أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - حزب العمال التونسي - المسألة الديمقراطيّة في تونس















المزيد.....



المسألة الديمقراطيّة في تونس


حزب العمال التونسي

الحوار المتمدن-العدد: 2461 - 2008 / 11 / 10 - 09:13
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


ننشر في ما يلي مقدّمة كتاب جديد لحزب العمال الشيوعي التونسي بعنوان المسألة الديمقراطية في تونس، وفيه محاولة للإجابة على السؤال المحوري الذي ظلّ يخامر الأذهان خلال السنوات الأخيرة: كيف تمكّن بن علي شلّ القوى الحيّة في المجتمع التونسي والسيطرة عليه بقبضة من حديد لفائدة حفنة من الأثرياء المحليّين والأجانب؟

يتابع الكتاب الأحداث ويحللها ويحاول استخلاص القوانين التي حكمتها من أجل رسم طريق التجاوز. وهو إذ يتعرّض لمواقف مختلف القوى السياسيّة في هذه الفترة أو تلك فليس من باب التشهير خصوصا حين يتعلّق الأمر بقوى نعمل معها اليوم من أجل وضع حدّ للاستبداد، وإنما من باب الموضوعيّة التاريخيّة.

وإذا كان الكتاب يركز على شخص بن علي فما ذلك إلا لدوره المحوري في النظام السياسي القائم وهو نظام الحكم الفردي المطلق الذي يطبع كلّ التشريعات والمؤسسات والممارسة السياسيّة عامّة بطابعه.

ولئن لجأ الكتاب أحيانا إلى سرد معطيات قد تكون معروفة لدى "النخبة" فإنّ الهدف من ذلك هو حوصلتها ومنهجتها أوّلا، وتمكين عموم الناس وخاصة الشباب منهم الذين لم يعايشوا الأحداث المعنيّة من الإطلاع عليها ثانيا.

تصدير
"إنّ ما هو أبدي، يا صديقتي، هو الشّعب. إنّ عصر الطّغاة لقصير. وقصير هو ليل العبوديّة. وإنّ صباح الحرّية لمن الجمال بقدر يجعله أهلا لأن نموت من أجله، لأنّه سيبزغ في أحد الأيّام على النّاس. ومن السّهل، للأسف، يا صديقتي الموت في سبيل امرأة أو في سبيل الحرّية! إنّما الصّعب أن تعيش حياة آلام ونضال، دون يأس ودون تخاذل، دون بيع للنّفس ودون انحناء. والحرّية تتطلّب أكثر من الموت، تتطلّب أن يهبها الإنسان كلّ لحظاته، كلّ قواه."

جورج أمادو
"فارس الأمل"

مقدّمة عامّة
مسألة ملحة

لم تتّخذ مسألة الحرّية السّياسيّة في بلادنا قطّ الأهمّية التي تتّخذها اليوم. فجميع النّاس، عدا الطّغمة الفاشيّة الحاكمة والفئة القليلة من مصّاصي عرق الكادحين واللّصوص والمرتشين الذين تمثّلهم هذه الطّغمة، يشعرون بالحاجة الملحّة إليها ويرون فيها شرطا أساسيّا من شروط النّهوض بتونس مجتمعا ووطنا. وهذا الشّعور بالحاجة الملحّة إلى الحرّية السّياسيّة، يمتزج لدى المواطن، بالإحساس بالغبن والهوان النّاجمين عن مقارنة الوضع في تونس بالوضع في العالم الخارجي، من خلال ما تنقله وسائل الإعلام والاتّصال وخصوصا الفضائيّات. ولا نقصد بالعالم الخارجي أوروبا وأمريكا فحسب، ولكنّنا نقصد إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاّتينيّة أيضا. كما أنّنا لا نقصد الجمهوريات الدّيمقراطيّة البورجوازيّة التّقليديّة أو حديثة العهد فحسب، وإنّما نقصد حتى البلدان التي يحكمها بعض الملوك والأمراء (المغرب، الأردن...) والجنرالات (بوركينا فاسو...) أيضا. ففي هذه البلدان تحرّكت الأوضاع وشهدت الأنظمة السّياسيّة، بضغط الشّعوب والقوى الديمقراطية والثورية، شيئا من التّطوّر. إنّه تطوّر جزئي، ومحدود ومعرّض في أيّة لحظة للتّراجع والانتكاس ولكنّه يبقى مع ذلك "تطوّرا" مقارنة بما كان عليه الوضع في البلدان المعنيّة وبما هو عليه في بلدان أخرى مثل بلادنا. وكان من نتائج ذلك التّطوّر أن توفّر لمختلف الطّبقات والفئات الاجتماعية هامش من حرّية التّعبير والتّنظّم يتسع ويضيق حسب البلدان وحسب الظروف أو بالأحرى حسب حالة الصراع الطبقي وموازين القوى الناجمة عنه. كما أُقرَّ لها حدّ أدنى من المشاركة في الحياة العامّة عبر انتخابات رئاسيّة وتشريعيّة وبلديّة قطعت بهذه الدرجة أو تلك مع تقليد المرشّح الواحد للرّئاسة والقائمة الواحدة للبرلمان والمجالس البلديّة وعادة التزوير المنهجي للنتائج. فأصبحنا نسمع عن مظاهرات واحتجاجات تنظّمها المعارضات في الشّوارع، وعن صراعات داخل البرلمانات، ونقرأ في الصّحف نقودا لاذعة موجّهة إلى الرّئيس أو الملك أو الأمير أو حتّى إلى "آية اللّه"، "مرشد الثّورة" المعصوم من الخطأ والذي لا تناقش عادة قراراته ومواقفه!!

إن المواطن التّونسي يرى بلاده مستثناة في مطلع هذا القرن وهذه الألفيّة، من تيّار الحرّية العامّ الذي يجرف العالم ويتصدّى للطّغيان الامبريالي الرّجعي في كلّ قارّة. فتونس ما تزال تحكمها دكتاتوريّة بوليسيّة غاشمة ومتخلّفة، على رأسها جنرال، قضّى كامل حياته العسكريّة، التي بدأها مبكّرا (1958) مسؤولا عن المكتب الثّاني بالجيش (المخابرات العسكريّة) وعندما نزع الزيّ العسكري في النّصف الثّاني من السّبعينات (ديسمبر 1977) فلكي يلتحق بوزارة الدّاخليّة التي شغل فيها مرتين منصب مدير للأمن (من 1977 إلى 1980 ومن جانفي 1984 إلى أكتوبر من نفس السنة) قبل أن يصبح كاتب دولة للأمن الوطني فوزيرا للأمن الوطني (أكتوبر 1985) ووزيرا للداخلية (أفريل 1986) ووزير دولة مكلف بالداخلية (ماي 1987)، وهو منصب كان يتولاه إلى جانب الوزارة الأولى التي عُيّن على رأسها في 2 أكتوبر 1987، ساعة استيلائه على الحكم فجر يوم 7 نوفمبر 1987.

إنّ هذه الدّكتاتوريّة التي منحت تونس مكانة "متميّزة" في بداية هذا القرن وهذه الألفيّة ضمن فريق "بلدان العار"، إلى جانب "بيرمانيا" (التي يحكمها عساكر يتاجرون بالمخدّرات) و"كازاخستان"، والسّعوديّة وغيرها، هي في الحقيقة من أبغض الدّكتاتوريات القائمة في العالم اليوم ومن أكثرها صلفا وعنجهيّة ووحشيّة رغم كل المساحيق التي تتزين بها، حتى أنها أصبحت مرجعا في قمع الصحافة وتزوير الانتخابات والتلاعب بالدستور وممارسة التعذيب، وأفعالها المشينة تملأ تقارير المنظمات والهيئات الحقوقية الإقليمية والدولية.

نصف قرن من الاستبداد والدكتاتورية

إن للدّكتاتوريّة في بلادنا من العمر الآن ما يزيد على نصف قرن. لقد أرسى بورقيبة، بعد أن استلم السّلطة سنة 1955- 1956، تاريخ استقلال تونس الشّكلي، دعائمها تدريجيا. واستكملت هذه الدّكتاتوريّة شكلها النّهائي في النّصف الأوّل من السّتّينات عندما تذرّع بورقيبة بمحاولة 1962 الانقلابيّة الفاشلة ليحظر آخر حزب معارض معترف به (الحزب "الشّيوعي" التّونسي) ويقضي على آخر صحيفة معارضة مستقلّة بدعوى أن وجود معارضة تنتقد نظام الحكم هو من الأسباب التي دفعت مجموعة "الأزهر الشرايطي" إلى الاستخفاف به والتفكير في الانقلاب عليه!! وبعد ذلك تتالت الإجراءات التعسفية والاستبدادية، فأُلحقت المنظّمات الجماهيريّة غصبا بالحزب الحاكم (الاتحاد العام التّونسي للشّغل، الاتحاد العام لطلبة تونس إلخ...) وحُوّلت إلى مجرّد خلايا من خلاياه (مؤتمر بنزرت 1964). ثمّ ألغي عمليّا مبدأ الانتخاب. فتحوّلت الانتخابات الرّئاسيّة والتّشريعيّة منذ موعدها الثّاني سنة 1964 إلى مجرّد تزكية لمرشّحي الحزب الواحد وكان الشعار السائد هو: "لا إمساك ولا تشطيب"، أي أن الناخب مطالب بالمشاركة في الاقتراع وبتزكية القائمات الرسمية! أمّا المسؤولون على المستوى الوطني (الوزراء، الإدارة، المؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة والقضائيّة...) والجهوي (الوالي، مجلس الولاية...) والمحلّي (المعتمد، العمدة...) فيعيّنون من بين مسؤولي الحزب الحاكم. وعلى نفس المنوال ألغى بورقيبة وطغمته مبدأ الانتخاب حتّى في المنظّمات والجمعيات المهنيّة والثّقافيّة والشّبابيّة والنّسائيّة التي تحوّلت إلى أجهزة من أجهزة الدّولة، تراقب المواطنين وتؤطّرهم وتعمل على تحقيق اصطفافهم وراء بورقيبة ونظامه. كان مسؤولو هذه المنظمات والجمعيات يعيّنون من فوق ثمّ تتولّى هيئاتها القياديّة المنصّبة هي أيضا تزكية ذلك التّعيين وتمريره في مؤتمرات أو مجالس وطنيّة أو هيئات إداريّة صوريّة. وكان مسؤولو تلك المنظّمات يلاقون بورقيبة ومسؤولي الدّولة في صلب هيئات الحزب الحاكم القياديّة (الدّيوان السّياسي خصوصا)، للتّخطيط لمواصلة إخضاع الشّعب وتدجينه.

انتصب الحكم الفردي المطلق في البلاد، ووجد بورقيبة في الدّستور الذي صيغ على قياسه (دستور 1959) ومنحه صلاحيات واسعة دون أن يخضعه لمراقبة أية مؤسسة دستورية، سندا قانونيّا لتبرير ذلك. "النّظام هو أنا"! هكذا كان يقول بورقيبة الذي جمّع فعليّا بين يديه كلّ السّلطات، فهو السّلطة التّنفيذيّة والتّشريعيّة والقضائيّة. ولم يكن مبدأ فصل السّلطات المنصوص عليه في الدّستور سوى واجهة وضعها بورقيبة لصبغ نظامه الدّكتاتوري بطلاء جمهوري عصراني. وفي هذا السّياق ثُبّتت هيمنة الحزب الواحد، الذي تحوّل إلى "الحزب- الدّولة"، على جميع مجالات الحياة العامّة. وكان التّداخل بين الحزب والدّولة عميقا إلى درجة أنّ من ليس مِنَ الحزب لا يمكنه أن يطمح إلى الحصول على أيّ منصب هامّ في الدولة في أيّ مستوى من المستويات، بل إنّ من يُطرد من صفوف الحزب كان يفقد آليّا المنصب الذي عيّن فيه حتّى لو كان عضويّة البرلمان (الفصل 109 من المجلّة الانتخابيّة الذي حُذف سنة 1981). كما أنّ من يفقد منصبه في الحكومة أو في إحدى مؤسّسات الدّولة الأخرى يفقد مركزه في أجهزة الحزب القياديّة وحتّى مجرد العضويّة في الحزب أحيانا. فالدّولة هي "دولة بورقيبة وحزبه" والحزب هو "حزب بورقيبة ودولته".

ومن جهة أخرى كان للبوليس، ولفرعه السّياسي خاصّة، سلطة كبيرة على حياة الأفراد والجماعات، يراقب حركاتهم وسكناتهم ويقمع كلّ نزعة تظهر لديهم إلى التّحرّر من قبضة الدّكتاتوريّة الدّستوريّة. وكان القضاء، التّابع، المسلّح بترسانة من القوانين الفاشيّة التي سنّها برلمان صوري لمصادرة أبسط الحرّيات، في عون هذا البوليس، يطبّق التّعليمات التي تصدر له من السّلطة التّنفيذية ويضفي على القمع السّياسي صبغة قضائيّة.

وهكذا أُقصي الشّعب التّونسي بمختلف طبقاته وفئاته من المشاركة في الحياة العامّة إقصاء تامّا واعتبرت كلّ معارضة لنظام بورقيبة جريمة يعاقب عليها القانون. وفي هذا السّياق بعث بورقيبة سنة 1968 "محكمة أمن الدّولة" لمقاضاة معارضيه من مختلف الاتجاهات كما بعث سنة 1970 "المحكمة العليا" لمقاضاة وزرائه وأعضاده الذين يخرجون عن صفّه لهذا السّبب أو ذاك أو الذين يريد أن يجعل منهم كبش فداء (أحمد بن صالح وزير الاقتصاد في الستينات...). وكانت المحكمة العسكرية تقاضي جماعات المعارضة التي يوجد بينها عساكر.

وحدة قوميّة زائفة

إنّ القالب الإيديولوجي الذي وضع فيه بورقيبة دكتاتوريّته هو قالب "الوحدة القوميّة". فهذه الوحدة، بمعناها الضّيق، شكّلت الدّعامة الإيديولوجيّة لمصادرة الحرّيات الفرديّة والعامّة وتجريم كلّ معارضة وفرض الاصطفاف وراء النّظام القائم. إنّ بورقيبة، شأنه شأن جميع الطّغاة الذين سبقوه أو عاصروه كان يرى في الحرّية والدّيمقراطيّة، وخصوصا إذا كانت الطّبقة العاملة والشّعب عامّة معنيّين بهما، سببا من أسباب "الفوضى" و"الفتنة" و"الخراب" و"إعاقة تطوّر البلاد والقضاء على التّخلّف". لقد كان يدّعي أنّ الشّعب التّونسي شعب "قاصر"، ليس "مؤهّلا" للممارسة الدّيمقراطيّة وأنّ السّماح بحرّية التّعبير والتّنظيم والاجتماع والانتخاب سيثير "النّعرات القبليّة" و"يقضي على وحدة الأمّة".

إن تعدد التنظيمات الحزبية والمهنية والمنابر الإعلامية والثقافية الذي كان بالأمس علامة نهوض ساهمت في إيقاظ الشعور الوطني لدى الشعب التونسي وحققت وحدته الوطنية في النضال ضد المستعمر، أصبح بورقيبة يرى فيها، بعد أن وصل إلى الحكم، "مصدر خطر على الأمة" أي في الحقيقة على نظامه الاستبدادي. ومن هذا المنطلق دمّر بورقيبة مكونات المجتمع المدني الناشئ التي كان بالإمكان أن تقوم بدور حاسم في تطوير تونس وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية سليمة، كما دمّر الأطر والهياكل التقليدية القائمة دون أن يسمح بتعويضها بأخرى جديدة وحديثة يمكن أن يتجمّع فيها المواطنون نساء ورجالا للدفاع عن حقوقهم وعن هويتهم، وفرض حكمه الفردي المطلق مدّعيا أنّه "رمز الوحدة القوميّة" وهو العارف بما يصلح للبلاد وبما لا يصلح لها. كما فرض هيمنة حزبه المطلقة (الحزب الحرّ الدّستوري الذي أصبح يدعى بداية من عام 1964 "الحزب الاشتراكي الدّستوري" ليتلاءم الاسم وسياسة "التّعاضد" التي انطلقت في تلك الفترة بمباركة الامبريالية الأمريكيّة والبنك الدّولي للإنشاء والتّعمير، BIRD) مدّعيا أنّه يمثّل "مصالح الأمّة".

وكان تشريع الرئاسة مدى الحياة في مارس 1975 وسنّ الخلافة الآلية للرئيس (الفصل 57 من الدستور) في أفريل 1976 ذروة تكريس الحكم الفردي المطلق. ففي عام 1974 انتهت الولايات الثلاث التي يمنحها الدستور لبورقيبة والتي قضّاها على رأس الدولة دون انتخابات حقيقية إذ كانت الانتخابات الرئاسية التي يترشح لها بمفرده مجرد تزكية. ولكن الرجل رفض الرحيل وطالب بالبقاء في السلطة "اعترافا له بالجميل" فما كان له إلا أن تلاعب بالدستور الذي فقََدَ بعدُ كل قيمة في إطار حكمه الفردي المطلق فأضيفت إليه فقرة تمنح بورقيبة، بصورة استثنائية، الحكم مدى الحياة. ثم وبعد سنة من ذلك وضمانا لديمومة نظامه تمت مراجعة الدستور من جديد للتنصيص على خلافة الوزير الأول رئيس الجمهورية آليا في حالة الوفاة أو العجز إلخ.. فلم يبق بذلك أي معنى لا للدستور الذي يُتلاعب به وفق مصالح الحاكم ولا للجمهورية التي تتنافى مبدئيا مع الرئاسة مدى الحياة ومع الخلافة الآلية لما فيهما من دوس لمبدأيْ التداول على السلطة والسيادة الشعبية. ومنذ هذه اللحظة دخل نظام بورقيبة في مرحلة الاغتصاب المفضوح للسلطة.

