اعداد عصام البغدادي
الثاني من شباط عام 1984: رحيل الرئيس الأميركي ويلسون
رحل في مثل هذا اليوم الرئيس الأميركي توماس وودرو ويلسون، والحائز على جائزة نوبل للسلام (1919). مات في العاصمة واشنطن عن عمر ناهز السابعة والستين. كان الرئيس الأميركي الأكثر إثارة للجدل. أيّده أنصاره بحماسة منقطعة النظير، وبلا هوادة انتقده خصومه.
كان في السادسة والخمسين عندما انتخب يوم الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 1912 رئيسا للولايات المتحدة، وكان مرشح الحزب الديمقراطي. أفاد للغاية من انقسام الحزب الجمهوري المنافس الذي خاض الانتخابات بمرشحيْن توزعا أصوات المؤيدين: الرئيس الحاكم والمنتهية ولايته وليم تافت (نال 23 بالمئة) والرئيس السابق تيودور روزفلت (24%) ما سهل فوز ويلسون بعد حصوله على 42% من أصوات المواطنين. غير أنه وفق النظام الانتخابي الأميركي اكتسح الخصوم، فائزا في أربعين ولاية حاصداً 435 من أصوات الناخبين الكبار مقابل فوز روزفلت في ست ولايات فقط وحصوله على أصوات 88 من الناخبين الكبار.
ولد توماس وودرو ويلسون يوم الثامن والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 1856 ابناً لقسيس. درس القانون ومارس المحاماة، وعيّن عام 1890 أستاذا للتاريخ في جامعة برنستون ثم أضحى مدير الجامعة، إلى أن انتخب حاكما لولاية نيو جيرسي عام 1910. ثم فاز بعد سنتين برئاسة الجمهورية.
وكان وعد الناخبين بتطبيق سياسة إصلاحية أطلق عليها "الحرية الجديدة". وأراد بها إعطاء الفرصة لأبناء الطبقة الوسطى فما دون، لكى يتمكنوا من الصمود خلال المنافسة، وذلك عن طريق خفض الضرائب والرسوم الجمركية. وإلى ذلك: تحديد مدة العمل اليومي بثماني ساعات، تقديم القروض للجمعيات التعاونية الزراعية، محاربة احتكارات الشركات الكبرى، وانتخاب أعضاء مجلس الشيوخ بالاقتراع المباشر. وبهذا تحقق في عهده من الإنجازات على صعيد السياسة الداخلية ما لم يخطر ببال. وعلى العكس من ذلك، لم تكن سياسته الخارجية ذات أطر واضحة، خصوصا في بداية حكمه حينما اندلعت في المكسيك ثورة عام 1913 عكّرت العلاقات مع واشنطن، فاضطر إلى إرسال الجيش الأميركي لإخمادها. وصرح الرئيس ويلسون أنه ضد كل أشكال الاستعمار، ومع ذلك وجد نفسه مضطراً إلى التدخل عسكريا في هايتي (1915) والدومينيكان (1916) وكوبا (1917). وبرغم أن الولايات المتحدة أعلنت وقوفها على الحياد في بداية الحرب العالمية الأولى، لم يستطع الرئيس ويلسون التمسك بهذا الموقف بعدما أعلنت ألمانيا بدء حرب الغواصات. خصوصا وأن غواصة ألمانية أغرقت السفينة الأميركية لوزيتانيا فاضطرت واشنطن إلى إعلان الحرب على ألمانيا يوم الثاني من إبريل/نيسان 1917. ورجحت المشاركة الأميركية كفة الحلفاء ما أدّى إلى خروج ألمانيا خاسرة.
وفي رسالة وجهها إلى الكونغرس يوم الثامن من يناير/كانون الثاني 1918 أعلن الرئيس ويلسون برنامج سلام ضمّنه المباديء الأربعة عشر الشهيرة. الخمسة الأولى عامة، تدعو إلى: ممارسة الشفافية بعقد معاهدات علنية.. احترام حرية الملاحة أوان السلم والحرب.. إزالة العوائق الاقتصادية بين الشعوب قدر الإمكان.. خفض التسلح إلى الحد الذي يضمن الأمن الداخلي.. تسوية المنافسات الاستعمارية مع مراعاة رغبات السكان ومصالحهم. أما المباديء الأخرى فتناولت قضايا بعينها: الجلاء عن روسيا، المحافظة على سيادة بلجيكا، تسوية قضية الألزاس واللورين، تعديل حدود إيطاليا، تقسيم مملكة النمسا – المجر بما يتناسب مع القوميات المختلفة، تعديل الحدود في البلقان بما يتفق مع المعطيات التاريخية وانتشار القوميات، حصر حكم الاتراك في رعايا من جنسهم وتقرير حرية الملاحة في مضيق الدردنيل، تقرير استقلال بولندا وتمكينها من بلوغ البحر. وأما المبدأ الرابع عشر فطالب بإنشاء "عصبة الأمم". وقد أقر هذا المبدأ وسواه في مؤتمر فرساى (1919) ونشأت عصبة الأمم التي تحولت بعد الحرب العالمية الثانية إلى "هيئة الأمم المتحدة".
وبرغم تبني أوروبا لبرنامج الرئيس الأميركي، وربما بسبب ذلك، ثارت حفيظة الانعزاليين في أميركا ونجحوا في التأثير في مجلس الشيوخ فامتنع عن المصادقة على معاهدة فرساى، فما كان من الرئيس ويلسون إلا أن اعتزل السياسة بعد نهاية ولايته الثانية عام 1920.
الرابع من شباط 1889: انهيار شركة بنما
يوم الرابع من فبراير/شباط 1889 انتشر في باريس خبر انهيار شركة قناة بنما الفرنسية التي اشهرت إفلاسها، وكان له دوي عظيم أصاب الأوساط الاقتصادية بصدمة امتدت لتشمل الأوساط السياسية، فتبلغ الذروة عام 1892 بما عُرف بـ "فضيحة بنما".
وفيما سادت البلبلة العاصمة الفرنسية، توقف العمل في المشروع الذي خطط له أن يصل المحيط الأطلسي بالمحيط الهادي عبر قناة بنما. والحال أن المشروع كان قد انطلق بقوة، خصوصا وأن صاحبه هو المهندس الفرنسي فردينان دو ليسبس، الذي حقق من قبل نجاحا باهراً في مصر تُوّج بافتتاح قناة السويس عام 1869. وبناء على ذلك النجاح وعلى الشهرة العالمية التي أصابها، أقدم دو ليسبس بعد عشر سنوات، أى عام 1879 على تأسيس "الشركة العالمية لقناة بنما واصلة المحيطات". وأعلن أنه سيتولى التخطيط والإشراف على حفر القناة على أن تبدأ الأشغال عام 1881. ولما كانت أنظار العالم توجهت بالإعجاب إلى قناة السويس، تهافت المستثمرون على شراء أسهم قناة بنما.
ومع بدء الأشغال تبيّن أن تقدير النفقات لم يكن سليما، وأثبت الواقع أن المصروفات أكثر بكثير مما كان متوقعاً. بل إن بعض النفقات لم يحسب حسابه من الأساس، ولم تأخذ معوقات الحفر بعين الاعتبار مما جعل التكاليف أعلى مما كان منتظراً. والمناخ القاري من المعوقات إذ سرعان ما يصيب الإرهاق العمال فيشتغلون وقتاً أقلّ. ومنها أيضا: طبيعة الأرض، حيث تكثر المستنقعات الغنية بالطحالب ذات الجذور المنتشرة والعميقة والتي يستغرق اقتلاعها وقتا ويستهلك جهدا.
