نلخص، هنا مع التحقيق، الصفحات التسعين الأولى من "الأيديولوجية الألمانية" لـ ماركس وانجلز، والتي تمثل خلاصة السجال النظري المعروض في المجلدين الأول والثاني من الكتاب ( "الإيديولوجية") . كما تمثل عرضاًً إيجابيا للفهم المادي للتاريخ. مع مقارنة ترجمة د.فؤاد أيوب (دار دمشق1976) مع ترجمة الياس شـــاهين (دار التقدم1988) . مع ضبط بعض العبارات على أساس النسخة الإنكليزية الصادرة عن دار التقدم 1964. وقد اعتمدت الخط الغامق لملاحظاتي، بينما بقي الخط العادي للاقتباسات من نص ماركس وانجلز أو غيره من النصوص . أما المراجع فقد ثبتت في نهاية التحقيق .
في سياق الحديث عن انحلال الهيغلية ، وتحت عنوان "فيورباخ (تعارض النظرتين المادية والمثالية)" ، يكتب ماركس : "من المؤكد أننا نعالج هنا حدثاً مدعاة للاهتمام ألا وهو عملية تفسخ الفكر المطلق(تفسخ الهيغلية) ". بدأ هذا التفسخ مع شتراوس. أما أهمية فيورباخ فتبدو عبر تأكيده على التعارض بين النظرتين المادية والمثالية. نقرأ في الهامش: "إننا نقرن هذه الملحوظات بـ فيورباخ على وجه الدقة لأنه الوحيد الذي حقق على الأقل بعض التقدم والذي تُمكن دراسة مؤلفاته بنية طيبة". تقدم على مستويين : نقد مثالية هيغل من جهة أولى ، ونقد الدين من الجهة الأخرى. يتابع ماركس في الهامش: "إننا نعرف علماً واحداً فقط ألا وهو علم التاريخ ... فتاريخ الطبيعة وتاريخ البشر يشرطان بعضهما البعض ما وجد البشر . وإن تاريخ الطبيعة المسمى العلوم الطبيعية لا يعنينا هنا [في هذا المكان الذي هو الإيديولوجية الألمانية. وهذا لا يعني عدم انشغال الماركسية بتاريخ الطبيعة أي علوم الطبيعة وتطوراته بالرغم من انتقال الهيمنة في الصراع الإيديولوجي من حقل العلوم الطبيعية إلى حقل الفلسفة و الاقتصاد السياسي خاصة.] لكنه لا بد لنا أن ندرس تاريخ البشر ما دامت الإيديولوجية بكاملها على وجه التقريب ترتد إما إلى تفسير خاطئ للتاريخ، وإما إلى تعليقه كلياً . فليست الإيديولوجية إلا مظهراً من مظاهر هذا التاريخ."
التاريخ هو مجموع الشروط المعطاة لمرحلة محددة والتي تشكل حداً لإرادة الأفراد بما فيها أشكال الوعي والعقائد السائدة . عند قراءة هذه الشروط المعطاة قراءة نقدية يتحول الحد أو العقبة إلى واسطة أو وسيلة للتحرر تنير الممارسة السياسية المنظمة للطبقات المتظلمة والبروليتاريا خاصة (مشروع البروليتاريا التحرري المستقبلي) وتنال الطبقة في هذه الحالة اسم الطبقة الحائزة على وعيها السياسي المستقل ، والمتجاوزة للوعي النقابي العاجل(المطالب العاجلة). وكون الإيديولوجيا مظهراً لهذه الشروط المعطاة ، لا يعني إهمالها أو عدم دراستها ودراسة تاريخها ، كما لا يعني في ذات الوقت عدم فاعليتها وتأثيرها على الشروط المعطاة سواء أكان تكريساً أم تغييراً. من هنا نشير إلى أهمية دراسة تاريخ الإيديولوجيات والأفكار والعقائد والأديان والأساطير الخ..، وإلى الأهمية الحاسمة لنقد الإيديولوجيا السائدة في سبيل بناء وعي حقيقي بالشروط القائمة (المعطاة) لتحويل العقبة إلى وسيلة تحرر. وسوف يكون هذا النقد مدخلاً لكل نقد آخر بما فيه نقد السياسة(الدولة) و"المجتمع المدني"(الاجتماعي- الاقتصادي) .
يتابع ماركس : "إن جماع النقد الفلسفي الألماني من شتراوس إلى شترنر مقتصر على نقد التصورات الدينية. ولقد انطلق النقاد من الدين الحقيقي واللاهوت بالمعنى الحقيقي للكلمة." ص23
السؤال المطروح: "...ما يعنيه الوعي الديني والتصور الديني حقاً وفعلاً؟" ص 23. "كان التقدم [عند جماع النقد الفلسفي الألماني] يستقيم في تصنيف التصورات الميتافيزيقية والسياسية والحقوقية والأخلاقية وغيرها من التصورات ، التي تزعم السيادة لها، في صنف التصورات الدينية أو اللاهوتية وكذلك في المناداة بأن الوعي السياسي والحقوقي والأخلاقي –"الإنسان" في آخر تحليل – هو إنسان ديني. كانت هيمنة الدين أمراً مفرغا منه" ص23. في العصور الوسطى كان الدين شكل كل حياة ، إنه الليل الذي يطمس تمايز الموجودات . بكلام آخر كان الوعاء الوجودي الذي يغلف كل شيء (السياسة والمجتمع المدني) ، الحقوق والفلسفة والأخلاق. في العصر البورجوازي ، واعتباراً من القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر بدأت تتبلور مسألة انقسام البنية (التشكيلة البورجوازية ) إلى مستوياتها الثلاث : الاقتصادي والسياسي والإيديولوجي. وفي هذا الوقت كان لابد من رصد ما هو لاهوتي وديني في حقل الفلسفة والأخلاق والسياسة. "إن كل علاقة سائدة قد نودي بها علاقة دينية وحولت إلى عبادة ، عبادة القانون ، عبادة الدولة ...هكذا كرّس العالم حتى منحه القديس ماكس [في الصفحة23] صفة القداسة كتلة واحدة (en bloc) وبذلك يتخلص منه دفعة واحدة." ص23. إن تحويل الأشياء إلى مقدس يعني امتلاكها كتلة واحدة ، وبالتالي التخلص منها كتلة واحدة . بمعنى آخر : إن تحويل الأشياء إلى موضوع عاطفي يعني إما قبولها جملة أو التخلص منها جملة ، الكتلة الجماهيرية ترد عادة رداً عاطفياً إجمالياً بحركة عفوية غير نقدية . الرد العاطفي يعني غياب الفهم أو النقد.