وهكذا عامل بورقيبة الشّعب التّونسي معاملة قائمة على الاحتقار والازدراء، فألغى جميع نضالاته ضدّ المستعمر الفرنسي وتنكّر لتضحياته الجسيمة ولتضحيات العديد من رموز النضال الوطني وادّعى أنّ الفضل في "الاستقلال" يرجع إليه هو شخصيّا وإلى "عبقريّته" و"حنكته" و"نفاذ بصيرته". وذهب به تكبّره إلى حدّ القول في سنة 1973: "وجدتُ هباء منثورا فصنعت منه أمّة". ومن نافلة القول إنّ بورقيبة حين يحقّر الشّعب التّونسي ويلغي ماضيه النّضالي المجيد من أجل عزّته وكرامته واستقلاله ليس له من غاية سوى تضخيم دوره الشّخصي لتشريع حكمه الفردي المطلق ودفع الشّعب التّونسي إلى استبطان النّقص وعدم الثّقة بالذّات والانصياع للطغيان وعدم التّمرّد عليه. كما أن بورقيبة بغطرسته وشخصانيته داس القانون والمؤسسات واستبدلهما بقراراته الشخصية التي لا رقيب عليها، فكان الاستبداد بعينه.

بداية الانخرام

لكنّ الدّكتاتوريّة البورقيبيّة التي انبنت على شعار "الوحدة القوميّة" الزّائفة، دبّ فيها شيئا فشيئا الوهن بفعل تنامي التّناقضات داخل المجتمع التّونسي، بين الشّعب بمختلف طبقاته وفئاته من جهة وبين نظام بورقيبة من جهة أخرى وكذلك بفعل تنامي التناقضات صلب النّظام نفسه. وكان استغلال الشّعب استغلالا فاحشا وتفقيره وتهميش فئات واسعة منه والقمع الوحشي المسلّط عليه والاعتداء على كرامته الوطنية سببا رئيسيّا في احتداد التّناقض بينه وبين الدكتاتورية البورقيبية وهو ما أدّى إلى انفجارات اجتماعيّة كبرى، فلاّحيّة وشبابيّة وعمّاليّة وشعبيّة (1969، 1972، 1978، 1984...)، واجهها بورقيبة ونظامه بالقمع الدّموي. وقد أفرزت ديناميكيّة الصّراع هذه تيّارات وتنظيمات سياسيّة جديدة، يساريّة وقوميّة وأخيرا "إسلامية" تعمل كلّها في السّرّية بسبب غياب حرّية التّعبير والتّنظيم غيابا تامّا وتسعى، في حدود وعيها، إلى التّعبير عن مصالح الفئات التي انبثقت عنها أو التي تزعم أنّها تمثّلها. كما أنّها دفعت المنظّمات الجماهيرّية، النّقابيّة والشّبابيّة خصوصا إلى التّمرّد على نير الحزب الحاكم بحثا عن استقلاليّة مسلوبة فتمكّنت من افتكاكها بالكامل (الحركة الطّلاّبيّة) أو بصورة جزئيّة (الحركة النّقابيّة العمّاليّة) بعد جولات من المواجهة واختبار القوّة.

أمّا بالنّسبة إلى نظام الحكم فقد تطوّرت الصّراعات بين مختلف كتله وأجنحته التي تشكّلت منذ استقلال 1956 الشّكلي. لقد ارتبطت مصالح تلك الكتل والأجنحة بمصالح هذه الفئة أو تلك من فئات البورجوازيّة الكبيرة العميلة (البورجوازيّة الخاصّة بفئاتها المختلفة الصّناعيّة والماليّة والتّجاريّة والزّراعيّة وبورجوازيّة الدّولة...)التي كانت تسعى كلّ واحدة منها إلى تحقيق الهيمنة داخل النّظام لتقوده حسب توجّهاتها. وكانت مصالح هذه الفئات تتشابك مع رهانات داخليّة وخارجيّة. ففي الدّاخل كانت الجهويّات ضاربة أطنابها فكلّ كتلة من الكتل كانت تستند إلى دعم جهة من الجهات الأساسيّة في البلاد (السّاحل، تونس، صفاقس...). وكان السّباق قائما في الأساس بين السّاحل، مسقط رأس بورقيبة، وتونس العاصمة التي كان لها رموزها في الحزب والدّولة. وفي علاقة بالخارج، لئن كانت كلّ الكتل داخل النّظام موالية للغرب الرّأسمالي الامبريالي، فإنّ بعضها، كان، صلب هذا الخيار العام، أكثر ارتباطا بالولايات المتّحدة الأمريكيّة، بينما كان البعض الآخر أكثر ولاء لفرنسا، الدّولة الاستعمارية القديمة. وإلى ذلك كان لتطوّر الصّراعات الاجتماعية وما أفرزته من مطالب سياسيّة تأثير في السلوك السياسي لمختلف الكتل. لقد أصبح لكلّ طرف منها تصوّره لكيفية تحقيق استمراريّة النّظام الدّستوري. وعلى العموم، شقّ النّظام، حول هذه المسألة بالذّات، تيّاران أساسيّان لا يخضعان تماما للتّقسيمات الفئويّة والجهويّة. وكان التّيّار الأوّل مناصرا للاستمرار في الانغلاق السياسي، داعيا إلى المرور إلى درجة جديدة من القمع والسّيطرة على المجتمع، وبالخصوص على الطّبقة العاملة والفئة الشّبابيّة والنّخب المثقّفة التي بدأت تتمرّد على احتكار الحزب الدّستوري الحياة السّياسيّة. أمّا التّيار الثّاني فكان يدعو إلى إعادة صياغة العلاقة بالمجتمع، إعادة جزئيّة ومحدودة بالطّبع، بهدف امتصاص الغضب العمّالي والشّبابي وغضب النّخب المثقّفة البورجوازيّة الصّغيرة المتنامي والذي كان يدور حول ثلاث مسائل رئيسيّة، المسألة الدّيمقراطيّة من ناحية والمسألة الاجتماعية من ناحية ثانيّة والمسألة القومية والوطنية من ناحية ثالثة. وفي هذا السّياق انشقّت عن النّظام بعض المجموعات، منها ما لبس لبوسا ليبراليّا (أحمد المستيري، الحسيب بن عمّار إلخ...) ومنها من ظلّ يحنّ إلى سياسة السّتّينات (التّعاضد) مع إضافة مسحة من التحرر السياسي إليها (أحمد بن صالح...). وكانت هذه المجموعات تسعى إلى محاولة توظيف الحركة الجماهيريّة والدّيمقراطيّة في صراعها مع نواة السّلطة الرّئيسيّة التي ظلّت متكوّنة من العناصر القمعيّة المتطرّفة الملتفّة حول بورقيبة (الهادي نويرة، محمّد الصّياح، عبد اللّه فرحات...).

وهكذا انكسر قالب "الوحدة القوميّة" الذي أريد له أن يكون وسيلة لكبت مختلف التّناقضات الاجتماعية والسّياسيّة والإيديولوجيّة الكامنة في المجتمع والذي اتّضح أنّه أضيق من أن يحويها وأعجز من أن يكبتها. لم يكن شعار "الوحدة القوميّة" في الواقع سوى غطاء لفرض مصالح الأقلّية البورجوازيّة الكبيرة العميلة بعناصرها القديمة الموروثة من العهد الاستعماري والجديدة التي تكوّنت على إثر "الاستقلال" إما نتيجة إعادة توزيع الثروة (الأراضي خاصة) على أيدي النظام أو من المناصب الإدارية والحكومية المستحدثة. ولا نقصد هنا "المصالح" بالمعنى الضيّق، المادي، بل "المصالح" بالمعنى الطّبقي العامّ للكلمة، بكلّ ما فيه من أبعاد اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة وإيديولوجيّة كما يعبّر عنها بورقيبة وطغمته لا على الصّعيد الدّاخلي فقط، بل الخارجي أيضا الذي يتجلّى من خلال الارتباط بالقوى الرّأسماليّة الامبريالية الغربيّة (الولايات المتّحدة الأمريكيّة وفرنسا في المقام الأوّل) ومعاداة الشّيوعيّة معاداة سافرة والانعزاليّة المحلية المعادية للشّعور القومي العربي الساري في الضمير التونسي.

لقد أصبحت "دولة الوحدة القوميّة"الدّكتاتوريّة محلّ معارضة فصائل عدّة من المجتمع تريد التّحرّر من هيمنتها وقمعها. كما أنّها أصبحت محلّ نقد من أطراف تنتمي إليها وإلى الحزب الحاكم، وهي تنادي بمراجعة نمط علاقتها بالمجتمع المدني بهدف الاحتواء وليس بهدف التحرير. ولم تفلح كلّ المناورات التي لجأت إليها الدّكتاتوريّة البورقيبية في كبح جماح التّناقضات الاجتماعية والسّياسيّة والإيديولوجيّة داخل المجتمع التّونسي. وكانت هذه المناورات تُراوح بين القمع السافر من جهة والتنازل عن بعض المساحات والفضاءات للمعارضة وللحركة الديمقراطية والحركة النقابية والطلابية كالاعتراف، في مطلع الثمانينات من القرن العشرين، ببعض الأحزاب التي لا تناهض أسس النظام البورقيبي (الحزب الشيوعي التونسي، حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، حزب الوحدة الشعبية) والسماح للحركة النقابية بهامش من الاستقلالية وللإعلام بهامش من الحرّية، والترخيص للرابطة التونسية للدّفاع عن حقوق الإنسان... وقد حاول نظام بورقيبة باستمرار الالتفاف على هذه التّنازلات كلّما سعت الحركة الدّيمقراطيّة والشّعبيّة إلى توسيعها وتعميقها، خوفا من أن يفقد هيمنته على المجتمع وكان يجد في ذلك سندا من الرجعية المحلية ومن القوى الامبريالية الغربية التي كانت منشغلة بمصالحها في تونس وبصراعها مع الاتحاد السوفياتي من أجل الهيمنة على المنطقة.

استفحال الأزمة

كان الشّعب التّونسي، بل المجتمع التّونسي في حاجة ماسّة إلى تحوّل جدّي وعميق على كافّة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسّياسيّة والثّقافيّة. وكانت طبيعة التّحوّل المنشود ديمقراطيّة ووطنيّة وتقدّميّة وشعبيّة. لكنّ الدّكتاتوريّة البورقيبيّة كانت تتصدّى لهذه الحاجة وتقمع التّعبيرات السّياسيّة والفكريّة والاجتماعية التي تفرزها، إلى أن حلّ منتصف الثّمانينات الذي شهدت فيه البلاد أزمة حادّة، هي من أخطر الأزمات التي عرفها النظام البورقيبي منذ قيامه. وكانت هذه الأزمة متعدّدة الأبعاد. فقد ساءت الحالة الاقتصادية إلى درجة أنّ البلاد صارت مهدّدة بالإفلاس. ولم يجد النّظام من حلّ لها سوى الارتماء، منذ أواخر 1986، في أحضان البنك العالمي وصندوق النّقد الدّولي والخضوع لشروطه الجائرة في نطاق ما يسمّى بـ"سياسة الإصلاح الهيكلي" (PAS) أملا في التّخفيف من حدّة تلك الأزمة على حساب قوت الشّعب وسيادة البلاد (خوصصة المؤسسات العمومية، طرد جماعي للعمال، التخفيض من نفقات الدولة في مجال الخدمات الاجتماعية والثقافية، إلغاء صندوق التعويض، تحرير التجارة...).

لكنّ الأزمة لم تكن اقتصاديّة واجتماعيّة فحسب، بل كانت سياسيّة أيضا، فقد شاخ بورقيبة وأصبح عاجزا عن الحكم ومع ذلك بقي متشبّثا بكرسيّه شأنه شأن كلّ دكتاتور مصاب بمرض العَظَمَة. فالرجل لم يفتأ يردّد منذ سنوات طويلة أنّ مصير تونس مرتبط بمصيره هو. فلم يكن يتصوّر نفسه، طالما أنّه على قيد الحياة، إلاّ رئيسا لها. وهو ما فعله في الواقع منذ أواسط السّبعينات عندما أعلن نفسه، بواسطة برلمان صوري، خاضع له خضوعا تامّا، رئيسا مدى الحياة. وكان من نتائج شيخوخة بورقيبة ومرضه أنّه أصبح لعبة في يد حاشيته التي كانت تستغلّ تقلّباته المزاجيّة وضعف عقله لتصفية الخصوم وكسب الامتيازات، فكثرت الدّسائس والصّراعات في القصر، وراح بورقيبة يتّخذ القرارات العشوائيّة (إقالات وزراء ومسؤولين، إيقاف مسؤولين في نطاق تصفية حسابات، تطليق زوجته وسيلة بن عمّار وإبعاد أفراد عائلتها والمقرّبين منها من مناصبهم واعتقال البعض منهم، إقالة الوزير الأول محمد مزالي ومحاكمته غيابيا بعد فراره من البلاد). وأدّى هذا عمليّا إلى تعطيل دواليب الحكم. وصار اهتمام مختلف رموز السّلطة المتبقّين منصبّا على الحفاظ على مناصبهم وعلى مسألة خلافة الرّجل العجوز. وهو ما كان يدفعهم إلى التّكيّف مع نزواته وكسب رضائه واجتناب غضبه بأيّ وسيلة والدّسّ بعضهم لبعض. وكان من الطّبيعي في مثل هذه الظّروف أن يستشرس القمع البوليسي للتّصدّي لكلّ معارضة تحاول استثمار الأزمة الاجتماعية والسّياسيّة. وكان هذا القمع يخدم على حدّ السّواء بورقيبة الذي كان يريد البقاء في الحكم بكلّ الوسائل من جهة والكتل المتصارعة من حوله والتي كانت تخشى خسارة امتيازاتها ومستقبلها من جهة ثانية.

قمع بلا هوادة

تتالت الحملات القمعية منذ أواسط الثّمانينات أي بعد حوالي العام من انتفاضة الخبز (جانفي 1984)، وطالت مختلف النّزعات الفكريّة والسّياسيّة وبالخصوص الحركة "الإسلامية" (حركة الاتجاه الإسلامي) والحركة اليساريّة (حزب العمّال الشيوعي التونسي، اتّحاد الشّباب الشيوعي التونسي...). كما طالت الحركة النّقابيّة (تفكيك الاتحاد العام التّونسي للشّغل سنة 1985) والحركة الطّلاّبيّة (تجنيد مئات النّشطاء بـ"رجيم معتوق" بالجنوب التّونسي) ونشطاء حقوق الإنسان (بعث رابطة موازية لرابطة حقوق الإنسان، برئاسة وزير داخليّة سابق، الضّاوي حنابليّة، الذي أشرف على مجزرة جانفي 1978...) والصّحفيّين الدّيمقراطيّين. وكانت هذه الحملات القمعيّة تتمّ بإشراف الجنرال زين العابدين بن علي، الذي استدعاه بورقيبة بعد انتفاضة الخبز لـ"إعادة النّظام في البلاد". وقد عيّنه في البداية مديرا للأمن الوطني ثمّ رقّاه في أواسط سنة 1985 إلى رتبة وزير للدّاخليّة. وأصبح الرّجل مقرّبا جدّا من بورقيبة لما أبداه من طاعة في تنفيذ التّعليمات.

فقد بورقيبة في هذه المرحلة من حياته، بحكم السّنّ والمرض، كلّ قدرة حقيقيّة على التّفكير السّياسي وبالخصوص القدرة على المناورة التي كانت إحدى مميّزاته، لمعالجة المشاكل التي تنخر نظامه والتي تعمّقت عمّا كانت عليه في أيّ وقت مضى. كان بورقيبة في فترات عنفوانه السّياسي ميّالا إلى المساومة، سواء تعلّق الأمر بالقضايا الدّاخليّة أو الخارجيّة، ولم يكن يلجأ إلى الحلول القصوى بما فيها الحلول الدموية إلاّ إذا شعر بخطر يهدّد سلطته الشّخصيّة مباشرة. ولكنّ بورقيبة المسن والمريض، لم يبق حيّا نشيطا في كيانه، سوى ردّ الفعل القمعي الغريزي الذي لا يتطلّب تفكيرا كثيرا بقدر ما يتطلّب إصدار أوامر و"أداة" مستعدّة لتنفيذها. لذلك كان الرجل، حين كان المقرّبون منه، يخبرونه بما "يجري" في البلاد مقدّمين له ذلك في صورة "مؤامرات" تحاك ضدّ سلطته، لا يفكّر إلاّ في "الضّرب". وقد وجد في بن علي في تلك الفترة "العصا" التي يضرب بها والقوة الغاشمة التي تساور عقل العجوز الضّعيف المنهوك القوى وتلبّي نزواته. فأعجب به ورقّاه.

خبير القمع

كانت النّتائج التي يحرز عليها بن علي، في إيقاف المعارضين والتّنكيل بهم وفي تكسير الحركة النّقابيّة والحركة الطّلابيّة وفي قمع التّحرّكات الجماهيريّة، تبهر الرّجل العجوز وتعوّض له وهنه وخرفه وتوهمه أنّه ما يزال قويّا، ماسكا بالأوضاع. وليس مستبعدا أن يكون بورقيبة واثقا، في تلك المرحلة، بإخلاص بن علي له خاصة أنه مثله من جهة الساحل. كما ليس مستبعدا أن يكون بورقيبة، الدّاهية، المحنّك، المناور، الذي يستيقظ في كيان العجوز في فترات صحوته القليلة يفكّر في أنّه قادر على التّخلّص من "عصاه" متى قضى بها حاجته باعتبار أنّه كان يحسب أنّ بن علي لا يملك أيّ نفوذ وليست له أيّ تجربة سياسيّة خاصّة وبالتّالي فإنّه لا يساوي شيئا دون دعمه.

