بسم الله الرحمن الرحيم
أن تحليل التأريخ العراقي المعاصر يكشف بجلاء أنها كانت فترة زاخرة بالأحداث السيئة والحسنة على حد سواء ودراسة التأريخ أي تأريخ يجب أن لا تمر بلا دروس ونتائج تستشف منه لغرض تفادى الوقوع في الأخطاء وتصحيح التجارب و تقويم الطموحات من غير مشروعة الى مشروعة وكذلك تعميق الوعي السياسي والتاريخي للشعوب للتنبه الى مكائد الأعداء بقسميهم الداخلي والخارجي معا وأطماع السياسيين والتي هي أخطر من كليهما وعليه يجب الوقوف على كل حدث بتفصيلاته لتحقيق الأهداف المذكورة .
قد يستفز الكثير من العراقيين إذا ما هاجم ناقد أو محلل حركة عبد الكريم قاسم أي ثورة 14 تموز ومن يتصدى لتقييم التجربة عليه أن يكون موضوعيا لكي يكون مسموعا ويجد له مؤيدين وبالتالي يحقق خطوه الى الأمام ، وفهم قيادة عبد الكريم قاسم للتحرك ليلة 14 تموز من وجهة نظر قانونية دستورية غير عاطفية يختلف مع الكثير من مسلماتنا كعراقيين إن لم يختلف معها جميعا وقد يتطرف البعض الى حد اعتباري عدوا أو جاسوسا ينسف الثوابت التي ترسخت في أذهان الناس … وماذا بعد الثوابت ؟
ولكن من الواضح أن الاتهام هو أسهل وسيلة دفاعية يلجأ إليها من لا يملك الحجة أو لا يملك الرؤية الشاملة لجوانب الموضوع، وإذا ما تناسينا هذا الجدل العقيم واضعين نصب أعيننا ما رجوناه سلفا من نتائج فلنا أن نلج باب النقاش ،
إن دور المؤسسة العسكرية في كل البلدان هو الحفاظ على أمن البلاد وسيادتها على ترابها ومياهها وأجوائها ضد كل من يتعرض لذلك الأمن والسيادة من الداخل والخارج وهذا الدور منوط بتنفيذ الأوامر الصادرة من القائد الأعلى للقوات المسلحة والذي هو دائما سلطة سياسية وعليه فان الدور الذي يلعبه الجيش يتأخر (دستوريا ) خطوه عن السياسة ، وهذا التأخر منطقي كون السياسي ينظر بكل الخيارات عند اتخاذ قرار ما، وأحد الخيارات هو التحرك العسكري للمناورة أو للفعل الحربي وتقدير جميع ذلك منوط بالسياسي دون العسكري ، وإذا ما اختل هذا الترتيب بالأدوار بحيث يتخذ العسكري قرارا سياسيا فسيترتب عليه آثارا سلبية نلخص أهمها فيما يلي :ـ
أولا..وقف العمل بالدستور الذي يحدد الوظائف والواجبات لأفراد الوطن السياسيين كسلطة مدنية فاعلة والعسكريين كأداة تنفيذية لها القدرة على تحقيق الأهداف التي تعجز عن تحقيقها المساعي والمناورات الدبلوماسية ثانيا..إلغاء دور القيادة السياسية للبلاد .
ثالثا..تقليص دور المناورة السياسية في الأزمات بما ينسجم مع أفكار وتطلعات العسكر . رابعا..مصادرة الآراء الأخرى التي لا تتلائم مع العقيدة العسكرية فيغيب دور المفكرين والمثقفين بسبب تعود العسكر على قانون(نفذ ولا تناقش) .
قد يطول الحديث أو يقصر في سلبيات أو إيجابيات هذا الاختلاف في ترتيب المسؤليات والذي نراه إن تركيز الحديث عن شرعية الفعل ليلة 14 تموز هو موضوعنا فلا نخرج عنه ،
لقد خرق عبد الكريم قاسم الدستور وخالف القانونين المدني والعسكري على حد سواء ولو قدر للحركة الفشل لحوكم على فعله هو وضباطه ولربما أعدم على الأرجح ولكنه نجح وبدلا من أن يصبح مجرما أصبح الزعيم الأوحد وصادر الحريات السياسية بشكل انتقائي لا يخضع إلا لمنطق الرغبات التي تصاحب يومه وآراء المحيطين به وهم من العسكر أيضا ، وتلك تجربة مضت لا يهمنا منها الآن إلا الدروس فمن غرائب الأقدار انه قتل بسيفه الذي سله على السلطة التي سبقته أي الانقلاب ، وأيضا تحول الذي خرج على دستوره أي دستور عبد الكريم قاسم وخرق القوانين العسكرية والمدنية ثانية وهو عبد السلام عارف الى بطل أنقذ الأمة بعروس الثورات .