يقول ماركس: "لقد كان ينظر دائماً إلى الدين على أنه العدو الأكبر ، على أنه السبب الأخير لجميع العلاقات التي تثير نفور هؤلاء الفلاسفة وكان يعامل على هذا الأساس ." ص23 . بكلام آخر: كان الدين يعامل من قبل "جماع النقد الفلسفي الألماني " على أنه السبب الأخير للتاريخ ، مع أنه ليس سوى مظهر واحد من مظاهر هذا التاريخ كالإيديولوجية . لكن يجب أن يكون مشمولاً في مفهومه ؛ مفهوم الشروط المعطاة المحددة . أليست الأفكار والعقائد قوة مادية إذا ما تشربتها الجماهير! أي يجب الاهتمام بالدين على أساس أنه لحظة ظاهر وأنه متضمن في مفهوم الكلية الاجتماعية الاقتصادية والسياسية. ماركس يركز هنا على المسألة بالنسبة لهذا "الجماع .." في كل حدب وصوب مسألة العقائد والإيمان بالعقائد.
"إن الهيغليين الشباب لـ متفقون مع الهيغليين الشيوخ في الإيمان، في العالم القائم بسيطرة الدين ، والمفاهيم، والمبدأ العمومي. سوى أن الفريق الواحد يهاجم هذه السيادة على أنها اغتصاب، بينما يمجدها الفريق الآخر على أنها سيادة شرعية."ص24
يقول ماركس : "ما دام الهيغليون الشباب يعتبرون المفاهيم والأفكار والصور، أي جميع منتجات الوعي ،- الوعي الذي ينسبون إليه وجوداً مستقلاً- على أنـها (هذه المنتجات) أغلال البشر الفعلية تماماً كما نادى الهيغليون الشيوخ بها على أنها الروابط الحقيقية للمجتمع الإنساني ، فإنه من البديهي أنه يترتب على الهيغليين الشباب أن يناضلوا فقط ضد هذه الأوهام الخاصة بالوعي. "ص24 بكلام آخر، ما دام الهيغليون الشباب ينسبون للوعي وجوداً مستقلاً فإنهم يحصرون النضال ضد أوهام الوعي فقط!. وحسب وجهة النظر هذه ، يتخلص البشر من قيودهم بمجرد مقايضة وعيهم بآخر مقترح!. ومع هذا يجب أن نلاحظ أن النضال ضد أوهام الوعي هو المدخل الضروري لكل نضال آخر. يعقب ماركس: "إن هؤلاء "الشبان" قد فرضوا على البشر بصورة منطقية المصادرة الأخلاقية الداعية إلى مقايضة(البشر) وعيهم الحالي بوعي إنساني، نقدي أو أناني[ماركس يتهكم] والتخلص بذلك من قيودهم ... إن هذا المطلب بتغير الوعي يرتد إلى المطالبة بتفسير الواقع بطريقة أخرى، يعني القبول به بواسطة تأويل مختلف."ص24 إن القبول بالواقع بمجرد تأويله بشكل مختلف يعني تكريسه. وهكذا يحارب الهيغليون الشباب ومن كان في مصيرهم "عبارات طنّانة" بـ "عبارات طنّانة"، حسب قول ماركس. "إنهم ينسون على أي حال أنهم لا يعارضون هم أنفسهم هذه العبارات الطنّانة إلا بعبارات طنّانة أخرى، وأنهم لا يكافحون العالم الفعلي القائم في حال من الأحوال حين لا يفعلون سوى مكافحة العبارات الطنّانة لهذا العالم." ص24 مع التأكيد مرة أخرى على ضرورة هذه المكافحة، باعتبارها المقدمة الضرورية لمكافحة الواقع القائم. يقول ماركس:"إن النتائج الوحيدة التي كان في مقدور هذا النقد الفلسفي أن يحققها قد كانت إيضاحات قليلة ، ضيقة جداً، للمسيحية من وجهة نظر التاريخ الديني... لم يخطر في بال أي من هؤلاء الفلاسفة أن يتساءل عن الرابطة التي تجمع بين نقدهم وبيئتهم المادية الخاصة. "ص24 يطرح ماركس هنا بشكل عام العلاقة التي تربط شكل وعي بالشروط التاريخية والاجتماعية المعطاة . أي يمكن لنا تفسير شكل وعي بالشروط التاريخية المعطاة ، بالمقابل من الخطر محاولة استنتاج شكل وعي من واقع محدد بشكل ميكانيكي ومباشر . علينا أولاً قراءة أشكال الوعي لواقع بعينه من ثم قراءة الشروط المعطاة تاريخياً . الطريق المعاكس يؤدي إلى الحتمية الميكانيكية في دراسة علاقات أشكال الفكر بالواقع المعطى.
يقول ماركس:"المقدمات التي ننطلق منها ... هم الأفراد الواقعيون(هذه مقدمة مؤقتة ووجودية سوف يعيد ماركس إنتاجها لاحقاً من جديد عندما ينتهي من بحثه بحيث يصبح الآخر أولاً)، نشاطهم وشروط وجودهم المادية، الشروط التي نشأت عن نشاطهم الخاص." ص24 نميز في هذه العبارة بين الشروط المسبقة الصنع من جهة وبين الشروط التي يصنعها البشر بنشاطهم الخاص بالاعتماد على الشروط المعطاة أو المسبقة الصنع. إذاً نشاط الأفراد الذي يخلق شروط جديدة على أرضية شروط مسبقة أو معطاة. "من الطبيعي أن الشرط الأول لكل تاريخ بشري هو وجود كائنات بشرية حية ... أول عمل تاريخي لهؤلاء الأفراد العمل الذي يتميزون به من الحيوانات، ليس هو أنهم يفكرون، بل أنهم يأخذون في إنتاج وسائط وجودهم (هامش الصفحة 24) ... أول حقيقة يجب تقريرها هي إذن جبلة هؤلاء الأفراد البدنية والعلاقات التي تخلقها لهم هذه الجبلة ص25 " علينا أولاً أن نلاحظ شكل التنظيم البيولوجي للأفراد وما يخلقه من علاقات مع بقية الطبيعة. وهذا يقتضي دراسة تشريح جسم الإنسان وفزيولوجيا هذا الجسم ، وهي من اختصاص علمي التشريح والفزيولوجيا. الشروط الطبيعية التي صادفها البشر جاهزة تماماً ، الشروط الجيولوجية ، الأوروغرافية(علم لجبال وهو فرع من فروع الجغرافية الطبيعية) ، الهيدروغرافية (علم وصف المياه، بحار ، بحيرات الخ..) ، والمناخية وغيرها . هذه مهمة علوم طبيعية كالجيولوجيا الخ.."إن من واجب كل تاريخ أن ينطلق من هذه الأسس الطبيعية وما يطرأ عليها من تعديل من جراء فعل البشر في سياق التاريخ."ص25. نلاحظ إذاً الجبلة البدنية للأفراد، والشروط الطبيعية التي صادفها البشر جاهزة تماماً، والتي باشروا في تعديلها أو إعادة إنتاجها معدلة ومحولة.بكلام آخر : المقدمات الطبيعية للتاريخ البشري ، التوسط الأولي لشكل التنظيم الجسدي في إنتاج وسائط الوجود (اشتراط بيولوجي أولي). عناصر الفقرة:
1-طريقة إنتاج وسائط الوجود 2-وسائط الوجود المعطاة سلفاً(من قبل) 3-تجديد إنتاج وسائط الوجود وإنتاج وسائط جديدة. في عملية إعادة الإنتاج هناك إعادة إنتاج وسائط وجود بيولوجية (الأجساد البشرية) من جهة، وإعادة إنتاج وسائط الوجود المادية من الجهة الأخرى. 4-تجديد الإنتاج هو أسلوب في الحياة . ماهية البشر تتطابق مع إنتاجهم ؛ مع ما ينتجون من جهة ، والطريقة التي ينتجون بها من الجهة الأخرى. يقول ماركس:"يمكن تمييز البشر من الحيوانات بالوعي، والدين...وكل ما يحلو لنا . وإنهم لـ يبدؤون هم أنفسهم بتمييز أنفسهم من الحيوانات حالما يباشرون إنتاج وسائط وجودهم، وهي خطوة إلى الأمام مشروطة بتنظيمهم الجسدي. فحين ينتج البشر وسائط وجودهم ينتجون بصورة غير مباشرة حياتهم المادية بالذات... إن الطريقة التي ينتج البشر وسائط وجودهم بها تتوقف قبل كل شيء على طبيعة وسائط الوجود المعطاة من قبل والتي يجب عليهم تجديد إنتاجها. ولا يجب اعتبار هذا النمط في الإنتاج من وجهة النظر هذه وحدها، ألا وهي أنه تجديد لإنتاج وجود الأفراد الجسدي. إنه يمثل على العكس من ذلك نمطاً محدداً لفعالية هؤلاء الأفراد، طريقة محددة للتعبير عن حياتهم، أسلوباً في الحياة محدداً، وكما يعبر الأفراد عن حياتهم كذلك يكونون بالضبط، بحيث تتطابق ماهيتهم مع إنتاجهم، سواء مع ما ينتجونه أم مع الطريقة التي ينتجون بها. فماهية الأفراد تتوقف إذاً على شروط إنتاجهم المادية ."ص25 في الحياة تتطابق ماهية الأفراد مع إنتاجهم:1- مع ما ينتجون 2- مع الطريقة التي ينتجون بها. ظهور الإنتاج وزيادة هذا الإنتاج يفترض من جانبه تعامــلاً (verker) . شكل هذا التعامل مشروط بنمط الإنتاج (في أساس هذا النمط شكل مسيطر للملكية الخاصة، ودرجة معينة من تطور القوى المنتجة).
مع ازدياد عدد السكان لا يعود الالتقاط والقطف كاف لإعادة الإنتاج البيولوجي للأفراد القطا فين. يشكل الجسد في تنظيمه البشري قوة إنتاج جديدة كتنظيم جديد بحيث يؤدي تراكم هذه القوة وتزايدها(ازدياد عدد السكان) إلى ظهور نمط أولي للإنتاج.
يقول ماركس:"إن علاقات الأمم المختلفة فيما بينها تتوقف على مرحلة التطور التي بلغتها كل منها فيما يتعلق بالقوى المنتجة وتقسيم العمل والعلاقات الداخلية... نحن نعرف بأوضح طريقة درجة التطور التي بلغتها القوى المنتجة لأمة ما من درجة التطور التي بلغها تقسيم العمل. " ص25 . تقسيم العمل علامة واضحة لتقدير درجة تطور القوى المنتجة، وشكل علاقات الأمم فيما بنها، وكما الضمة علامة الرفع كذلك تقسيم العمل بالنسبة لتطور القوى المنتجة. "إن كل قوة إنتاجية جديدة بقدر ما لا تكون مجرد امتداد كمي للقوى الإنتاجية المعروفة من قبل (استصلاح الأراضي مثلاً) يترتب عليها إحكام جديد لتقسيم العمل "ص25 . كل قوة إنتاجية جديدة تؤدي بالضرورة إلى تدابير جديدة لتقسيم العمل وإتقان جديد لهذا التقسيم: ...انفصال العمل الصناعي والتجاري من جهة واحدة، والعمل الزراعي من جهة ثانية [ينتج من جراء ذلك] انفصال المدينة والريف وتعارض مصالحهما... يؤدي تطوره اللاحق إلى انفصال العمل التجاري والعمل الصناعي." ص26 "إننا لنشاهد في الوقت نفسه، من جراء تقسيم العمل داخل الفروع المختلفة تقسيمات فرعية مختلفة تتطور بدورها بين الأفراد الذين يتعاونون في أعمال محددة. إن موقع هذه الفرعية الخاصة بالنسبة إلى بعضها بعضاً مشروط بنمط استثمار العمل[شكل الملكية الخاصة] الزراعي والصناعي والتجـــــاري (النظام البطريركي، والعبودية، والمراتب والطبقات).وتظهر العلاقات نفسها حين تكون المبادلات أكثر نمواً في علاقات الأمم المختلفة " لاحظ كيف يشرط شكل استثمار العمل (شكل الملكية الخاصة) تقسيم العمل الدولي، بكلام آخر لا يمكن أن تكون هذه العلاقات إنسانية النزعة طالما تشرطها الملكية الخاصة الرأسمالية(ملكية رأس المال المالي). "إن المراحل المختلفة لتطور تقسيم العمل تمثل بالضبط أشكالاً مختلفة للملكية الخاصة"ص26 بالتالي لا يمكن أن نتوقع تقسيم عمل دولي تنجزه الإمبريالية المعولمة منافي لشكل الملكية الخاصة المسيطر. وهذا مضاد لفكرة صادق العظم المبسوط في مقالته "ما هي العولمة؟".