ومهما يكن من أمر فإنّ سياسة القمع المنهجي التي راهن عليها بورقيبة ومثّل بن علي أداتها المنفّذة شكّلت على خلاف رغبات بورقيبة وطغمته عاملا من عوامل تعميق الأزمة الاجتماعية والسّياسيّة في البلاد، لا عاملا من عوامل حلّها أو التّخفيف من حدّتها. لقد ازداد عدم الاستقرار، وتملّكت الطّبقة الحاكمة، من صناعيّين وتجّار ومزارعين كبار مشاعر القلق وعدم الاطمئنان على مصالحهم. وكان هذا الوضع يشغل أيضا "حلفاء" النّظام بالخارج، خاصّة الأمريكيّين والفرنسيّين الذين تبقى تونس في نظرهم نقطة استراتيجيّة هامّة ضمن حساباتهم الهيمنيّة في المنطقة. كان هؤلاء يخشون انهيار الوضع وقيام سلطة خارجة عن مراقبتهم وغير خاضعة لحساباتهم الجغراسياسيّة. لذلك أصبحوا يتابعون تطوّر الأوضاع عن كثب ويهتمّون بالبدائل الممكنة لبورقيبة، ولا يخفون استعدادهم لمساندة الطّرف الذي يضمن لهم أكثر من غيره مصالحهم الاقتصادية والسّياسيّة والإستراتيجية. وفي هذا السّياق كانت لهم اتّصالات برجالات السّلطة وفي مقدّمتهم بن علي وببعض رموز المعارضة اللّيبراليّة مثل أحمد المستيري لمزيد فهم الأوضاع وسبر أغوار مخاطبيهم وتكوين فكرة ملموسة عنهم لتحديد اختيارهم.

كلّ هذه المعطيات كانت واضحة لدى مختلف كتل النّظام ورموزه. وما من شكّ في أنّهم كانوا يدركون أنّ الأمر أصبح يطرح على النحو التّالي: من يسبق الآخر لـ"قطف الثّمرة" الآيلة للسّقوط؟ لكن، من الواضح، أنّه فيما عدا بن علي لم يكن يجول في خاطر أيّ من المتراهنين على الخلافة، الفوز بها عن طريق إزاحة بورقيبة. لقد كانوا يسعون إلى احتلال المواقع التي تخوّل لهم أن يكونوا في الموقع المناسب ساعة رحيل العجوز. وكانوا يعوّلون عليه لكي يضعهم في مثل ذلك الموقع أي على رأس الوزارة الأولى. وحتّى بن علي فإنّه ما كان يجرؤ على الانقلاب على "وليّ نعمته" لو لم يشعر بخطر داهم. فكلّ الأخبار التي نشرت بعد 7 نوفمبر 1987 تشير إلى أنّهّ استبق، بساعات، قرار عزله من قبل بورقيبة الذي كان ينوي استبداله بمحمّد الصّياح على رأس الوزارة الأولى.

كان بن علي على اطّلاع مباشر على الحالة الصحّية والذّهنيّة التي أصبح عليها بورقيبة. كما كان على علم بكافّة المناورات التي تحوكها الحاشية التي لم تكن مؤيّدة له. وكان خائفا على مركزه ومصيره، إضافة إلى أنّ بعض الملتفّين حوله من رجال الأعمال والسّاسة كانوا يشجّعونه على الإسراع بالمبادرة قبل أن تفلت الفرصة من بين يديه وبالتالي من بين أيديهم. لذلك ما أن علم عشيّة 6 نوفمبر من مصدر بالقصر (عبد الوهاب عبد الله، وزير الإعلام) أنّ بورقيبة سيقيله في صبيحة اليوم الموالي حتّى تحرّك في ذات اللّيلة ونفّذ الانقلاب، وقرأ بيانه، على غرار جميع الانقلابييّن، فجرا. وهكذا يكون بن علي قد أخذ على حين غِرّة خصومه، الذين ما من شكّ في أنّهم ناموا ليلة 6 نوفمبر مرتاحي البال في انتظار القرار السّعيد الذي كان سيعلنه بورقيبة صبيحة السّبت 7 نوفمبر 1987.

روّج المقرّبون من بن علي، بعد أن سطا على الحكم، أنّ بورقيبة كان سيقيله لأنّه لم يكن راضيا بنتائج محاكمة قادة "حركة الاتّجاه الإسلامي" وأنّه كان يرغب في إعادتها ليقطع رأس الغنّوشي ورفاقه. وكان الصّياح، ابن بورقيبة الرّوحي، المؤهّل أكثر من غيره لتولّي هذه المهمّة التي رفضها، حسب تلك المصادر بن علي. وقد تكون هذه الرّواية صحيحة لما يعرف عن بورقيبة من كره مرضي لأيّة معارضة قوميّة عربيّة أو "إسلاميّة" وذلك في نطاق كرهه العام لأيّة معارضة تقف في وجه نظامه مهما كان اتّجاهها الفكري والسّياسي. ويرجع هذا الكره المرضي إلى تربيته الفكريّة والسّياسيّة الفرنكفونيّة ونزعته المحلية المتطرّفة التي ترى، بكلّ بداهة، خطرا في كلّ إيديولوجيّة ذات طابع وحدوي سواء كانت دينيّة (الخلافة الإسلاميّة) أو قوميّة عربيّة (النّاصريّة، البعثيّة...) ومما غذى ذلك الكره محاولات بعض الأنظمة القومية زعزعة حكمه ومساندة معارضيه الواقعين تحت مظلتها (النظام الناصري في مصر ومعمر القذافي في ليبيا) ولكنّ هذه الرّواية قد تكون ملفّقة من أنصار بن علي بهدف إظهاره في صورة الرّجل "المعتدل" الذي رفض إراقة الدّماء فأزاح بورقيبة وسد الطّريق أمام محمّد الصّياح من منطلق "وطني نبيل"!! وممّا يدعم فرضيّة التلفيق هو أنّ بن علي لم يكن ذلك الرّجل الذي كانت له القدرة على "ليّ العصا" بيد بورقيبة ومعارضته في كيفيّة إدارة محاكمة "الإخوان" وإصدار أحكام لا يرتضيها. وإلى ذلك فإنّ الأحكام التي صدرت ضدّ قادة "الإخوان" لم تكن تتّصف بالحِلم كما حاول بن علي وأنصاره الإيهام بذلك. فقد حكم على قادتهم الموقوفين بالسجن المؤبّد وعلى الفارّين بالإعدام. كما حكم بالإعدام على بعض المتهمين في قضية ما سُمّي وقتها بـ"تفجيرات الساحل" التي أدت إلى جرح بعض السّواح جروحا متفاوتة الخطورة. وقد نفّذ حكم الإعدام في أحد الموقوفين. ثم إن سلوك بن علي، وزير الداخلية، مع "الإخوان" أثناء إيقافهم واستنطاقهم وفي مواجهة المسيرات الاحتجاجية التي نظّموها في الشارع لم يكن سلوكا ليّنا. لقد نكّل بهم وعذّب بوليسه بعضهم بمحلات وزارة الداخلية حتى الموت. ومما يؤكد رضاء بورقيبة على وزيره للداخلية أنه عينه بعد محاكمة "الإخوان" وزيرا أول أي خلفا له حسب الدستور. وهو ما يعارض ما قيل حول رغبته في إعادة تلك المحاكمة. لذلك قد تكون الرواية الثانية هي الأصحّ. ومفادها أن بورقيبة الذي استعمل بن علي في قمع جميع المعارضات وتفكيك الاتحاد العام التونسي للشغل وتدجين الحركة الطلابية، ارتأى التخلص منه حتى لا يزداد نفوذه ويستولي على السلطة. وقد يكون بورقيبة اتخذ قراره هذا بتأثير من حاشيته وقتها (منصور السخيري، محمود بن حسين، محجوب بن علي....). قد يكون هؤلاء وسوسوا له أن وزيره الأول الجديد له "مطامع"، أضف إلى ذلك أن بورقيبة نفسه كان يكره بطبعه العسكريين ويحرص على إبقائهم في منأى عن أي نشاط سياسي. وكان بن علي العسكري الوحيد الذي بوّأه بورقيبة منصبا في مثل أهمية منصب وزير الداخلية ثم رئيس الحكومة، لا تقديرا لكفاءته في المجالات الاقتصادية والسياسية بل لما أبداه من قدرات في القمع وفي "إعادة النظام" إلى نصابه. فقد يكون بورقيبة رام إبعاده لبدء "صفحة جديدة" تكون فيها السلطة لـ"ابنه الروحي" الذي يثق بأنه لن يغدر به لأنه تربّى على يديه "تربية دستورية" وبأنه سيحافظ على "إرثه". وبالفعل لو تمّ ذلك لكان بورقيبة أعاد في الواقع مقاليد السلطة إلى "حرس الحزب القديم" علما أن أحد هؤلاء الحرس (محجوب بن علي) كان قد عُيّن بعد على رأس إدارة الحزب الاشتراكي الدستوري.

الانقلاب لإنقاذ من؟

ومهما كان نصيب هذه الروايات من الصحة (الطرف المنقلب عليه لازم الصمت منذ 7 نوفمبر 1987، ولم يقدّم روايته للأحداث خوفا من بطش بن علي) فالثابت أن هذا الأخير بانقلابه على بورقيبة أنقذ رأسه وفي الآن نفسه أنقذ الدكتاتورية الدستورية من الانهيار بعد أن بدأت تُحْدِقُ بها مخاطر عديدة ليس أقلّها خطورة العمل العسكري الذي كانت ستنفّذه مجموعة من الضباط ورجال الأمن، سميت وقتها "المجموعة الأمنية"، وهي قريبة من "حركة الاتجاه الإسلامي"، ضد قصر قرطاج يوم 8 نوفمبر. ولكنها تخلّت عن مشروعها بعد حصول الانقلاب.

ومن نافل القول إن معظم المراقبين لتطور الأوضاع في تونس ما كانوا يتصورون قبل أشهر من انقلاب 7 نوفمبر 1987 وصول بن علي إلى أعلى هرم السلطة، بل حتى إلى الوزارة الأولى. كان الرجل، في نظرهم، خارج جميع الحسابات المتعلقة بخلافة بورقيبة وحتى المتعلقة بالقيام بأدوار سياسية هامة سواء في حياته أو بعد رحيله. كان الناس ينظرون إلى بن علي على أنه "تقني أمن" (وهي الصفة التي كان يطلقها هو على نفسه) يمكن أن يستخدمه هذا الطرف أو ذاك، كما كان استخدمه بورقيبة، لصيانة "النظام العام" عند الحاجة. ولكن التاريخ له أحكام غير متوقعة أحيانا. فكثيرا ما دفعت الظروف، إلى صدارة الأحداث، أشخاصا كانوا مغمورين طوال الطريق، ثم ظهروا فجأة في آخره ليفوزوا بالسباق، دون أن يكون أي أحد قرأ لهم حسابا بصورة جدّية. وقد يكون ذلك في الحقيقة أحد الأسباب التي ساعدتهم على الفوز، لأنهم ظلّوا في منأى عن سهام المتراشقين، بينما الذين يعدّون أنفسهم، بل ويعدّهم جمهور الناس أيضا الأقرب إلى الفوز بالسباق، يقصون منه الواحد تلو الآخر، ويغمرهم النسيان. وهذا عين ما حصل في تونس.

لقد أتت مختلف الصراعات التي شقّت الدكتاتورية الدستورية حول موضوع خلافة بورقيبة، منذ أواخر الستينات، على كل الطامحين جدّيا، من بين أقطاب الحزب والدولة، إلى الفوز بها. معظم هؤلاء أخطأ في حساباته فكشف نواياه قبل الأوان أو تصرّف كما لو أن الطريق أُخلِيت بعد له ولم يبق فيها أي مزاحم، فأقصاه العجوز الذي اتضح أنه " بو سبعة أرواح". فكلما ظن المتراهنون أنه انتهى، قام من جديد ولدغ من تناهى إلى سمعه أنه كان يستعدّ ليرث كرسيّه الذي كان يعتقد أنه لم يُخلق إلا له. كما أتت تلك الصراعات على شخصيات من درجة ثانية كانت تعمل خلف الستار، متصورة أنها قادرة على القيام بدور ما في إعادة توزيع الأوراق بعد ذهاب بورقيبة, فحتى وسيلة، البارعة في الدسائس، ذهبت ضحية دسائس مضادة وفقدت مكانها في القصر. ولم يبق على الركح في نهاية المطاف سوى أشخاص من درجة ثالثة ورابعة ليس لهم ماض في الحركة الوطنية أو في بناء "الدولة الجديدة"، يستندون إليه. وليس لهم وزن سياسي يستثمرونه في كسب الأنصار، بل إن المواقع التي كسبوها في المراحل الأخيرة من حكم بورقيبة، كانت ناجمة عن براعتهم في تلبية نزوات العجوز والتزلف له. وكان أحسن مثال على ذلك منصور السخيري، والي المنستير السابق الذي تحوّل بين عشية وضحاها إلى "سوبر وزير". لذلك لم يكن لأي من هؤلاء صيت يمكنه من احتلال صدارة الأحداث وتوحيد الطبقة الحاكمة حوله. كان بورقيبة، وليّ نعمتهم، يحرّكهم كالبيادق، فلم يكن لهم طموح خارج إرادته!. حتى الصيّاح وهو أقدمهم، كان مهمّشا منذ بداية الثمانينات، وكان مكروها شعبيا لدوره، على رأس حزب الدستور، في مجزرة 26 جانفي 1978. لذلك ما كان يقدر على أي شيء دون دعم من شخص بورقيبة.

ومن البديهي أن يسطع، في وضع كهذا، نجم بن علي "فنّي الأمن". ففي غياب أشخاص لهم وزن سياسي على الساحة الداخلية والخارجية، أصبح "فنّي الأمن" هو الضامن الأول لاستمرار نظام الحكم باعتباره المتحكم في أكبر قوّة منظمة بالبلاد وهي جهاز البوليس. وإذا كانت نجاعة بن علي الأمنية والقمعية هي التي تفسّر صعوده السريع كما سبق أن ذكرنا، فإنها هي التي أهّلته أيضا للانقضاض على الحكم. كان بن علي يشرف على جهاز البوليس ويتحكم في دواليبه. وكان مركزه هذا يخوّل له معرفة كل ما يجري في البلاد واستكشاف ردود فعل مختلف طبقات المجتمع وفئاته، وبالخصوص الطبقة البورجوازية على أي عمل يقوم به. كما يعرف حالة الجيش الذي تولى في وقت سابق المسؤولية الأولى في جهاز مخابراته وظلّت عينه عليه وهو وزير للداخلية، بل إنه طهّره في السنوات الأخيرة وأخضعه بالكامل لمراقبة وزارة الداخلية وبوليسها السياسي. ثم إن وجود بن علي في الأمانة العامة لحزب الدستور إضافة إلى وجوده على رأس وزارة الداخلية كان يمكّنه من الاطلاع على مجريات الأمور في داخل هذا الحزب والوقوف على حالة الوهن والتفكك التي يتخبط فيها منذ سنوات وهو ما يجعله عاجزا عن أية ردّة فعل في صورة إزاحة بورقيبة. وأخيرا وليس آخرا فإن تعيينه وزيرا أول في شهر أكتوبر 1987، جعله من الناحية الدستورية خليفة بورقيبة الشرعي في حالة موته أو عجزه عن القيام بمهامه. وهو ما سهّل لبن علي الانقلاب إذ لم يبق له إلا التعلة الشرعية لتبرير السّطو على قصر قرطاج. وحتى في هذا المستوى فإن بن علي لم يكن في حاجة إلى بذل مجهود خاص. فقد اكتفى باستعادة سيناريو سابق، كان شاع في فترة تولّي محمد مزالي رئاسة الحكومة وتحديدا بمناسبة الأزمة الصحية الخطيرة التي تعرّض لها بورقيبة في خريف 1985 وكادت تودي بحياته. ويتمثل هذا السيناريو في تكليف عدد من الأطباء بإصدار بلاغ صحي يفيد أن بورقيبة لم يعد قادرا على القيام بمهامه. وبهذه الكيفية يتولى خلفه، الوزير الأول، الحكم، حسب نص الدستور. قد يكون مزالي أو بعض مقرّبيه فكّر في هذا الحلّ ولكنه لم يقدم على تنفيذه. وقد تناهى ذلك إلى سمع بورقيبة بعد أن أقال مزالي وكان سببا من أسباب نقمته عليه والمطالبة بمحاكمته، بل إن مزالي ذكر أكثر من مرة أن بورقيبة كان يريد "قطع رأسه" بسبب تلك الإشاعة.

لقد نفض بن علي الغبار عن ذلك السيناريو، وجمّع في الليلة الفاصلة بين 6 و7 نوفمبر بمقرّ وزارة الداخلية فريقا من الأطباء الاختصاصيين الذين جُلبوا من ديارهم ليوقّعوا، دون أن يروْا "المريض" وثيقة الإطاحة به. في ذلك الوقت كانت بعض فرق "الحرس الوطني" الذي يشرف عليه الجنرال الحبيب عمّار، صديق بن علي وابن بلدته (حمام سوسة)، وأحد مشجعيه على الاستيلاء على السلطة، بل قائد الانقلاب التنفيذي، قد أخذت مكانها حول قصر قرطاج، بعد أن نزعت سلاح حرس القصر الرسمي. كما أن فرقا من البوليس السياسي كانت توجّهت بعد إلى مقرات إقامة بعض الشخصيات المقرّبة من بورقيبة والمنافسة لبن علي (محمد الصياح، منصور السخيري، محجوب بن علي، محمود بن حسين...) لإيقافها والاحتفاظ بها في ثكنة "الحرس الوطني" بالعوينة. ولم يكن بن علي في حاجة إلى استنفار قوات البوليس والحرس في كامل أنحاء البلاد، لأنها كانت مستنفرة، ومنذ مدة طويلة في علاقة بالمسيرات الاحتجاجية التي كان ينظمها أنصار "الاتجاه الإسلامي"، فاكتفى في تلك الليلة بإصدار تعليمات من أجل استنفار استثنائي تحسّبا لـ"احتمال وقوع حدث خطير". فظل مسؤولو الأمن ساهرين في مراكزهم إلى أن تبيّنوا فجر يوم السابع من نوفمبر حقيقة "الحدث الخطير". أما قوات الجيش فقد ظلّت في ثكناتها، بعد أن ضُمّ قائد القوات البرية إلى قادة الانقلاب، في انتظار ردود فعل الشارع يوم 7 نوفمبر والأيام الموالية.

