قد يخفف عنا الإحساس بالتقصير، حين نعرف بأننا لسنا وحدنا ننجرف مع تيار الكلمات والخطب الحماسية الرنانة فيأخذنا هذا ويردنا ذاك، فهذا شأن كل (الرعاع) كما يسميهم البعض من ذوي (الشأن) ، حيث لا قوة لهم ولا حيلة ، ولا علم لهم بما يجري خلف كواليس مسرح الحياة.
رسم شكسبير أجمل صورة لتلك الظاهرة في رائعته ( مأساة يوليوس قيصر) ، حين يظهر بروتس اقرب أصدقاء يوليوس ليخطب بالناس ببلاغة عن سبب اغتيال قيصر، وحكى لهم عن حبه لقيصر ولكن حبه لروما وخوفه عليها وعلي أهلها حتم عليه أن يضحي بأعز ما لديه. فهتف له الكل منددين بقيصر، حتى كادوا الانقضاض علي جثته. وفي لحظتها ظهر ابن أخ قيصر القتيل ،انطونيوس، الذي اشتهر ببلاغته وذرابة لسانه ...مبتدئا الحديث بتأييده لما قاله بروتس ، ثم تحدث عما فعله قيصر لأجل روما وأهل روما، حتى يكون جزاءه الطعن بتلك الصورة، وهو يكشف عن الجسد المطعون، لينقلب الناس مباشرة ضد بروتس مطالبين برأس القتلة هاتفين لقيصر وانطونيوس.
كلما نمر بمحنة وما أكثرها، اردد أغنية المرحوم عبد الوهاب أخي جاوز الظالمون المدى ، فتثير في نفسي شجون وحزن، وكأن النداء الذي أواصل تكراره " طلعنا عليهم طلوع المنون .... فصاروا هباء وصاروا سدا" ليس لحماس تثيره بقدر ما بها من سخرية، وإن كانت غير مقصودة، من أولئك الذين تظهر بطولاتهم في ساحات الوغى من أسرة نومهم الوفيرة، أو من علي مقاعدهم المريحة في الحانات وهم يقارعون الكؤوس التي تمنحهم ذلك الحماس البطولي. معتقدين أنهم بمقالاتهم أو رسائلهم قد أدو واجبهم إزاء "قضايا الأمة" فلا تأنيب ضمير ، ولا أثم عليهم ولاهم يحزنون.. فشعبنا العربي قد فاق شعوب العالم بإيمانه بالكلام وتأثره به، كذلك القادة العرب، الذين أدمنوا علي الشجب والإدانة وعقد المؤتمرات التي لا يميزها عن بعضها سوي طبيعة الشتائم، ومدى إيمانهم بالكلام أوصلهم لحد الخوف منه ومنع الشعوب من النطق بما يخفف عنها حتى لو كان نكتة. بالوقت الذي انتبه الغرب لتلك الظاهرة فنجحوا بتطبيق الديمقراطية من خلال فسح المجال للكلام وقول ما شاءوا وشاء لهم الهوى، بذلك امتصوا الغضب الذي يحوله الصمت والكبت إلى حقد، فارتاحوا وأمنوا سلامتهم وسلامة شعوبهم.
عسى أن ينتبه حكامنا يوما، ويقدروا أهمية التعبير عن الرأي مهما كان، خاصة وهم يولون الكلام والخطب أقصى الاهتمام، بحيث يستأجرون من يدبج لهم الخطب الطنانة ، كما أنهم اكتفوا الآن بسلاح الكلام وتخلوا عن السيوف وتجريد "الأحسمة" جمع حسام، " فجرد حسامك عن غمده ". واكتفوا بالكلمة سلاحا فتاكا، يطلعون به علي العدو " طلوع المنون " ويحلموا أن يصير الأعداء" هباءا وسُدا".
كذلك شأن بعض المسيسين أو دعاة الثقافة ،أولئك الذين يطالبون القتيل بالصمود، يطالبون الجريح أن لا ينزف جرحه، حتى دون وعد ولو بإرسال ضماد أو دواء ولو من باب التشجيع والمداهنة.