ومن أجل استمرارية العمل في المشروع حتى بلوغ الهدف، حاولت شركة قناة بنما إغراء صغار المستثمرين الفرنسيين بشراء المزيد من الأسهم والسندات. وتمكن فردينان دو ليسبس عام 1888 من الحصول على موافقة المجلس النيابي الفرنسي على إجراء يانصيب يعود ريعه للشركة، ومع ذلك لم يجد الطرح الجديد نفعا، بل باء بالفشل. وكان أن سدت السبل في وجه دو ليسبس واضطرت شركة قناة بنما إلى إعلان إفلاسها. ونتيجة ذلك الانهيار خسر عشرة آلاف من صغار المساهمين ما يربو على مليار ونصف مليار فرنك فرنسي.
وتأثر الرأى العام الفرنسي بهذه المشكلة ، ووضع القضاء يده على الملفات. وفي عام 1891 مثل فردينان دو ليسبس أمام المحكمة. وخلال التحقيق تبيّن أن مبالغ باهظة سُحبت من رأسمال الشركة ودُفعت رشاوى إلى عدد من رجال السياسة ومن أصحاب ومدراء المصارف ومن الصحافيين. وكان أن أصدر القاضي قرارا ظنيا بحق بعض الوزراء والنواب، وإذا بالمشكلة تصبح فضيحة، لم يجد رئيس الحكومة إميل لوبيه إزاءها مخرجا سوى تقديم استقالة حكومته عام 1892. وقبل رئيس الجمهورية كارنوه الاستقالة فوراً وطلب من السلطات القضائية وقف التحقيقات في هذه الفضيحة حفاظاً على ما تبقى من سمعة الجمهورية، على أساس أن غليل الناس قد شُفي برحيل الحكومة وفي تلك الظروف توقفت أعمال الحفر الأولية في بنما. ومات فردينان دو ليسبس عام 1894 وفي قلبه حسرة الفشل التي محت معالم النجاح السابق في قناة السويس. ومات الحديث عن القناة إلى حين حصول بنما على الاستقلال عام 1903. وفي السنة ذاتها أعطت جمهورية بنما الوليدة الولايات المتحدة الأميركية حق استثمار منطقة القناة وحق السيادة على الضفتين بقصد حمايتهما مقابل عشرة ملايين دولار ومبلغ سنوي اتفق عليه.
وبعد ثلاث سنوات بدأت الشركات الأميركية الأشغال لحفر القناة بتقنيات جديدة، مستفيدة من أخطاء الشركة الفرنسية، خصوصا بتوفير شروط المعالجة الطبية لبعض الأوبئة التي فتكت بالعديد من العمال أيام دو ليسبس. وكان ان افتتحت قناة بنما رسميا يوم السابع من يونيه/حزيران 1914. وكانت السفينة الأميركية الضخمة "آليانس" أول باخرة عبرت قناة بنما من جهة المحيط الأطلسي وخرجت في المحيط الهادي.
بلغ طول القناة اثنين وثمانين كيلومتراً. وتراوح عرضها بين تسعين وثلاثمئة متر. أما أدنى عمق فبلغ اثنى عشر متراً ونصف، وأما الأقصى فيزيد عنه بمتر وعشرين سنتيمتراً. وبفضل قناة بنما اختصرت المسافة بين سواحل الولايات المتحدة الشرقية على الأطلسي واليابان نحو سبعة آلاف ميل بحري.
السادس من شباط 1919: تشكيل أول "جمعية وطنية" في فايمار.
في مثل هذا اليوم من عام 1919 عقدت الجمعية الوطنية الألمانية جلستها الأولى في مدينة فايمار بعد أول انتخابات ديمقراطية عرفتها ألمانيا، تلك التي جرت يوم التاسع عشر من يناير/كانون الثاني من العام نفسه، اختار فيها الشعب الألماني النواب الأربعمئة وثلاثة وعشرين، الممثلين لمختلف الأحزاب، عدا الشيوعي الذي قاطع الانتخابات.
في الشهرين السابقين توالت الأحداث التاريخية في المشهد السياسي الألماني، من انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى انهيار الامبراطورية وعزل القيصر فيلهلم الثاني (غليوم) عن العرش يوم التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني 1918 وهو اليوم الذي أعلن فيه السياسي الديمقراطي الاشتراكي فيليب شايدمان قيام "الجمهورية الألمانية" من برلين عبر خطاب جاء فيه:"أيها العمال والجنود.. فلتكن الأهمية التاريخية لهذا اليوم جليّة أمامكم.. تحقق ما لا يصدق.. الملكية الهرمة المتداعية هوت.. يحيا الجديد.. تحيا الجمهورية".
ولكى تستقيم الجمهورية الأولى في التاريخ الألماني كان لابد من دعمها بالانتخابات التي هى رمز الديمقراطية. وقد توافقت الأحزاب على إجرائها باستثناء الحزب الشيوعي الوليد وجماعة سبارتاكوس وهى منظمة متشددة تقف على يسار الشيوعيين. أولئك طالبوا بمجالس شعبية "سوفيتات" على غرار روسيا البلشفية، وحاربوا الدعوة إلى انتخابات الجمعية الوطنية. والتهبت أجواء برلين بالتظاهرات التي قادها المعارضون، الشيوعيون والسبارتاكيون، والتي رافقتها أعمال عنف وصدامات مع رجال الشرطة.
وأسفرت الانتخابات التي شاركت فيها المرأة لأول مرة، اقتراعا وترشيحا، عن فوز الحزب الديمقراطي الاشتراكي بالمرتبة الأولى دون أن يتمكن من بلوغ الأغلبية المطلقة بسبب انشقاق داخلي أضافة إلى الحملة التي شنها ضده غلاة اليساريين. وحل حزب المركز ثانيا، وهو حزب مسيحي ديمقراطي، وجاء "الحزب الديمقراطي الألماني" ثالثا، وهو أصل الحزب الليبرالي الحالي.
وإزاء التوتر السائد في شوارع برلين، لم يكن من الحكمة الدعوة إلى عقد الجلسة الافتتاحية للجمعية الوطنية فيها. لذلك اختيرت مدينة فايمار الصغيرة الهادئة، وزُيّنت قاعة المسرح الوطني فيها لتستقبل نواب الأمة. ولم يكن اختيار فايمار لمجرد الدواعي الأمنية، بل كانت هناك دلالات سياسية أيضا. فاستبعاد برلين، عاصمة بروسيا، يعني القطيعة مع العسكريتاريا والذهنية الحربية. أما فايمار، فهى مدينة غوته وشيلر، رمز الإبداع الألماني ومدينة الفكر بامتياز. وفيما بدأت الجمعية الوطنية أعمالها في فايمار، ظلت إدارات الدولة في برلين.
وأكد النواب من مختلف الأحزاب على ضرورة احترام القيم الديمقراطية في ظل الجمهورية الوليدة. وبعد خمسة أيام انتخب فريدريش إيبرت، رئيس الحزب الديمقراطي الاشتراكي رئيسا للجمهورية بأغلبية سبعين في المئة ، وأعلن أنه أصبح رئيسا للألمان جميعاً. كما انتخب رفيقه فيليب شايدمان رئيسا لحكومة ائتلافية ضمت الأحزاب الثلاثة الأولى.
وكانت مسألة صياغة الدستور الجديد لألمانيا على عاتق الجمعية الوطنية. الدستور السابق ينتمي إلى العهد القيصري، والجديد ينبغي أن يتلائم مع الجمهورية. وأول مادة أقرها النواب نصت على أن الشعب هو مصدر السلطات. ولم ينس المشترعون حقوق المرأة السياسية وجعلوها مساوية لحقوق الرجل. وبعد إقرار الدستور، كان على الحكومة والجمعية الوطنية مواجهة الاستحقاقات الصعبة التي أفرزتها خسارة ألمانيا الحرب العالمية الأولى. إذ أضافة إلى خسائر الحرب البشرية والمادية، كان العدد المهول للجنود المسرّحين عبئا على اقتصاد البلاد، تراكم على أعباء البطالة والتضخم والتعويضات المالية لضحايا الحرب وتكاليف علاج الآلاف من الجرحى والمعوقين.