تلك هي إذن العوامل التي جعلت بن علي الأقدر على اغتصاب السلطة ليلة 6-7 نوفمبر دون أن يجد أي مقاومة تذكر من داخل النظام. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ أيّة قوّة سياسيّة من خارج مؤسسات الحكم، أي من المعارضة، لم تكن في تلك اللّحظة مرشّحة لافتكاك السّلطة. فقد دمّر القمع الذي أشرف عليه بن علي بالذّات وقاده، المعارضات السّياسيّة والنّقابيّة وهمّشها وحال دون ارتباطها بقاعدة شعبيّة قويّة تخوّل لها تشكيل بديل مباشر لنظام بورقيبة. كما كانت الحركة العمالية والنقابية والطلابية والشعبية عموما مفككة ومشتتة وفي أدنى درجات التعبئة فلم تكن قادرة على التدخل في مجرى الأحداث والتأثير فيه.

إن معظم القوى الاجتماعية والسياسية تقبّل، في هذا الوضع، الانقلاب بنوع من "الارتياح". ويمكن تفسير ردّ الفعل هذا بالرغبة في التغيير التي كانت تسكن قطاعات واسعة من المجتمع بسبب ما وصلت إليه أوضاع البلاد من تردّ مخيف لم يكن أحد يتكهّن بعواقبه إذا استمرّ فترة أخرى من الزمن. ثم إن خطاب الانقلاب الذي ألقاه بن علي، والذي انصهرت فيه خبرة الرجل الأمنية الطويلة مع خبرة الهادي البكُّوش السياسية التي لا تقلّ طولا، قد ركّز على أهم المحاور التي كانت تشغل بال تلك القطاعات وبدا كأنه يدرك مطالبها ويستجيب إليها. لقد وعد بن علي بـ"الإصلاح" خاصة في المجال السياسي. فأعلن أنه سيضع حدّا للرئاسة مدى الحياة والخلافة الآلية واعترف للشعب التونسي بأنه "جدير بحياة سياسية متطورة ومنظمة تعتمد بحقّ التعددية السياسية والتنظيمات الشعبية". كما أكد أنه سيحرص "على إعطاء القانون حرمته حتى لا يبقى مجال للظلم والقهر" وأنه سيحرص على "إعطاء الدولة هيبتها" حتى لا يبقى "سبيل لاستغلال النفوذ أو التساهل في أموال المجموعة ومكاسبها".

ولكن إذا كان صحيحا أنّ انقلاب 7 نوفمبر استقبل بنوع من "الارتياح"، فتنبغي الإشارة إلى أنّ دوافع هذا الارتياح ودرجاته كانت تختلف من فئة إلى أخرى ومن طرف إلى آخر، دون نسيان أنّ جانبا من القوى السّياسيّة، ومنها حزب العمّال الشّيوعي التّونسي ومن الرّأي العامّ الشّعبي والدّيمقراطي لم يساند انقلاب بن علي وعارضه منذ اللّحظة الأولى وحذّر من عواقبه.

الأغنياء يُبَاركون

صفّق كبار الرّأسماليين من رجال أعمال وتجّار وفلاّحين كبار من اللحظة الأولى لانقلاب بن علي وذلك من خلال المنظمات التي تمثلهم وعلى رأسها "الاتحاد التونسي للصناعة للتجارة" و"الاتحاد القومي للفلاحين". فنقابة الأعراف عبّرت في بيان صادر في نفس اليوم عن "إكبارها وتأييدها المطلق" لـ"التغيير". أما نقابة الفلاحين فقد هنّأت وساندت (جريدة الصباح 8 نوفمبر 1987). لقد كان الأعراف وكبار الفلاحين يدركون أن صانع الانقلاب، مع الأغنياء ضد الفقراء، مع أصحاب رأس المال ضد العمال وأنه منقذهم من المجهول الذي أصبح يحفّ بمصالحهم. وكان إدراكهم هذا قائما على دراية بطبيعة الرّجل الذي افتكّ مقاليد الحكم فجر السّابع من نوفمبر. إنّهم مقتنعون بأنّه قادر على تبديد مخاوفهم وطمأنتهم على مصالحهم. لا يهمّهم أصله وفصله في مثل تلك الظّروف التي أصبحت فيها مصالحهم غير مضمونة بسبب عدم استقرار السّلطة. فما يهمّهم أولا وأخيرا هو انحياز الرّجل لهذه المصالح وقدرته على "إعادة النّظام" في البلاد. ومن هذه النّاحية فقد خبروه وخبروا نجاعته. فهم يتذكّرون جيّدا أنّ أوّل ظهور لبن علي على مسرح الأحداث كان في ديسمبر 1977- جانفي 1978 عندما ناداه غلاة الفاشية الدستورية الملتفّون حول بورقيبة (نويرة، فرحات، الصيّاح) ليترك رئاسة مكتب المخابرات العسكريّة بوزارة الدّفاع ويرتدي لباسا مدنيا ويلتحق في الحال بـ"إدارة الأمن الوطني" ليعوّض مديرها الذي كان قد خلع هو ووزير الدّاخليّة قبل لحظات، ويعدّ الهجوم على الطّبقة العاملة والحركة النّقابيّة التي تمرّدت بقيادة الحبيب عاشور على بورقيبة ونظامه وعلى أصحاب رأس المال وباتت ترفع مطالب هامّة في المجال الاجتماعي والسّياسي وقرّرت الإضراب العامّ ليوم 26 جانفي 1978.

وبالفعل فقد أغرق بن علي، مدير الأمن، بالتّعاون مع ميليشيات محمّد الصّياح مدير الحزب، في الدّم الإضراب العامّ الذي أعلنه الاتحاد العامّ التّونسي للشّغل يوم 26 جانفي 1978 دفاعا عن استقلاليته وعن مصالح العمال والشغالين واحتجاجا على الاستفزازات والاعتداءات التي كانوا يتعرضون لها طوال الأشهر الماضية. لقد قتل البوليس والجيش والميليشيا المؤتمرين ميدانيّا بأوامر بن علي، المئات من المواطنين العزّل الذين كانوا يطالبون بظروف عيش أفضل وبـ"شيء من الحرّية". كما جرحوا مئات آخرين وأوقفوا آلاف النّقابيّين والمتظاهرين وعرّضوهم لأبشع ألوان التّعذيب وأحالوهم على المحاكم (عاشور والقيادات النّقابيّة على محكمة أمن الدّولة والبقيّة على محاكم الحقّ العامّ) التي أصدرت في شأنهم أحكاما جائرة بالسّجن. ونتيجة لهذه الحملة القمعيّة الواسعة تفكّك الاتحاد العام التّونسي للشّغل على المستويات الوطنيّة والجهويّة والمحلّية ونصّبت على رأسه عناصر مأجورة موالية للطّغمة الفاشيّة الحاكمة بقيادة سيء السمعة التيجاني عبيد الذي غدر برفاقه وقبل أن يخدم في ركاب غلاة الفاشية. وقد سمح هذا الوضع للأعراف بالثّأر من الشّغالين الذين تمرّدوا عليهم خلال الأشهر الماضية وفرضوا عليهم تحسينات في أجورهم وظروف عملهم، فشنّوا هجوما على مكتسباتهم المادّية والمعنويّة وكثّفوا وتائر الاستغلال والطرد بالجملة وكان بوليس بن علي يساعدهم ويعاضدهم بقمع روح المقاومة التي لم تخمد والتي كان يؤطرها "الشرعيون" من مناضلي الاتحاد في مواجهة المنصبين.

لذلك ما كان أصحاب رأس المال أن ينسوا هذا التّاريخ، وأن ينسوا فضل الرّجل عليهم. كما أنّهم ما كانوا لينسوا فضله في أواسط الثّمانينات بمناسبة الهجوم الثّاني على الاتحاد العام التّونسي للشّغل. فقد أبعد بن علي في ربيع 1980 من إدارة الأمن الوطني بسبب أحداث قفصة المسلّحة وعيّن سفيرا في بلونيا. لقد اضطرّ بورقيبة على إثر هذه الأحداث أن يجري تعديلات على سياسته القمعيّة المتطرّفة بغية "ترميم" جبهته الدّاخليّة. وكان من البديهي أن يزيح من الرّكح رموز المرحلة الماضية، مرحلة 1978- 1980، الحالكة، وكان بن علي أحد هذه الرّموز. كما أنّه أطلق سراح القيادات النّقابيّة الشّرعيّة التي سرعان ما استعادت، بدعم من قواعد الشّغيلة، مكانتها في الاتحاد وأطردت المنصّبين وتنازل مضطرّا عن مساحات في مجال الإعلام والأنشطة الثّقافيّة. وقد ساعدت هذه العوامل تطوّر الحركة الجماهيريّة والشّعبيّة من جديد، فساد التّوتّر علاقة الحركة الاجتماعية بالسّلطة، رغم مهادنة أحزاب المعارضة الرّسميّة وقيادة الاتحاد لها، لذلك ما أن أعلنت حكومة مزالي في نهاية شهر ديسمبر 1983 الزّيادة في أسعار الخبز والعجين حتى انتفضت جماهير الشّعب المفقّرة من جنوب البلاد إلى شمالها. وقد دامت هذه الانتفاضة حوالي أسبوع (من 31 ديسمبر 1983 إلى 6 جانفي 1984). وعجز البوليس عن احتوائها. فاستنجد بورقيبة، مرة أخرى، بالجيش. وسقط في هذه الانتفاضة مئات المواطنين واعتقل الآلاف منهم. وحاولت بعض كتل النّظام (إدريس قيقة وزير الدّاخليّة...) توظيف هذه الانتفاضة في الصّراع من أجل الخلافة وتوجيه ضربة إلى مزالي الوزير الأوّل، و"الخليفة الشّرعي" الذي تصدّر حملة الدّفاع عن الزّيادة في الأسعار وجنى نتيجة ذلك كره أوسع الفئات الشّعبيّة. ولكنّ بورقيبة وقف كعادته إلى جانب "الحزم" والقمع وأبعد وزيره للدّاخليّة وكلّ الذين "تهاونوا" من المسؤولين الأمنيين الكبار في قمع "انتفاضة الخبز".

في هذا السّياق، تذكّر بورقيبة، أو ذكّروه بمدير أمنه السّابق الذي أفلح في قمع الإضراب العام سنة 1978، فدعاه إلى ترك السّفارة ببولونيا والعودة إلى تونس ليرأس من جديد إدارة الأمن ويصبح بعد أشهر فقط كاتب دولة للأمن الوطني، فوزيرا للدّاخليّة في ربيع عام 1985. كان المطلوب من بن علي أن يعيد "النّظام". وقد وجد في طريقه مرة أخرى الحركة النّقابيّة فنظّم بطلب من بورقيبة هجوما على الاتحاد العام التّونسي للشّغل في كامل أنحاء البلاد وأجلى، عن طريق العنف البوليسي، مناضلي الاتحاد الشّرعيّين المعتصمين بمقرّاته وأوقف المئات منهم، وقدّم للمحاكمة الحبيب عاشور وبعض معاونيه وأخضع بقيّة عناصر المكتب التّنفيذي للمراقبة والضّغوط المستمرّة، ونصّب مكان الهياكل الشّرعيّة، هياكل موالية عرفت وقتها بهياكل "الشّرفاء". وقد مكّن مرّة أخرى تفكيك المركزيّة النّقابيّة الحكومة والأعراف ومؤسّسات النّهب الدّولي (البنك العالمي وصندوق النّقد الدّولي) من فرض "برنامج الإصلاح الهيكلي" بداية من سنة 1986، هذا البرنامج الذي حمل إلى الشّغيلة والشّعب التّونسيّين مزيدا من الفقر والبطالة وإلى تونس مزيدا من التّبعيّة، بينما استغلّه الأثرياء ليزدادوا ثراء خاصّة أنّ المقاومة العمّاليّة ضعيفة بدرجة كبيرة بسبب تدمير المركزيّة النّقابيّة. وقد فسح تنصيب "الشّرفاء" مكان عاشور والقيادات الشّرعيّة المجال لعودة المنشقّين الذين كوّنوا "الاتحاد الوطني"، سنة 1985 بزعامة عبد العزيز بوراوي وبدعم من الحكومة إلى الاتحاد العام التّونسي للشّغل وعهدت الأمانة العامة لهذا الأخير السّهر على إخضاع العمال والشغالين والحركة النقابية لإرادة السلطة والأعراف. لذلك كله كان من الطبيعي أن يهلل الأعراف للانقلاب.

واشنطن وباريس تؤيدان

ومما زاد الأعراف وكبار الفلاحين اطمئنانا أن الدول والمؤسسات الامبريالية الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية أيدت الانقلاب. لقد سبق أن عرفت الولايات المتحدة بن علي مسؤولا عن المخابرات العسكرية ثم مسؤولا عن الأمن العام خاصة في فترةالثمانينات التي انتقل فيهاالمقاومون الفلسطينيون من لبنان إلى تونس. كما كان المسؤولون الأمريكيون على صلة به في الأشهر التي سبقت الانقلاب. ومن الأحداث التي جلبت الاهتمام وقتها زيارةالجنرال "والترز" مسؤول المخابرات السابق وأحد كبار مستاشري ريغن في الأمن الذي جاء إلى تونس في ربيع 1987 وقابل بورقيبة رفقة بن علي وزير الداخلية أنذاك. وفهمت هذه المقابلة على أنها فرصة ليعاين المسؤول الأمريكي الحالة التي أصبح عليها الرجل العجوز. وكان التقرير الذي قدمه إلى الكونغرس عقب هذه الزيارة بمثابة البرنامج لمرحلة ما بعد بورقيبة. وقد تبنى بن علي تقريبا ولو شكليا كافة نقاطه (إطلاق سراح المساجين السياسيين، إقرار التعددية الحزبية، إلخ..). وبعبارة أخرى كان الأمريكان يدركون أن بن علي "حليفهم" وأنه سيحافظ على تبعية تونس للعالم الرأسمالي الغربي لذلك ساندوه منذ اللحظة الأولى. ومما جاء في رسالة ريغن المنشورة بالصحافة يوم 10 نوفمبر 1987 أنّ "الولايات المتحدة ستقف إلى جانب تونس لمجابهة التحديات التي تواجهها وسنظل ملتزمين لفائدة استقلال تونس وحرمتها الترابية وتقدمها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي". وحتى الإيليزي الذي كان يشغله "متيران" والذي فوجئ بالانقلاب على ما يبدو والحال أنه كان يتمنى أن يكون لفرنسا دور أهم في تعيين خليفة بورقيبة الذي خدمها طوال حياته، فإن الاحترازات التي طبعت موقفه خلال الأيام الأولى التي عقبت الانقلاب، سرعان ما تبدت بعد التطمينات التي تلقاها من بن علي حول استمرار نهج "التعاون الوثيق" مع فرنسا وضمان "تقاعد مشرف" لبورقيبة.

أما المؤسسات المالية الدولية فإنها لم تتحيّر إذ كانت تعرف أن بن علي سيواصل نفس لاختيارات التي أملتها منذ حوالي العام والتي تابع بنفسه تنفيذها منذ أن عُيّن وزيرا أول خلفا لرشيد صفر. وتجدر الملاحظة أن بن علي سارع منذ اللحظة الأولى، لمزيد طمأنة هذه المؤسسات والعواصم الغربية عامة، بتأكيد أنه سيحترم جميع "تعهّدات والتزامات" النظام الخارجية.

وفي الحقيقة لم يكن أصحاب رأس المال في تونس وفي الخارج في حاجة إلى أن ينتهج نظام بن علي سياسة اقتصادية جديدة. فالخيار "النيوليبرالي" قائم وهو بصدد التنفيذ بعنوان "برنامج الإصلاح الهيكلي" الذي يندرج ضمن استراتيجية البنك العالمي وصندوق النقد الدولي لاستغلال الأزمات الحادة التي عرفتها اقتصاديات البلدان التابعة قصد إعادة تشكيلها بما يلائم حاجيات الاقتصاد الرأسمالي الأمريكي والغربي عامة ويعزز تبعيتها ويفتحها لمزيد النهب، ولكنهم في حاجة إلى جهاز سياسي–إداري-بوليسي قويّ قادر على خلق المناخ المناسب لتطبيق لك الخيار وإزاحة كل العراقيل القائمة في وجهه، وعلى فرض "الاستقرار" الذي يحتاجه استثمار رأس المال، والذي أصبح مفقودا نسبيا في آخر سنوات حكم بورقيبة. وبالطبع فإن بن علي يوفر لهم هذا الضمان، إضافة إلى كونه يبدد خشية العواصم الغربية من تأثير أطراف خارجية مناوئة لها في الصراع من أجل خلافة بروقيبة. كان الاهتمام موجها بالخصوص إلى معمر القذافي الذي عرفت علاقته بنظام بورقيبة عدة تقلبات منذ فشل مشروع جربة الوحدوي جانفي 1974" وكانت تخشى أن يتدخل بشكل أو بآخر في مجرى الأحداث للمساعدة على قيام حكومة قريبة من توجهاته.

وخلاصة القول إن انتقال السلطة إلى بن علي، بقطع النظر عن الكيفية التي تم بها، طمأن العواصم الغربية لأنه في نهاية الأمر حسم مشكلة "الخلافة" في تونس التي كانت مصدر قلق لها، في نطاق الاستمرارية ودون حصول هزات واضطرابات خطيرة . لقد بدت الأمور كأنها جرت في إطار الشرعية واستجابة إلى "انتظارات شعبية".

