|
قصة الولايات المتحدة مع النفط المستورَد!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2462 - 2008 / 11 / 11 - 09:32
المحور:
الادارة و الاقتصاد
"النفط المستورد"، أي اعتماد الولايات المتحدة (الذي زاد ولم يقل) على هذا المَصْدر الأجنبي للطاقة التي تستهلِك، هو العدو الثاني (إنْ لم يكن الأول) لها بعد "الإرهاب الدولي"، فإدارة الرئيس بوش أظهرت دائماً حرصاً شديداً على جعل هذا المستهلِك الأكبر للنفط في العالم أقل تبعية للذهب الأسود الأجنبي، ولمَصْدره العالمي الأعظم في الشرق الأوسط على وجه الخصوص؛ والمرشَّح الرئاسي الجمهوري ماكين حاول تأليب مواطنيه على النفط العربي المستورَد على وجه الخصوص إذ قال إنَّ الولايات المتحدة تعتمد على نفط مستورَد ممَّن يكرهونها؛ أمَّا الرئيس المنتخَب أوباما فأظهر ميلاً إلى تخفيف معارضته لمشروع قانون يسمح بإجراء أعمال التنقيب في البحر لزيادة الإنتاج النفطي الأمريكي، ولتخفيف الاعتماد على النفط المستورَد بالتالي، متحدِّثاً عن ضرورة وأهمية مصادر الطاقة الصديقة للبيئة، وجَعْل هذا البديل الطاقي (أي البديل من الطاقة النفطية المضرة بالبيئة) مَصْدراً للطاقة في السيارات، التي مع الشاحنات تستهلِك نحو 50 في المئة ممَّا تستهلكه الولايات المتحدة من طاقة نفطية.
إننا، ومن حيث المبدأ، مع كل مسعى دولي جاد لجعل العالم واقتصاده أكثر اعتماداً على مصادر الطاقة الصديقة للبيئة، فالنظام الرأسمالي الصناعي العالمي، ولاعتماده على الطاقة النفطية في المقام الأول، ألحق خراباً بالبيئة والمناخ يتعذَّر إصلاحه، ولا بدَّ بالتالي من التأسيس لاقتصاد عالمي جديد يقوم على مصادر الطاقة الصديقة للبيئة. وللولايات المتحدة حصة الأسد من الأسباب التي أدَّت إلى هذا الخراب البيئي العالمي؛ ولو كانت لحكوماتها المتعاقبة مصلحة حقيقية في تطوير الاقتصاد بما لا يؤذي البيئة والإنسان لانتزعت "الاقتصاد الطاقي" من براثن قانون الربح الرأسمالي، ولتمكَّنت، بالتالي، من تطوير مصادر للطاقة الصديقة للبيئة، ويعتمد عليها اقتصادها أكثر فأكثر، فـ "الطاقة الهيدروجينية"، مثلاً، يمكن أن تصبح مصدراً مهماً للطاقة التي تستهلِك لو أنَّ "الدولة" هناك تمرَّدت، ولو قليلاً، على نظام السوق الحرة، وعلى لوبي الشركات النفطية، متولِّيةً هي تطوير تلك المصادر، التي لا يُعَدُّ الاستثمار فيها جذَّاباً ومربحاً، بحسب معايير الاستثمار الرأسمالي الخاص.
والولايات المتحدة هي "المثل الأعلى" في "النفاق البيئي"، فهي، ولأسباب فئوية ضيقة، تصرُّ على أن تظلَّ في نمط من الحياة الصناعية والاقتصادية، هو المصْدر الأكبر للتلوُّث البيئي العالمي، مُظْهِرةً، في الوقت نفسه، حرصاً ساذجاً لا يظهره إلاَّ ضيِّقي الأفق على المحمية الطبيعية في آلاسكا،فهنا يوجد كميات جيدة من النفط (كلفة استخراجه مرتفعة) ولكن جماعات حماية البيئة تقف ضد استخراجه، دفاعاً عن الحياة البرية الفريدة في هذه المنطقة!
منذ زمن طويل والولايات المتحدة تتحدَّث عن ضرورة وأهمية الاستغناء عن النفط المستورَد، أو تقليل الاعتماد عليه، تعزيزاً لأمنها الاقتصادي الاستراتيجي، وللنأي باقتصادها عن ضغوط التضخم المتأتية من ارتفاع أسعار النفط؛ ولكنَّ النتيجة العملية كانت تنامي اعتمادها على النفط المستورَد، ففي عهد ريتشارد نيكسون كانت تستورِد 40 في المئة من النفط الذي تستهلِك؛ أمَّا سنة 2003 فأصبحت تستورِد 60 في المئة من النفط الذي تستهلِك. وعمَّا قريب، أي بعد بضع سنوات، قد تستورِد كل قطرة نفط تستهلِك. ولقد أثبتت التجربة أنَّ استيرادها للنفط لا يتضاءل إلاَّ في وقت الكساد الاقتصادي كما هي الحال الآن، أو من الآن وصاعداً؛ كما أثبتت أنَّ ارتفاع أسعار النفط (الذي يعرِّض اقتصادها لمزيد من ضغوط التضخم) يتسبَّب بالكساد.