أقرّ النواب بتوافق تام مواد الدستور الديمقراطي الجمهوري، وشرعوا من القوانين ما ينسجم مع مرحلة الإعمار بعد الحرب، وما كادوا يلتقطون أنفاسهم حتى توجب عليهم بعد أربعة أشهر مواجهة نتائج مؤتمر فرساى، فحدث الشرخ والانقسام. رأت مجموعة كبيرة من النواب أن قرارات فرساى مذلة لألمانيا سياسيا وحجمَ التعويضات المالية المفروضة عليها مهولٌ ومرهقٌ اقتصاديا. ورأت مجموعة كبيرة أخرى، بينها الحكومة، أن المصادقة على قرارات فرساى همّ لا مفر منه إذا أرادت ألمانيا أن تعود إلى المجتمع الدولي. وتغلبت المصلحة الوطنية على العواطف وصادقت الجمعية الوطنية ولو على مضض.
الثامن من شباط 1963 : استيلاء البعث على السلطة في العراق
تحرك حزب البعث في العراق لاسقاط حكم الزعيم عبد الكريم قاسم بعد سنوات كان الصراع الحزبي فيها على اشده بين ثلاث تيارات كانت تسود العراق انذاك : الحركة الشيوعية ، حركة حزب البعث ، حركة القوميين العرب وكل منها يحاول الاستيلاء على السلطة بشكل او بأخر رغم احتواء كل منها على العدبد من الاجنحة المتصارعة.
حصل الانقلاب يوم الجمعة الرابع عشر من رمضان حيث استولت زمرة من حزب البعث على دار الاذاعة في الصالحية بعد ان هاجمت من الجو بواسطة الطائرات مبنى وزارة الدفاع حيث مكتب عبد الكريم قاسم الذى انتقل من داره الى مكتبه صباحا بعد ان تلقى نبا الانقلاب وحاول المقاومة من هناك متفاديا تحول المحاولة الى مواجهة اهلية تلحق خسائر بالمدنيين فوافق على التسليم وتم نقله الى مبنى الاذاعة حيث نفذ فيه حكم الاعدام بدون رحمة التى كان قد منحها سابقا لقاتليه.
التاسع من شباط 1984: وفاة يوري أندروبوف
في مطلع ثمانينات القرن العشرين توالت وفيات الرؤساء السوفيات الذين حكموا الاتحاد السوفياتي وهم في عمر متقدم، وكل منهم يحمل في جسمه مجموعة من الأمراض. منهم يوري أندروبوف، رئيس الدولة والأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي، الذي توفي في موسكو في مثل هذا اليوم قبل عشرين سنة عن عمر ناهز السبعين.
وكان في الأشهر الأخيرة من عمره، أى منذ صيف 1983 توارى عن الأنظار، وظل إسميّاً الرجل الأول في الدولة، ولم يكن أحد يدري مدى مساهمته الفعلية في القرارات السياسية الكبرى التي كانت تتخذ آنذاك في موسكو.
ولد يوري فلاديميروفيتش أندروبوف لأب روسي وأم أذربيجانية يوم الثاني من يونيه/حزيران 1914 في بلدة ناغوتسكويه في شمال القوقاز. كان أبوه عاملا في مصلحة السكك الحديدية. أما هو فعمل في دائرة التلغراف، ثم مشغّلاً لآلة العرض في إحدى دور السينما، وملاحا في سفينة تعبر نهر الفولغا، قبل أن يلتحق بالمعهد العالي للتقنيات ثم بجامعة بتروزافودسك، غير أنه لم يكمل الدراسة.
كان في السادسة عشرة من عمره عندما انضم إلى "الكومسومول" (الشبيبة الشيوعية). وفي عام 1939 انضم رسميا إلى الحزب الشيوعي السوفياتي. وقد انتبه رؤساؤه في الحزب إلى نشاطه وكفاءته، فقرروا تعيينه أمينا عاما للشبيبة الشيوعية في إحدى الجمهوريات السوفياتية الحديثة العهد "جمهورية كاريلو" الفنلندية، التي دامت حتى 1944. لكن نقطة التحول في حياته كانت حين استدعي عام 1951 إلى موسكو وتابع في الأمانة العامة للحزب الشيوعي دورة تأهيلية مخصصة لإطارات المستقبل، وأضحى تلميذا مقربا من سوسلوف، المنظر العقائدي للحزب والرجل ذي النفوذ.
وفي يوليو/تموز 1954 تم تعيين يوري أندروبوف سفيرا للاتحاد السوفياتي في هنغاريا. واستمر في منصبه هذا إلى مارس/آذار 1957. خلال هذه الفترة عرفت هنغاريا الانتفاضة الشعبية الكبرى عام 1956، التي انتهت باجتياح القوات السوفياتية للبلاد وإخماد العصيان الشعبي بالدبابات والمدافع. وكان أندروبوف مهندس التدخل السوفياتي. ومكافأة له، تم تعيينه رئيسا لجهاز تابع للجنة المركزية للحزب مهمته "الإشراف" على الأحزاب الشيوعية في العالم.
وكانت نقطة التحول المهمة الثانية في حياته حين تم تعيينه في الثامن عشر من مايو/أيار 1967 رئيسا لجهاز المخابرات العامة المعروف باسم "كي جي بي". والمنصب على درجة كبيرة من الأهمية، شاغله يتمتع بدرجة وزير، وهو من صناع القرار الرئيسيين، بمثابة الرجل الرابع في قمة هرم السلطة. يضم جهازه نحو خمسة وعشرين ألفا من رجال المخابرات، ويتحكم بميزانية تبلغ خمسة مليارات من الدولارات، ويعلم كل صغيرة وكبيرة في البلاد وخارجها. وكانت المآخذ على سلفه غفلته عن لجوء سفيتلانا إبنة ستالين إلى الغرب. وتعزز موقعه بانضمامه عام 1973 إلى المكتب السياسي، أعلى سلطة في الاتحاد السوفياتي. ولم تمض سنة على تسلمه رئاسة الكي جي بي، حتى اندلعت في تشيكوسلوفاكيا ثورة معادية للسوفيات عرفت بـ "ربيع براغ". وبرغم أن جهازه لم يستبقها، إلا أن قمعها جعله يلبث في موقعه.
وتسلطت الأضواء عليه كمرشح محتمل وقوي لخلافة بريجينيف الذي كان المرض يشل نشاطه. يدعمه اثنان في وجه منافسه قسطنطين تشريننكو: سوسلوف، والماريشال أوستينوف وزير الدفاع، وكانت علاقة أندروبوف به توطدت بحكم منصب كل منهما. واشتهر أندروبوف بصمته وبراعته في المناورة الهادئة. وبالفعل، عندما توفي بريجينيف في خريف 1982، خلفه أندروبوف. وبعد سبعة أشهر تم انتخابه رئيسا لمجلس السوفيات الأعلى.
ومنذ بداية حكمه أرهقه اجتماع الأمراض: ارتفاع ضغط الدم والسكّري والفشل الكلوي. وكانت فترة حكمه قصيرة دامت أربعة عشر شهرا فقط. واجه خلالها مشكلة كبيرة مع الولايات المتحدة الأميركية حين نشرت الصواريخ بعيدة المدى في أوروبا الغربية.
