|
من أجل الفلسفة وضد مغتصبيها
عزيز الهلالي
الحوار المتمدن-العدد: 2457 - 2008 / 11 / 6 - 03:44
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
سأل أحد طلبة شعبة علم الاجتماع الأستاذ عبد الصمد ديالمي قائلا: " هل هناك قراءة ماركسية للظاهرة الحمدوشية؟ ". فأجابه الأستاذ: " بل هناك قراءة حمدوشية للماركسية". وسياق هذه الحكاية أن الحمدوشية كظاهرة تطبع قطاعاتنا الوزارية وتطبع معها ممارسات، الأمر يتعلق بما يسمى ب" المنهجية الاستعجاليه" التي تسابق الزمن والمسافات، فالمذكرة رقم 60 ومعها "دليل تحضير وإجراء الدخول المدرسي 2008- 2009 " صفحة 12 ، يشيران إلى نظرية" المواد المتقاربة" قصد سد الخصاص، وبموجب هذا الإبداع أضحت مادة الفلسفة حقل معرفي غير محروس قابل للإجهاز على خصوصيته من خارج التخصص. وبسبب هذا التسيب الاستعجالي فالحديث عن تعلمات التلميذ تبقى دون الإدراك الحقيقي لأبعاد الدرس الفلسفي، من حيث مجاله الإشكالي، وملاءمته المنهجية، وأفقه الانفتاحي...لينصهر التلميذ في صور نمطية من خارج التخصص يستقبل معلبات "معرفية" ملخصة تقتل فيه العشق الافتراضي للنص الفلسفي وحرقة أسئلته. وهذا الإجهاز على الفلسفة بمعوال " المواد المتقاربة" إنما يعكس حالة الاستنفار للقائمين على الحقل التعليمي ببلادنا، قصد تعبئة مواردهم المندمجة المعرفية والمهارتية والسلوكية، لتحقيق كفاية القتل المنشودة للدرس الفلسفي. أما وأن القتل صاحبه تشويه للجسد/ النص الفلسفي كلحظة سادية، فإن الأمر مجرد استعادة تاريخية للاشعور الجماعي المناوئ للفلسفة. ألم تحرق مخطوطات ابن رشد أمام أعينه؟!! وإذا كنا نتحدث عن إرادة القتل للفلسفة فلقد تعددت الآليات، منها استحداث داخل الفضاء الجامعي شعب للرفع من منسوب الصراع الاديولوجي وتأثيث فضاءاته بنعوثات تغذي نظرية الحقد على الفلسفة ومحبيها ك :الزنادقة والملاحدة والعلمانيين...وهي تهم ساهمت بقدر كبير في الاعتداءات الجسدية المفضية أحيانا إلى الموت المادي. لكن، إرادة المقاومة كانت تنتعش من سياقها العام سياق حاملي الفكر التنويري كالخطيبي والجابري وحسين مروة والطيب التزيني والعروي...وهذا الزخم كان يقابله إصرار الطالب الجديد على التسجيل في شعبة الفلسفة كاختيار نضالي. فالسياق التاريخي عموما كانت تتجاذبه لحظة سياسية أمنية تستهدف كرامة وحرية الإنسان. ولحظة التمرد على كل الأصفاد المكبلة للتفكير العاشق للترحال ونشدان التأصيل العقلاني. والمرحلة التي نتحدث عنها(السبعينات والتمنينات) عرفت انتعاشا قويا للخطاب الفلسفي، فالكتاب المدرسي المقرر لأقسام الباكالوريا " نحن والتراث" لمحمد عابد الجابري ساهم بشكل كبير في إذكاء روح النقاش بين صفوف التلاميذ وهو نقاش كان يقوي الانتصار للمدارس المادية تتوج بالمعانقة المبكرة للاختيار السياسي اليساري. ما هي وضعية الفلسفة في سياق ما يعرف بمنظومة الإصلاح؟ لقد لجأت بعض النيابات الإقليمية على الصعيد الوطني إلى إلغاء أو تقليص عدد ساعات الفلسفة من الجذع المشترك، وهو إجراء ينقصه العمق الاستراتيجي في التفكير، لكونه يحمل آليات الدمار لكل القيم الجمالية والأخلاقية والمعرفية والتربوية...التي تزخر بها تاريخ الفلسفة. وبما أن القطاع التعليمي فضاء منتج للنخب و الفاعلين...نتصور على المدى القريب مدى قتامة المشهد الاجتماعي والسياسي ...خصوصا وأن التأسيس لضرب كل الأركان الفاعلة والحية في المجتمع وقيمه، مفعولاتها تتمظهر في كل المناحي وعبر كل المستويات من التفكير والفعل، وطبيعي أن يغذي هذا الاختلال في نظام الأشياء الحديث عن مفاهيم مثل الكفاءة، التأهيل، الحكامة الجيدة، التدبير العقلاني...للحصول على منسوب متوازن في درجة اليأس الاجتماعي . إن إنتاج لوحة سريالية تحمل توقيع " المواد المتقاربة" أنتجت معها سكيزوفرينيا رهيبة، من مظاهرها أن بعض حاملي الشهادات العليا في موضوع " المضمضة" أو "شروط النكاح" أو " زواج القاصرات"...