لقد اثبت التاريخ بالبرهان العملي ما هي النتائج الوخيمة التي تجنيها الشعوب من جراء احتكار العمل السياسي من قبل حزب واحد او انظمة تتشدق بالديمقراطية ولكنها تمارس في ذات الوقت الأضطهاد السياسي والتميز القومي والطائفي. ولعل في سقوط النظام البعثصدامي وانهيار الأنظمة الشمولية وفشل الأنظمة الأسلامية في تطبيق الديمقراطية خير دليل على ان الأنظمة الشمولية قد تتبنى ايديلوجيات مختلفة ولكن نتائج سياساتها واحدة وهي التدهور على كل المستويات: سواء الأقتصادية حيث ظل الأقتصاد العراقي ولحين سقوط النظام اقتصادا نفطيا وحيد الجانب والفشل الذريع للتخطيط المركزي كما كان الحال في البلدان الشيوعية او القدرة المحدودة للأقتصاد الأسلامي كما هومطبق في ايران الذي يراوح في مكانه لأكثر من عقدين ولم ينجح في رفع المستوى الأقتصادي للشعوب الأيرانية, او على مستوى السياسية.... مثل سيادة الحزب الواحد ( ذو التركيب الهرمي التنظيمي الصارم والمركزية (الديمقراطية) ) كما كان معمولا به في اوربا الشيوعية او اجراء انتخابات معروفة النتائج مسبقا وأعتبارها شكلا من اشكال الديمقراطية كما هو الحال في ايران, اوعلى المستوى الأجتماعي.... حيث تفشي الرشوة والفساد الأداري والبيروقراطية وشحة الخدمات. وبالمقابل نرى النتائج الأيجابية التي حققتها النظم الديمقراطية العلمانية لمجتمعاتها في الرقي والتقدم والرفاهية والأقتصاد المتطور والديمقراطية في الممارسة والتطبيق والتسامح واستقبال الملاحقين سياسيا وتوفير اللجوء لهم بغض النظر عن معتقداتهم السياسية اوالدينية او المذهبية.
هذه الأحداث يجب ان تكون ماثلة امام اعيننا خاصة ونحن نعيش الأجواء الساخنة التي تلف الشارع العراقي حيث يجري الحديث الأن حول مشروع ادارة الدولة للمرحلة المقبلة لحين اجراء الأنتخابات العامة اواخرعام2005 وما هي تداعيات هذا المشروع على مستقبل العراق. ان الحوار الحاد يدور ايضا حول نقاط جوهرية مثلل العلمانية او مبدا فصل الدين عن الدولة او هل سيكون الأسلام المصدر الرئيس للتشريع ام لا؟. في ظل الظروف الأستثنائية هذه لايمكن التنبأ هل ان النظام المقبل في العراق سيكون نظاما ديمقراطيا علمانيا؟ ام نظاما اسلاميا شبيه بما موجود في ايران؟ او نظاما اسلاميا ذو خصوصية عراقية؟. ان السياسة تتعامل مع واقع اجتماعي متحرك تؤثر علية اضافة للعوامل الداخلية عوامل خارجية ايضا. ان الأصرار على ان شكل النظام في العراق يجب ان ينحى هذا المنحى وباي حجة كانت ترفضه تجربة العراق المريرة في ظل النظام البعثصدامي والذي لم يجني منها شعبنا سوى الدمار. ان نجاح الأنظمة الديمقراطية العلمانية جاءت ايضا على خلفية عدم ايمانها بالحتمية اي كان شكلها ومحتواها, كحقيقة ثابتة معروفة المعالم كما امنت بها الأحزاب الشمولية وجيرت السياسة والأقتصاد والمجتمع والأدب والثقافة لتتلائم مع هذه الحتمية واعتبرتها هدفا يستحق التضحية من اجله بأرواح شعوبها, وشيعت في ادبياتها من ان هذه التعاليم الأيديلوجية قانونا يمكن الأعتماد علية لبناء المستقبل المنشود. ان مثل هذا التوجه مرفوض على الأطلاق فالسياسة فن الممكنات والصراع السياسي الديمقراطي السلمي هو البيئة التي تنمو عليها مقومات النظام السياسي المستقبلي. ان العلمانية في العراق لاتؤمن بالحتمية التاريخية لأي ايديلوجية كانت, سواء سياسية او دينية او اجتماعية.