"ارتياح شعبي"

ينبغي الاعتراف بأن فئات واسعة من الشعب التونسي تقبلت الانقلاب بنوع من الارتياح ولكنه ارتياح مشوب بالحذر. لم تعبر الجماهير عن معارضة أو رفض للانقلاب ولكنها في الآن ذاته لم تنزل إلى الشارع في مسيرات ومظاهرات عارمة مؤيدة له عدا بعض المئات الذين خرجوا بدفع من شُعَب الحزب الحاكم أو البوليس السياسي. لقد طال حكم بورقيبة واتسع دائرة القمع لتشمل آلاف العائلات وتعطلت الحياة العامة وساءت ظروف عيش الطبقات والفئات الكادحة المادية ومعنوية وعمّ عدم الاطمئنان النفوس. ولم يكن الناس يرون مخرجا من الوضع الذي أصبحت عليه البلاد خصوصا أنه لم يكن يوجد بديل بارز لنظام بورقيبة قادر على قلب الوضع لصالح الشعب. فالقوى التي كان من الممكن أن تراهن عليها هذه الفئة أو تلك من الفئات الشعبية للتأثير في مجريات الأمور بالبلاد (الحركة النقابية، الحركات السياسية بمختلف فصائلها اليسارية والإسلامية والليبيرالية...) دمّرها القمع وهمّشها إلى حدّ كبير. لذلك لمّا حصل الانقلاب رأت فيه عدّة فئات من المجتمع نوعا من المخرج من الوضع المتردي الذي تعيشه البلاد ومبعثا للأمل. كانت هذه الفئات تأمل رحيل بورقيبة بأية طريقة كانت، معتقدة أن خليفته لن يكون "أسوأ منه" وأنّه سيضطر إلى "التحسين والإصلاح" على الأقل ليرسي قواعد سلطته. وهذا النمط من الشعور ليس خاصا بالشعب التونسي، بل عاشته العديد من الشعوب في مراحل تاريخها المختلفة خصوصا عندما تطول الأزمات وتثقل على النفوس وتصعب رؤية آخر النفق.

أما كون جماهير الشعب لم تتقبل بالمظاهرات والمسيرات المؤيدة فذلك راجع بلا شك إلى كونها فوجئت بأن يكون قائد الانقلاب هو بن علي بالذات الذي ارتبط اسمه إلى آخر لحظة من لحظات حكم بورقيبة بأبشع الحملات القمعية التي عرفتها تونس خلال العشرية المنقضية (1977، 1987). فهو جلاّد الحركة النقابية (78/1985) وهو جلاد الحركة الطلابية (1986). كما أنه جلاّد جميع المعارضات السياسية تقريبا. فمنذ عودته إلى وزارة الداخلية في ربيع 1984، لم تنج أية عائلة سياسية أو فكرية من قمعه. لقد كان الرجل لا يثير الاطمئنان في النفوس بل كان يخيف. كان صموتا مثله مثل جميع رجال المخابرات. لا يتكلم في إذاعة أو تلفزة ولا يقبل حتى تصويره من قبل الصحفيين. وكان الناس لا يشعرون بوجوده إلا من خلال العصا التي تهوي عليهم. لذلك كان موقف الشعب التونسي الذي كان يعيش يوميا ومنذ شهور تحت وطأة وضع خانق، موقفا يمتزج فيه الارتياح لرحيل بورقيبة بالحذر وعدم الاطمئنان لشاغل قصر قرطاج الجديد.

لقد كان من الصعب أن يكون لعامّة الشعب التونسي موقف غير ذلك الموقف. فعندما لا يكون الشعب مسلحا بما يكفي من الوعي السياسي ومؤطرا التأطير اللازم صلب أحزاب ومنظمات مهنية وجمعيات مدنية تدافع عن مصالح طبقاته وفئاته المختلفة وتعبّر عن طموحاتها وعندما لا يكون أيضا معتادا، بحكم محدودية خبرته السياسية وبالخصوص محدوديّة خبرة طبقته العاملة التي تمثل عَصَبَهُ الأساسي ، على التعامل اليقظ مع الأحداث السياسية فإن تضليله ممكن ولو لفترة من الزمن. وهذا صحيح بالنسبة إلى الشعب التونسي خاصة الذي يختزن في وعيه الجمعي، نوعا من السلوك، لم تحدث رجات كبيرة في تاريخه المعاصر كي يقطع معه بصورة جذرية فظل يعوق تقدمه. ويتمثل هذا السلوك في النظر إلى شؤون الحكم وكأنها أمور لا تهمه بل تهمّ "الفئة الحاكمة" فقط (عائلة، نخبة، حزب،...) فهي التي لها في نظره حق إدارة تلك الشؤون وحسمها. وإذا كان هذا الشعور المستبطن موروثا عن قرون وقرون من الاستبداد ويمثل عنصرا جوهريا في الثقافة السياسية العامة، فإن الدكتاتورية الدستورية التي خلفت الدولة البايوية/الاستعمارية، قد دعمته منذ قيامها بأن أبقت الشعب التونسي في منأى عن المساهمة في الحياة العامة وقمعت كل تطلعاته في الحرية والديمقراطية. لقد ظلت السياسة أحد المحرمات التي لا يحق للشعب الاهتمام بها والجريمة الكبرى التي يمكن أن يرتكبها "آثم". وحتى عندما يتمنى الشعب التونسي في عمق أعماقه بأن يكون له دور هام في الحياة العامة فإنه يشعر بالعجز لأن الدكتاتورية الدستورية أبقته أعزل، دون تنظيم، حتى يتسنى لها التلاعب به والقضاء بسهولة على كل مبادرة تصدر عنه. وكان القمع الرهيب الذي سلطته باستمرار على مختلف الحركات الفكرية والسياسية المعارضة لها يهدف على الحيلولة دون وصول تلك الحركات إلى الشعب وانصهارها فيه وكسبه إلى أفكاره وبرامجه. كل هذه العوامل جعلت الشعب التونسي ينظر إلى ما يجري في السلطة منذ عهد بورقيبة على أنه أمر "خارج عن صلاحيته"، لذلك كان كل ما يتمناه أن يكون الشخص المعيّن في الحكم "صالحا". لم تكن المؤسسات التي لا دور له في تشكيلها تعني شيئا بالنسبة إليه. فقد اعتاد على الحكم الفردي المطلق.

لذلك عندما أعلن بن علي انقلابه على بورقيبة فجر السابع من نوفمبر لم يعر عامة الناس أهمية كبيرة للطريقة التي استولى بها على الحكم ولا حتى لمدى شرعية وصوله إلى الحكم فكأن هذا السؤال ليس من حقهم أن يثيروه أو يناقشوه لأنهم لم يعتادوا على ذلك، بل الاستبداد الذي أقصاهم إقصاء تاما عن المشاركة في إدارة شؤون البلاد عوّدهم على أن لا يتطارحوا مثل تلك الأسئلة وأن لا يناقشوها. ويمكن القول إن هذا السلوك مغروس تاريخيا في نفوس التونسيين نساء ورجالا لأنهم لم يعرفوا في تاريخهم نظاما ديمقراطيا يعترف لهم بحقوقهم بل عاشوا دائما تحت الاستبداد بمختلف تلويناته ومسوّغاته دينية كانت أم دنيوية. كما أن انتفاضاتهم العديدة أغرقت في الدم أو أُجهضت ولم تحقق أهدافها. وحتى الحركة الوطنية التي شاركوا فيها وقدموا تضحيات جساما تم احتواؤها والانقلاب على شعاراتها. لذلك انصبّ اهتمام الناس على ما جاء في خطاب بن علي أكثر منه على شيء آخر. فلما أعلن أنه جاء لـ"يُصلح ويضع حدّا للمظالم ويشيع مبادئ الحرية والديمقراطية" صدّقوه أو قل رغبوا في تصديقه حتى وإن كانوا لا يثقون به تمام الثقة. وكما هو حال كل شعب غير متمرّس بالسياسة "سبّق الشعب التونسي الخير" وفضّل الحلم بل الوهم على فهم الواقع بكل خفاياه. واتفق العديد من الناس يحمّلون مسؤولية ماضي بن علي القمعي لبورقيبة واعتبروه مجرد مأمور في عهده. بل إن إزاحة بورقيبة من السلطة والتلويح بـ"عهد جديد" كان كافيا ليغفروا لبن علي شنائعه ويتغاضوا عنها في انتظار ما سيرونه منه ويعيشوا لحظات تفاؤل هم في أشد الحاجة إليها. وهنا تكمن مأساة الشعب التونسي. فهو لم يكن قادرا للأسباب التي ذكرنا على فهم حقيقة شاغل قرطاج الجديد ونواياه، بل لم يكن قادرا حتى على إدراك أنه هو الذي أسهم بنضالات مختلفة، رغم عفويتها ومحدوديتها وبتضحياته الجسيمة انخرام الديكتاتورية الدستورية وتأزيمها وأن بن علي ما كان له أن يصل إلى السلطة لولا تلك النضالات والتضحيات وأنه ما كان ليتحدث في بيان الانقلاب عن الحرية والديمقراطية والعدل لولا أن هذه المسائل تبلورت، ولو إلى حد في وعيه أو على الأقل وعي نخبه التقدمية وأصبح مطلبا من مطالبها. وفي الحقيقة فقد كان لمعظم الأحزاب السياسية وقيادات المنظمات والجمعيات المهنية والحقوقية ووسائل الإعلام والنخب المثقفة دور في مغالطة الشعب التونسي وتضليله وتعزيز الوهم لديه بإمكانية حصول "تغيير" لفائدته وطمس ماضي بن علي الاستبدادي وإضفاء صبغة شرعية على انقلابه وإخفاء حقيقة أهدافه ومخططاته.

حزب الدستور والقوى الليبيرالية والإصلاحية والدينية تؤيّد "التغيير"

بطبيعة الحال صفّق "الحزب الاشتراكي الدستوري" الحاكم، عدا بعض رموزه الذين أوقفوا في الليلة الفاصلة بين 6 و7 نوفمبر لـ"القائد الجديد". فهذا الحزب المتآكل، الضعيف، الذي تنخره الصراعات والذي لم يبق فيه غير الوصولي والانتهازي، كانت بيروقراطيته ترى في بن علي الرجل الذي يمكن أن ينقذها وينقذ مصالحها ولا يعطي السلطة لغيرها. لذلك كان عليها أن تتخلى عن بورقيبة وتمنحه، منذ اللحظة الأولى، تأييدها وتعبّر له عن استعدادها لخدمته. وفوق ذلك، فبن علي يبقى "ابن الدار". صحيح أنه ليس ممّن لهم تاريخ في حزب الدستور ولكن بورقيبة أقحمه خلال السنوات الأخيرة في الحزب، وعيّنه أمينا عاما له، بعد أن أسماه وزيرا أول. ورغم أنه ظل ينظر إليه من قبل "الحرس القديم" كـ"دخيل" فإن المصلحة الآن تقتضي ركوب "التحول" والمسك بتلابيب شاغل القصر الجديد، ليبقى حزب الدستور، حزب السلطة، ويكون بذلك "محرك التحول" المزعوم، ومما شجّع عديد كوادر الحزب الحاكم على اتخاذ هذا الموقف وجود مديره السابق والخبير بشؤونه الداخلية، الهادي البكوش، إلى جانب بن علي، ضمن ثالوث الانقلاب الأساسي (بن علي، البكوش، الحبيب عمار) بل إن بن علي عيّنه منذ اليوم الأول وزيرا أول. وكان هذا الثالوث من جهة الساحل، موطن أهم قادة النظام البورقيبي على مدى الثلاثين سنة ونيف الماضية، الأمر الذي أدخل الطمأنينة على نفوس هياكل الحزب الدستوري وإطاراته بتلك الجهة.

وعلى صعيد آخر تجاوبت القوى الليبيرالية والإصلاحية والدينية مع الانقلاب واعتبرت أن ما جاء في بيان بن علي "يستجيب" لمطالب الحركة الديمقراطية وحثته على إجراء إصلاحات. فحركة الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة أحمد المستيري "باركت" إزاحة بورقيبة واعتبرتها "إجراء يكتسي مصلحة عامة" مضيفة أن اعتماد الفصل 57 من الدستور يضفي على هذا الإجراء "الشرعية الكاملة" (الصباح 8 نوفمبر 1987). أما حزب الوحدة الشعبية بزعامة محمد بلحاج عمر فقد اعتبر الانقلاب "تحولا تاريخيا عظيما لأنه يمثل يوم خلاص وطنيّ من التسلط والحكم الفردي الذي كبّل الجماهير" (الصباح 13 نوفمبر 1987). ورأى "التجمع الاشتراكي التقدمي" بزعامة أحمد نجيب الشّابي أن إقالة بورقيبة تمثل "حدثا تاريخيا بالغ الأهمية من شأنه أن يضع حدا لتدهور الأوضاع السياسية". كما اعتبر أن بيان 7 نوفمبر "يستجيب لمطالب الحركة الديمقراطية" (الصباح 8 نوفمبر 1987). ورأى أحمد بن صالح زعيم حركة الوحدة الشعبية الذي كان يعيش في المنفى أن انقلاب 7 نوفمبر يمثل "منعرجا نظيفا" (الصباح 10 نوفمبر 1987). وأيّد محمد حرمل الأمين العام لـ"الحزب الشيوعي التونسي" الانقلاب متمنيا أن يحقق طموحات الشعب التونسي ووجّه بشير الصيد زعيم "التجمّع القومي العربي" برقية عبّر فيها عن "الاهتمام والتفاؤل" بما حصل. أما "حركة الاتجاه الإسلامي" فقد عبّرت عن تفاؤلها إزاء الانقلاب ورأت فيه فاتحة "عهد جديد" ولم يتردد زعيم الحركة راشد الغنوشي في التصريح يوم إطلاق سراحه، عشية الاحتفال بـ"عيد الاستقلال" (20 مارس 1988) بأن "ثقة الإسلاميين بالله وبالرئيس زين العابدين بن علي كبيرة". (وكالة تونس إفريقيا للأنباء، 18 مارس 1988).

ولم يتخلف عن ركْب التأييد معظم رموز البيروقراطية النقابية العاشورية المخلوعة. نسي هؤلاء بسرعة، بانتهازية أو بغباء سياسي، ما فعله بن علي بالحركة النقابية في أزمتيْ 1978 و1985 وانبروِا يصفقون له داعين إياه إلى الوقوف إلى جانب "الشرعية" محمّلين مسؤولية ما فات لبورقيبة. ومما جاء في البيان الذي أصدرته "الهياكل الشرعية" أنها تؤيّد ما جاء في بيان 7 نوفمبر "تأييدا مطلقا" مؤكدة أن انتقال السلطة كان "مطابقا لمقتضيات الدستور". وصرّح حسين بن قدور أحد رموز القيادة المخلوعة أن بن علي يمثل "الرجل المناسب في المكان المناسب" (الصباح 8 نوفمبر 1987). وضلّل هذا الموقف جموعا كبيرة من القواعد النقابية التي توهمت أن بن علي مستعد "لاحترام" استقلالية الاتحاد العام التونسي للشغل و"دعمها" خاصة أنه كان يزعم، في تدخلاته أن وجود حركة نقابية قوية ومستقلة يمثل ركيزة من ركائز الحياة الديمقراطية وشرطا من شروط توازن المجتمع". واعتبرت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان "أن التغيير الحاصل في رئاسة الدولة قد تمّ في نطاق استمرارية المؤسسات وبطريقة سلمية وطبقا لدستور البلاد" مضيفة "أن يوم 7 نوفمبر 1987 يمثل منعرجا في الحياة السياسية لبلادنا". وذكّر بيان الرابطة بمطالبها المعهودة المتعلقة بالحريات. وعبرت جمعية الصحفيين التونسيين عن ارتياحها العميق لما تضمنه بيان 7 نوفمبر مشيدة "بحصول التغيير في إطار الشرعية". وعلى نحوها نحَتْ جمعية المحامين الشبان وعمادة المهندسين المعماريين.

وعلى صعيد آخر هرول عدد من "المثقفين" للالتحاق بموكب "المهللين المستبشرين". وينتمي جلّ هؤلاء "المثقفين" إلى صنف لم يسعفه الحظ في عهد بورقيبة للفوز بـ"امتياز ما". كان للبعض "ماض يساري". وكان للبعض الآخر "ماض قومي" أو "إسلامي". كانوا جميعا يدّعون "الاستقلالية" وأحيانا "التقدمية". وظنوا يوم انقضّ بن علي على السلطة، أن فرصتهم قد حانت وأنه لا يمكن لهم التفريط فيها. كانوا يحلمون بأنهم سيصبحون من "مثقفي الأمير الجديد" يبلورون له "فكر العهد الجديد وثقافته" ويصنعون له أسطورته ويساعدونه على ترويض "العامة" وتأطيرها. وفي هذا السياق صدرت عدة مواقف عن عدد من "المثقفين" يحيّون فيها "التحوّل" ويعرضون استعدادهم لـ"الخدمة". وحتى يظهر هذا التأييد "مترفعا نزيها"، "خاليا من كل انتهازية"، مناسبا لـ"المبادئ" نشطوا أمخاخهم، فبدا الانقلاب بالنسبة إلى البعض "تحقيقا للمظهر الديمقراطي من ثورة التحرر الوطني". وبدا بالنسبة إلى البعض الآخر "مصالحة لتونس مع هويتها العربية". وهكذا تحوّل بن علي إلى "قومي عروبي" متجاوزا لـ"قطرية بورقيبة". كما بدا إلى طرف ثالث "مصالحة لتونس مع هويتها الإسلامية"، متجاوزا لـ"علمانية بورقيبة الملحدة". كان كل طرف يزيّن الانقلاب باللون الذي يريد حتى يوجد تبريرا لتأييده.

