الشعب السوري ينتظر منذ ثلاثين سنة أن يعترف مسؤول واحد أنه أخطأ هنا أو هناك ، في السياسة أو في التنظيم ، في الحروب المكلّلة دائماً بالهزائم، أوفي مفاوضات السلام المتعثرة، في الداخل الوطني، أو في السياسة الخارجية، في التخطيط، أو في التنفيذ.. ورغم أنَّ البعث، انقلب على نفسه قطرياً أكثر من مرة ..! واحدة رئيسية ومعتبرة في عام /1966/ وأخرى في الحركة التصحيحية أوائل السبعين،وصارع حزب البعث-[ مع تسجيل تحفظنا اللغوي على مصطلح البعث أملين من القراء مقارنته لغوياً بمصطلح العبث ] - نفسه قومياً ولا يزال، فقد بقي كلُّ شيء على حاله ..! فالحزب المناضل لا يزال في الميدان يتابع قلب الهزائم و النكبات إلى عثرات وانتكاسات، ويحِّول حقوق الناس المغِّيبة إلى مكرمات وعطايا.. وهو يرث نفسه على الطريقة الإسلامية.. والرعية عليها دوماً أن تنتظر، إما مفاعيل التصحيح، أو مفاعيل التطوير والتحديث.. أو مفاعيل السوبر تحديث بعد ثلاثين سنة أخرى.. ولها أن تترقب ما يتفتق عنه ذهن وليِّ الأمر كل ثلاثين سنة مرة ، وهكذا سجن البعثيون التصحيحيون رفاقهم السابقين ما يزيد عن عشرين سنة.. وقد روى لي القيادي البعثي ( عادل نعيسة ) الذي عارض الحركة التصحيحية فأمضى أكثر من عشرين سنة في السجن، أنَّ الرفاق في المخابرات اصطحبوه بعد الإفراج عنه مباشرةً إلى القصر الجمهوري كي يقوم بواجبه من قبيل تقديم الشكر على المنحة الدراسية التي قدمت له وأنَّ المرحوم قال له : لماذا تأخرت يا عادل..!؟ وأنه ما ما زال من يومها يحاول أن يفهم المعنى من تلك العبارة..!ثمَّ بعد ذلك انتحر بعض البعثيين في اشتباكات بعثية ذاتية خالصة .. وشنَّ بعضٌ من البعثيين الواصلين حملات تأديبية لمكافحة الرفاق البعثيين( المنصرفين).. لكن، هذا لا يعني أن يكون تقليد هذه الحملات مباحٌ لغير البعثيين..! فهنا تصبح القضية تخوين وعمالة للإمبريالية..فكل القصة وما فيها أنَّ بعض الرفاق قد انحرف عن الطريق وجاري إعادة الأمور إلى نصابها .. وما يدعيه الحزب القائد عبر إعلامه الشمولي في هذه المرحلة المستجدة من تاريخه، بدءاً من الكلام عن التطوير والتحديث، وانتهاءً بالخيار السلمي الذي سيفرضه على الأعداء، تسولاً كان أم تنازلاً،لا يعدو اللعب المنفرد في ساحة احتكار القرار الوطني، الذي ومن غير شك، سيكلفه غالياً كما حدث لمعظم الأحزاب الشمولية في كل مكان من المعمورة،وذلك أمرٌ مغروغٌ منه لسبب جوهري تتجاهله مثل تلك الأحزاب، وهو أن الوطن لجميع مواطنيه وليس لحزب واحد..! ولقد أثبتت الأيام، أنَّ مثل تلك الأحزاب لا تملك إمكانية الاستفادة، والاتعاظ من الدروس التي تقدمها الحياة مجاناً ، وذلك بسبب تركيبتها البنيوية من جهة، وآليات عملها المشخصنة بدور الفرد الواحد الأحد من جهة أخرى، إضافة إلى العمى الذي يسببه وهج التسلط المطلق الذي يترسخ سنة بعد سنة.. وسجناً بعد سجن..ومعتقلاً بعد معتقل..!
في سلطة من هذا النوع، تنتفي كل إمكانية لوجود دولة ،حيث لا مكان هنا لأكثر من حكومة يجب أن تبقى على الدوام مستنفرة من أجل الترجمة الحرفية لما يتفتق عنه ذهن الأب الملهم، والزعيم الأوحد، والقائد الاستثنائي، وراعي الرعية وغير ذلك مما يغدقه الله على ظله في الأرض.. هذه الأرض التي يسمونها قبل مصادرتها : الوطن..! وفي هكذا حكومة، يصبح مستغرباً أن يستغرب بعض الباحثين عن الوطن إياه، من التفاصيل الحكومية العجائبية، فيصرفون الوقت في ملاحقتها وتدبيج الدراسات لتحليلها كونهم ينظرون إليها على أنها ظاهرة سياسية تستوجب التحليل..!