يقول ماركس:"حين تكون المبادلات أكثر نمواً يبرز شــكل الاســـتثمار (شكل الملكية الخاصة) وتقسيم العمل الدولي الذي تشرطه بالنسبة للبلدان المختلفة"ص26 عند درجة محددة من نمو قوى الإنتاج ونمو المبادلات يبرز شكل استثمار العمل ليشرط شكل التبادل وتقسيم العمل الدولي والتبادل في الداخل. إن تقسيم العظم لـ نمط الإنتاج الرأسمالي إلى دائرتين: دائرة إنتاج من جهة، ودائرة تبادل من جهة أخرى ، وبشكل ميكانيكي، جعله عاجزاً عن رؤية هذا الاشراط من قبل شكل استثمار العمل لكل من التبادل والتوزيع ، ولتقسيم العمل الدولي معاً. يؤدي تطور القوى المنتجة وضغطها إلى تمهيد الأرض لتحطيم شكل ملكية مهيمن والتأسيس لسيادة شكل آخر. وهذا ما يظهر عبر نضال الأفراد المتحدين ضد شكل الملكية السائد. وهنا نلاحظ جدل القوى المنتجة ذات التطور الخطي المتواصل مع شكل الملكية الخاصة السائد ذو التواجد الأفقي المحافظ والذي يحاول تأبيد نفسه وأسْطرتها لأن زمنه دائري يخترقه زمن متقدم خطي؛ زمن قوى الإنتاج المثابر أو المتراجع . لا يمكن رصد التقدم الإنساني إلا على أساس هذه الحركة المتناقضة للتاريخ البشري. إن الإرجاع إلى تطور القوى المنتجة الذي يظهر هنا (في الإيديولوجية الألمانية) هو أولي وأساسي (مادي) بعد ذلك يمكن الحديث عن جدل أو صراع القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج(وهذه العلاقات هي علاقات اجتماعية-شكل الملكية الخاصة المسيطر- من جهة وعلاقات اقتصادية –علاقات التبادل والتداول أو علاقات السوق– من الجهة الأخرى). كل ما سبق رد على الرأي المتفائل بـ "العولمة" الإمبريالية ، الرأي الذي يشير بالنصيحة للدول المتخلفة كي تحسن شرطها الفني(التأهيل) كي تتلقى الاستثمارات الأجنبية، التي بدورها سوف تعمل على تحسين موقع هذه الدول في التقسيم الدولي الإمبريالي للعمل القائم حالياً. نلاحظ على امتداد القرن العشرين أن البلدان التي حسنت موقعها في التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل قد فعلت ذلك على أثر ثورات اجتماعية، مثل ذلك روسيا والصين أو أنها استفادت من نتائج الحروب العالمية خاصة الحرب الثانية ، ومثالها الولايات المتحدة الأميركية. أو بلدان انتعشت على هامش الصراع في الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. مثال ذلك كل من ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية.
"أول شكل للملكية هو ملكية القبيلة Stammeigentum . إن (Stamm) تستخدم للدلالة على جماعة من الناس تنحدر من جد مشترك وتشتمل على المفهومين الحديثين "الجانس" و"الترايب أو القبيلة " ”gens and tribe”"[راجع الإيديولوجية الألمانية – الطبعة الإنكليزية ص670-671، وأيضاً ص33 من نفس المرجع. وقد وردت الكلمة في ترجمة د.فؤاد أيوب مع خطأ في الطباعة فكتبت على شكل Stomm ص669-670].
يكون تقسيم العمل في هذه المرحلة بدائياً جداً بعد، ويقتصر على اتساع أعظم للتقسيم الطبيعي، كما هو قائم في الأسرة. وتقتصر البنية الاجتماعية من جراء ذلك على اتساع الأسرة أو امتدادها (extension of the family):
"لا تتطور العبودية الكامنة في الأسرة إلا قليلاً مع نمو السكان والحاجات وكذلك مع امتداد العلاقات الخارجية، للحرب والمقايضة على السواء"ص26 ترجمة أيوب. بكلام آخر : مع نمو السكان تتطور العبودية الكامنة في الأسرة نتيجة الامتداد في العلاقات الخارجية، أي التوسع والامتداد في الحرب والامتداد في المقايضة. يجب أن نشير إلى الامتداد السّلمي للأسرة في الأقاليم العربية بفعل الغزو الاستعماري الأوربي، وتحول العائلة الإقطاعية إلى بورجوازية(من العائلة إلى المجتمع المدني).
الشكل الثاني للملكية هو المشاعة القديمة وملكية الدولة State.(يجب الانتباه إلى الحرف الكبير في بداية الكلمة لأنه يشير إلى استخدام خاص لمعنى الدولة) الذي ينشأ من اتحاد عدة قبائل في مدينة city واحدة بفعل الاتفاق أو الغزو. وهو ما يزال مصاحباً للعبودية بعد. يجب أن تلاحظ أيها القارئ أن سيتي كتبت بحروف مائلة لتشير إلى المدن القديمة والتي تختلف عن المدن الحديثة التي ازدهرت مع الصناعة الكبيرة الحديثة. والمدينة هذه تسمى قرية مع غياب الدولة. لاحظ يثرب وتحولها إلى مدينة النبي محمد على أثر ظهور دولة الإسلام. "ويرد مفرد "المدينة" مراراً أربعاً في القرآن والمعني به مصر دار ملك فرعون . ويرد مرات أربع والمعني به يثرب . ووجه الشبه بين مصر ويثرب أن السلطان ذا الشرعة بهما ، وأنهما رأس المنطقة المحيطة بهما... ونحن لا نعرف بالضبط متى غير النبي اسم يثرب إلى المدينة ، ولكن يبدو أن ذلك قد حدث في السنة الثالثة للهجرة (625م) بعد موقعة بدر . أما في القرآن فيبدو مفرد المدينة علماً على يثرب للمرة الأولى في السنة الخامسة للهجرة. .. والواضح أن المقصود بالاسم تمييزها عن بقية المستقرات(القرى) ، وهي لا تتميز باستقرار الناس فيها [فحسب] ، بل بتحولها إلى عاصمة دار الإسلام ذات الشرعة والسلطان. وهنا يبدو معنى الجماعة والأمة الجامعة فيها."[رضوان السيد "مفاهيم الجماعات في الإسلام" دار التنوير ط1 1984 ص41-42 ] وهنا يهيمن استعمال الجذر (دان) للمدينة، من دان يدين على الجذر مدن بالمكان إذا أقام به. هذا الرأي الذي يركز على الهيمنة لا الإلغاء للجذر الآخر، يعارض رأي رضوان السيد الذي يشير إلى إلغاء استعمال الجذر الواحد استعمال الآخر. "تنمو إلى جانب الملكية المشاعة الملكية الخاصة المنقولة، وغير المنقولة في وقت لاحق، لكنها تنمو على اعتبارها شكلاً لا طبيعياً وخاضعاً للملكية المشاعة".[شكل ملكية خاصة خاضع]. "لا يمارس المواطنون إلا بصورة جماعية سلطانهم على العبيد الذين يشتغلون، الأمر الذي يربطهم إذاً إلى شكل الملكية المشاعة".ص26. إن هذا الشكل هو الملكية الخاصة الجماعية للمواطنين النشطين الملتزمين تجاه عبيدهم بالمحافظة على هذا الشكل الطبيعي للرابطة.لذا فإن كل البنية الاجتماعية القائمة على هذه الملكية المشاعة، ومعها قوة الشعب تتفكك بالضبط بقدر ما تنمو ، بالخاصة الملكية الخاصة غير المنقولة.ص26. إذاً مع نمو الملكية الخاصة غير المنقولة تتفكك البنية الاجتماعية القائمة على الملكية المشاعة. مع نمو الملكية الخاصة على أرضية الملكية المشاعة وتفكك البنية القائمة على الأخيرة نستطيع القول:"إن تقسيم العمل قد أصبح أكثر تطوراً". ص26 . إذاً مع نمو الملكية الخاصة غير المنقولة في أحضان الملكية المشاعة وتفكك البنية الاجتماعية القائمة على هذه الأخيرة يتطور تقسيم العمل. ونستطيع القول هنا أن "العلاقات الطبقية بين المواطنين والعبيد قد بلغت تطورها الكامل". ص27.