ان العلمانية التي تؤمن بالأسلوب السلمي لتداول السلطة وتعتبر الأنتخابات الديمقراطية الحَكَم في تشكيل الحكومة والفوز بمقاعد البرلمان وتؤمن بمبدأ فصل الدين عن الدولة, باعتباره توجها حضاريا سيساهم بدون شك في حل اشكالية تدخل الدين في السياسة, هذا التدخل الذي ستكون له عواقب وخيمة على مستقبل العراق اذا لم يتم تفاديه عن طريق سن دستور يتضمن هذا المبدأ . هذه العلمانية هي القادرة على ظوء تجارب العالم الديمقراطي العلماني على وضع الأطر السياسية التي يستطيع من خلالها الفرد العراقي ان يتمتع بحريته السياسية كاملة غير منقوصة. ان هذه العلمانية ليس لها صلة سواء (بالعلمانية) التي كان يتشدق بها حزب البعث او (بعلمانية) الأحزاب الشمولية او بالممارسات(العلمانية) لكمال اتاتورك التي يجري في كثير من الأحيان الأستشهاد بها لأثبات فشلها وعدم اهليتها لمجتمعنا.
كان حزب البعث (العلماني) يضطهد ويلاحق ويقتل الناس ليس بسبب معتقداتهم السياسية فقط بل بسبب معتقداتهم الدينية والمذهبية وانتمائاتهم القومية ايضا; اما الأحزاب (العلمانية) الشمولية وكما حصل في أوروبا الشرقية الشيوعية التي كانت تقاد من حزب واحد, بحجة ان هذا الحزب اوهذه الحركة هم قادة الثورة وعملية التغيير, وانهم يملكون النظرية العلمية ذو القوانين الحاسمة والأكيدة لبناء المجتمع الخالي من الطبقات, ان هذه الأنظمة التي اعتمدت على دكتاتورية سياسية وطبقية بغيضة, عملت وبشكل لاانساني على حرق اماكن العبادة او تحويلها الى مرافق خدمية وسياحية ومراقبة كل من يمارس الطقوس الدينية وهذا الشيء حصل ايضا على يد علمانية اتاتورك في تركيا. اما العلمانية, خاصة في بلد مثل العراق حيث تتنوع فيه الأديان والمذاهب, فستحترم الدين ودوره الأجتماعي الرفيع وتهيء كل الظروف والأمكانات لممارسة طقوسه بكل حرية وامان بل وتعمل على تخصيص الدعم المادي للمؤسسات الدينية, ان احترام المعتقدات الدينية تعتبر احدى حقوق الأنسان الأساسية التي لايمكن المساس بها بتاتا. كانت علمانية الأحزاب الشمولية عبارة عن فكرة خاوية ليس لها اي مدلول حضاري ولهذا السبب كانت وبالا على هذه البلدان بدل ان تكون محاولة لبناء مجتمع انساني متحضر. ولم تكن الأحزاب العلمانية ذوالأيديلوجية الشمولية عدوة للدين فقط فقد كانت عدوة لحق القوميات في تقرير مصيرها بنفسها وامتلكت الحجج الأيديلوجية اللاانسانية في اجبار الشعوب على العيش ضمن الأطار الذي يحدده الحزب وليس حق الشعوب في العيش بحرية.
لقد استطاعت العلمانية وعبر المراحل التاريخية التي مرت بها ان تثبت نجاحها عندما ربطت جملة العمليات السياسية والأقتصادية والإجتماعية والثقافية وعلى مستوى التنظيم الحزبي, في حزمة واحدة. ان حدوث اي خلل في ممارسة احدى هذه العمليات من شانه ان يخل بالمفهوم الأنساني للعلمانية. فعلى المستوى السياسي يكون هدف العلمانية في العراق ترسيخ أسس النظام الديمقراطي البرلماني ومؤسساته ألدستورية و مبدا الفصل بين السلطات الثلاث وفي فصل الدين عن الدولة واحترام حقوق المراة ومساواتها مع الرجل وعلى المستوى القومي احترام حق تقرير المصير للقوميات وسائر الأقليات... ووجه إقتصادي يتمثل في تعزيز دور إقتصاد السوق, للسماح بنموالطبقة المتوسطة وطبقة بورجوازية متطورة والتخلص من بقايا الأقطاع... ووجه إجتماعي يتمثل ببناء مؤسسات المجتمع المدني وتوفير الشروط الصحيحة والهادئة ألتي يدور في إطارها أي صراع أو حوار إجتماعي والتشديد على الحرية السياسية والأيمان بان الصراع السياسي من اجل الديمقراطية يجب ان يتم في جو من الأمان والحرية... ووجه ثقافي تنويري لايتنكر لتراثنا ويأخذ بنظر الأعتبــار طبيعة مجتمعنــا والقيــم الحضارية التي يكتنزها.
