح. 2 - بناء مجتمع معرفي. 3 - توسيع الفرص الاقتصادية. واذا كانت الاولويات هذه تستهدف إشاعة الليبرالية السياسية وتوسيع فرص التعليم ومحاربة الامية، فانها تستهدف سرعة ادماج المنطقة في الاقتصاد العالمي عن طريق اشاعة اقتصاد السوق وتقليص او حتى انهاء دور الدولة في الحياة الاقتصادية.
- 2 -
الخطة الامريكية التي يجري الافصاح عنها الآن من اجل التغيير في الشرق الاوسط كانت وما زالت احد اهم الاهداف المرتبطة باحتلال العراق. إذ اشارت في حينه العديد من الصحف ووسائل الاعلام العالمية ان احتلال العراق يستهدف ايجاد شرق اوسط جديد واجراء تبدلات جيوبوليتيكية في المنطقة تستجيب للمصالح الامريكية، وللتحالف الاستراتيجي الامريكي - الاسرائيلي.
ويؤكد نشر المشروع الامريكي، ان الولايات المتحدة اصبحت تدرك انها في وضع يسمح لها بوضع افكارها ومشاريعها قيد التنفيذ، وانها تتمتع بسلطة ومقدرة تمكنها من فرض ما تشاء على المنطقة من جهة وضمان موافقة الدول الكبرى الرئيسية من جهة ثانية.وبينما تبدي بعض البلدان العربية المعنية حماسًا واضحًا للمخططات الامريكية، فإنه يجدر بنا التوقف عند بعض الامور المتعلقة بكل ذلك.
من المعروف ان الشعوب العربية كانت وما زالت تناضل من اجل اشاعة الحريات العامة ونشر الدمقراطية في مختلف البلدان. وقد دفع العديد من القوى والحركات السياسية ثمنًا باهظًا في هذا النضال متعدد الاشكال. ولكن غياب او تغييب الدمقراطية في غالبية البلدان العربية كان يستند دائمًا الى دعم واشنطن والدوائر الامبريالية المختلفة. ولقد لعب التحالف الامريكي الصهيوني دورًا كبيرًا في استنزاف خيرات المنطقة وايصالها الى الاوضاع التي ادت الى فرض الاحكام العرفية وقوانين الطوارئ في اكثر من بلد. هذا مع العلم ان المشروع الامريكي الحالي يستهدف فرض الاستسلام على العرب تحت يافطة بناء شرق اوسط جديد!!! وكانت سياسات واشنطن تحديدًا وراء العديد من الانتكاسات في الحياة السياسية في اكثر من بلد عربي، كما لعبت دورًا في زج البلدان العربية في حروب مدمرة حيث كانت تحديدًا وراء الحرب العراقية الايرانية، التي كانت فاتحة لسلسلة المآسي التي تعاني منها المنطقة حتى هذه اللحظة. لقد فرضت واشنطن على الدول العربية قوانين مقيدة للحريات العامة والتعدي على الدساتير فيها. ولم يتوقف الامر عند قوانين مقاومة الشيوعية بل تعداها الى محاربة مختلف القوى الدمقراطية والتقدمية والحركات القومية. ولم تصادر السياسة الامريكية - الاسرائيلية الحريات العامة في المنطقة فحسب، بل كانت القاعدة لنسف فرص التنمية والتقدم الاقتصادي، وهي التي حالت من خلال روابطها مع مختلف الحكام دون قيام تعاون او تكامل اقتصادي عربي. وكانت خطط ومشورات واشنطن والمؤسسات الدولية وراء الخراب والاستنزاف الاقتصادي الذي تعاني منه منطقتنا. واليوم، وعندما يستهدف مشروع الشرق الاوسط الكبير ادماج العالم العربي في ظل قوانين وشروط العولمة بالاقتصاد العالمي فانما يتم ذلك من اجل توسيع الاسواق لمصلحة الاحتكارات الامبريالية والشركات العملاقة دولية النشاط.
ولا شك ان واشطن اصبحت اكثر مقدرة على املاء توجهاتها ورغباتها على العالم، في ظل القطبية الاحادية، وفي ظل محاولاتها في عسكرة العولمة الرأسمالية المتوحشة. وفي ظل تنامي امكانياتها في استباحة القوانين الدولية وتخطي الامم المتحدة والرأي العام العالمي.
ويبدو جليًا، ان المشروع الامريكي يتعامل مع المنطقة من منطلق اعادة ترتيب الاوضاع فيها بما يتناسب مع مصالح واشنطن سياسيًا واقتصاديًا، ومن هنا فانه لا يأخذ بعين الاعتبار روابط واشنطن مع هذه الدولة او تلك، بل يأخذ بضرورة الوصول الى الاهداف من خلال تدرج متسلسل، يتساوى فيه الصديق مع غير الصديق. وهذا الامر يفسر الضغوط التي تمارسها واشنطن على بعض الدول العربية المعروفة بعلاقاتها الوطيدة معها. ولذلك قلنا وما زلنا نقول ان واشنطن تضع الغالبية الساحقة من الحكام العرب ان لم يكن جميعهم بين مطرقة الضغوط الامريكية وسندان الشعوب التي تطالب بإباحة الحريات العامة واشاعة الدمقراطية والقضاء على الاحكام العرفية وقوانين الطوارئ والاوضاع الاستثنائية.