نعم لقد بنى قاسم الدور والمستشفيات والجسور وأمن الوظائف وقضى على الدوران في فلك بريطانيا ورفع من قدرات الجيش وسن الكثير من قوانين الخدمة الاجتماعية وصان أمن وحدود البلاد ولكنه أخفق في حل المسألة الكردية وهذا موضوع يطول الكلام فيه وله وقت سيأتي إن شاء الله، وما نتحدث عنه هو أنه لم يتمكن من إنشاء دولة مؤسسات عصرية دولة يحترم فيها الشعب دستوره وقوانينه كما أنه كرس التدخل بين السلطات الثلاث ومحاكمات المهداوي سيئة الصيت أشهر من نار على علم ومجلس السيادة لا مكان له من الإعراب وعليه فيمكن تقييم التجربة وتلخيص آثارها السلبية بما يلي :ـ
أولا..شرع مخالفة الجيش لإرادة الشعب متمثلة بالحكومة الدستورية المنتخبة حسب الدستور والقوانين المصادق عليها من قبل الشعب .
ثانيا..شرع خرق الدستور والقوانين بقوة السلاح وأصدر قانونا عرفيا نسج على منواله الكثيرون من بعده ألا وهو.. إن من يمتلك السلاح يقتل الآخرين ويستولي على مقاليد الأمور وسيصفق له الناس ويدعى على إنجازه هذا بـ(الوحيد الفريد الذي لا مثيل له). ثالثا..إقامة دستور وقوانين بديلة جديدة دون الرجوع الى الشعب .
رابعا..شرع إنشاء تنظيمات داخل الجيش كتنظيم الضباط الأحرار والمنصور وغيره وبالإضافة إلى كونه جريمة عسكرية فان أبعاده أخطر بكثير لأن إنشاء ولاء داخل الجيش لحزب أو تنظيم أو فئة فوق الولاء للوطن وخدمة العلم يخالف السبب الذي من أجله تؤسس الجيوش .
خامسا..شرع مخالفة الجيش لأوامر قائده الأعلى وعدم التقيد بها وهذا مما يشكل خطرا جديا على أمن البلاد و مؤسساتها وأشخاصها وقرارات قيادتها حيث سيقوم الجيش بتنفيذ ما يريد انتقائيا دون مراعاة رأي قيادته المدنية أو إرادة البلاد .
سادسا..إن تأسيس حركة الضباط الأحرار جاء بعد شهرين فقط من نجاح ثورة يوليو في مصر بواسطة حركة الضباط الأحرار المصرية مما يثير تساؤلات حول تأثير ذلك على الضباط العراقيين وكونه قد أشاع أملا و اختصر الطريق أمامهم للوصول الى السلطة بقوة السلاح وهذا ما يمثل عقيدة العسكر في حل مشاكلهم وكما أثبت التأريخ بعد ذلك إذ أن تعاقب الثورات لا لشيء سوى للسيطرة على السلطة باسم مصلحة الوطن يؤكد رغبة حائزي القوة المسلحة المرصودة لحماية الوطن رغبتهم في اغتصاب الوطن بقوته المسلحة .
سابعا..ذكر المؤرخون أن قاسم و عارف أجريا اتصالات مع الضباط السوريين عبد الحميد السراج و عفيف البزري طلبا لمباركة عبد الناصر لتنظيم الضباط
الأحرار و للثورة المزمع القيام بها وهذا اتصال من ضباط عسكريين
بجهة (أجنبية) مع الاحترام لناصر ومثل هذا التصرف يوصم بحسب العرف إن لم نقل القانون العراقي بالخيانة العظمى وقد أعدم مدنيون وعسكريون على مثل بل أقل من هذا التصرف .
ــــــــــــــــــــــــــ
قد يتفرع الحديث الى مشكلات ومشكلات وتفاقمات مترتبة عليها عند الباحثين والأكاديميين المتخصصين بالقانون الدستوري وربما تصدى آخرون تستحوذ عليهم عاطفة ثورية جارفة الى هذا المقال نقدا بل وشتما وقد يتطرف آخرون الى حد الترصد لقتل كاتب السطور تخليصا للوطن من الأوغاد خدمة الاستعمار والإمبريالية ولكن ذلك ليس مهما ، بل المهم هو كشف النقاب عن (جريمة) أو تجربة تركت آثارا ما زلنا نئن منها ،وشرعة غاب أكلت ذئابها بدون أن يطرف لها جفن والدموع التي بكت أناسا لا يستحقونها تلك الدموع المخلصة التي ملؤها حب الوطن وخدمته ذرفت في غير موضعها بل خلطت أوراقا أضاعت الحقيقة القانونية والشرعية ومعها مصلحة الوطن .
ورب سائل يسأل ماذا سنستفيد من كل هذا الكلام وهل التوقيت مناسبا وهل إن قاسم الذي مات لا يملك بيتا ولا حياة ولا ترفا سوى بذلته العسكرية وذكريات في خواطر من أوجد لهم مأوى أو عمل أو مستشفى هل هذا أل عبد الكريم قاسم لم يقدم لنا إنجازا ليلة 14 تموز ؟ …. أترك للمواطن العراقي الذي يقرأ السطور دون أن يهمل ما بينها الحكم بل لا حكم أمام إرادة الشعب فمنه تستمد السلطات وهذا بالضبط ما أريد قوله .