ولا يمكن أن ننسى ونحن نستعرض مختلف المواقف من الانقلاب، موقف المؤسسة الدينية وعلى رأسها مفتي الجمهورية الشيخ محمد المختار السلامي. قبل الانقلاب بثلاثة أسابيع كان الشيخ "الوقور" من بين الشخصيات التي استقبلت بورقيبة ببنزرت بمناسبة عيد الجلاء (15 أكتوبر 1987)، وقد جلب اهتمام الناس الذين تابعوا وقتها أخبارالتلفزة الرسمية تقبيل المفتي يد بورقيبة اعترافا له بالجميل عما "حققه" لتونس من إنجازات وعما حظي به الإسلام في عهده من "رعاية" وبيوت الإسلام من "صيانة". هذا الشيخ كان في طليعة المباركين للانقلاب الذي جاء حسب زعمه لـ"نصرة الإسلام" الذي "أذلّه" بورقيبة في ربوع بلاد عقبة ابن نافع. لقد صدر بيان في 11 نوفمبر 1987 باسم المجلس الإسلامي الأعلى الذي يرأسه الشيخ محمد المختار السلامي، المفتي، وقد جاء أن المجلس يعتبر 7 نوفمبر "يوما متميزا في تاريخ الأمة التونسية" وهو يهنئ الشعب التونسي "بما هيأته له العناية الإلهية من ألطاف توجّب عليه شكره" وفي مقابلة صحفية أجرته جريدة الصباح مع المفتي صرّح هذا الأخير قائلا "نتوجه إلىالله بالشكر أن مدّ في أجلنا حتى شهدنا فجر هذا اليوم السعيد بعد أن كان اليأس يحجب عنا كل أمل في المستقبل". ولم يتوقف المعني عند هذا الحدّ فقد علّق على نص بيان 7 نوفمبر بالقول: "كانت الكلمات عند رسول صلعم موزونة واضحة، مؤثّرة، لا مضغ للكلام ولا ترداد. وسعدت بهذا النوع من الخطاب الممتاز في الإعلان عن المنعرج في شؤون الدولة التونسية". وقد كافأ بن علي محمد المختار السلامي بأن أبقاه في منصبه حتى يستخدمه كما استخدمه خلفه لتشريع حكمه.

وأخيرا وليس آخرا كان الإعلام التونسي الرسمي وشبه الرسمي في الموعد ليؤكد ما عرف به من كونه إعلام تعليمات، ذليلا متخلفا، عُمْلته أو شعاره "الله ينصر من صَبَحْ". لقد صدرت جميع الصحف صبيحة يوم 7 نوفمبر محلاة كالمعتاد بصورة "المجاهد الأكبر" التي ظلت طوال عقود تحتلّ صفحاتها الأولى. وأطنبت هذه الصحف كالمعتاد أيضا في الحديث عن نشاطه خلال يوم 6 نوفمبر. ووُزعت فجرا قبل أن يتلو بن علي بيانه في كامل أنحاء البلاد. لذلك وحتى تتدارك ما فاتها و"تواكب الحدث التاريخي" طبعت نشرات خاصة مساء 7 نوفمبر. والحقيقة أن المطّلع على الصحف الصادرة في الصباح ويقارنها بالصحف الصادرة في المساء، يصعب عليه تصديق أن الفارق الزمني بين النشرتين لا يتجاوز ساعات. كما يصعب عليه تصديق أن الصحافيين الذين حرروا النشرات الصباحية هم أنفسهم الذين حرروا النشرات المسائية. لقد قام الجميع بانقلاب بـ180 درجة، فتنكروا لبورقيبة الذي كان في الصباح محلّ تمجيد وعبادة وأعلنوا الولاء للجنرال الذي انقلب عليه وانبروا يتسابقون في إظهار "مساوئ العهد القديم" التي لم يتفطنوا إليها إلا اليوم وإبراز ما ينتظر تونس من مستقبل زاهر على يد بن علي الذي اكتشفوا "مناقبه" إلا اليوم أيضا حتى أن بعضهم لم يتورّعْ والانقلاب لم يمض عليه سوى وقت قصير جدا عن البحث "في الفكر السياسي للرئيس بن علي" والحال أنه ليس للرجل كتبٌ ولا مقالات ولا خطبٌ ولا حوارات صحفية تكشف ما يعتمل في ذهنه بحكم أنه كان رجل أمن بعيدا عن الأضواء، ولم يمض على تعيينه في الوزارة الأولى سوى شهر وبضعة أيام. وخلاصة القول إن صحافة يوم 7 نوفمبر بنشراتها الصباحية والمسائية تستحق أن يُحتفظ بها إلى الأبد نموذجا لصحافة الارتزاق والعار.

لم يعارض الانقلاب، من بين القوى السياسية المنظّمة إلا حزب العمال الشيوعي التونسي الذي مرّ على تأسيسه وقتها حوالي العامان. أصدر الحزب مساء يوم 7 نوفمبر بيانا بعنوان:" الجنرال بن علي يفتح عهد الانقلابات" شرح فيه ظروف الانقلاب وأبعاده وذكّر بالدور الذي قام به بن علي منذ عام 1978 في قمع الحركة الديمقراطية والشعبية وحذّر الطبقة العاملة والشعب من السقوط في الأوهام. ومما جاء في البيان أن "الدعاوي الديمقراطية التي يظهر بها [بن علي] ما هي إلا مجرّد شعارات استهلاكية لتبييض وجهه ولإيهام الشعب بأنه يفتح أمامه عهدا جديدا" وأن "خروج البلاد من مخالب الفاشية وحكمها البوليسي يتطلب إجراء تغييرات جوهرية على شكل السلطة وفرض شكل ديمقراطي يقبل بحق الشعب في ممارسة الحرية السياسية وإدخال الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية اللازمة والملحة لتحسين حالته وإنقاذه من وطأة البؤس المادي والمعنوي". وضمّن الحزب بيانه جملة من المطالب الدنيا لوضع الانقلاب على المحكّ. ومن الملاحظ أن حزب العمال الشيوعي التونسي لم يفاجأ كثيرا بانقلاب 7 نوفمبر. ففي شهر جويلية 1987 أي قبل الانقلاب بحوالي أربعة أشهر، التأم اجتماع اللجنة المركزية للحزب في نطاق السرية وركّز اهتمامه على تطوّر الوضع بالبلاد. ومن بين الاستنتاجات التي توصّل إليها إمكانية حصول انقلاب "عسكري/مدني" لتعويض بورقيبة على رأس السلطة واعتبرت اللجنة المركزية أن بن علي وزير الداخلية أنذاك مؤهّل لقيادة هذا الانقلاب.

وإلى جانب حزب العمال، انتقد الانقلاب عدد قليل من الديمقراطيين والتقدميين الذين لم تكن لديهم أوهام حول قائده ومعاونيه. ولكنّ هؤلاء لم يكونوا بمعية حزب العمال، حديث النشأة القوة الأكثر تأثيرا في الساحة. لقد طرح عليهم القيام بعمل تفسيري شاق والاعتماد على دروس الواقع الملموس لمساعدة الناس النزهاء على التخلص من أوهامهم. كان حزب العمال يُتهم في ذلك الوقت بـ"التطرف" و"القصووية" و"المعارضة من أجل المعارضة" و"عدم الواقعية" و"عدم إدراك التطور الحاصل في سلوك بن علي السياسي"، إلخ.

"الإصلاح" لم يكن هدف بن علي

وهكذا تمكّن بن علي من كسب تأييد معظم القوى السيايسة والنقابية بعد انقلاب 7 نوفمبر. ولم تعارضه إلا أقليةقليلة على رأسها حزب العمال. وبهذه الصورة شاءت الظروف أن يصبح جلاّد الأمس هو المتحدّث اليوم بـ"حق الشعب في حياة ديمقراطية" ويجد من يصفّق له ويغض الطرف عن ماضيه الأسود ومشاركاته في أبشع جرائم الدكتاتورية الدستورية التي ارتكبها على حساب الطبقة العاملة والشعب. إن الذي صعد على الرّكح فجر يوم 7 نوفمبر ليس "قائدا شعبيا" أفرزته حركة جماهيرية أو انتفاضة شعبية ولا هو رمزٌ من رموز المعارضة الليبيرالية أو الإصلاحية، ولا هو عسكري مغمور قام بـ"عمل بطولي" لـ"لإنقاذ شعبه من الظلم والقهر والاستغلال" والفساد المستشري ولكنه جنرال لم تربطه بالطبقة العاملة والشعب وبمختلف التيارات الفكرية والسياسية وبالحركة النقابية سوى علاقة واحدة هي علاقة القمع والتصدي لكل مطالبة بالحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وبالحق في القوت والعمل والعيش الكريم والكرامة الوطنية التي دفع من أجلها الشعب المئات من القتلى والجرحى والآلاف من المساجين وأضعاف أضعافهم من المشردين والمطرودين من العمل أو الدراسة. هذا جنرال عوض أن يمثل هو وغيره من غلاة الفاشية الدستورية أمام القضاء ليجيبوا على الجرائم التي ارتكبوها على مدة ثلاثة عقود ونيف، قفز إلى الصفّ الأمامي وتحوّل بين عشية وضحاها إلى "منقذ" و"ديمقراطي كبير"!! هذه هي المفارقة التي يدركها الوعي الشعبي بالنظر إلى التخلف السياسي والتنظيمي. وقد قامت الأحزاب السياسية الليبيرالية والإصلاحية والدينية وقيادات المنظمات والجمعيات المهنية والنقابية ووسائل الإعلام بدور سلبي في مغالطة الشعب وخلق الوهم لديه بإمكانية حصول تغيير لفائدته ولفائدة البلاد على يد الجنرال الذي سطا على قصر قرطاج والذي أضفت تلك الأطراف على انقلابه صبغة شرعية، وبيضت ماضيه الأسود.

ومن نافل القول إنه لم يكن مطلقا ضمن أهداف بن علي تحقيق ما كانت تحلم به فئات واسعة من الشعب التونسي. كما لم يكن ضمن أهدافه تحقيق ما كان يجول بخاطر الساسة الليبيراليين والإصلاحيين من تكوين "ائتلاف وطني"، يكونون طرفا فاعلا فيه أو الحالمين بإقامة "دولة الله" بالتعاون معه أو بالارتكاز عليه ثم التخلي عنه. كان بن علي يدرك أن الدور الموكول إليه في هذه الفترة التاريخية يتمثل في الأساس في إعادة تنظيم مختلف أجهزة الدولة في علاقة بعضها ببعض لإعادة اللحمة إليها وتقويتها ومن ثمة الانطلاق في عملية واسعة تهدف إلى استعادة السيطرة على الفضاءات التي افتكها المجتمع المدني من الدكتاتورية، وبالتالي استعادة السيطرة على هذا المجتمع بشكل تام وإلغاء هامش الاستقلالية الذي حققه في علاقته بالدولة. كان عليه "تجديد" أو "تشبيب" الدكتاتورية الدستورية حتى لا تنهار، بفعل تفككها الداخلي، وبضغط من المعارضة الشعبية والسياسية المتنامية. كان بن علي يعلم بشكل تجريبي أن هذا ما يطلبه منه الذين يمثلهم والذين قام بالانقلاب بتحريض منهم ومن أجلهم سواء كانوا في تونس أو في الخارج فالرجل ليس في ماضيه وفي ممارسته للسلطة وتكوينه الشخصي ما يهيئه للقيام بدور غير هذا الدور فهو أبعد من أن يكون الشخص الذي يمكن أن يفكر في إرساء ديمقراطية حقيقية في البلاد على أنقاض الدكتاتورية الدستورية. فإلى حد اليوم الذي سطا فيه على الحكم ظلت اللغة الوحيدة التي يتقنها في تعامله مع الشعب هي لغة القمع.

ولكن بن علي كان مضطرا في بداية الانقلاب إلى المناورة. كان في حاجة إلى وقت لتنفيذ مخططه. لم يكن في مقدوره أن يمر مباشرة إلى المواجهة، مواجهة الحركة الشعبية والنقابية والطلابية فضلا عن المعارضات السياسية. إن الاستمرار في المواجهة كان يعني فشل مشروعه منذ اليوم الأول وعاملا من عوامل تجذير المعارضة، وهو ما كان أصحاب المصلحة في الانقلاب يريدون اجتنابه. كان المطروح أولا امتصاص النقمة والمعارضة واحتواء المطالب والشعارات وإفراغها من مضامينها. وبما أن إغداق الوعود في هذه الحالة لا يكفي فقد كان على بن علي أن يقدم بعض التنازلات لـ"تهدئة النفوس والعقول" ويتخذ بعض الإجراءات التي من شأنها أن توهم عامة الناس بأن "المسيرة الإصلاحية" قد انطلقت. وكانت هذه المناورة ضرورية لا في علاقة بالداخل فحسب ولكن في علاقة بالخارج أيضا لأن بن علي كان في حاجة إلى الظهور بمظهر "التحرري/الديمقراطي" لإرضاء العواصم الغربية والمؤسسات المالية الدولية بحثا عن دعمها الاقتصادي والمالي واسترضاء للمستثمرين الخواص.

كان تكتيك بن علي قائما على الحيلة والاحتيال. وإذا كان هو بارعا كرجل أمن ومخابرات في ذلك، فقد كان إلى جانبه بعض السياسيين من أمثال الهادي البكوش وحامد القروي وغيرهما، المحنكين في الديماغوجيا السياسية، فالتقت الخبرات بعضها مع بعض لتتآمر على الشعب وتستمر في مغالطته وتحتال على المعارضات الإصلاحية والليبيرالية والدينية وقادة بعض المنظمات المهنية والنقابية. فعوض اتخاذ إجراءات والقيام بإصلاحات ديمقراطية جوهرية، جادة تقطع مع الديكتاتورية. عمد بن علي إلى اتخاذ أنصاف إجراءات والقيام بشبه إصلاحات لذر الرماد في العيون والحفاظ على مرتكزات الدكتاتورية الدستورية الأساسية (الأجهزة والمؤسسات والقوانين).

إجراءات لذر الرماد في العيون

لقد أطلق بن علي سراح المساجين السياسيين ولكن دون تمتيعهم بعفو تشريعي عام يعيد إليهم حقوقهم المدنية والسياسية. وراجع بعض القوانين المتصلة بالحريات مثل قانون الصحافة وقانون الجمعيات ولكن دون المساس بجوهرها القمعي الذي كان وراء مطالبة الحركة الديمقراطية في عهد حكم بورقيبة بإلغائها وسنّ قانون جديد للأحزاب بدعوى تنظيم التعددية السياسية ولكن هذا القانون فيه من القيود والشروط والاستثناءات ما يحوله إلى قانون لمنع تكوين الأحزاب وألغى محكمة أمن الدولة ولكنه حافظ على بوليس أمن الدولة وعلى القوانين المعادية للحريات التي كانت تستند إليها تلك المحكمة وراجع الدستور ليلغى ظاهريا الرئاسة مدى الحياة ولكنه عزز صلاحيات رئيس الدولة وبالتالي الحكم الفردي المطلق مجردا الوزير الأول من صلاحيات كان يتمتع بها وكون مجلسا دستوريا ولكنّ وظيفته استشارية وأعضاءه معينون من قبل بن علي وآراءه سرية لا يطلع عليها إلا هو. ووافق على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب ولكن دون أن يكون لها انعكاس في المنظومة القانونية المحلية إلخ.. وإلى ذلك فقد حافظ بن علي على جميع أجهزة الدكتاتورية ومؤسساتها ورموزها دون أي تحوير (البوليس السياسي، القضاء، البرلمان...) وظلّ يستخدمها لتمرير جميع إجراءاته وقراراته.

وبطبيعة الحال كانت الإجراءات المحدودة والشكلية التي يتخذها بن علي ترفق بحملات دعائية كبيرة تقدمها على أنها "مكتسبات العهد الجديد" المبني حسب زعمها على ثوابت "احترام حقوق الإنسان وضمان الحريات وممارسة الديمقراطية". وفي الوقت الذي كانت فيه المعارضة الليبيرالية والإصلاحية والدينية والقيادات النقابية وجزء من المثقفين "يستبشرون" بكل إجراء ويحيّونه ويعبرون عن استعدادهم لـ"الخدمة"، كان بن علي منهمكا في "إعادة ترتيب البيت" ترتيبا جيدا، ولم يكن ما يعلنه من إجراءات سوى ذرّ للرماد في العيون وما يسنّ من وقانين سوى قيود جديدة على الحريات أو هو مجرد نصوص فارغة غير ملزمة لأجهزة الدولة ومؤسساتها إذ هي لا تنصّ على أيّ إمكانية فعلية لإلزام تلك الأجهزة والمؤسسات بتنفيذها ولتتبعها عدليا في صورة إخلالها بالتزاماتها وواجباتها.

كان بن علي يواجه النقود الموجهة إليه وإلى نظامه حول "بطء المسار الديمقراطي" و"محدودية الإجراءات" التي اتخذها منذ وصوله إلى الحكم بأنه صاحب "تمشّ إصلاحي تدرجي" وأنه لا يريد "التسرّع" خوفا من "الانزلاقات" التي من شأنها أن تعرّض "المسار الديمقراطي" لـ"الانتكاس" المزعوم. لقد كان الجنرال يريد أن يقنع الناس بأنه ليس عارفا بحاجيات الشعب فحسب ولكنه مدرك أيضا لكيفية تحقيق هذه الحاجيات !! لذلك كان يطالب، من هذا الموقع الذي وضع فيه نفسه بـ"منحه الوقت الكافي" للحكم على "مشروعه الإصلاحي". وفي الحقيقة لم يكن بن علي خائفا على الديمقراطية أو على الشعب بل إنه كان خائفا منهما. كان يخشى أن تفلت الأمور من بين يديه فتتجذر الحركة الشعبية وتكنس المؤسسات والأجهزة والقوانين والرجال الذين انبنت عليهم الفاشية الدستورية وتؤسس ديمقراطية حقيقة تكون فيها السيادة للشعب لذلك كان يريد التحكم في العملية حتى لا تخرج عن الإطار الذي حدده لها وهو إقامة ديمقراطية الديكور لا ديمقراطية حقيقية. وقد كان يطالب بمنحه "الوقت الكافي" لحبك ما يلزم من مناورات وحيل لإرساء ديمقراطية الديكور هذه، لا لتثبيت "الإصلاحات الديمقراطية" كما يدعي. وفي هذا السياق ظلت عصى القمع مرفوعة لتهوي على كل من يتجاوز "الخطوط الحمراء" أو يعمل على تعبئة الحركة الديمقراطية والشعبية من أجل فرض إصلاحات جدية ينتفع منها العمال وكافة الفئات الكادحة والفقيرة.