وبعيداً عن الكلام النظري الجاف، ومن أجل قليل من الوضوح، نتوقف عند بعض تلك التفاصيل الحكومية التي نعنيها:
في الوقت الذي كانت فيه التهديدات الأمريكية تتصاعد، كان هناك نقيق متناغم منبعث من ثلاث وزارات [ الاقتصاد والزراعة والبيئة ] في حكومة دمشق، أما موضوع الساعة عند هذه الوزارات، فقد كان : مستقبل الضفادع في البلاد..! وقد ربحت المعركة بصدور القرار /114/ الذي يمنع تصديرها إلى الخارج .. وما إن انجلى غبار معركة الضفادع، حتى بدأت معركة ( السوتيانات) وكانت النتيجة السماح باستيراد مادة أولية لانتاج د اعمات الثدي، فانحلت بذلك قضية الأثداء المترهلة التي تقلل من إنتاجية النساء العاملات ،وفي الوقت نفسه من جمال صدورهن..! ثمَّ ألحقوا كل هذا بقرار استراتيجي استعاد بموجبه الشعب الضجران إمكانية (( فصفصة)) بزور الكوسة التي كان ممنوعاً استيرادها بهدف حمايةً أسنان الجماهير من جهة، وحرصاً على عدم هدر الزمن بالفصفصة المتواصلة حول كاسات المتة من جهة أخرى..! هذه عِّينة من مشاغل حكومة ولدت بعد عملية قيصرية على أنغام المعزوفات الإصلاحية الجاري عزفها منذ بداية المرحلة الجديدة، على أن تكون حكومة للإصلاح الإداري حصراً .. وقد استوجب صدور تلك القرارات الاستراتيجية الضفدعية كالعادة، انعقاد عشرات الاجتماعات، وتبادل الكثير من المراسلات، وكل هذا يجري في وقت اشتداد الأزمة التي تواجه النظام،بعد هنيهة من انهيار الحزب التوأم في العراق..! و هذه الحالة لا تستدعي التعجب أو الدهشة، إلا عند من لا يزال يتهرب من تسمية الأشياء بأسمائها ..! فكما هو الأمر لدى كل نظام ديكتاتوري، يقتصر التعامل مع الأزمات، والاستحقاقات، على الرئيس الأوحد فقط لاغير.. وما على الحكومة وغيرها من الملحقات، كالجبهة التقدمية، ومجلس الشعب، سوى متابعة التفكير بمستقبل الضفادع بعد أن خفَّ نقيقها وكاد يتلاشى..!
إنَّنا نعتقد، أنَّ كل بنّية متكلِّسة، تراكمها سلطة شمولية خلال عشرات السنين، تستعصي على الدوام على أية خطط إصلاحية بغض النظر عن ماهية الخطط أو أصحابها، وذلك بفعل المناعة القوية المكتسبة عبر السنين و التي جرى فيها تغييب الناس عن المشاركة في مسيرة وطنهم، هذا على الصعيد الاقتصادي.. أما على الصعيد السياسي ،فبالرغم من الوضع الحرج الذي تواجهه السلطة، هذا الوضع الذي يستوجب بالضرورة، استدارتها نحو الداخل في محاولة للاحتماء بمواطنيها اللذين سبق وأن جردَّتهم من مواطنيتهم، وهذا ما يفعله أي نظام بغضِّ النظر عن توصيفه، ديكتاتورياً كان أم غير ذلك، فإنَّ الذي حدث ويحدث، هو الذي يدعو للاستغراب حقاً.. ففي الوقت الذي تفتح فيه الأبواب لأصغر نائبٍ لبناني قنديلاً كان أم شمعة..!يرمى نواب البلاد الحقيقيون في السجون (( رياض سيف مثالاً )) .. وفي الوقت الذي تتسول فيه السلطة الآراء الاقتصادية من هنا وهناك، يرمى أصحاب الكفاءات الوطنيون في المعتقلات (( الاقتصادي عارف دليلة مثالاً )) إضافة إلى استمرار الملاحقة الأمنية لمختلف فعاليات المجتمع بهدف محاصرتها، وشلِّها.. ثمَّ المحاكمات المستمرة وغير الشرعية للنشطاء الوطنيين رغم الإدانة المتكررة من قبل منظمات حقوق الإنسان المختلفة، ومن هنا نرى صوابية أن نعتقد أيضاً باستحالة أي إصلاح سياسي تطالب به أحزاب المعارضة وغيرها من الفعَّاليات المختلفة.. الأمر الذي يتطلب إذن: إعادة النظر، والتفكير من جديد على غير قاعدة الاحتمالات.. والتوقعات..! فالسياسة لعبة خطيرة مع الزمن، ومع مصير وطن وحياة شعب..!
25/2/2004