ان العلمانية في العراق تستوعب الأختلافات الفكرية والفلسفية والدينية وتنوع المصالح.. وتعتبر وجود الأحزاب في المجتمع مسالة تمس جوهر النظام الديمقراطي. ان عمل ونشاط ومالية الأحزاب المختلفة تنظم في المجتمعات الديمقراطية العلمانية وفق انظمة وتشريعات خاصة بذلك. ان الدستور يضمن حرية الرأي والتعبير والأجتماع والتظاهر والصحافة والنشر وتاسيس الأحزاب السياسية والجمعيات والمؤسسات الحرة الأخرى ويكون حل النزاع بين هذه الأطراف بالطرق السلمية والقانونية. من هنا يتضح ان الدستور سيكون الدعامة القانونية الأساسية لحماية الأحزاب باعتبارها ركنا اساسيا من اركان النظام الديمقراطي. وفي نفس السياق لابد من الأشارة الى مسالة في غاية الأهمية وهي ان العلمانية تؤكد على تعزيز مبادىء الديمقراطية وترسيخها في مجمل مظاهر الحياة الحزبية الداخلية, ويتوجب على الأحزاب الى جانب حرصها على أقامة النظام الديمقراطي في العراق ان تطبق الديمقراطية اولا داخل الحزب. ان الأحزاب بتطبيقها الديمقراطية داخل تنظيماتها ستساهم في تعميقها وانتشارها داخل المجتمع مما ستنعكس اثارها على سلوكيات الأفراد والجماعات.
هناك عدة مسببات تدعم النظام العلماني في العراق وهي:
ـ تاسست الدولة العراقية في عام 1921 على خلفية انهيار الأستعمار العثماني. وقد مر العراق طيلة القرون المظلمة بظروف وتطورات جعلته بعيدا عن تأثيرات التطورالعلمي والثقافي والسياسي التي حصلت في العالم وبالتالي بعيدا عن عملية التنوير والحداثة والعقلانية والعلمانية مما ترك اثره على الوضع السياسي والثقافي حيث لم يجري تبني العلمانية او مبدا فصل الدين عن الدولة انذاك وساعد في تكريس هذا الأتجاه سياسة الأستعمار البريطاني التي تبنت المشروع الأسلامي وكرسته دستوريا. اما الأن ونتيجة التطورات العالمية للمجتمعات الديمقراطية العلمانية التي ثبتت مبدا فصل الدين عن الدولة في دساتيرها ومعايشة هذه المجتمعات المتطورة عن قرب من قبل شريحة كبيرة من المثقفين والمفكرين والسياسين واصرارهم على عدم تكرار اخطاء الماضي, بات الدفاع عن الحرية السياسية يشكل المحور الأساسي لعملية الصراع السياسي وتضمين الدستور مبدأ فصل الدين عن الدولة هو الأساس الذي ستبنى عليه دعائم النظام الديمقراطي.
ـ شمل اضطهاد النظام البعثصدامي كل قطاعات الشعب العراقي وبكل انتمائاته القومية والدينية والمذهبية والسياسية العلمانية والغير علمانية, هذا يعني ان ساحة صراع الأفكار بعد التغيير اصبحت ساحة مفتوحة للكل ويحق للأنسان ان يعبر عن رايه بكل حرية, ويمتلك العلمانيين الحق كغيرهم من حملة الفكر الأخر ان يكونوا جزءا من الصراع الذي يجب ان يبنى عل اسس سلمية حضارية وقد اظهرت الأفكار العلمانية من حيث التوجه والأسلوب انسانيتها واحترامها للقواعد الديمقراطية واستعدادها لأحترام الرأي المخالف ولاتنحو التصعيد على الساحة السياسية لأغراض انية.
ـ لقد ناضلت كل قوى المعارضة العراقية العلمانية اوغير العلمانية من اجل اسقاط النظام الدكتاتوري البعثصدامي ولم تستطع اي جهة سياسية سواء كانت علمانية اودينية او قومية لوحدها ازاحة النظام, مما يعني زوال حجة استحواذ هذا الحزب او هذه الحركة على منافع مابعد التغيير, ان مستقبل العراق يصنعه الصراع السياسي في ظل النظام الديمقراطي البرلماني من جهة وتباين الأفكار والأيدلوجيات المختلفة من جهة اخرى والأحزاب السياسية العلمانية تتبنى هذا الأتجاه وتعمل على ترسيخه.
ـ افرزت التركيبة السياسية والدينية والطائفية والقومية للمجتمع العراقي متضادات مستعصية يكون من الصعب بمكان معالجتها بايدلوجيات منغلقة او بدستور تصب فقراته ومواده لمصلحة قومية معينة او دين معين اوطائفة معينة, ولكي لاتقوم هذه المتضادات اقحام المجتمع في صراع عقيم, يقتضي الأمر ان يكون الدستورالجديد حياديا في محتواه واتجاهاته الفكرية...ان العلمانية ومبدأ فصل الدين عن الدولة هي الضمانة الأكيدة لتحقيق ذلك.
لقد افرزت الأشهر المنصرمة جملة من المواقف والطروحات المختلفة والمتنوعة تنوع مكونات المجتمع العراقي السياسية والدينية والقومية والمذهبية. ان اختيار العلمانية من شانه ان يشكل مرتكزا يمنع احتكار السلطة وانتاج الأستبداد ويخلق الضروف الموضوعية لبناء مستقبل ديمقراطي افضل.