لقد كانت الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي نظمها بن علي في ربيع 1989 (2 أفريل 1989) آخر فصل من فصول إعادة ترتيب البيت الفاشي الدستوري. لقد أراد أن يضفي على اغتصابه للسلطة طابعا شرعيا شعبيا وأن يوهم بتجديد السلطة التشريعية (مجلس النواب) على قاعدة "انتخابات ديمقراطية وتعددية". وبالفعل فقد خرج بن علي فائزا من "الانتخابات" الرئاسية التي ترشح لها وحده، بعد أن حافظ على الفصل 66 من المجلة الانتخابية الذي يسدّ باب الترشح أمام أيّ مواطن من خارج الحزب الحاكم. كما فاز حزب بن علي الذي أصبح يدعي بداية من ربيع سنة 1988 "التجمّع الدستوري الديمقراطي" بجميع المقاعد في البرلمان بعد تزوير الانتخابات. لقد غدر بن علي بأحزاب المعارضة "الليبيرالية" و"الإصلاحية" و"الدينية" (حركة النهضة) التي زكت ترشحه للرئاسة على "أمل" أن يفسح لها المجال لمنافسة الحزب (التجمّع) الدستوري في الانتخابات التشريعية في إطار "الشفافية" و"حياد الإدارة" فذهبت مرة ضحية لأطماعها وللأوهام التي ظلت تساورها حيال بن علي وأهدافه. ومن الملاحظ أنه ما إن انتهت هذه الانتخابات التي قاطعها حزب العمال، وأغلقت سلسلة المناورات والأخاديع المضللة حتى بدأ المارد الفاشستيّ يكشر عن أنيابه. لقد حقق بن علي التحوّل الذي أراده والذي مكنه من إرساء سلطته دون أن يلقى معارضة كبيرة تصده عن بلوغ أهدافه وتفرض عليه القيام بتنازلات جوهرية للحركة الديمقراطية والشعبية، لذلك استغل أول ظهور له بعد الانتخابات التي "حقق" فيها هو وحزبه "فوزا ساحقا" ليدعو المواطنين إلى "الانصراف من هنا فصاعدا إلى العمل". وكأنه أراد أن يقول لهم إن "فترة الاستراحة قد انتهت" وأن القوس الذي انفتح بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987 انغلق. وقد بدأ واضحا منذ هذه اللحظة أن عهدا من القمع الأسود بدأ يلوح في الأفق. لكن بن علي لم يكن بإمكانه الدخول مباشرة في مواجهة شاملة مع الحركة الديمقراطية والشعبية مع خصومه السياسيين. كان عليه أن يخطط ويحدد أهدافه بصورة تدريجية. وكان من المنطقيّ في تلك الفترة أن يجعل من قمع الحركة الأصولية هدفا أولا ومعبرا لقمع كل معارضة في البلاد.

كان الحركة الإسلامية ممثلة أساسا في "حركة النهضة" تشكّل أقوى معارضة في الساحة. وهو ما أكدته انتخابات أفريل 1989 المزورة، إذ رغم التزوير حصلت "القائمات البنفسجية" (اللون الذي تقدمت به "القائمات المستقلة" القريبة من حركة النهضة غير المعترف بها) رسميا على قرابة 17% من أصوات الناخبين. وقد أخافت هذه النتيجة بن علي خصوصا أنه لم يكن ينوي الاعتراف بالحركة الأصولية رغم أنها أيدت انقلابه وثبّتت هذا التأييد بالتوقيع على الميثاق الوطني في نوفمبر 1988 وتغيير تسميتها وبرامجها تلاؤما مع قانون الأحزاب وتزكية ترشح بن علي للرئاسة. وكان رفض هذا الأخير الاعتراف بالحركة الأصولية يندرج ضمن رفضه العام الاعتراف بأي قوة سياسية مستقلة عن نظامه ومعارضة له وذات وزن في الساحة السياسية لأن هدفه الحقيقي ليس إرساء تعددية حزبية والاعتراف بحق التنظم لكافة النزعات الفكرية والسياسية، بل إرساء تعددية صورية للديكور فحسب. ومما ضاعف مخاوف بن علي النجاحات التي كانت تحققها الحركة الأصولية أنذاك في الجزائر حيث كانت تهدد بافتكاك السلطة، وفي مصر وفي الوطن العربي عامة وهو ما يمثل دعما معنويا وسياسيا للحركة الأصولية في تونس. لذلك فإن بن علي الذي كان يدرك مخاوف قطاعات واسعة من المجتمع (البورجوازية الصغيرة المثقفة، الأوساط الليبيرالية، الأوساط النسائية الليبيرالية...) من تطور الحركة الأصولية ذات الأطروحات الرجعية والظلامية (معاداة الديمقراطية وحقوق الإنسان وتحرر المرأة...) وقلق العواصم الغربية، الأوروبية أساسا من نفس الظاهرة، وما يمكن أن تشكله من خطر على استثمارات شركاتها ورجال أعمالها، ارتدى بعد فترة من التردد لبوس "التقدم" و"قيم الحداثة" و"التحرر" و"الإصلاح" ورفع راية "مقاومة التطرف الديني والظلامية". كان رفع هذه الراية قادرا في نظر بن علي على تشكيل غطاء لشنّ هجوم عامّ وشامل على الحريات من أجل استرجاع كافة الفضاءات التي خسرتها الدكتاتورية وإعادة بسط مراقبة أجهزة الدولة الفاشية وبوليسها السياسي خاصة على المجتمع بأسره.

انطلاق الحملة القمعيّة

منذ انطلاق السّنة الدراسيّة 1989/1990 بدأت الحملة أو الهجوم على الجبهة التّربويّة تحت شعار "تجفيف المنابع". كان الهدف المعلن تنقية البرامج من "الأفكار الظلامية" والحيلولة دون أن تتحول المعاهد والجامعات إلى معاقل لتخريج "الكوادر الأصولية". ولم يكن هذا في الواقع الهدف الأساسي للحملة. لقد كان هدف بن علي يتجاوز إدخال بعض الإصلاحات على الكتب والبرامج المدرسية إلى تدمير المؤسسة التعليمية وخاصة الجامعة حتى تكف عن تشكيل بؤرة الاحتجاج التقليدية و"المخبر" الذي تنتدب منه المعارضات المتجذرة (اليسار، الإسلاميون، القوميون) جزء هاما من مناضليها ونشطائها. لذلك فعندما روجعت البرامج التعليمية ضمن خطة "الإصلاح" المعروفة والتي كان طالب بها البنك العالمي وصندوق النقد الدولي لخفض تحمل الدولة نفقات التعليم وإخضاع المدرسة والجامعة بالكامل لحاجات السوق الرأسمالية، فإنه أعاد صياغتها بما يخدم مصالح الفاشية الدستورية ويطوّع المؤسسة التعليمية بشكل كامل لأهدافها، فـ"طهّرها" من كل ما هو تقدمي ونيّر ومن كل ما ينمّي لدى التلميذ أو الطالب ملكة النقد واتخذ من الإجراءات ما يسمح بالتحكم في أنظمة التدريس ومراقبتها مراقبة شديدة من قبل أجهزة الوزارة حتى لا يقع أي تجاوز من هنا أو هناك.

وما أن جاءت صائفة 1990 حتى كانت خطة الـ25 نقطة التي أعدت في المنطلق لتشديد الخناق على الحركة الأصولية، ثم تحوّلت تدريجيا إلى خطة صالحة للاستعمال ضد جميع مناضلي التيارات المعارضة والحركة النقابية وحركة حقوق الإنسان، وتهدف هذه الخطة التي بُلورت بإدارة الحزب الحاكم، إلى ضرب حصار شامل على كل معارضي النظام وناقديه من أجل تهميشهم اجتماعيا واقتصاديا وتدميرهم عائليا، ومعنويا: الطرد من العمل، سحب الرخص بالنسبة إلى العاملين في القطاع الخاص، الضغط الجبائي، التدخّل في الحياة الخاصة، التنكيل بالأقارب...

ثم كانت أزمة الخليج الثانية التي تولدت عن التدخل العراقي في الكويت وما نجم عنه من حرب أمريكية غربية على هذا البلد بدعوى تحريره. وقد استغل بن علي هذه الأزمة لتضييق الخناق على الصحافة (فرض الرقابة المسبقة التي لم تعرفها تونس إلا زمن الحرب العالمية الثانية في عهد حكم "فيشي" الموالي للنازية) ثم لتدجينها بصورة نهائية. وكان ذلك إيذانا ببدء هجوم شامل وعام على الحريات وعلى المعارضات الراديكالية فالمعارضة بشكل عام.

كان تكتيك الطغمة النوفمبرية بسيطا وبدائيا. اعتمدت نظرية "المؤامرة" وفي هذه الحالة "المؤامرة" الأصولية التي تستهدف نظام الحكم وافتعلت خططا وسيناريوهات "جهنمية" (العبارة لعبد الله القلال وزير الداخلية آنذاك) نسبها إلى "الإخوان" لتعلن انطلاق المطاردة العامة والشاملة ضد كل من تشتمّ عليه "رائحة" الانتماء إلى الحركة الأصولية أو التعاطف معها. وبطبيعة الحال استغلت السلطة بعض أعمال "حركة النهضة" التي وقعت في المصيدة المنصوبة لها (حادثة باب سويقة في فيفري 1991، الاعتداء بماء الفرق على عدد من أعوان البوليس والحزب الحاكم في عدة جهات) لتشدد حملتها القمعية، وكانت السهولة التي تهاوى بها صرح التنظيم "النهضوي" الذي لم يبد أيّ مقاومة جدية قد أغرت بن علي وبوليسه بالمضيّ قدما لاجتثاث الحركة الأصولية وعدم التوقف عند اعتقال رموزها وأهم نشطائها. وكان ما يجري في الجزائر يحثهم على الإسراع بحسم صراعهم مع تلك الحركة، خوفا من أن تجد الدعم من قبل "جبهة الإنقاذ" التي كانت في طريقها إلى السلطة قبل أن يتدخل الجيش لاحقا (جانفي 1992) ويمنعها من تحقيق هذا الهدف. وقد سعى بن علي في حملته ضد "الإخوان" إلى كسب تعاطف البورجوازية الصغيرة المثقفة المتطيرة من "البعبع" الإسلامي وقيادات الأحزاب المعترف بها واتحاد الشغل وبعض الجمعيات والمنظمات المهنية الأخرى التي كان يوهمها أنه بقمع "الإخوان" سيريحها من خصم سياسي مخيف وأن الظروف ستصبح مواتية لـ"تعميق المسار الديمقراطي" وكان بن علي يوهمها أنه يقمع "الإخوان" "دفاعا عن الديمقراطية التي ستوسع ممارستها باستئصالهم" حسب زعمه. وكان كل صوت يرتفع للتنديد بالتعذيب وقمع الحريات وبشكل عام بالإرهاب الذي تمارسه الدولة ضد المواطنين بتعلة "مقاومة التطرف الديني" يُتهم بالتواطؤ مع "الإرهاب الخوانجي" وسوف تتحول هذه التهمة إلى التعلة التي سيرتكز عليها نظام بن علي لقمع كل صوت حرّ. فكل نقد أو معارضة مهما كان مداهما أو نبرتهما سيصبحان "تواطؤا مع الإرهاب" لذلك فإن ماكينة القمع التي كانت تضرب بقوة الحركة الإسلامية كانت في الواقع تحصد في طريقها ما يعترضها من مقاومات أخرى. كان حزب العمال الشيوعي التونسي من القوى السياسية القليلة التي لم تتواطأ مع النظام النوفمبري في حملته على الحركة الإسلامية. لم يكن يجمع حزب العمال بهذه الحركة أي رابط فكري وسياسي بل إنه كان في صراع معها ولكن حزب العمال لم يكن ثمّة أيّ شيء يجمعه أيضا بالدكتاتورية الدستورية في معركتها مع تلك الحركة. لقد أدرك الحزب منذ اللحظة الأولى أن منطلق هذه المعركة ليس الدفاع عن الديمقراطية والتقدم كما تدعي أبواق الاستبداد وإنما هو تصفية كل معارضة تهدده. لذلك فضح حزب العمال طبيعة حملة بن علي القمعية على الإسلاميين ونبه العمال والشباب والمثقفين التقدميين إلى أبعادها الحقيقية فاستهدفته ماكينة القمع النوفمبري بقوة بداية من خريف 1992 أي بعد فترة وجيزة من انطلاق محاكمات الإسلاميين الكبرى ولكنها فشلت بفضل صمود مناضلي حزب العمال وهياكله. ولم يتوقف القمع ند حزب العمال بل اتسعت دائرته تدريجيا ليشمل كذلك حتى أولئك الذين اصطفوا في البداية إلى جانب النظام في قمع حركة النهضة وحزب العمال. فبمجرد أن كان الواحد منهم يبدي رأيا نقديا في سياسة نظام بن علي في هذا المجال أو ذاك وخاصة في المجال السياسي (الحريات، حقوق الإنسان) حتى تلفه ماكينة القمع ويجد نفسه قابعا بإحدى زنزانات سجن 9 أفريل بتهمة ملفقة. وقد كانت مناسبة بالنسبة إلى أكثر من طرف كي يتذكر من قاع زنزانته قصة الثور الأبيض والثور الأسود. إن بن علي لم يبق أي منفذ أمام قيادات أحزاب الديكور الديمقراطي والمنظمات المهنية والنقابية التي وقعت في مصيدته وصفقت لنهجه القمعي الاستبدادي سوى الاصطفاف وراءه والإذعان لتعليماته والإحجام عن توجيه أي نقد مهما كانت فحواه لنظامه. لقد أصبحت معارضة بن علي جريمة ونقده كفرا. وهكذا تحوّلت تونس شيئا فشيئا إلى سجن هائل يفرض فيه على الشعب التونسي صمت القبور.

وقد استغل بن علي هذه الظروف لتدعيم حكمه الفردي المطلق. لقد انتهى ذلك الوقت الذي وعد فيه التونسيين والتونسيات بتكريس الحريات وإرساء دولة القانون والمؤسسات. فقد احتكر بشكل غير مسبوق كافة السلطات وأصبح لا يرضى بأقل من ...,99% من الأصوات في انتخابات مهزلية يترشح فيها وحده بل إنه لم يتورّع في سنة 1994 عن معاقبة الأشخاص الثلاثة ومنهم الدكتور المنصف المرزوقي، الرئيس السابق للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، الذين تجرأوا على التعبير عن رغبتهم في الترشح للرئاسة لو توفرت لهم الفرصة فوجدوا أنفسهم بالسجن بتهم ملفقة. وحتى لما تفطن بن علي إلى مهزلة الترشح بمفرده فإنه أضاف إلى المهزلة مهزلة أخرى إذ أنه اختار في انتخابات 1999 منافسين له ليقوما بدور التيّاس ناهيك أن أحد هذين المرشحين المزعومين كان يدعو إلى التصويت لبن علي عوض الدعوة إلى التصويت لنفسه. ولما انتهت الولايات الثلاث التي يسمح له بها الدستور لجأ إلى تحويره في سنة 2002 لإلغاء البند الذي يحدد عدد الولايات والذي كان وضعه بنفسه عند مجيئه إلى السلطة بعنوان وضع حدّ للرئاسة مدى الحياة، كما حوّر الفصل الذي يضبط السنّ الأقصى للترشح ليرفعه من 70 إلى 75 سنة. وكأنّ ذلك لم يكن كافيا أضاف بندا يضمن له الحصانة القضائية مدى الحياة وبناء على هذا التحوير ترشح لانتخابات 2004 وفاز فيها بأكثر من 94% وذلك بعد أن سنّ قانونا استثنائيا جديدا حدّد به كالعادة من يقوم له بدور التياس. وهو يستعد اليوم للترشح لمهزلة 2009 ولا نستبعد مطلقا أنه سيترشح عام 2014. وهكذا عاد بن علي إلى الرئاسة مدى الحياة بـ"التقسيط" أو حسب نظام "الدورة دورة". وقد وجد كالعادة من رجال القانون الذين باعوا ذمتهم من شرّع سلوكه هذا ووضع له "كراسي".

وطنية زائفة

ومن الملاحظ أنه بداية من مطلع التسعينات بدأت الدعاية الرسمية تركّز على عامل "الوطنية". كان بن علي دشّن عهده بخطاب "ديمقراطي" وكان ذلك ضروريا لمغالطة الشعب التونسي ونخبه ولربح الوقت. ولكنه الآن وقد أعاد "ترتيب البيت" وأرسى سلطته لم يعد في حاجة إلى مثل هذا الخطاب. لقد استمر لا محالة في توشيح خطبه بلفظة "الديمقراطية" التي كان سرعان ما يلحقها بنعت المسؤولة (أي ديمقراطية الاصطفاف والديكور ضد الديمقراطية غير المسؤولة أي الديمقراطية الحقيقية) ولفظة "الحرية" التي كان سرعان ما يُتبعها بعبارة "في نطاق القانون" الذي يجرّم بدوره ممارسة الحرية، وعبارة "حقوق الإنسان" التي سرعان ما يرفقها بعبارة "وفق نظرتنا الخصوصية" أو "في مفهومها الشامل" ليتهرّب من كل التزام ملموس بمقتضيات هذه الحقوق. وقد أصبح من المعتاد أنه كلما أكثر بن علي من الكلام عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، كان قصده من ذلك تغطية جريمة ارتكبها نظامه أو هو بصدد ارتكابها أو التخطيط لها. ولكنّ الخطاب "الوطني" طغى على مثل هذا الخطاب. لقد أصبحت "الوطنية" الوتر الأساسي الذي يعزف عليه الفريق الحاكم وكان الهدف من ذلك تغطية انتهاك الحريات وحقوق الإنسان انتهاكا منهجيا والنيل من حقوق الشعب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إن القمع السياسي لم يكن معزولا عن تكثيف وتائر استغلال العمال والاعتداء على قوتهم وعلى مكاسبهم الاجتماعية ومزيد إخضاع البلاد للنهب الخارجي. كما أنه لم يكن معزولا عن تفاقم الفساد. فبقدر ما كان حكم بن علي الفردي المطلق يشتدّ والقبضة الأمنية على المجتمع تحتدّ، كان أفراد عائلته وأصهاره وكل المقربين منه يضعون أيديهم أكثر فأكثر على ثروات البلاد في إطار حملة الخوصصة التي شملت الأراضي والمنشآت العمومية. فعمّ الفساد الحياة الاقتصادية والمالية والإدارية.