يتسلمون تعيينات، وهم في حالة ذهول، لتدريس الفلسفة. ومنهم من هو في سباق محموم لتدريسها، مهرولا نحو تغيير الإطار. ماذا حدث ألم يكن خصما للتفكير الفلسفي ومحبيه، ألم يعاد الفلسفة إيديولوجيا، ألم يستهدف روادها ومفكريها في إطار ردود متهافتة، ألم يستهدف قيمها الديمقراطية والحداثية؟!!! ثم فوق هذا وذاك، هل باتت الفلسفة حقلا لتخريب أسسها ومضامينها ؟؟!! إن غياب العمق الاستراتيجي في التفكير يجعل تدبير الأزمة مرحليا دون تقدير مخاطر كبرى اجتماعيا. ولعل التوظيف الماكر للمفاهيم مثل سد الخصاص... إنما هو للتكيف والملاءمة مع وضع يصر القائمين على صناعته، وهو مسلك لا يختلف عن التوظيفات النظرية لمفاهيم كبرى كالكفايات... إن التراجع في مستوى حركة الإبداع للنص الفلسفي ، والإجهاز على مادة الفلسفة إنما هو نسق منظم لتدمير كل القيم التاريخية التي تشكل قوام الحداثة المأمولة كعقلانية ابن رشد. وإذا كانت نبوءة (جيل دولوز) الفيلسوف الفرنسي ترى أن أمريكا اللاتينية كمحتضن مستقبلي للفكر الفلسفي فلأن مقاومة جماعية تبلورت من أجل الديمقراطية والفكر التنويري، ساهمت في حماية الانبعاث والمسار الفلسفي. إن الدفاع عن المكتسبات العقلانية يجب أن يقدح زند شرارتها النخب المعنية قبل أن تتحول إلى دينامية اجتماعية تأخذ شكلا منظما. فالجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة معنية بخلق آليات دفاعية لتحصين مجالها العقلاني. كان من الطبيعي أن يحتضن المغرب الفكر الفلسفي كدورة تاريخية تمد جسور التواصل بين الأمس واليوم، من زاوية النظر إلى الحركة الفلسفية التي شهدتها بلادنا على يد رواد وضعوا اللمسات الأولى لتأسيس مدارس للفكر الفلسفي . إلا أن حركة الهدم للحقول المعرفية والفلسفية والسياسية... تشتغل بإستراتيجية حمدوشية، وهي مقاربة تدمج معها - للأسف- حتى حراس الممانعة. وبمثل ما افتتحنا به هذه المقالة سنختمها على إيقاع حكاية تأتي في سياق توالد مفاهيم كتعبيرات عن منظومة أزمة الإصلاح للحقل التعليمي، كسد الخصاص، الضم ، إعادة الانتشار، ترشيد الفائض...وفي هذا الباب، سأل أحد المدرسين عن المقصود بالإزاحة؟ فكان الجواب:" في بداية كل موسم دراسي يتم وضع تنظيم تربوي جديد يحافظ على أقدمية المدرس في التباري على الفرعيات حسب الأفضلية داخل الوحدة المدرسية، وتتم عملية الإزاحة كسلسلة قد تشمل مجموعة من المدرسين وفق مذكرة الإطار". ويبدو أن هذا التوضيح خلق تشويشا للسائل، مما دفعه إلى أن يستوضح من جديد قائلا: " وإذا كانت العملية تخص فقط مدرسين اثنين وليست سلسلة، ماذا نسمي ذلك ؟" أجابه أحد الظرفاء: " تلك العملية تسمى( تـنـقـيـزة )". ويبدو أن الجمع بين الحكايتين لاستنكاه دلالتهما، فإن أبعادهما ترمي إلى أن المقاربة السليمة لإصلاح منظومة التعليم ببلادنا، يجب تبدأ بممارسة تـنـقـيـزة كنقد وتجاوز للعقلية الحمدوشية.
#عزيز_الهلالي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأضرحة السياسية وتمرد الهامش
-
بؤس المشهد الإعلامي بالمغرب
-
يحكى أن حركة لكل الديمقراطيين...
-
الرسالة إلى التاريخ- التصنيف والتصنيف المضاد
-
على هامش اقتراع 7 شتنبر 2007 - لحظة تاريخية أخطأها اليسار
-
ذ. مصطفى صوليح يكشف تفاصيل انتهاكات السلطات الأمريكية لمقتضي
...
-
تطوان: المشاركة السياسية للمرأة بمنظار الإطارات النسائية
-
اليسار الموحد تحاور د. المهدي المنجرة
-
الحزب الاشتراكي الموحد: قراءة في تجربة التأسيس والمسار
-
في نقد الخطاب السياسي لحزب العدالة والتنمية
-
أيادي نظيفة تتصدى لبؤر الفساد بمحكمة الاستئناف بتطوان
-
معركة مفتوحة لحملة الشهادات المعطلين بتطوان
-
إشكالية الهوية لدى الفكر اليساري
-
حوار مع رمز الأغنية الملتزمة الفنان سعيد المغربي
-
السكرتارية العامة للتنسيق بين النقابات بتطوان تدعو الإعلام إ
...
-
وضع النساء من خلال تقرير 50 سنة من التنمية وآفاق 2025
-
اليسار وتخليق الحياة العامة
-
لقاء بين تجمع اليسار الديمقراطي واليسار الموحد بتطوان
-
حوار مع المنسقة العامة لجمعية السيدة الحرة للمواطنة وتكافؤ ا
...
-
حزب البديل الحضاري إشكالات ورهانات
المزيد.....
-
جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR
...
-
تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
-
جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
-
أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ
...
-
-نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
-
-غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
-
لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل
...
-
ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به
...
-
غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو
...
-
مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|