قيل انه في حرب فيتنام، كانت قوات المقاومة تطالب من يقع أسيرا بيد العدو أن يحتمل 24 ساعة فقط، ليرتبوا وضعهم أو ليخططوا هجوما لإنقاذه، بعد تلك الساعات له أن يقول أو يعترف حتى لا يعرض نفسه للموت أو التعذيب القاسي.
لكن في حالة متحمسينا، يطالبون الشعب العراقي، الذي لم يعيروه اهتماما أو يصغوا لندائه على مر الثلاثين عاما الماضية، بل صمّوا آذانهم عن معاناة أخوتُهم من كل فئات الشعب العراقي من سياسيين ومثقفين يساريين أو حتى بعثيين ناهضوا الدكتاتورية، متدينين أو علمانيين، الذين هُجر منهم من هُجِر، وقُتِل من قُتِل ، واختفي من اختفي سواء في أقبية السجون أو في ما هو أكثر بشاعة. فأولئك لم يكتفوا بالصمت وإشاحة وجوههم عن الحقيقة، بل راحوا يطبّلون لصدام حتى غطي ضجيجهم علي كل الصراخ، فجعلوا منه بطلا قوميا ثم وطنيا وهم يطربون لصوت الدولارات التي كان القائد يشتري بها ضمائرئهم وأقلامهم وكلماتهم الفقاعية، ثم صار بطلا عالميا بتحديه الكاذب لأميركا التي خططت له حروبه وحمتْهُ من كل محاولة للتخلص منه، بل هاهي قد شنت حربها علي الشعب العراقي، ثم أضفت على مجرم الحرب صفة الأسير. مع ذلك مازال بعض المساكين من العرب خاصة، لا يصدقوا أن صدام خدعهم بقناع تحديه لأميركا ، بالرغم من الحقائق التي أفرزتها حروب صدام المتواصلة، وبالرغم من هروبه أو اختفائه الجبان عن ساحة المعركة التي كان يطالب بها العراقيين الذين أذلهم ودمر بلدهم، أن يصمدوا ويقاتلوا العدو الذي فتح له الأبواب مشرعة العدو الذي خدمهُ كل تلك السنين بتنفيذه للحروب التي خططوها له لتمرير مؤامرتهم لاحتلال المنطقة بأكملها.
" اصمد يا عراق ، واضرب عدونا ، حتى لو حطموك" يزعق بعضهم كزعيق بطلهم القومي " اضربوهم ، دمروهم أيها النشامي " هكذا خرج يخطب من مقر اختفائه. ماذا عن أسلحة الدمار أيها الوطني الغيور! لمن تخبئها؟
كيف يقاوم المُتْعب المرهق الأعزل كل تلك الأسلحة من قنابل تتهاطل كالمطر، وصواريخ ودبابات لا ينفع معها الحذر. بل البعض يطالبه بالصمود دون أن ينتظر مساعدة من أحد، حتى وهو يري القائد (المضرة) يهرب هو وعصابته تاركا البلد للخراب الذي وعدنا به؟.
برغم المتاعب التي مر بها العراق علي مدي كل الأعوام والمصائب التي جرتها الحروب عليه، يقف أولئك المتفرجين مهللين مصفقين، يذكرونا بحلبات المصارعة الرومانية التي كانت تقام للانتقام من السجناء أو الأسرى الذين كانوا مرهقين متعبين ولابد لهم أن يصارعوا النمور أو الإسود المفترسة كوسيلة للتعذيب أو تنفيذا لحكم الموت عليهم. مطالبين الشعب العراقي أن يصمد بلا سلاح ولا قيادة ولا مال ولا طعام، بل حتى لا يدعوه يلتقط أنفاسه بعض الشئ ويهادن القيادة الجديدة، على الأقل حتى يقف علي قدميه ليطالب بحقه بانتخاب حكومة تعمل لمصلحته ولسلامة الوطن وحمايته من الاستعمار .