وتحاول السياسة الامريكية البناء على حاجة الشعوب للحياة الدمقراطية ونضالها من اجلها توسيع حملاتها على هذا النظام او ذاك وتشديد الضغوط عليه. ولا يمكننا الا ان نرى ان السياسة الامريكية قد تلاقي بعض النجاح او تستفيد بقدر ملحوظ من التلاقي بين مكائدها وخططها من جهة ورغبات ومطالب الشعوب من جهة اخرى.
- 3 -
لا يمكن للشعوب ان تعادي الدمقراطية واطلاق الحريات العامة لأن امريكا تطالب بتطبيقها!!! ولا يمكن الوقوف ضد اعادة النظر بالمناهج التدريسية، لأن واشنطن هي المحرك لهذه الاعادة!!! فالشعوب ستبقى تناضل من اجل حياة افضل ومن اجل اوضاع سياسية وتعليمية افضل. واذا كانت واشنطن تريد استخدام التركة الثقيلة التي تعاني منها الشعوب العربية، والتي ساهمت هي في تكوينها لمصلحتها، فإن ذلك يتطلب من الجميع موقفًا موضوعيًا صلبًا وواضحًا لمواجهة الخطر المحقق الذي تقودنا اليه المخططات الامريكية المكشوفة، والتي لم تعد تمرر بالخفاء او بالاساليب الملتوية.
التغيير الذي تنشده واشنطن من مخططاتها يشكل خطرًا على الانظمة وعلى الشعوب ويهدد بمزيد من التبعية وبتسييد اسرائيل في المنطقة وبضرب الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني عرض الحائط وادارة الظهر لكل القوانين والاعراف الدولية. وحتى الانظمة التي تعتقد انها قريبة من واشنطن، فانها مهددة بنفس المخاطر المعلنة بالنسبة لغيرها.
كيف يمكن مواجهة كل ذلك؟ ومن اين يجب ان تكون البداية؟ ان المدخل الاساسي للتصدي لهذا المخطط الرهيب، يكمن في موقف سياسي محدد وواضح المعالم. وجوهر هذا الموقف العمل بكل وضوح وبسرعة على اطلاق الحريات العامة في جميع البلدان العربية واحترام مبدأ التعددية الفكرية والسياسية وإباحة حرية التعبير والتنظيم واتخاذ الخطوات الضرورية من اجل سيادة القانون. ان هذه الخطوة تتطلب اجراءات هامة ومعلنة من اجل المصالحة السياسية في جميع البلدان العربية، مصالحة بين الحكام والمحكومين، مصالحة تستند على اسس محددة وتأخذ الظروف الخاصة بكل بلد بنظر الاعتبار. فالمطلوب ان تبدأ هذه العملية الكبيرة والواسعة تخطوات واضحة ومحددة، ولا بأس من ان يتم توافق وطني في بعض الحالات على التدرج في الخطوات، لكي لا تتحول العملية الى نقيض المقصود منها.
ويجب ان يتم استيعاب ان هذه الاجراءات تفترض بالضرورة وجود معارضة وطنية فعالة، لها الحق في ابداء رأيها ووضع برنامجها الذي يعبر عن موقفها إزاء مجمل الامور الوطنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإزاء الوضع القومي والعلاقات مع العالم الخارجي. لقد اعتادت الانظمة العربية على معاداة المعارضة واتخاذ اجراءات قاسية بحقها. وكان جزء من هذه السياسات لارضاء الدوائر الامبريالية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، التي تطالب اليوم بإشاعة الدمقراطية ويجب الاخذ بعين الاعتبار ان المعارضة الوطنية جزء هام واساسي للنسيج السياسي الوطني.
من ناحية اخرى يجب المبادرة الى اعادة النظر في اساليب التدريس ومضامين المناهج، ولكن من منطلق وطني وبهدف مواكبة التطورات العالمية المتلاحقة. ان مجتمع المعرفة يجب ان يستند الى مناهج تعليمية تقدمية وانسانية الى خطط من شأنها تعزيز القدرات البشرية الوطنية.
ان إطلاق الحريات العامة، ووضع اسس الحياة الدمقراطية بما في ذلك الحياة النيابية الصحيحة البعيدة عن التزوير والسير على طريق مأسسة المجتمع، هي السبيل لفسح المجال لابداء الرأي في طريق التطور الاقتصادي - الاجتماعي المناسب لنا، وليس القبول بالاملاءات التي قادت غالبية دول العالم الى الاوضاع المأساوية التي ترزح في ظلها.
اننا نعتقد ان القيام بخطوات جدية على صعيد الحريات العامة، من شأنه ان يساهم في تكوين جبهة عربية شعبية قادرة ان تقف بقوة امام خطط التهميش والتبعية، ومن اجل صيانة استقلال وتقدم البلدان العربية، وبما يفسح المجال لتقديم كل الدعم المطلق للتصدي للاحتلالات التي تلقي بثقلها علينا، اي مساعدة الشعب العراقي من اجل سرعة التخلص من الاحتلال وطرده واستعادة سيادته واستقلاله وكنس الاحتلال الصهيوني من الاراضي الفلسطينية ومن اجل اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس العربية والتمسك بحق العودة للشعب العربي الفلسطيني.
* الامين العام للحزب الشيوعي الاردني.