في التاسع من فبراير/شباط 1984 توفي أندروبوف. وخلفه منافسه القديم تشيرننكو، الذي لم يحكم طويلا، وبعده تسلم غورباتشوف رئاسة الدولة والحزب، وكان آخر رئيس للاتحاد السوفياتي.
العاشر من شباط 1904 : اليابان تعلن الحرب على روسيا
كانت الحرب الروسية ـ اليابانية من أوائل الحروب التي اندلعت في مطلع القرن العشرين. نشأت بسبب المنافسة بينهما على استعمار كوريا ومنشوريا. كانت روسيا تغلغلت في تلك المناطق ولم تستجب لطلب اليابان تقاسم النفوذ.
وفي ليل السابع والعشرين من يناير/كانون الثاني 1904 قامت القوات اليابانية بشن هجوم مباغت بالزوارق الحربية على مرفأ بورت آرثر الكائن في منشوريا (الصين). وهو ميناء يمتاز بدفء مياهه، احتلته روسيا عام 1897 وحولته إلى مركز رئيسي للأسطول الروسي في شرق آسيا. وبرغم الهجوم الياباني تأخرت روسيا في إعلان الحرب على اليابان إلى يوم التاسع من فبراير/شباط 1904. وفي اليوم التالي، أى في مثل هذا اليوم قبل مئة سنة ردت اليابان من جانبها بإعلان الحرب رسميا على روسيا.
وحاصر الأسطول الياباني الميناء وشل حركة السفن الروسية الحربية الراسية فيه. وأخذ مجرى الأحداث ينبيء بأن "الأقزام الصفر" يمكن أن يهزموا "الدب الروسي" بالضربة القاضية. كان الموقع الجغرافي لصالح اليابان لقربها من بورت آرثر. وكان قائد الهجوم الياباني الأميرال هايهاشيرو توغو قد وضع خطة محكمة، مكّنته من تعبئة القوات المسلحة باتقان غير مسبوق. وبعد الإنزال الناجح في المرفأ والاستيلاء عليه أصبح بطلا شعبيا في نظر الصحافة والرأى العام في اليابان. ولم يكن في وسع روسيا سوى الاستنجاد بأسطولها الموجود في بحر البلطيق بقيادة الأميرال زينوفتش روشيسفنسكي. لكن بعد المسافة حال دون نجاح النجدة.
في الأثناء بدأت محاولات القوات اليابانية اقتحام المدينة ذاتها بعد السيطرة على المرفأ. لكن المهمة لم تكن سهلة. إذ بلغ عدد القوات الروسية المتمركزة فيها خمسين ألفا، ناهيك عن التحصينات العديدة التي أقامتها فيها خلال ستة أعوام. وبدءا من شهر يوليو/تموز 1904 فرض اليابانيون حصارا كاملا على المدينة، أعقبته محاولات اقتحام متعددة. وبعد ستة أشهر انهارت الدفاعات الروسية وأعلن الجنرال الروسي أناتولي شتوسل استسلام مدينة بورت آرثر، الذي نفذ بالفعل واستغرق يومين. واستولى اليابانيون بعد احتلالهم المدينة على غائم حرب متنوعة، من المدافع إلى القذائف والخيول والبنادق، إضافة إلى السفن التي كانت محاصرة في المرفأ.
ولأن الخسارة تجر الخسارة، استسلمت القوات الروسية في المواقع كافة، وآخرها معقلها في مدينة موكدِن (منشوريا) التي تدعى اليوم شين يانغ. وبهذا انتهت الحرب الروسية ـ اليابانية يوم العاشر من مارس/آذار 1905. ورصدت الخسائر الفادحة من الطرفين: خمسون ألفا لدى اليابانيين واثنان وتسعون ألفا لدى الروس بين قتيل وجريح.
وبعد الاستسلام أصدرت السلطات الروسية حكما بالإعدام بحق الجنرال شتوسّل، ثم نعِم بالرأفة، إذ خفضت العقوبة إلى عشر سنوات سجن.
وفي الخامس من سبتمبر/أيلول 1905، وبوساطة من الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت، وقع مندوبون عن روسيا واليابان معاهدة سلام، عرفت بمعاهدة بورتسموث، نسبة إلى القاعدة البحرية الأميركية التي تم فيها التوقيع على المعاهدة التي أنهت تلك الحرب رسميا. وبحسب المعاهدة التي اتفقت فيها الدولتان على ضرورة إقرار السلام، تعهدت روسيا بالانسحاب من منشوريا، متيحة بذلك إقرار السيادة الصينية عليها. وأصبح ميناء بورت آرثر تحت السيطرة اليابانية (استعادته الصين رسميا عام 1955). كما تولت اليابان صفة الحماية على كوريا وعلى الجزء الجنوبي من جزيرة سَخالين.
وبهذا دخلت اليابان دائرة الدول العظمى، أما خسارة روسيا الحرب فكانت من بين الأسباب التي أشعلت ثورة عام 1905 في البلاد، وكانت تمهيدا للثورة الأخرى، الكبرى، التي قامت عام 1917 وحوّلت روسيا من قيصرية إلى جمهورية شيوعية، كانت النواة الرئيسية في تشكيل الاتحاد السوفياتي
الحادي عشر من شباط 1929: إنشاء دولة الفاتيكان .
في قصر لاتيران في روما، تم في مثل هذا اليوم قبل خمس وسبعين سنة التوقيع على "معاهدة لاتيران" بين الحكومة الإيطالية ممثلة برئيسها بنيتو موسوليني، مندوبا عن الملك فكتور إيمانويل الثالث، وبين الكرسي الرسولي ممثلا بالكاردينال بيترو غاسباري، المفوض المطلق الصلاحيات من قبل البابا بيوس الحادي عشر. وأدت المعاهدة إلى إنهاء النزاع الذي كان قائما بين الطرفين، وبموجبها اعترفت إيطاليا للكرسي الرسولي بأنه يؤلف دولة تتمتع بحقوق السيادة والحرية كافة. وهكذا نشأت "دولة الفاتيكان".
وكانت معاهدة لاتيران ذات ثلاثة جوانب: الجانب الدبلوماسي، أدى إلى اعتراف الفاتيكان بالمملكة الإيطالية ولأول مرة بروما عاصمة لها. وفي المقابل اعترفت إيطاليا بسيادة دولة الفاتيكان على أراضيها وملحقاتها الممتدة على مساحة 44 كيلومترا مربعا، والتي تشمل كاتدرائية القديس بطرس والساحة وقصر الفاتيكان والمباني التابعة له التي تضم مختلف الإدارات، والمتحف والمكتبة المؤسسة في القرن الخامس عشر ودائرة الأرشيف، كما تعهدت بتأمين حرية اتصالات الفاتيكان الخارجية، أى باعتماد سفراء لديه وإيفاد سفراء من لدنه إلى الدول المختلفة، ويطلق في العادة على السفير البابوي لقب "القاصد الرسولي". وأصبح العاملون في إدارة الشؤون الخارجية في الفاتيكان يتمتعون بالحصانة الدبلوماسية.
وفي الجانب المالي تم الاتفاق على أن تدفع إيطاليا إلى الفاتيكان تعويضا قدره سبعمئة وخمسون مليون لير إضافة إلى مبلغ سنوي يعادل خمسين مليون لير. أما في الجانب الديني، فتعترف إيطاليا رسميا بأن الكاثوليكية هى الدين الوحيد للدولة، وبجعل التعليم الديني إلزاميا في المدارس حتى نهاية المرحلة الثانوية وأن يشرف الفاتيكان على محتويات كتب التعليم الديني، وباعتماد القوانين الكنسية والاعتراف بها خصوصا لجهة منع الطلاق، وبإعفاء القساوسة من الخدمة العسكرية، وبفصل موظفي الدولة الذين يقع عليهم الحرم الكنسي.