فان لم يكن لدى هؤلاء شيئا طيبا أو نافعا يقولوه، فأولى بهم الصمت، الذي حتما سيكون خيرا وسلام للجميع.
هناك مثل عراقي كردي جميل معناه: إذا لم تكن وردا .. فعلى الأقل لا تكن شوكا.
هؤلاء هم ذاتهم الذين طالبوا أطفال الانتفاضة، أن يواصلوا القتال بأيديهم الصغيرة وحجارتهم ضد دبابات ورشاشات الصهاينة إلى الأبد (علي حد تعبير احدهم). وكأني بهم يساهمون بقتل الطفولة وبراءتها، مبتهجين خلف فقاعات كلماتهم وهم يتفرجون علي مشاهد الأفلام المأساوية . بل مازالوا يصرون على إغلاق آذانهم خوف أن يفضح صوت الحقيقة، عمق الجريمة التي هم ساهموا بها بقصد أو بدونه، سواء بما حل بالعراق أو في فلسطين والحبل علي الجرار.
كم نتمنى لو أن شعوبنا إلى جانب مقاطعة البضائع الأمريكية، تقاطع كل الخطب والتحليلات السياسية، سواء في الصحافة أو الإعلام المرئي والمسموع، حتى تتخلص تماما من كل أدران الكذب والخبث وبذور الشر والتفرقة، ومن كل طنين الانتهازيين والمنتفعين من مصائب الشعوب. بذلك قد تتعاظم قوة تلك الشعوب وحتما ستتمكن من مقاومة قوى الشر والظلم والجوع والحرمان والتدخل حتى بملبسهم والمأكل. حيث ستتوحد كلمتها وتفكيرها، ضد كل عناصر تعميق الهوة والتفرقة بين أبناء الشعب الواحد، فانه بالرغم من زعيق البعض حول سياسة الاستعمار (فرق تسد ) تلك الورقة التي استُخْدمت علي مر السنين لخلق الحروب وزرع الفتن بين أبناء الشعب الواحد، وإضعاف البلدان الغنية مثل العراق، نجدهم يعمقونها عن إرادة أو عدم وعي بإنتقاءهم الخبر أو المقال الذي يعزز تلك السياسة، أو بدعواهم القومية وما فيها من تغليب لفئة علي أخرى، وهم يعرفون أن العراق احتضن علي مدي التاريخ قوميات واديان وطوائف كلها انصهرت في بوتقة اسمها العراق.
أتمنى لو هؤلاء يتركوا الشعب العراقي لشأنه، ولا يصبوا الزيت علي النار، ليتمكن شعبنا من مواجهة القوي الغازية، التي جلبها الخونة السابقون الذين لم تكن غايتهم سوي التسلط والتناحر علي السلطة بأي ثمن، حتى لو كان على حساب سلامة الوطن والشعب، من الذين سعوا ويسعون للتفرقة بين السنة والشيعة، المسلمين والمسيحيين، العرب والأكراد وغيرها من القوميات التي عاشت بسلام مع بعضها كل تلك العصور.
فليس أمام قادة اليوم سوى توحيد كلمتهم وسعيهم لإنقاذ الوطن وكل فصائل الشعب ليتمكنوا من إرساء السلام والحرية والمحبة بين الجميع، فحتما سيصلون لتلك الغاية.
فالكلمة سلاح ذو حدين كما يقال، يستخدمها البعض للتعبير عما يمور في دواخلهم وليس لهم سلاح غير ذلك، يحاولون جاهدين لزرع الطيب والمحبة، لمواجهة القوى المستنفعة من زرع الفتن والإضطرابات، وما أكثرهم اليوم، خاصة بعد ازدهار وسائل الاعلام المرئية والمقروءة. وآخرين يستخدموها مقنّعين بشعارات القومية أو الحزبية أو الدينية ليمرروا خططهم للاستيلاء علي مصائر واقتصاد الشعوب.