ولقد كان التضخم (الذي من أسبابه المهمة ارتفاع أسعار النفط) مَصْدَر تقويض للمكانة الصناعية العالمية للولايات المتحدة؛ ذلك لأنَّه يرفع أسعار بضائعها ومنتجاتها في السوقين المحلية والخارجية، ممعناً في إضعاف القدرة التنافسية لهذه البضائع والمنتجات. كان نصيب الولايات المتحدة من الإنتاج العالمي 70 في المئة، فأصبح 16 في المئة؛ وهذا التراجع أو الانحدار إنَّما يؤكِّد اشتداد حاجة العالم إلى الكفِّ عن اتِّخاذ الدولار عملةً احتياطية له.
إنَّ نحو 20 مليون برميل من النفط تستهلِك الولايات المتحدة يومياً؛ والمستورَد منه نحو 12 مليون برميل.
الولايات المتحدة، التي لا تملك سوى 2 في المئة من احتياط النفط في العالم، تُنْتِج يومياً نحو 8 ملايين برميل، مقتطعةً لنفسها نحو 25 في المئة من صادرات العالم النفطية.
إذا كانت الولايات المتحدة تستورِد يومياً نحو 12 مليون برميل فإنَّ جزءاً ضئيلاً من هذا النفط المستورَد يأتيها من دول مجلس التعاون الخليجي (التي تملك 45 في المئة من احتياط النفط العالمي المثبت). إنَّ هذه الدول تُنْتِج يومياً نحو 13 مليون برميل، يذهب منها ما بين 10 و 12 في المئة فقط إلى الولايات المتحدة؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ الولايات المتحدة (التي تستهلِك يومياً 20 مليون برميل، وتستورِد يومياً 12 مليون برميل) لا تستوردِ يومياً من دول مجلس التعاون الخليجي (أو من بعض ممَّن يكرهون الولايات المتحدة) إلاَّ نحو 1.5 مليون برميل.
على أنَّ مَنْ يرى ضخامة حجم الوجود العسكري للولايات المتحدة في منطقة الخليج يظن أنَّها تستورِد من هنا معظم ما تستهلِك من نفط!
هذا التناقض لا يمكن تفسيره إلاَّ إذا افترضنا أنَّ للولايات المتحدة مصالح استراتيجية (اقتصادية وسياسية) في هذا الموقع النفطي الأوَّل في العالم، والذي لا تستورِد منه أكثر من 1.5 برميل يومياً.
اقتصادياً، هي تجني أرباحاً طائلة من العملية النفطية هنا، بدءاً من الاستخراج وانتهاءً بوصول المشتقات النفطية إلى المستهلِك الأوروبي والياباني.
أمَّا من الوجهة السياسية ـ الاستراتيجية فيمكن القول إنَّ الولايات المتحدة بإحكامها لسيطرتها على هذا المصْدر العالمي الأول للطاقة النفطية تُحْكِم سيطرتها على الأوروبيين واليابانيين الذين هم في اعتماد كبير ومتزايد على النفط المستورَد من منطقة الخليج.
ومع إضافة إيران والعراق يصبح لدى هذه المنطقة نحو 65 في المئة من احتياط النفط العالمي المثبت. وهذا النفط هو الأرخص سعراً، والأسهل استخراجاً، فضلاً عن كونه يعود إلى مصْدرٍ هو آخر مصْدر ينضب في العالم.
ولولا هذه المزايا الاستراتيجية لنفط هذه المنطقة لمَا غزت الولايات المتحدة العراق، واحتلته، ولمَا سعت في أن تؤسِّس لها فيه وجوداً عسكرياً استراتيجياً طويل الأجل، وكأنها أصبحت "أمريكستان".
الولايات المتحدة إنَّما تعلِّل نفسها بالوهم إنْ هي اعتقدت أنَّها يمكن أن تنهي، أو تخفِّف، اعتمادها على نفط الدول المطلة على الخليج، فالمستقبل لا يعدها إلاَّ بمزيدٍ من التبعية النفطية لهذه المنطقة.
إنَّ اهتمامها بالنفط السيبيري الروسي، والنفط الإفريقي، الأنجولي والنيجيري والتشادي على وجه الخصوص، ونفط بحر قزوين، لن يتمخَّض، في آخر المطاف، إلاَّ عن ازدياد اعتمادها هي على النفط المستورد من منطقة الخليج. ولقد جاءت الأزمة الجورجية لتؤكِّد للولايات المتحدة أنَّ النفط الروسي، ونفط بحر قزوين، لا يمكن أن يكونا مصْدراً آمناً واستراتيجياً لإمداداتها النفطية التي ستزداد مستقبلاً.
المواطن الأمريكي اعتاد عادتين سيئتين كان ينبغي له ألاَّ يعتادهما. لقد اعتاد العيش بالدَّيْن، والإفراط في استهلاك المشتقات النفطية الرخيصة. والسيارات في الولايات المتحدة صُنِعَت بما يجعل المواطِن الأمريكي ضد كل غلاء في أسعار البنزين، وضد كل زيادة في الضرائب على المشتقات النفطية.