كان ملك فرنسا "بيبان القصير" أول ملك أوروبي اعترف بسلطة البابا الزمنية، وثبتها من بعد الامبراطور شارلمان. وظلت فرنسا تحمي تلك الدولة التي امتزجت فيها السلطتان الروحية بالزمنية.
وبعقد معاهدة لاتيران حلت "مشكلة روما" التي ظلت معلقة منذ القرن التاسع عشر. وكانت إيطاليا قد توحدت عام 1861 تحت حكم الملك فكتور إيمانويل الثاني. وكان ينقصها أن تضم إليها ولاية البندقية التي تحتلها النمسا، وروما والممتلكات البابوية. لكن المملكة الإيطالية الوليدة كانت مضطرة تحت ضغط فرنسا، إلى التنازل عن فكرة وضع اليد على الممتلكات الكنسية. خصوصا وأن فرنسا ساعدت إيطاليا في حربها ضد النمسا لتحرير أراضيها الشمالية. آنذاك كانت فلورنسا عاصمة المملكة الإيطالية. إلى أن انشغلت فرنسا في حربها مع ألمانيا عام 1870 وسحبت فرقها العسكرية المرابطة في روما، فاستغلت إيطاليا الفرصة واستعادت المدينة التاريخية، وأعلنتها عاصمة المملكة. واستولت في العشرين من سبتمبر/أيلول من العام نفسه على الممتلكات البابوية وجعلتها ممتلكات عامة، فاعتزل البابا بيوس التاسع في قصر الفاتيكان لا يغادره كالأسير، وحذا الباباوات الآخرون حذوه. ورفض البابا "قانون الضمانات" الصادر في الثالث عشر من مايو/أيار 1871، وهو يضمن للبابا حقوق السلطة الروحية المستقلة فقط، مع الحرية في عقد المجامع والإشراف على الكنائس، على أن تدفع له المملكة مبلغا سنويا يغطي نفقاته.
وبعقد معاهد لاتيران تمت المصالحة بين الكنيسة والمملكة الإيطالية، ونشأت دولة الفاتيكان رسميا لأول مرة، وأصبح البابا من جديد رئيسا روحيا وزمنيا.
وبرغم التنازلات التي قدمتها الحكومة الإيطالية للفاتيكان، اعتبر بعض المراقبين أنها خرجت منتصرة. إذ أن الفاتيكان أصبح من جهته لا يتدخل في شؤون الحكومة، وبالتالي سنحت الفرصة لبينيتو موسوليني لكى يفرض نهجه الفاشيستي في حكم إيطاليا.
الثاني عشر من شباط 1974: اعتقال الأديب السوفياتي سولجنتسين
في رواية "أرخبيل الغولاغ" يصف الأديب الروسي سولجنتسين أقامة في السجن مشبها الزنزانة بـ"صندوق خشبي معتم ذي مستنبت لمئات، آلاف من القمل. يلقى به المتهم والجزء الأعلى من جسده عاريا. وفي غمضة عين تهاجمه حشرات القمل الجائعة، تتساقط عليه من السقف بنهم. يكافح في البداية بمرارة، ويخبط في كل اتجاه، ويعتقد أن رائحتهم الكريهة ستخنقه. وبعد ساعة، ينهار خائر القوى ويدعها تمتصه".
وألكسندر سولجنتسين ذاق مرارة السجن غيرمرة، آخرها اعتقاله وسوقه مكبل اليدين يوم الثاني عشر من فبراير/شباط 1974 وتوقيفه. وفي اليوم الثاني اقتيد مكبلاً إلى الطائرة التي أقلته إلى فرانكفورت، حيث تنفس الحرية، وودع كوابيس الاعتقالات لآخر مرة. إذ بعد أقامة لدى صديقه الأديب الألماني هاينريش بول، توجه في ديسمبر/كانون الأول 1974 إلى ستوكهولم لاستلام جائزة نوبل للآداب التي كان استحقها عام 1970، ولم يتمكن من استلامها في حينه. إذ في اليوم ذاته، كان انضم إلى اثنين من مشاهير الفيزيائيين السوفيات، وأسس الثلاثة برئاسة العالم زاخاروف منظمة خاصة للدفاع عن حقوق المواطنين، هدفها ممارسة "النقد البنّاء" للمجتمع السوفياتي.
وفي عام 1973 تفاقمت المشكلة بين سولجنتسين والسلطات السوفياتية. كان قد أملى على صديقة له يثق بها مخطوطة الجزء الأول من كتابه "أرخبيل الغولاغ" وهى هرّبت النسخة إلى فرنسا، حيث نشر الكتاب. ثارت ثائرة المخابرات السوفياتية وفتحت تحقيقا في الموضوع أدى إلى انتحار الفتاة. وفي ثلاثية "أرخبيل الغولاغ" (نشرت بين 1973 و1976) استعرض سولجنتسين في قالب روائي مدعم بالوثائق، مساويء النظام السوفياتي منذ عهد لينين، والحالة المأسوية الزرية في معسكرات الاعتقال وآلية نشر الرعب في عهد ستالين. مما أثار حنق الكثيرين من المثقفين في العالم الغربي حتى اليساريين منهم (الذين تسنى لهم قراءة الثلاثية التي حرم السوفياتيون من الاطلاع عليها) وأدى إلى انسحابات جماعية من الأحزاب الشيوعية الأوروبية.
من ألمانيا انتقل ألكسندر سولجنتسين إلى سويسرا وأقام في زيوريخ حتى حمل نفسه وأسرته إلى الولايات المتحدة الأميركية، وسكن في مزرعة قريبة من مدينة كافنديش الصغيرة في ولاية فيرمونت. وفي وقت لاحق حصل أفراد أسرته على الجنسية الأميركية، وظل هو محتفظا بجنسيته السوفياتية، كما لم يتخلَّ عن هويته.
وظل يعيش في منفاه الاختياري إلى أن أعيد الاعتبار إليه عام 1989 في عهد غورباتشوف. في شهر يونيه/حزيران من تلك السنة أعيد انتسابه إلى اتحاد الكتاب السوفيات. وفي شهر أغسطس/آب 1990 أصدر غورباتشوف مرسوما يعيد إلى سولجنتسين حقوقه المدنية كافة. وفي سبتمبر/أيلول 1991 أصدر المدعي العام السوفياتي اعتذاراً رسميا بسبب ما لحق بالأديب الروسي من ظلم نجم عن "تصرفات خاطئة من موظفي الإدعاء العام السابقين" وأعلن إسقاط التهمة التي ألصقت بسولجنتسين: تهمة خيانة الوطن.
في الأثناء كان سولجنتسين من بيته الأميركي يرصد ما يجري في بلاده. تابع أنباء انهيار الاتحاد السوفياتي، وبقدر ما سعد لنهاية نظام غير عادل، حذر من الفوضى وفقدان الاتزان في الدولة الجديدة. ولذلك أرجأ عودته إلى بلاده غير مرة.
إلى أن شده الحنين وحطّ يوم السابع والعشرين من مايو 1994، لأول مرة في الأراضي السوفياتية، وتحديدا في فلاديفوستوك. بعد عشرين سنة وشهرين من خروجه منها. وبشوق العائد جاب في عموم روسيا بالقطار في رحلة استغرقت خمسة وخمسين يوما. إلى أن بلغ موسكو في شهر يوليو/تموز 1994، واستعاد مسكنه الذي كان قد اعتقل فيه في مثل هذا اليوم قبل ثلاثين سنة. دخله بلا قيود في المعصمين وبلا أثقال في القلب.