"يبدو أن واقع الغزو يتناقض مع مجمل هذا التصور للتاريخ، فحتى الآن جعل العنف والحرب والسلب واللصوصية الخ... القوة المحركة للتاريخ. ص27 . سنقتصر على النقاط الرئيسية، حيث نأخذ مثالاً بارزاً: "دمار حضارة قديمة على يد شعب همجي وما يترتب على ذلك من تشكل بنية اجتماعية تنطلق مجدداً من نقطة الصفر".ص27 (روما والبرابرة، الإقطاعية والمغول، الإمبراطورية البيزنطية والأتراك). "لا تبرح الحرب نفسها عند الشعب الهمجي الفاتح .. أسلوباً طبيعياً في العلاقات يمارس بمزيد من اللهفة بقدر ما تخلق زيادة السكان، بطريقة أشدّ إلزاماً، الحاجة إلى وسائط جديدة للإنتاج، مع وجود نمط الإنتاج التقليدي البدائي الذي هو النمط الوحيد الممكن بالنسبة لهذا الشعب".ص27 . بكلام آخر: مع زيادة السكان ووجود نمط إنتاج تقليدي بدائي تغدو الحرب أسلوباً طبيعياً في علاقات شعب من الشعوب.
يقول ماركس: "روما لم تتجاوز مرحلة المدينة. كانت مرتبطة بالأقاليم بروابط تكاد تكون سياسية محضة على وجه التقريب بحيث تستطيع الأحداث السياسية، طبعاً، أن تفصمها بدورها".ص27 .
"تظهر للمرة الأولى مع نمو الملكية الخاصة، علاقات سوف نصادفها من جديد في الملكية الخاصة الحديثة، لكن على نطاق أوسع". ص28 وهذا قد يولد وهم "الاستباق"، أي أسبقية الأفكار على الواقع. وهنا نريد أن نشير إلى وجود عناصر بورجوازية عند الرومان، عناصر فحسب. وليس نمطاً بورجوازياً للإنتاج. سنشير إلى تلك العناصر البورجوازية في العصر الروماني بـ "المقولة البسيطة"، أي عنصر في بنية قديمة مشابه لعنصر في بنية حديثة. سنشير للعنصر الجديد والذي نما وتفتح ضمن البنية الجديدة ، وأخذ امتداده "الكامل" بـ "المقولة العينية". مثال ذلك الملكية الخاصة المنقولة عند الرومان، والملكية الخاصة المنقولة البورجوازية الحديثة. يكتب ماركس:"من جهة تمركز الملكية الخاصة الذي بدأ في وقت مبكر جداً في روما ما يثبت ذلك قانون لسينيوس الزراعي. وتقدم سريعاً منذ أيام الحروب الأهلية، وعلى الأخص في ظل الإمبراطورية، ومن جهة ثانية ، في ترابط هذه الوقائع: (فقد) تحول الفلاحون العاميون الصغار إلى بروليتاريا [بسبب تمركز الملكية الخاصة للعقارات، وتقدم هذا التمركز بسبب الحروب الأهلية في ظل حكم الإمبراطور ]". فقد تدهور الفلاحون وملكيتهم وتحولوا إلى بروليتاريا مشلولة الحركة. "كان وضعها(البروليتاريا الرومانية) المتوسط بين المواطنين المالكين والعبيد يمنعها على أي حال من تحقيق تطور مستقل". ص 28 .
الشكل الثالث من أشكال الملكية تاريخياً هو الملكية الإقطاعية أو ملكية المراتب:
(estate-property) ص28
"انطلق العصر الوسيط من الريف country" [لاحظ تغير نقطة الانطلاق لهذا الشكل من الملكية]. يقول ماركس: "إن السكان الذين كانوا قلائل في ذلك الحين، وكانوا مبعثرين على رقعة فسيحة من الأرض، ولم يزد الغزاة عددهم كثيراً قد سببوا هذا التغير لنقطة الانطلاق" ص28
إن التطور الإقطاعي، بصورة مخالفة لليونــان وروما (اللتين انطلقتا من المدينـة (البلدة town) وأرضها الصغيرة) ينتشر في البدء على أرض أوسع كثيراً هُيئت بفعل الفتوحات الرومانية وما استتبعته من اتساع للزراعة في الأصل. إن القرون الأخيرة للإمبراطورية الرومانية المنحطة وفتحها من قبل البرابرة قد محقت كتلة من القوى المنتجة؛ لقد تدهورت الزراعة، وانحطت الصناعة من جراء نقص أسواق التصريف، واضمحلت التجارة أو علقت بفعل العنف، ونقص عدد السكان الريفيين والحضريين على حد سواء. انطلاقاً من هذه الشروط، ومن أسلوب تنظيم الفتح المحدد بها(بهذه الشروط)، تطورت الملكية الإقطاعية تحت تأثير التنظيم العسكري الجرماني" ص28. "إن هذه الملكية كالملكية القبلية والملكية المشاعة ترتكز بدورها على جماعة، ليس العبيد هم الذين يشكلون حيالها الطبقة المنتجة بصورة مباشرة كما هي الحال في النظام القديم، بل الفلاحون الصغار المسترقون". ص28 . "إن البنية التراتبيِّة للملكية العقارية والسيادة العسكرية التي تواكبها قد أعطت سلطة النبالة على الرقيق ". ص28.
[لاحظ جيداً : البنية الإقطاعية للملكية العقارية، أو الشكل الإقطاعي لهذه الملكية العقارية. هناك بنى غير إقطاعية للملكية العقارية، مثالها الملكية العقارية الحديثة(البورجوازية)]. يجب أن نلاحظ أيضاً أن هذه البنية التراتبية معززة بسيادة عسكرية. يقابل هذه البنية الإقطاعية للملكية العقارية الملكية النقابية في المدن التي هي تنظيم إقطاعي للحرف.[راجع ص 28 من ترجمة د.أيوب]. نلاحظ هنا الشكل الإقطاعي للملكية النقابية في المدن، أو شكل تنظيم الإقطاع للحرف في المدنtowns. الملكية النقابية كانت تقوم هنا بصورة رئيسية في عمل كل فرد. "إن ضرورة الاتحاد ضد النبالة النهابة المتحدة، والحاجة إلى أسواق محمية مشتركة، في وقت كان الصناعي تاجراً أيضاً، والمنافسة المتعاظمة لـلأقنان الذين كانوا يهربون بأعداد كبيرة نحو المدن المزدهرة، والبنية الإقطاعية للبلاد بمجملها، قد ولدت جميعها النقابات الحرفية guilds (نقابات للتجار والصناع في العصور الوسطى). [لاحظ أيها القارئ أن الصناعي كان تاجراً].(راجع ص28-29 من ترجمة د. أيوب).