لقد أصبح الوطن يتماهى بكل بساطة مع بن علي ونظامه، والوطنية تعني الاصطفاف وراءهما. وعلى هذا الأساس صار نقد نظام بن علي ونظامه يعدّ "خيانة للوطن" و"تآمر عليه" و"تواطؤ مع قوى أجنبية" تضمر الشر لتونس (أي لبن علي وطغمته) "المستقرة والآمنة المزدهرة". إن "الوطنيّ الغيور" حسب هذا المفهوم، هو الذي يذعن لكل ما يقرره "الوطن" أي "صانع التغيير" ويصفق له ويخوّن كل من يتجرأ على نقده ويهاجم كل من يحتج عليه من المنظمات والأحزاب والشخصيات الديمقراطية الأجنبية، أي أن "الوطنيّ الغيور" هو ذاك الذي يتحوّل إلى فرد من القطيع يأتمر بأوامر الراعي ولا يخرج عن طاعته. وفي هذا السياق برز مفهوم "المعارضة الوطنية والمسؤولة". فالمعارضة "الوطنية" هي التي تسبّق "مصلحة الوطن على أي مصلحة أخرى". ودام الوطن هو بن علي والوطنية هي الاصطفاف وراءه ووراء نظامه، فالوطنية تعني التواطؤ مع النهج الديكتاتوري ومع الاستغلال والفساد والعمالة التي تميز هذا النظام والسكوت عنها والإحجام عن نقدها والشهادة لفائدته في وجه الهيئات والمؤسسات الدولية التي تعنى بالحريات وحقوق الإنسان. أما صفة "المسؤولة" فالمعارضة تكسبها إذا عرفت حدودها واكتفت بالدور الموكول لها من قبل بن علي أي دور الديكور مقابل بعض الفتات الذي يوزعه عليها في شكل "منح" أو "مقاعد في البرلمان" أو "مناصب" في الإدارة أو على رأس بعض الشركات أما إذا تنطعت وغيرت لهجتها تجاه السلطة لتتخذ منحى نقديا أو أثارت مسألة "التداول على السلطة" كشرط من "شروط الديمقراطية" فإنها تصبح "غير مسؤولة" و"متطرفة". وهو ما يعرّضها للعقاب !!

إن الطغمة النوفمبرية التي ترفع شعار "الوطنية" حين يتعلق الأمر بصيانة مصالحها الضيقة وقمع كل نقد أو احتجاج أو معارضة لها والتي تتهم كل من يحتجّ، من الخارج، على انتهاكها للحريات وحقوق الإنسان ويعبّر عن تضامنه مع ضحايا هذه الانتهاكات، بـ"التدخل في شؤون الوطن" مرددة أنها "ليست في حاجة إلى دروس في الديمقراطية وحقوق الإنسان من أي كان"، هي ذاتها التي تفتح أبواب هذا الوطن للهيمنة الاقتصادية الأجنبية، لنهب الدول والشركات الرأسمالية الغربية وتقدم لها كل التسهيلات المادية والقانونية لتنهب خيراته وثرواته الطبيعية وتمتصّ دم أبنائه وبناته الكادحين، وهي التي ترهنه أيضا لدى المؤسسات المالية العالمية النهّابة (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي) التي أصبحت تتحكم في مصائره فتملي عليه الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية التي ينبغي له إنتاجها وتتولى مباشرة مراقبة تنفيذ هذه الاختيارات من قبل حكومة بن علي. وتلك الطغمة هي أيضا التي تخضع صاغرة للامبريالية الأمريكية والامبرياليات الغربية عامة التي تفرض عليها نمط سياستها الخارجية، وتوظفها ضمن استراتيجيتها الهيمنية في شمال إفريقيا وفي الوطن العربي وتطبّع علاقاتها بالكيان الصهيوني. ولا تجد أي حرج في تزكية الحرب على العراق وكل مشاريع الاستسلام المفروضة على الشعب الفلسطيني، وتلتزم بالحظر المفروض على ليبيا وعلى العراق الشقيقين. وبالطبع فإن خيانة الوطن الموصوفة هذه وهذا التلاعب المجرم باستقلال البلاد وكرامة شعبها، يمنع نقده بل يجرّم من منطلق "المصلحة العليا للوطن" (أي مصلحة بن علي وبطانته).

الأمن والاستقرار لنهب البلاد

وقد ارتبطت هذه الوطنية الزائفة، التي جعلتها الطغمة النوفمبرية ذريعة لقمع كل معارضة، بشعار آخر هو شعار "الأمن والاستقرار"، الذي تحوّل إلى دعامة أساسية من دعائم السياسة الرسمية منذ بداية التسعينات. وقد ظهرت في علاقة به شعارات أخرى مثل "الوطن الآمن" و"تونس بلد الأمن والأمان". إن تونس "الآمنة المستقرة" هي التي يجب أن يتحوّل (ويبقى) شعبها إلى قطيع، محاصر بإحكام داخل الزريبة بواسطة النظام الأمني الشمولي الذي أحدثه بن علي. فالمدينة والحيّ والقرية والطريق العام والمؤسسة المهنية والمدرسة والكليّة والنادي الثقافي والجامع والنزل والمقهى، والهاتف والفاكس والأنترنيت ودور النشر ومحلات النسخ، كلها أصبحت بحكم هذا النظام تحت مراقبة البوليس المباشرة الذي يعمل على خنق كل مظهر من مظاهر الاحتجاج السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الديني في المهد "حفاظا على أمن الوطن واستقراره". إن "أمن الوطن واستقراره" يحتمان على المواطن أن يتناول عن حريته ويقنع بما يقدمه إليه "راعي الوطن" المدرك لمصالحه ولكيفية الحفاظ عليها.

ومن الطبيعي أن نظام الأمن الشمولي المذكور تطلب من بن علي تعزيز جهاز الأمن بشكل غير مسبوق وتحويل الحزب الحاكم ومختلف التنظيمات المهنية والاجتماعية والثقافية والدينية التي تسيطر عليها الدولة، إلى أجهزة مساعدة للبوليس، تؤطر المواطنين وتراقب حركاتهم وسكناتهم وتبلغ البوليس المعلومات عنهم. وإلى ذلك فقد دعّم بن علي الترسانة القانونية التي ورثها عن بورقيبة ليتمكن من تجريم كل مطلب سياسي أو اجتماعي أو ثقافي وحوّل جهاز القضاء إلى إدارة تابعة أكثر من أي وقت مضى لوزارة الداخلية، تحمي النظام من معارضيه ومن كل محتج عليه خصوصا أن المقاومة الاجتماعية والسياسية لم تتوقف رغم استشراء القمع الفاشي. وبهذه الطريقة عمل بن علي على خنق جميع التناقضات في المجتمع وقمع مختلف تعبيراتها الاجتماعية والسياسية والثقافية في محاولة منه لإضفاء "الانسجام"، انسجام مفتعل فاشستي، على مجتمع "الحيتان الكبيرة": "في الأمن والأمان يحيى هنا الإنسان"، "تونس بلد الفرح الدائم"، "ابتسم إنها تونس"، هكذا حاول جلاوزة الفاشية ترجمة سياسة أسيادهم في بعض الشعارات.

لقد حوّل بن علي تونس إلى سجن كبير. وقد لقي الدعم من القوى الامبريالية عدوة تونس وعدوة شعبها. لقي الدعم من الامبريالية الأمريكية والامبريالية الفرنسية والاتحاد الأوروبي ومن المؤسسات المالية الدولية مثل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي. كل هؤلاء لا يهمهم إلا شيء واحد في الحقيقة وهو "الأمن والاستقرار" اللذان يوفران لرأس مالهم كل ظروف الاستثمار المواتية. فبلاد شعبها قطيع، خانع، ونقابتها تابعة للسلطة، بلاد يمنع فيها نقد الاستغلال والقهر والتبعية والاحتجاج عليها، كما تمنع فيها الاجتماعات والتنظيم والتظاهر وكل أشكال التعبير الحرّ، بلاد كهذه،هي الجنة التي يلهث وراءها كل رأسمالي في هذا العصر لتكديس أوفر الأرباح. لذلك فإن مصاصي الدماء، أمريكان وفرنسيين وأوروبيين ومسؤولي البنك العالمي وصندوق النقد الدولي بقدر ما ضغطوا على بن علي وحكومته من أجل تخريب القطاع العام وإلغاء صندوق التعويض والزيادة في أسعار المواد الأساسية وخوصصة الصحة والتعليم والنقل وضرب مكتسبات الشغالين في مجال تشريعات العمل والتخفيض في قيمة ما يلحقهم من تغطية اجتماعية أو إبقائها في مستويات متدنية والزيادة في مساهماتهم في صناديق الضمان الاجتماعي (خاصة في نظام التأمين على المرض) فإنهم بالمقابل لا ينبسون ببنت شفة حول ما يخصصه بن علي من اعتمادات ضخمة لجهازه الأمني وما يمارسه من قمع وحشي على الشعب التونسي، بل إنهم يدعمونه باستمرار بدعوى الحفاظ على "أمن تونس واستقرارها" (أي أن نظام بن علي واستقراره). ومن النافل أن الدول والحكومات الغربية الامبريالية وكذلك مؤسسات النهب الخاضعة لسلطتها لا تتحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان إلا في نطاق مصالحها الضيقة، وبتعبير آخر هي أدوات من الأدوات التي تحقق بها هيمنتها عند الاقتضاء. ففي ظروف الغليان الشعبي والإرهاصات الثورية تستعمل تلك الدول والمؤسسات شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان وتشجع على قيام أنظمة "ديمقراطية" خاضعة لمراقبتها لاحتواء الأزمات وإعادة الاستقرار الضروري لضمان ظروف الاستثمار الملائمة لرساميلها. ولكن الدول والمؤسسات الامبريالية لا تتردد لحظة في دعم أعتى الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية وفي تأييد قمع الجماهير الشعبية قمعا شرسا ودمويا إذا أحست أن النضال من أجل الديمقراطية نحا منحى شعبيا فهي تدرك مسبقا أن الديمقراطية ستؤدي في مثل هذه الحالة إلى مقاومتها ودحر نفوذها إذ أن الشعب لن يتوانى عن استخدام حريته وسلطته للذود عن استقلال وطنه والسيطرة على خيراته وثرواته واستغلالها لفائدته، لذلك نراها لا تتورّع عن إعداد المخططات لتدبير انقلابات على الحكومات الوطنية في أمريكا اللاتينية رغم أنها منتخبة.

ولقد كانت أحداث سبتمبر 2001 بالولايات المتحدة الأمريكية "هبة من السماء" لنظام بن علي كي يستعيد أنفاسه راكبا هذه المرة موجة "الحرب على الإرهاب" التي أطلقتها حكومة بوش، فأيدها وعرض خدماته واستغلها للإمعان في قمع الحريات وتشديد القبضة الأمنية على المجتمع.

كيف وصلت تونس إلى هذا الوضع

كيف وصلت بلادنا إلى مثل هذا الوضع في عهد بن علي؟ كيف تمكّن هذا الجنرال المغمور من تجديد الدكتاتورية الدستورية وتشبيبها وإعطائها نفسا جديدا؟ كيف تمكن من تحويل الشعب التونسي إلى كتلة "خاملة" سياسيا، مكبوتة الأنفاس، مشلولة الإرادة؟ كيف دمّر المجتمع المدني والمعارضة السياسية تدميرا شبه كلّي دون أن يلقى مقاومة تصدّه؟ كل هذه الأسئلة ما انفكت تثار على ألسنة العديد من المناضلات والمناضلين من مختلف النزعات الفكرية والسياسية الذين تحدوهم رغبة جامحة في فهم ما حصل من أجل تجاوزه. ومن الأكيد أن الإجابة عن هذه الأسئلة تمثل بداية التجاوز المنشود. فالدكتاتورية تتحوّل إلى بناء هشّ إذا عرفنا آليات اشتغالها وحددنا نقاط قوتها وضعفها وراعيناها في تكتيكنا واستراتيجيتنا. إن نجاح الطغمة النوفمبرية في السيطرة على المجتمع التونسي في الوقت الراهن سيطرة شبه مطلقة ما هو إلا بسبب عجرفتها وطغيانها. هذا أمر لا مراء فيه. ولكن هذا لا يمثل إلا نصف الحقيقة. أما النصف الآخر فهو أنها لم تحقق ذلك الهدف إلا بسبب الضعف الفادح، السياسي والتنظيمي، للشعب التونسي. وهو ضعف تعكسه الحالة الهزيلة للقوى السياسية المعارضة والمنظمات والجمعيات المهنية والثقافية والشبابية والنسائية المستقلة. إن الدكتاتورية لا تعبّر مطلقا عن ذكاء معيّن من الناحية التاريخية، إذ لا يوجد ما هو أغبى وأحمق منها. فهي تحكم على طاقات شعب بأكمله بالموت أو هي تستخدمها وتعبئها لأغراض رجعية متخلفة لا ينتج عنها إلا التدمير الذاتي. وهذا لا يتطلب ذكاء بقدر ما يتطلب عجرفة وسفالة وصلفا. لكن الطغاة يعتقدون دائما أن ما يقومون به "حنكة" و"دهاء" بما أنه يخوّل لهم البقاء في الحكم والسيطرة على شعوبهم والتحكّم في مصائرها. ولأن الدكتاتورية حمق وغباء ومعاداة لسير التاريخ فإن مصيرها الزوال إن عاجلا أو آجلا والنصر النهائي لن يكون إلا من نصيب الشعوب لأنها هي الباقية. ولكن الشعوب، حتى تكون أهلا للحرية مدعوة إلى التخلّص من مضطهديها ومصاصي دمائها. فهؤلاء لن يَسقطوا إلا إذا أُسقطوا. وهو ما يتطلب من أي شعب أن يتغلّب على نقائصه وأن يرقى بنفسه إلى مصاف الشعوب الجديرة بالحرية.

إن مقاومة الشعب التونسي خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة لم تتوقف وإن ضمرت وتراجعت بدرجة كبيرة. فقد استمرت جيوب المقاومة رغم المحاولات الدائمة للفاشية النوفمبرية للقضاء عليها. وساهمت تلك الجيوب في إبقاء الأمل قائما ونغصت على الفاشية النوفمبرية حياتها، وظلت تقدّم الدليل على أن المقاومة ممكنة وأن روح الشعب يمكن أن تضعف لكنها لا تموت. واليوم لم يعد خافيا على أحد أن الأوضاع تشهد تغييرات حتى وإن كانت بطيئة لأنها ما تزال في بدايتها. فالحركة الديمقراطية والحركة السياسية بشكل عامّ تنهض من جديد وتتجذر وتحاول لمّ شتاتها. والحركة النقابية والشبابيّة والشعبية عامة أخذت تخرج من سلبيتها. فالنقمة تزداد ومظاهر الاحتجاج العمالي والشبابي والشعبي تتكاثر بسبب المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والقمع السياسي. والمطلوب اليوم هو دفع كلتا الحركتين، الحركة السياسية والحركة الاجتماعية، وتحقيق الالتقاء بينهما. فتكسب الأولى القاعدة الاجتماعية وتكسب الثانية الوعي والتنظيم اللذين ستبقى من دونهما مجرّد حركة احتجاجية بلا أفق وبلا مستقبل، قابلة للتخريب وسهلة الاختراق.

ومن هذا المنطلق، وفي نطاق الإسهام في رسم طريق شعبنا إلى الحرية سنحاول في هذا العمل الإجابة عن الأسئلة التي أثرناها أعلاه والبحث في مجمل القضايا التي تتصل بالنضال الديمقراطي في بلادنا. وسنخصص الجزء الأول الذي نضعه تحت عنوان "بن علي والطريق إلى الدكتاتورية"، لتحليل التغييرات التي أحدثها بن علي في أجهزة الدولة ونتائجها. كما سنخصص الجزء الثاني الذي نضعه تحت عنوان "الشعب التونسي والطريق إلى الديمقراطية" لتحليل مقومات التحول الديمقراطي في تونس وبرنامجه.



#حزب_العمال_التونسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأزمة المالية العالمية ومؤشرات انهيار النظام الرأسمالي
- 21 سنة من الاستبداد والفساد
- المفاوضات الاجتماعية الحالية:هل ستكون نسخة من سابقاتها؟
- برنامج حزب العمال الشيوعي التونسي [1992]
- -العولمة- أو الامبريالية في ثوب جديد
- على هامش مؤتمر -الحزب الحاكم-:الفصل الأخير من مهزلة بائسة
- مطارحات حول قضيّة المرأة
- لمواجهة التصعيد الفاشستي: وحدة كل القوى السياسية والمدنية
- 20 عاما من الوقت الضائع على تونس الخضراء
- ملاحظات حول المؤتمر الثامن ل-حركة النهضة-
- موسم اجتماعي جديد: تحديات جديدة ورهانات متجددة
- جوان: شهر المنع والقمع
- في تقييم المؤتمر 21 للاتحاد العام التونسي للشغل
- ملاحظات حول وثيقة -مشروع أرضية لليسار
- التعددية النقابية في تونس: قراءة في الوثائق التأسيسية ل-الجا ...
- إضرابات ناجحة في التعليم:المعلمون والأساتذة يدقّون نواقيس ال ...
- بمناسبة عيد العمال العالمي:بيان
- مؤتمر اتحاد الشغل بالمنستير: وكادت المفاجأة الكبرى أن تحدث!
- الطبقة العاملة الثورية وحقوق الإنسان
- أحداث حمام الشط - سليمان: فشل الاستبداد في توفير الأمن والاس ...


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - حزب العمال التونسي - المسألة الديمقراطيّة في تونس