الثالث عشر من شباط 1804: أول قاطرة بخارية في العالم
تصادف اليوم الذكرى المئتان لتحرك أول قاطرة بخارية في العالم. في ذلك اليوم التاريخي، نجح المهندس الميكانيكي الويلزي ريتشارد تريفيثيك في تسيير قاطرة بخارية على قضبان حديدية تجرّ خمس عربات تحمل كل منها نحو عشرة أطنان من الفحم، انطلقت بسرعة ستة كيلومترات في الساعة لمسافة خمسة عشر كيلومترا.
ومهّد ذلك الانجاز العلمي الطريق أمام تطور وسائل النقل فبلغت اليوم ما بلغته من إتقان. وكان تشغيل القاطرة البخارية ابنا مشروعا للمجتمع الصناعي الحديث في بدايات القرن التاسع عشر. كانت الصناعة تعتمد على الفحم الحجري كمصدر للطاقة، وكانت مناجم الفحم أشبه بآبار النفط اليوم.
وكان الفحم المستخرج من المنجم ينقل بسلال يحملها الرجال من عمق الأرض إلى سطحها. ثم ابتكرت طريقة وضعت فيها المستوعبات على ألواح خشبية وتم جرّها بالحبال، من أسفل إلى أعلى. لكن هذه الوسائل مرهقة للبشر العاملين لا تمكنّهم من نقل كميات كبيرة من الفحم يحتاج إليها قطاع الصناعة في فورة انطلاقته. كان لا بد من ابتكار عربة ذات قوة دفع تمكنها من التحرك الأسرع، ومن حمل كميات أكثر من الفحم.
اشتغل ريتشارد تريفيثيك على الأبحاث التي قام بها العالم الفرنسي جوزف كونيوه الذي جعل عربة ذات ثلاث عجلات تتحرك، مستخدما البخار كقوة دافعة. ونظرا لثقل العربة لم يكن بوسعها التحرك إلا بسرعة أدنى من كيلومترين في الساعة. وأخذ تريفيثيك هذه النتائج بعين الاعتبار. وفي عام 1800 ابتكر "آلة ضغط البخار العالي" وتقدم بطلب للحصول على براءة الاختراع، التي حصل عليها يوم الرابع والعشرين من فبراير/شباط 1802. وقد جرّب اختراعه بأن وضع هذه الآلة، التي ينتج عنها البخار الذي يتحول إلى طاقة، في عربة وجعلها بديلة عن الخيول. وبقوة الدفع تحركت العربة إلى الأمام. وقيل وقتها إنه اخترع "الحصان الميكانيكي" أو "الخيول البخارية".
ولم ينتبه بعض العاملين في الوسط الصناعي في البداية إلى الامكانات الهائلة التي يمكن أن يوفرها هذا الاختراع. بل إن صاحب مصنع للتعدين تحدّى ريتشارد تريفيثيك أن يصنع تلك القاطرة. وقبل تريفيثيك التحدي ونفذه يوم الثالث عشر من فبراير 1804.
وعندما رأى الصناعيون فائدة القاطرة شجعوا مبتكرها على تصنيعها. خصوصا وأن حالة الطرق في مطلع القرن التاسع عشر لم تكن لتسهل مهمة النقل، فاشتدت الحاجة إلى القاطرات والقطارات التي تنطلق على قضبان حديدية. وفي البداية كانت هذه القضبان تنكسر بفعل ثقل العربات. ولاحقا أمكن تلافي الأمر. وفي الوقت نفسه اشتغل ريتشارد تريفيثيك على تطوير العربات مراعيا العلاقة بين الوزن وقوة المحرك، فأصبحت العربة التي تحمل سبعة أشخاص تنطلق بسرعة ستين كيلومترا في الساعة.
وفي عام 1816 توجّه تريفيثيك إلى أميركا اللاتينية وأقام في بيرو، حيث مناجم الذهب. وحاول أن يسوّق القاطرات البخارية. لكن اندلاع الحرب هناك، اضطره إلى العودة إلى بلاده، وفيها مات فقيرا عام 1833. على أنه باختراعه فتح الباب على مصراعيه أمام استخدام البخار كمصدر طاقة محركة، للقاطرات وللسفن أيضا.
وفي مجال القطارات، تابع المهندس الميكانيكي الإنكليزي جورج ستيفنسون الأبحاث، وصنّع قاطرة بخارية أسماها "روكيت"، ربحت المنافسة أمام كل المصانع الأخرى التي حاولت تصنيع القاطرات. وأقام عام 1825 أول خط للسكك الحديدية. واستوردت منه ألمانيا أول قاطرة من طراز "آدلر" لتسيير أول قطار انطلق يوم السابع من ديسمبر 1835 من مدينة نورمبرغ إلى مدينة فورت.
وبسرعة تطورامتداد السكك الحديدية في العالم، وكان انتشارها ركنا من أركان التنمية. وكانت مصر أول دولة عربية استخدمت فيها القطارات. وأنشيء أول خط فيها بين القاهرة والاسكندرية عام 1852. وبلغ طول السكك الحديدية في ألمانيا عام 1860 اثني عشر ألف كيلومتر. وفي عام 1902 تم تسيير أول خط قطارات تعمل بالطاقة الكهربائية. وبعد سبع سنوات اشتغلت أول قاطرة تعتمد الديزل كمصدر الطاقة.
الثامن عشر من شباط 1919: اعتماد ألوان العلم الألماني (1919)
في المادة الثانية والعشرين من الدستور الألماني جملة واحدة قصيرة: ألوان العلم الألماني هى الأسود فالأحمر فالذهبي. وهى الألوان التي اعتمدها النواب في جلسة الجمعية الوطنية في فايمار يوم الثامن عشر من فبراير/شباط 1919.
وهى ألوان العلم الألماني الذي ما زال منذ ذلك اليوم العلم الرسمي، ما خلا بعض التغيرات التي طرأت عليه بسبب ظروف تاريخية معينة. منها على سبيل المثال إضافة الصليب المعقوف عليه، وهو الرمز الذي اعتمده النازيون في الفترة التي حكموا فيها ألمانيا بين 1933 و 1945. ومنها إضافة الرمز الاشتراكي المتمثل بالبيكار والمطرقة الذي توسط العلم بألوانه ذاتها إبان الفترة التي عاشت فيها "جمهورية ألمانيا الديمقراطية" منذ قيامها عام 1949 وحتى انهيار جدار برلين، واستعادة الوحدة الألمانية، حيث استعاد العلم شكله الأساسي، الذي حافظت عليه جمهورية "المانيا الاتحادية".
على أن إقرار هذه الألوان في جلسة الجمعية الوطنية في مثل هذا اليوم قبل خمس وثمانين سنة، لم يكن بالأمر الهيّن، بسبب الخلاف بين اتجاهين، يقود الأول الاشتراكيون الديمقراطيون المطالبون بهذه الألوان، ويقود الثاني المحافظون، المطالبون بعلم ألوانه أسود فأبيض فأحمر، وهى ألوان ألمانيا القيصرية، التي رأى فيها الاشتراكيون عداء للديمقراطية. ولما كانت الجمهورية قامت على أنقاض القيصرية كان لابد من استبعاد علمها.
وألوان علم فايمار، الحالي أيضا، لها جذور تاريخية، ترجع إلى عام 1813، إلى الزي الذي كان يرتديه الجنود الألمان المتطوعون في الفرق التي قادها الميجور أدولف فون لوتزو في مواجهة قوات الاحتلال الفرنسية بقيادة نابليون. كان الجنود الألمان يرتدون زيا عسكريا أسود اللون، وعلى طرفي الكمّين قماشة حمراء، أما الأزرار فكانت ذهبية اللون. وحدث بعد سنتين، أن نشأت في مدينة يينا الكائنة في شرق ألمانيا منظمة طالبية قادها سبعة من الذين كانوا في فرق لوتزو، رفعت أعلاما بالألوان الثلاثة: الأسود فالأحمر فالذهبي تكريما لرفاقهم. وكان الطلاب من المتحمسين للاستقلال ويرفعون شعارا "الكرامة والحرية والوطن".