"إن الرساميل الصغيرة التي اقتصدها شيئاً فشيئاً الحرفيون المنعزلون، وعدد هؤلاء الحرفيين الثابت بين سكان يتزايدون دون انقطاع، قد طورت شرط العامل المياوم والمتمدن، هذا الشرط الذي أدى في المدن إلى قيام تراتب شبيه بالتراتب القائم في الريف".ص29 . "الملكية الرئيسية كانت تقوم إذاً أثناء المرحلة الإقطاعية في الملكية العقارية المكبل إليها عمل الأقنان من جهة واحدة، وفي العمل الشخصي بواسطة رأسمال صغير يتحكم في شغل العمال المياومين من جهة ثانية ".ص29 . "كانت بنية كل من هذين الشكلين محددة بشروط الإنتاج المحدودة- الزراعة البدائية الضيقة والصناعة الحرفية".[وردت عبارة "علاقات الإنتاج" بدلاً من "شروط الإنتاج" في ترجمة د.أيوب ص29 وفي ترجمة دار التقدم ص.112 وبعد المقارنة مع طبعة دار التقدم بالإنكليزية عام1964 تم تبديل العبارة إلى "شروط الإنتاج" ].
"لقد كان تقسيم العمل ضئيلاً في أوج الإقطاعية، وكان كل بلد يحمل في ذاته المعارضة بين الريف والمدينة ... لم يكن ثمة تقسيم هام للعمل"[الملكية الإقطاعية والضآلة في تقسيم العمل إذا غضضنا الطرف عن التقسيم إلى مراتب والذي كان بارزاً بشدة]. ص29 . "لقد ازدادت مصاعب تقسيم العمل هذا في الزراعة من جراء الاستثمار المجزأ الذي كانت الصناعة المنزلية للفلاحين أنفسهم تنمو إلى جانبه".ص29... في الصناعة، لم يكن العمل مقسماً على الإطلاق داخل كل حرفة، وكان تقسيمه محدداً جداً بين الحرف المختلفة." ص29. "كان التقسيم بين الصناعة والتجارة قائماً من قبل في مدن قديمة، لكنه لم يتطور في المدن الجديدة إلا في وقت لاحق حين دخلت المدن في علاقات متبادلة ".ص29. يقول ماركس: "هذه هي الحقائق إذاً : أن أفراداً معينين أصحاب نشاط إنتاجي وفق نمط معين يدخلون في علاقات اجتماعية وسياسية معينة. ويجب في كل حالة على انفراد أن تبين الأمثلة التجريبية بشكل تجريبي، وبدون أي تخمين أو تضليل، ارتباط البنية الاجتماعية و السياسية مع الإنتاج".
"إن البنية الاجتماعية والدولة تنشأان باستمرار من التطور الحيوي لأفراد معينين، لكن ... لا كما يمكن أن يظهروا في تصورهم الخاص أو تصور الغير، بل كما هم في الواقع، يعني كما يعملون وينتجون مادياً، وبالتالي كما يفعلون على أسس وفي شروط وحدود معينة ومستقلة عن إرادتهم".ص29-30. إن إنتاج الأفكار والتصورات والوعي مختلط بادئ الأمر بصورة مباشرة ووثيقة بالنشاط المادي والتعامل المادي بين البشر، فهو لغة الحياة الواقعية. إن التصورات والفكر والتعامل الذهني بين البشر، تبدوا هنا أيضاً على اعتبارها إصداراً مباشراً لسلوكهم المادي. ص30. نسجل هنا بعض الملاحظات: البشر هم منتجو أفكارهم وتصوراتهم. وثانياً، أنه في بادئ الأمر يلاحظ عدم استقلالية المستوى الإيديولوجي عن المستويين الاقتصادي والاجتماعي. NB . وثالثاً، أن وجود البشر هو تطور حياتهم الواقعية.
يقول ماركس: "البشر الواقعيون الفاعلون(كما هم) مشروطون بتطور معين لقواهم الإنتاجية والعلاقات التي تقابلها، بما في ذلك الأشكال الأوسع التي يمكن لهذه العلاقات أن تتخذها. فالوعي لا يمكن قط أن يكون شيئاً آخر سوى الوجود الواعي".ص30. نسجل هنا الملاحظات التالية: أن البشر مشروطون بتطور معين لقواهم الإنتاجية والعلاقات التي تقابلها بما في ذلك الأشكال الأوسع التي يمكن لهذه العلاقات أن تتخذها. وهذا يدعونا لمناقشـة قول يورغن هابرماس في كتابه : "التقنية والعلم كإيديولوجيا". يقول هابرماس: "يبين التحليل الدقيق للجزء الأول من الإيديولوجية الألمانية ..أن ماركس لا يشرح في الواقع علاقة التفاعل والعمل، بل يرجع أحدهما إلى الآخر، إذ يعزو الفعل التواصلي إلى الفعل الأداتيّ، وذلك تحت العنوان غير النوعي للممارسة الاجتماعية ...هذا الفعل الأداتيّ يغدوا نموذجاً أو مثالاً لخلق كافة المقولات؛ فكل شيء يتفكك إلى الحركة الذاتية للإنتاج. .. ولهذا السبب أمكن للفهم العبقري للعلاقة الجدلية بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج أن يتعرض لإساءة التفسير لجهة إعطائه صفة ميكانيكية آلية بعيدة عن حقيقته."ص74 . في مناقشة هذا النص الخطير الشأن أقول: بالنظر إلى الفقرة السابقة الذكر المقتبسة من ماركس يظهر اشتراط البشر بأمرين: تطور معين لقواهم الإنتاجية، والثاني هو العلاقات التي تقابل هذا التطور، وقد أكدت في الفقرة المذكورة على العلاقات المقابلة للتطور في القوى الإنتاجية حيث كتبت بخط عريض ومائل للتأكيد. فماركس يلفت الانتباه إلى أنه، في لحظة أولى، يوجد تناغم إذا جاز القول بين درجة معينة لتطور القوى الإنتاجية من جهة وبين شكل معين للعلاقات الاجتماعية (بلغة هابرماس: علاقات الإنتاج= الفعل التواصلي أو التفاعل). والمقولتين (الأمرين ) معاً يشرطان وجود البشر . لكن وفي لحظة ثانية يتدهور هذا التناغم ليتحول إلى تعارض فصراع بين الفعل الأداتيّ التواصلي(التطور المطرد لقوى الإنتاج) من جهة، وبين التفاعل أو علاقات الإنتاج(شكل الملكية الخاصة المسيطر وعلاقات التبادل والتوزيع المرافقة لها) من الجهة الأخرى. يكتب ماركس:"إن شكل التعامل (علاقات الإنتاج أو شكل الملكية الخاصة) المعين بالقوى الإنتاجية (تناغم أو صراع) الموجودة في جميع المراحل التاريخية السابقة والمعين بدوره لهذه المراحل (لا حظ أيها القارئ كيف يحدد شكل التعامل أو علاقات الإنتاج بدوره المراحل التاريخية) هو المجتمع المدني ... وأنه لمن الواضح سلفاً، أن هذا المجتمع المدني يشكل البؤرة الحقيقية، المسرح الحقيقي للتاريخ كله."[ماركس:"الإيديولوجية الألمانية ص45".ترجمة د.أيوب] . هذا من جهة، ومن جهة أخرى يشير هابرماس إلى سوء تفسير اكتشاف ماركس بخصوص العلاقة الجدلية (تناغم أو صراع ) بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج (علاقات الملكية الخاصة وعلاقات التبادل والتوزيع). أريد التأكيد بهذه المناسبة على أهمية هذا الاشراط المزدوج للبشر ، وعلى أهمية الصراع الحالي بين التطور الرفيع للقوى المنتجة من جهة وبين علاقات الإنتاج الرأسمالية أو علاقات الملكية الخاصة الرأسمالية، وعلاقات التبادل والتوزيع الرأسمالي وما تجره من مآسي على غالبية البشر عبر عسكرة الاقتصاد وعبر الحروب غير العادلة التي تشنها الولايات المتحدة باسم العدالة وعبر الفقر والحرمان لغالبية سكان الأرض. فالعقلانية التقنية تقابلها لا عقلانية على المستوى الاجتماعي والإيديولوجي والسياسي، لقد تصدعت الوحدة التي كانت تجمع بين تقدم العقلانية وتقدم الصناعة (تصدّع العقلانية البورجوازية). فالإمبريالية المعولمة تريد قتل الأبرياء من أجل الاستحواذ على ثروة الأرض.