وهذا المواطن، الذي جعله النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة، مُفْرِطاً في الاستدانة، وفي استهلاك النفط الرخيص، لن يكون إلاَّ مَصْدراً لمزيدٍ من الكوارث الاقتصادية.
وإذا أرادت إدارة الرئيس أوباما أن تخفِّف اعتماد الولايات المتحدة على النفط المستورَد فإنَّ عليها أن تخفِّف الاستهلاك النفطي بأن تزيد الضرائب على المشتقات النفطية؛ ولكن، كيف لها أن تزيد هذه الضرائب إذا ما أرادت التصدي للركود الاقتصادي، وزيادة القدرات الشرائية لمواطنيها؟!
إدمان الولايات المتحدة على النفط المستورد الرخيص لن يبقى بلا عاقبته الحتمية وهي إضعاف الأمن الاستراتيجي للاقتصاد الأمريكي؛ ولكن ثمة إدمان آخر لا يقل خطورة، هو إدمانها على الاستدانة والاقتراض من الخارج عبر سندات الخزانة الأمريكية.
إنَّها الآن في أمسِّ الحاجة إلى أن ترفع سعر الفائدة لتشجيع المستثمرين الأجانب على شراء سندات خزانتها لسد العجز المتزايد في موازنتها؛ ولكنها لا تجرؤ على ذلك؛ لأنَّها في حاجة ماسة أيضاً إلى خفض سعر الفائدة للتصدي للركود، ولمساعدة مواطنيها المقترضين على سداد ديونهم للبنوك، ولزيادة القدرة التنافسية لبضائعها ومنتجاتها.
والكارثة بعينها أن يؤدِّي خفض سعر الفائدة، مع التراجع الهائل في حصة الولايات المتحدة من صادرات العالم الصناعية، إلى تراجع إقبال المستثمرين الأجانب على شراء سندات خزانتها، وإلى قيام الصين واليابان بالتخلص من مخزونهما الهائل من تلك السندات.
لقد أظهر أوباما ميلاً إلى تخفيف معارضته لمشروع قانون يسمح بأعمال التنقيب في حقول نفطية جديدة في الولايات المتحدة، وكأنَّه يجهل، أو يتجاهل، حقيقة أنَّ هذا التنقيب يكلِّف كثيراً من المال، وأنَّ تراجع أسعار النفط لن يشجِّع بالتالي على الاستثمار في تلك الحقول الجديدة.
وهذا يكفي دليلاً على أنَّ الرئيس المنتخَب يحتاج الآن إلى أن يغتسل من أوهام حملته الانتخابية بمزيدٍ من ماء وصابون الحقائق!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-الرئيس- الذي يصنعونه الآن من أوباما المنتخَب!
-
سرُّ أوباما!
-
فاز أوباما.. وظهر المهدي!
-
نظام الرواتب يحتاج إلى إصلاح!
-
بوش يتوعَّد العراق ب -القاعدة-!
-
النظرية الاقتصادية الإسلامية في حقيقتها الموضوعية!
-
حملة غربية للسطو على السيولة العربية!
-
-الاقتصاد السياسي الإسلامي-.. تجربة شخصية!
-
ما وراء أكمة البوكمال!
-
عندما نعى بولسون -الإمبراطورية الخضراء-!
-
-الرأسمالية المُطْلَقة-.. بعد الموت وقبل الدفن!
-
-الاقتصاد الافتراضي- Virtual Economy
-
العرب.. -يوم أسود- بلا -قرش أبيض-!
-
قاطرة الاقتصاد العالمي تجرُّها الآن قاطرة التاريخ!
-
.. وإليكم الآن هذا الدليل -المُفْحِم- على عبقرية الدكتور زغل
...
-
رجل البورصة ماكين!
-
ماركس!
-
نهاية -نهاية التاريخ-!
-
انفجار -السوبر نوفا- في -وول ستريت-!
-
قريع ينطق ب -آخر الكلام في اللعبة-!
المزيد.....
-
الصين تحظر تصدير مواد للصناعات العسكرية إلى أميركا
-
فايننشال تايمز: هل بدأت روسيا بدفع فاتورة الحرب؟
-
الوون الكوري الجنوبي يهوي عقب إعلان الأحكام العرفية
-
مصر تكشف عن موعد استحقاق ودائع سعودية بقيمة 5.3 مليار دولار
...
-
تونس.. عائدات السياحة تتجاوز 2.2 مليار دولار وسط توقعات قياس
...
-
وزير مالية إسرائيل: البرلمان سيصوت الأحد على موازنة 2025
-
قرار صادم.. رئيس كوريا الجنوبية يعلن الأحكام العرفية بالبلاد
...
-
استمرار تدهور مناخ الأعمال بقطاع السيارات في ألمانيا
-
بحضور ماكرون.. السعودية توقع اتفاقيات مع شركات فرنسية
-
مصر.. ساويرس يمنح الجامعة الأمريكية أكبر تبرع في تاريخها ويت
...
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|