وفي الثلاثين من مايو/أيار 1832 تظاهر نحو ثلاثين ألف ألماني في مدينة هامباخ ورفعوا أعلاما بالألوان ذاتها. لكأنما رسخت هذه الألوان كرمز تاريخي للحركات المطالبة بالاستقلال وبالعدالة الاجتماعية. حتى إذا نشبت في ألمانيا الثورة الشهيرة، في مارس/آذار 1848 أضحت تلك الأعلام أعلام الثورة.
وهى الأعلام ذاتها التي حملها مندوبو المقاطعات الألمانية المختلفة حين وفدوا إلى فرانكفورت يوم الثامن عشر من مايو/أيار 1848 واجتمعوا في كنيسة القديس بولس وعقدوا فيها "جمعية وطنية" للبحث في كيفية توحيد ألمانيا. وهؤلاء اعتمدوا العلم ذاته. وحين هدأت الثورة، وبعد أقل من سنتين منع القيصر الألماني استخدام هذا العلم، وفرض علمه المحبب ذا الألوان: الأسود فالأبيض فالأحمر. وهو مزيج من علم بروسيا (الأسود والأبيض) وعلم المدن والمقاطعات الألمانية الشمالية (الأبيض والأحمر). وقد رفعه الجنود الألمان خلال الحرب الفرنسية ـ الألمانية (1871- 1870). واستمر العلم الرسمي للرايخ الألماني حتى سقوط القيصر فيلهلم الثاني (8 نوفمبر/تشرين الثاني 1918).
وحين قامت جمهورية ألمانيا الاتحادية عام 1949 طرح السؤال حول تغيير العلم الذي كان النازيون يستخدمونه، لكن انتصر الرأى المطالب بالاكتفاء بحذف الرمز النازي وباستعادة العلم القديم، علم الجمهورية.
العشرين من شباط 1919 : اغتيال حبيب الله خان
كان حبيب الله خان، ملك أفغانستان، في رحلة صيد حين تم اغتياله في كالاغوش يوم العشرين من فبراير/شباط 1919. كان جالساً على عرش بلاده منذ أكتوبر/تشرين الأول1901 بعد وفاة أبيه الملك عبد الرحمن خان.
وبالرغم من افتقارها إلى الثروات الطبيعية التي تغري المستعمرين، فإن موقع أفغانستان الجغرافي عند مفترق طرق في وسط آسيا جعلها في القرن التاسع عشر محط أنظار القوى العظمى، خصوصا روسيا وبريطانيا التي كانت آنذاك ممثلة بحكومة الهند البريطانية. ونشبت عدة حروب بين بريطانيا والأفغانيين، وفشلت القوات البريطانية في إخضاع الأفغانيين. وتغيرت الاستراتيجية البريطانية من الاحتلال ـ الصعب والمرهق ـ إلى السيطرة على البلاد من خلال تنصيب حاكم مؤيد لها. وفي أواخر القرن التاسع عشر ساهمت الانقسامات الداخلية بين أفراد الأسرة الحاكمة بسبب التنافس على العرش في تسهيل مهمة الإنكليز في الاتيان بحاكم موال لحكومة صاحبة الجلالة.
في هذه الظروف استوى الملك عبد الرحمن خان على العرش عام 1880 وحكم أفغانستان لفترة دامت إحدى وعشرين سنة بقبضة من حديد. همّش رؤساء القبائل وحدّ من نفوذهم وفرض على البلاد نظام حكم قائم على نشر الرعب والانتقام من الخارجين على طاعته بوسائل تفتقر إلى الشفقة. أما السياسة الخارجية، فسلّم مقاليدها كاملة إلى البريطانيين. ولدى وفاته عام 1901 ورث ابنه البكر حبيب الله خان عنه العرش والالتزام التام بتأييد بريطانيا.
وافق حبيب الله خان على أن تسيّر بريطانيا سياسة بلاده الخارجية مقابل دعم مالي سنوي قدره مئة وستون ألف جنيه استرليني. وترك له أمر إدارة الشؤون الداخلية لبلاده، فأدخل الإصلاحات المطلوبة وحكم أفغانستان بسياسة وصفتها المصادر البريطانية بالمعتدلة. وظل طوال فترة حكمه مواليا لبريطانيا.
وكان القسم الأكبر من الشعب الأفغاني يتعاطف مع السلطنة العثمانية، وتاليا لم يكن راضيا على تحالف الملك مع البريطانيين. ومع نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914 التي كانت فيها بريطانيا من خصوم الباب العالي، ارتفعت الضغوط الشعبية على حبيب الله الجالس على عرشه في كابول. كان الأفغانيون مؤيدين للسلطنة العثمانية بحماسة فائقة، نظرا للرابطة الدينية من جهة، ونكاية بالبريطانيين الفارضين سيطرتهم على البلاد من جهة أخرى. وتجنبا لمأزق سياسي أعلن الملك أن بلاده ستلتزم سياسة عدم الانحياز خلال الحرب. واكتفت بريطانيا بذاك الحياد.
وبالنسبة إلى السياسة الداخلية، خفف حبيب الله في عهده القيود الصارمة التي كان والده كبّل المجتمع بها. وأدخل نظام التعليم الحديث إلى أفغانستان وأنشأ المدارس والأكاديمية العسكرية وأصدر صحيفة أسبوعية. وفي عهده بدأ انتشار الكهرباء في البلاد، واستورد السيارات وأنشأ المصحات التي جهزت بالمعدات والتقنيات البريطانية.
وفي عهده أيضا ولدت أول حركة دستورية في أفغانستان. وتراوح العقاب الصارم الذي ناله زعماؤها بين الإعدام والسجن. لكن ذلك لم يخنق الحركة، بل امتدت سرا وبلغت بلاط الحاكم نفسه. بل إن أحد أعضائها الناشطين، أمين الله خان، ابن حبيب الله، هو الذي خلف أباه بعد اغتياله. وكان حبيب الله منغمسا في ملذات الحياة الحسية، وأهمل إدارة شؤون البلاد وترك الأمر للمحيطين به. وفي رحلة صيد قتله خصومه.
وبعد أسبوع من تسلمه الحكم، أعلن أمين الله خان استقلال بلاده. وأصبح الاستقلال رسميا عام 1921 وصادق عليه مجلس العموم البريطاني. وظهر جليا منذ البداية أن الأمير الأفغاني الجديد يمثل تيارا من الشباب المعادي للسياسة البريطانية. ثم ما لبث الأفغانيون أن ثاروا عليه بسبب تعجله في إدخال الإصلاحات الغربية الحديثة، وأرغموه على الفرار عام 1929.
الرابع والعشرين من شباط 1954: صراع على السلطة في مصر
عندما تولى تنظيم "الضباط الأحرار" السلطة في مصر بعد الإطاحة بالملك فاروق ونظامه (تموز 1952)، ثم بعد إعلان الجمهورية (حزيران 1953)، ظلت شخصية اللواء محمد نجيب تحظى بأكبر نصيب من الشعبية، ولم يكن نجم عبد الناصر قد سطع بعد.