نسجل ملاحظة أخرى: ماركس يتحدث عن الوجود، وجود البشر الذي هو تطور حياتهم الواقعية، وعن الوجود الواعي أو وعي هذا الوجود، وهذا الوعي قد يكون وعياً حقيقياً أو وعياً زائفاً ووهماً. هذا الوعي الزائف لتطور حياة البشر أو التاريخ يدعوه ماركس بـ الإيديولوجيا. "إذا كان البشر وجميع علاقاتهم يبدون لنا، في الإيديولوجيا بكاملها، موضوعين رأسـاً على عقب، كما في غرفة مظلمة (Camera Obscura) فإن هذه الظاهرة تنجم عن تطور حياتهم التاريخية، تماماً كما أن انقلاب الأشياء على الشبكية ينجم عن عمليات تطور حياتهم الفيزيائية بصورة مباشرة".ص30 د.أيوب.
نسجل هنا الملاحظة : استقلال الإيديولوجية وإظهارها الواقع بشكل مقلوب ناتج تطور تاريخي كما شبكية العين إذا ما قورنت بالمرآة. يكتب ماركس: "إذا كان التعبير الواعي لشروط هؤلاء الأفراد الحياتية الفعلية تعبيراً وهمياً، إذا هم وضعوا في تصوراتهم الواقع رأساً على عقب ، فإن هذه الظاهرة هي أيضاً نتيجة لنمط نشاطهم المادي المحدود وللعلاقات الاجتماعية الضيقة الناجمة عنه".ص.30 . نلاحظ هنا النشاط الإنتاجي المحدود ، ضيق العلاقات الاجتماعية وعلاقة ذلك بتفريخ الأوهام الإيديولوجية. وأريد أن أركز الملاحظة على العلاقات الاجتماعية الضيقة التي تخلقها سيادة الملكية الخاصة الرأسمالية في زمن تقدم تقني رفيع، وما تجره هذه المفارقة التاريخية على مستوى العالم من انتعاش لكل أشكال الأوهام والضلالات والشعوذة . إذاً يظهر الضيق في العلاقات هنا من عدم تناسب العلاقات الإنسانية القائمة مع درجة التقدم التقني . وكما أن الفقر مشروط بالحدود الاجتماعية القائمة، كذلك الضيق في العلاقات الاجتماعية. نقرأ في كتاب "رأس المال الاحتكاري" لـ "بول سويزي وبول باران": "ينبع التعريف المنطقي للفقر على أنه الحالة التي يعيش فيها أعضاء مجتمع ما ممن لا تكفي دخولهم للوفاء بما يعتبر بالنسبة لذلك المجتمع وذلك الوقت الحد الأدنى للمعيشة" ص300. كذلك ضيق العلاقات الاجتماعية يجب أن تُقيّم وفقاً لهذا المجتمع، وهذا العصر الرأسماليين.
يضيف ماركس: "حتى الأشباح في العمل البشري هي تصعيد ناتج بالضرورة عن تطور حياتهم المادية التي يمكن التحقق منها تجريبياً والتي تعتمد على قواعد ماديـة" " ص30 . اللامادي يفترض وجود فكر خاص خارج فكر الأفراد الواقعيين، المشروطين مادياً. هذا يعني إمكانية وجود فكر خاص خارج "رأس " الأفراد الواقعيين، وهذا يعني أن هذا الفكر الخاص له وجود فعلي، أي وجود جزئي. ونحن نعرف أن اللاهوت يعتبر الأفكار ذات وجود كلي. وهذا يُحيلنا إلى "مُـثل" أفلاطون ووجودها الفعلي، وحجة أر سطو الدامغة ضدها، من حيث أن المفاهيم ذات وجود كلي، بالتالي وجودها في رأس الأفراد الأحياء.
المادية: لا فكر خارج رأس الأفراد الواقعيين المشروطين مادياً (بدرجة تطور قوى إنتاج، و بـ علاقات إنتاج اجتماعية- اقتصادية ). بكلام آخر: لا وعي خارج الوجود الواعي. إن الأخلاق والدين والميتافيزيقا والبقية الباقية من الإيديولوجيا هي مظاهر لتاريخ فعلي. وهذا لا يعفينا من دراسة التاريخ الخاص لكل منها، ودراسة تنوع أشكال ظهورها ووظائفها.
