كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 759 - 2004 / 2 / 29 - 11:34
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
لقد عرف العراق على مدى عقود كثيرة التناقضات والصراعات والنزاعات المسلحة بين قواه السياسية المختلفة, وخاصة تلك التي كانت على رأس السلطة حيث سعت إلى حلها لصالحها بالقوة واستخدام العنف المسلح والجيش والشرطة والأمن. وكانت العواقب وخيمة إذ جلبت معها المزيد من التناقضات والصراعات وحولتها إلى نزاعات سياسية ساخنة في أحيان كثيرة أودت بحياة عشرات ومئات الآلاف من الناس الأبرياء في مختلف أقاليم العراق. ولم يكن هذا الواقع غريباً على حكومات عراقية غير ديمقراطية واستبدادية وغير عادلة في تعاملها مع الغالبية العظمى من الشعب العراقي وعرضت وحدة النسيج الوطني إلى مخاطر التمزق, إن لم نقل قد تمزقت فعلاً وقادت البلاد إلى مزيد من المشكلات والعدمية. كما أن نهج العنف في معالجة المشكلات الداخلية تحول إلى نهج حربي عدواني ثابت في السياسة الخارجية أيضاً, الذي أدى بدوره إلى الحالة التي نحن عليها الآن من بؤس وفاقة وحرمان وإرهاب وقتل وتدمير, إضافة إلى وقوع العراق تحت الاحتلال.
إن الخلاص من استبداد النظام الصدامي الدموي في حرب الخليج الثالثة, وبغض النظر عن الموقف من الحرب ذاتها, قد فتح الطريق واسعاً لبدء مصالحة وطنية فعلية وحقيقية وبناء عراق جديد قادر وبسرعة على إنهاء الاحتلال واستعادة الاستقلال والسيادة الوطنية التي فقدهما العراق منذ أن كان الدكتاتور الأهوج على رأس السلطة. ولكن الشعب العراقي لم يستثمر هذه الفرصة كما ينبغي, إذ تلوح في الأفق تهديدات فجة من بعض القوى في محاولة منها للتأثير على سير الأحداث والمفاوضات واتجاهات التطور في العراق. ولا يفترض أن يعمد أي إنسان عاقل وحكيم إلى التهديد باستخدام القوة لفرض تصوراته على الشعب العراقي, إذ أنه سيضطر إلى إعادة النظر في تلك التصريحات والتهديدات بعد أن يواجه بالحزم الذي ينبغي أن يواجه به من قبل الشعب العراقي الذي عانى الأمرين من معارك وحروب دموية مرفوضة حملت الشعب الكثير من التضحيات والخسائر والآلام.
من المؤلم أن نشير إلى أن الوعي السياسي والاجتماعي والرؤية الديمقراطية للأمور ما تزال بعيدة كل البعد عن الكثير من الأوساط السياسية الدينية المتشنجة والمتشددة, إضافة إلى ضعف هذا الوعي في أوساط غير قليلة من الشعب العراقي, وخاصة في تلك المناطق الكادحة التي عانت من ظلم النظام وقسوته وإرهابه, وبالتالي وضعت يدها بيد بعض القوى الدينية التي لا تعرف كيف تستفيد منها لتوعية هؤلاء الناس بالاتجاهات الديمقراطية وليس بحمل السلاح, لأنها هي بالذات لا تؤمن بالديمقراطية ولا تحترم إرادة الناس وتريد ممارسة الاستبداد على الشعب باسم الدين. ومن يلقي نظرة على الوضع السياسي في إيران سيجد أمامه حرية واحدة هي حرية القوى الدينية فقط, إذ لا حرية للقوى المدنية والعلمانية. وأن الصراع يدور بين هذه القوى الدينية لا غير, في حين أن القوى الأخرى مغيبة تماماً, فأما إنها نزيلة السجون أو أنها نزيلة المنفى أو أنها تعمل في السر مجبرة على ذلك أو أنها قتلت واختفى أي أثر لها. وبعد كل ذلك يقولون أن في إيران حريات وحقوق محترمة في حين أنها مهضومة تماماً وموطوءة بالأقدام.
كما أن العديد من الأحزاب السياسية المدنية ذات الوجهة الديمقراطية لا تمارس حتى الآن, كما يبدو, سبل الوصول إلى الجماهير الشعبية والتعامل الواعي معها وكسبها إلى طريق المعالجات السلمية والديمقراطية للمشكلات القائمة, سواء أكانت مع سلطة وقوات الاحتلال أم مع مجلس الحكم الانتقالي أم في داخل مجلس الحكم الانتقالي.