الإيديولوجيا "لا تملك تاريخاً.. فالبشر الذين يطورون إنتاجهم المادي وعلاقاتهم المادية هم الذين يحولون فكرهم ومنتجات فكرهم على السواء مع هذا الواقع الذي هو خاصتهم".ص31 .د.أيوب. إذاً: البشر يحولون فكرهم ومنتجات فكرهم كما يحولون الواقع الذي هو من صنعهم(خاصتهم). بكلام آخر، "اعتبار الوعي بوصفه وعيهم هم فقط"، بوصفه وجودهم الواعي. Das Bewußtsein can never be anything else than das bewußte Sein” [راجع ص37.من الطبعة الإنكليزية، وص115من طبعة دار التقدم. وص 30 من ترجمة د.أيوب. يعلق هذا الأخير في ترجمته في هامش الصفحة السالفة الذكر بالقول: "يحلل ماركس كلمة Bewußtsein(الوعي بالألمانية) إلى عنصريها Das Bewußte Sein ( الوجود الواعي). [ ß= ss]
هذه الطريقة في اعتبار الأشياء لها مقدمات : "البشر هم المقدمات. لا البشر المعزولون والجامدون بأي طريقة، بل البشر المأخوذون في عملية تطورهم الواقعية في شروط معينة. وهو تطور مرئي تجريبياً " ص 31. "وحالما تتمثل هذه العملية للفعالية الحيوية، يكف التاريخ عن كونه مجموعة من الحقائق التي لا حياة فيها كما هو الأمر عند التجريبيين الذين هم تجريديون بعد. أو النشاط الوهمي لذوات وهمية كما هو الأمر عند المثاليين". ص31 "فحيث ينقطع التخمين في الحياة الواقعية، يبدأ إذاً العلم الواقعي، الإيجابي، يبدأ تحليل النشاط العملي، تحليل عملية التطور العملي للبشر".
"إن الفلسفة لتكف مع دراسة الواقع، عن أن تكون لها بيئة توجد فيها بصورة مستقلة ذاتياً، ويمكننا أن نضع مكانها تركيب النتائج الأعم التي يمكن تجريدها من دراسة تطور البشر التاريخي، وليس لهذا التجريد قيمة إذا ما أخذ بحد ذاته منفصل عن التاريخ الفعلي". أشير هنا إلى القيمة التعليمية لهذا التجريد المأخوذ بحد ذاته وبشكل معزول. يكتب هيغل في كتابه "علم المنطق": "المنطق حكم مسبق وباطل " إن المنطق " يعلم التفكير" [نقلاً عن : لينين "الدفاتر الفلسفية-1" ص125].
يكتب ماركس: "في مقدوره (التجريد المعزول) على الأكثر أن يخدم في تصنيف المادة التاريخية بمزيد من السهولة، وفي الدلالة على تطابق تعاقباتها الخاصة. بيد أنها لا تقدم في حال من الأحوال، مثل الفلسفة، وصفة أو مخططاً يمكن وفقاً له تكييف العصور التاريخية " ص31. يمكن أن نطلق على تركيب النتائج الأعم اسم "الفلسفة العملية النقدية" أو النقد الاجتماعي الجذري، أو فلسفة البراكسيس. قارن أيها القارئ عبارات ماركس هذه مع الجبرية الستالينية ونظرية النماذج الخمسة. "إن طرحنا المعضلة على هذه الصورة يقودنا بالضرورة إلى الاعتراض على تخطيطية الإفصاحات التي كان ستالين قد حبس فيها المادية التاريخية؛ إلى الطعن بشكل خاص في الفكرة التي كرسها وأقنمها [من الأُقنوم ] – قدسها- ستالين في المادية الجدلية والمادية التاريخية، فكرة مخططschéma تطور"صالح كلياً [كونياً] يقتضي ويتضمن التعاقب الإلزامي لسلسلة محددة من مراحل التطور الاجتماعي" [راجع أنطوان بلتيه، وجان جاك غوبلو: "المادية التاريخية وتاريخ الحضارات" ص56]. ما نفصح عنه هنا باعتباره عيباً يجب ألا يعتبر على العكس على أنه موهبة تحرير الجوهري باختصار ووضوح ، أي التبسيط البيداغوجي (التربوي أو التعليمي). نعود إلى ماركس حيث يكتب: "على العكس، إن الصعوبة لا تبدأ إلا حين يباشر في دراسة هذه المادة وتصنيفها، سواء كان المقصود عصراً مضى وانقضى أم الزمان الحاضر، وفي تحليلها بصورة واقعية." ص31-32 ..ولسوف نتناول هنا بعض التجريدات التي سنستخدمها في مواجهة الإيديولوجية ونفسرها بأمثلة تاريخية". ص32.
"لا يمكن تحقيق تحرير فعلي إلا في العالم الواقعي وإلا بوسائل واقعية، وإنه لا يمكن إلغاء العبودية بدون الآلة البخارية والنول الآلي ودولاب الغزل، ولا إلغاء الرق بدون تحسين الزراعة، وأنه لا يمكن بصورة أعم تحرير البشر ما داموا لا يتمكنون من الحصول بصورة تامة على المأكل والمشرب والمأكل والملبس بنوعية وكمية مناسبتين". ص32. ..إن "التحرير" فعل تاريخي وليس فعلاً ذهنياً، وهو يتحقق بفعل شروط تاريخية، تقدم الصناعة والتجارة والزراعة.." ص33 . وعلى أساس هذه الأرضية التاريخية العالمية(المادية) يتم تحقيق شعارات اجتماعية قطرية نتيجة تفاوت التطور التقني الرأسمالي. فالتحرير يفترض درجة من التطور محددة على المستوى العالمي. وحتى تحصل البلدان على المساواة في التطور التقني عليها أن تخوض صراعات اجتماعية وسياسية(داخلية وخارجية) عنيفة في العصر الإمبريالي المعولم.
"من جراء أطوار التطور المختلفة لديهم [يثير الإيديولوجيـــون] هذه السخافات، ( الجوهر الذاتي، الوعي الذاتي، النقد الخالص..) سواء بسواء مع العبث الديني، واللاهوتي، ثم يحذفونها من جديد عندما يبلغون مرحلة ثانية من التطور". ص 33 . تشاهد هذه الأوهام الخطرة حيث لا يوجد سوى تطور تاريخي حقير، وبؤس في الوضع الاجتماعي. فكل مرحلة ولها نيرها الإيديولوجي وأوهامها. على هامش الصفحة 34 يأتي ماركس على ذكر "مقال فيورباخ ضد الفلسفة "الوضعية" الذي ظهر في (حوليات هال).. فيورباخ يفضح فيه،في مواجهة الممثلين الوضعيين "للجوهر"، كل علم وعي الذات "المطلق"."
يقول ماركس: "المقصود بالنسبة إلى المادي العملي، يعني بالنسبة إلى الشيوعي هو تثو ير العالم القائم، مهاجمة الأوضاع القائمة كما يصادفها وتحويلها عملياً".ص 34 . في هذا السياق يشير ماركس إلى بذور قابلة للنمو عند فيورباخ. "إن "تصور" العالم الحسي لدى فيورباخ يقتصر من جهة واحدة على مجرد تأمل هذا العالم، ومن جهة أخرى على العاطفة المجردة "ص34-35. فيورباخ: تأمل العالم، والعاطفة المجردة. هو يحب ولكنه لا يمارس هذا الحب، بل يكتفي بالنظر إلى حبيبته. فيورباخ يستخدم حاسة واحدة من الحواس الخمس، هي حاسة النظر. إنه يقول: ""الإنسان " بدلاً من أن يقول البشر التاريخيين الفعليين" ص35 .