إن الوضع الرهن في العراق يفرض على الجميع مسؤولية التخلي عن التهديد باستخدام القوة والعنف والسلاح لحل الخلافات والاختلافات في وجهات النظر, إذ يفترض في الجميع أن يطرح من حساباتهم ذلك أصلاً والتوجه صوب وضع آليات ديمقراطية مجربة لحل المشكلات وفق حوار عقلاني قابل للأخذ والرد والمساومة المناسبة وصولاً إلى الأفضل للجميع دون الإساءة إلى أي من الأطراف.
إن الواقع الراهن الذي يعيش فيه الشعب غاية في التعقيد ولا يجوز تبسيطه أو التقليل من مصاعبه, ولكن هذا لا يعني عدم بذل أقصى الجهود لفهم هذا الواقع وتحليل مختلف جوانبه, ثم استخلاص الدروس والمهمات والسبل الضرورية للعمل لمواجهة الوضع الجديد, خاصة وأن هناك الكثير الذي يرى بأن عدم القبول بوجهة نظره يتطلب منه فرضها بالقوة, كما يفعل يعض الشباب من المتدينين الذين يريدون زج الشعب في أتون معارك دموية غير معروفة العواقب بالنسبة إلى حجم الضحايا ولكنها معروفة النتائج, إذ أن هؤلاء سيندحرون بالمحصلة النهائية, ولهذا عليهم أن يعيدوا النظر في حساباتهم, إذ أن حسابات البيدر لا تتطابق مع حسابات الحقل لديهم وأصواتهم أعلى مما يستطيعون فعله حقاً, وهم أشبه بمن يحاول حمل صخرة كبيرة يريد رميها عاجز حتى عن حملها.
كتب لي صديق من العراق رسالة تضمنت تحليلاً واقعياً سليماً للوضع المعقد السائد في العراق حيث كتب لي ضمن ما كتب ما يلي:
"... إن المرحلة الراهنة حرجة للغاية وتتطلب العناية الفائقة بالبرنامج السياسي للأحزاب والقوى الديمقراطية وجماعات حقوق الإنسان وأراه بشقين.
الأول, وبسبب الفراغ السياسي الذي أحدثه الطاغية وبقسوة بالغة دفع الكثير من فئات الشعب العراقي إلى التوجه اللاإرادي للمعتقدات الدينية لحماية كيانهم الإنساني، لذا فأن المد الإسلامي هو عفوي في غالبه و يتطلب من القوى و الأحزاب الديمقراطية النزول إلى الشارع و الاحتكاك بالجماهير في المدينة و الريف و تفعيل التجمعات والمسيرات والأنشطة الأخرى لتوعيتها وكسب ثقتها وتفويت الفرص على القوى المتطرفة و المعادية...
والثاني, فان تعدد الأحزاب و التجمعات والحركات السياسية ومنابرها من الصحف والإذاعات والفضائيات مع غياب الضوابط أدى إلى قدر من التشويش للشخصية العراقية وردود الفعل (هذا فيما لو أخذنا بالاعتبار الأفعال غير المسؤولة والأخطاء الجسيمة التي أرتكبها الجيش الأمريكي بحق الشعب العراقي وذلك لتحقيق مصالحه فحسب وحتى المشاعر لم يحترمها فقد أطلق سراح العديد من جلاوزة النظام لتحقيق المصالح باتفاقيات وهي مؤلمة للغاية للملايين من العراقيين المتضررين). بدون شك إن هذا ضغط كبير على الشخصية العراقية وخير مثال عند طرح مشروع الفدرالية لم يتحقق إجماع وطني بِشأنها بالرغم من حيوية الموضوع وكونه مصيري ولا شك انك على علم بالتفاصيل وقيام بعض المتشددين والمتطرفين وبدون وعي للتظاهر ضد الفدرالية وأنا على يقين بأن معظمهم لا يفهم مضمونها وأهميتها لبناء العراق الجديد.
هذا الحدث وغيره يجب أن يكون بمثابة ناقوس الخطر للقوى الديمقراطية المؤمنة في بناء العراق الجديد بهدف توحيدها بجبهة وبرنامج سياسي واحد يعمل الجميع تحت مظلته يكون متحركا مع التطورات السريعة الجارية والوقوف صفاً منيعاً أمام الهجمة الشريرة للقوى المعادية التي شخصتها أنت مرارا في كافة كتاباتك".
إن هذا الوعي الديمقراطي العميق لدى المثقفين العراقيين يجعلنا ندرك بأن الوضع الراهن حبلى بالكثير من الاحتمالات, ولكن علينا العمل من أجل إقرار جملة من المبادئ الأساسية بأمل أن تكون القاسم المشترك الأعظم في ما بين جميع الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية العراقية, وعندها سيرفض الشعب من يخرج عن هذا الإجماع أو من يرفض الالتزام بالقواسم المشتركة, أياً كانت مكانته الدينية والسياسية والاجتماعية, وأعني بذلك:
1. الاتفاق على رفض ممارسة جميع أشكال العنف وممارسة التهديد السياسي واستخدام القوة لحل المشكلات والخلافات في ما بين القوى السياسية, سواء أكانت داخل مجلس الحكم الانتقالي أم خارجه, وسواء أكانت مع سلطة وقوات الاحتلال أم مع البلدان المجاورة حالياً وفي المستقبل.
2. وضع آليات ديمقراطية مجربة في فض تلك الخلافات قبل تحولها إلى نزاعات سياسية والاستعانة بالأمم المتحدة والخبرات الدولية لهذا الغرض, والإقرار بأن الطريق الوحيد لمعالجة المشكلات التي تواجه المجتمع والدولة العراقية يتم عبر التفاوض السلمي الديمقراطي.
3. التصدي المشترك لقوى التخريب والإرهاب التي تمارس عملياتها في العراق لإشاعة الفوضى والموت في البلاد لتحقيق أهدافها الشريرة في العراق الجديد الذي يسعى الشعب لإقامته.
4. الاعتراف بحقيقة أن في العراق قوميات عديدة لها حقوق لا بد من الاعتراف بها وضمان تحقيقها, كما أن عليها واجبات إزاء الوطن ولها مصالح مشتركة أيضاً. وهذه القاعدة تشمل العرب والكرد والتركمان والكلدان والآشوريين. ومن غير المقبول والمعقول أن يحرم الشعب الكردي من ممارسة إرادته الحرة التي عبر عنها في عام 1992 بإقامته الفيدرالية الكردستانية, وضمان الحقوق الإدارية والثقافية لبقية القوميات في كردستان العراق, إضافة إلى إمكانية إقامة فيدرالية أخرى في المنطقة العربية تتمتع فيها القوميات الأخرى بحقوقها الثقافية والإدارية أيضاً.
5. وأن في العراق العديد من الأديان والمذاهب الدينية والاتجاهات الفكرية والسياسية وعلى المجتمع والدولة الجديدة احترام ذلك ويفترض أن يتجلى في دستور البلاد ومنع التدخل بشؤون الدين من جانب الدولة, وبالتالي فصل الدين عن الدولة دستورياً. وهذا الأمر يعود بالفائدة على الجميع, بمن فيهم أتباع الديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية المختلفة.
إن من حق الشعب على أتباع قوى الإسلام السياسي أن تمارس ضبط النفس والتمسك بالمبادئ الديمقراطية والابتعاد كلية عن ممارسة التهديد والوعيد وارتداء الأكفان البيضاء وكأنهم أشباحاً تسير نحو معركة خاسرة مسبقاً, معركة تدفع بالناس نحو الموت, في حين أن الشعب يعشق الحياة ويريد أن يعيش في ظروف الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية, ويرفض مشاهدة الدماء وهي تسيل والقبور الجماعية من جديد. إن على أصحاب الرؤوس الحارة والمتشددة أن تعيد النظر بأفكارها وممارساتها وأن تتخلى عن كل ما يشدد من الصراعات السياسية والاجتماعية ويدفع بها إلى نزاعات ساخنة دموية. لقد مل الشعب كل ذلك ويسعى إلى الهدوء والاستقرار والديمقراطية, ولن تنفع أحداً ولن تضع إكليلاً من الغار على رأس من يرفع السلاح ويرتدي الأكفان ويتوعد المجتمع بالويل والثبور, ويدعي بأنه لا يخشى الاعتقال أو الموت. ينبغي أن يبتعد الجميع عن الأساليب التي مارسها صدام حسين ورهطه, وإلا فلن يكون من يمارس ذلك بعيداً عن سلوك صدام حسين وأخلاقياته ومساوئ حكمه.
برلين في 28/2/2004 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