لكن الخلاف اشتد بينهما، إلى حدّ أن اللواء محمد نجيب قدم استقالته من منصب رئيس الجمهورية. وفي مثل هذا اليوم قبل خمسين سنة، اجتمع مجلس قيادة الثورة المصرية برئاسة البكباشي جمال عبد الناصر للبحث عن حل لتلك المشكلة. واستمر الاجتماع حتى ساعات الصباح الأولى من اليوم التالي. وخرج الصاغ صلاح سالم وأدلى إلى الصحافيين ببيان مسبوك بلغة تغلب عليها العاطفة، ذكّر الناس بأن محمد نجيب انضم إلى الثورة في الشهرين الأخيرين اللذين سبقا قيامها فقط. وذكر أن طلبات محمد نجيب تعزيز سلطات رئيس الجمهورية المستمرة والمتزايدة كانت مرهقة. وأضاف: "وتوالت اعتكافاته حتى يجبرنا على الموافقة على طلباته، إلى أن وضعنا منذ ثلاثة أيام أمام أمر واقع، مقدما استقالته، وهو يعلم أن أى شقاق في القيادة في مثل هذه الظروف لا تؤمن عاقبته".
ثم تلا صلاح سالم قرارات مجلس قيادة الثورة، وهى: أولاً، قبول استقالة اللواء محمد نجيب من جميع الوظائف التي يشغلها. ثانيا، يستمر المجلس بقيادة البكباشي جمال عبد الناصر في تولّي سلطاته الحالية كافة إلى أن تحقق الثورة أهم أهدافها، وهو جلاء المستعمر البريطاني عن مصر. ثالثاً، تعيين جمال عبد الناصر رئيسا لمجلس الوزراء.
بعد ذلك تم تعيين صلاح سالم نائبا له. وفرضت الإقامة الجبرية على محمد نجيب، ومنعت عنه المقابلات وحاصرت قوى الأمن منزله، وصدرت أوامر بإزالة صوره من جميع دوائر الدولة، وألغت الصحف الزاوية المخصصة لاستقبالات اللواء محمد نجيب ووضغت مكانها زاوية لاستقبالات البكباشي جمال عبد الناصر. وأعلنت حالة الطواريء في أنحاء البلاد خوفا من ردود الفعل. أما في الخارج، فخشيت الدوائر الدبلوماسية البريطانية أن يحدث التغيير الجديد هوة في العلاقات بين القاهرة ولندن. لكن واشنطن توقعت ألاّ يحدث تبدل في سياسة مصر تجاه الولايات المتحدة. والواقع أن الخلاف الداخلي لم يكن بسبب السياسة الخارجية وإنما هو صراع على السلطة.
وعلقت صحيفة "النهار" البيروتية بقولها: "من الإنصاف الاعتراف بأن إخراج اللواء نجيب كان مفاجأة للجميع، بما فيهم الشعب المصري الذي كان يطلب إليه حتى الأمس القريب [عبادة] محمد نجيب باعتباره بطل الثورة ومنقذ البلاد". والذي حدث أن الناس لم تنس دعوات الأمس، فخرج المواطنون إلى الشارع وأظهروا غضبا عارماً ورفضاً مطلقا لاستقالة الرئيس اللواء محمد نجيب.
وروى عضو مجلس قيادة الثورة خالد محي الدين في كتابه "والآن أتكلم" تفاصيل تلك الأيام الصعبة. ذكر أن أولاد صلاح سالم هاجموه بشدة، وأن خادمه مرّ بمحلات العباسية ليشتري احتياجات المنزل فرفض البائعون أن يبيعوا له شيئا. والحال نفسه إزاء معظم الضباط الذين وجّه إليهم المواطنون أقذع الكلمات.
وعقد ضباط قيادة الثورة اجتماعات متواصلة شارك فيها الضباط الأحرار في محاولة لاحتواء الرفض الشعبي لاستقالة محمد نجيب وتمرد بعض ألوية الجيش، خصوصا سلاح المدرعات، وإعلان تأييدهم لمحمد نجيب. وأخيرا حسم الأمر في اليوم الثالث وتم الاتصال بمحمد نجيب وإقناعه بالعودة عن الاستقالة. وأمر صلاح سالم، وكان وزير الإرشاد القومي المسؤول عن الإذاعة، ببث النبأ، فخرج المصريون إلى الشوارع مبتهجين.
لكن التصالح الظاهري الاضطراري لم يمحُ الخلاف الباطني الحاد. وعد محمد نجيب بتطبيق الديمقراطية وعودة الأحزاب، وكان هذا مطلب خالد محي الدين الأساسي. والذي حدث بعد ذلك أن أُبعد خالد محي الدين إلى باريس وأُقصي محمد نجيب تماما عن السلطة في الرابع عشر من تشرين الثاني من العام نفسه 1954، وبقي قيد الإقامة الجبرية، وحسرت عنه الأضواء، ولم يطلق سراحه سوى في عهد الرئيس أنور السادات.
أما نجم عبد الناصر فأخذ في الصعود تدريجيا، وبعد تأميم شركة قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر (1956) أصبح زعيما عربيا بامتياز. وأما ألقاب الضباط من بكباشي وصاغ ويوزباشي فتمّ الاستغناء عنها لصالح سيادة الرئيس وسيادة الوزير والسفير والمدير. ولبس الضباط ثيابا مدنية لكن منهج الحكم ظل عسكريا.
الخامس والعشرين من شباط 1954 : استقالة أديب الشيشكلي
عند انتصاف ليل الخامس والعشرين من شباط 1954 بثت إذاعة دمشق بياناً أعلن فيه رئيس الجمهورية السورية أديب الشيشكلي استقالته من منصبه. وفيما كان السوريون يستمعون إلى النبأ كان الرئيس المستقيل في طريقه إلى بيروت.
أفاقت سوريا صباح ذلك اليوم على الانقلاب الذي قاده النقيب مصطفى الحمدون من حلب، وسيطر على عاصمة الشمال ومن إذاعتها أعلن أن مناصريه في عموم القطر لن يعودوا إلى ثكناتهم إلا بعد أن يعتزل أديب الشيشكلي الحكم. وكان الشيشكلي في فترة حكمه يردد مقولة "إن أعدائي يشبهون الأفعى. رأسها في جبل الدروز ومعدتها في حمص وذنبها في حلب". والضربة القاضية جاءته من حلب بتأييد كامل من جبل الدروز ومن حمص، بل ومن حماة أيضا، مسقط رأسه، وموطن صديقه القديم الذي تحول إلى خصم عنيد: أكرم الحوراني. بل وجاءته الضربة من العسكريين، وكان يحسب أنه ممسك بزمام الجيش بعدما أمضى سنوات في تأليب العسكريين على المدنيين، وبعدما كان في الأيام الأخيرة التي سبقت الانقلاب الذي أطاح به قد اعتقل زعماء المعارضة من المدنيين.
جاء الشيشكلي إلى سدة الرئاسة بعد انقلاب، وبالأحرى بعدما ساهم قبل ذلك بانقلابين. وغادر الرئاسة والسلطة والبلاد بانقلاب أيضا. وبعدما لم يبق من سند له سوى بعض العسكريين في دمشق، فهم أن المواجهة لن تكون في صالحه. في الحادية عشرة والنصف ليلا وصل بسيارته مع بعض المرافقين والحرس إلى الحدود اللبنانية. وبعد إذاعة استقالته رسميا من راديو دمشق بساعة وصل إلى ضاحية فرن الشباك، حيث استقبله صلاح اللبابيدي مدير الشرطة ورافقه إلى مقر السفارة السعودية في بيروت حيث أمضى ليلته. وكان من المنتظر أن يغادرها في الصباح إلى المملكة السعودية، لكن سفره إليها تأخر يوما آخر. وبعدما أقام في السعودية ست سنوات، انتقل عام 1960 إلى البرازيل. وهناك لقي حتفه اغتيالا عام 1964 بعدما أطلق عليه مواطن سوري من جبل الدروز النار، ثأرا من القمع الذي كان الشيشكلي مارسه ضد الدروز إبان حكمه.
وكان أديب الشيشكلي في سنيّ الشباب على علاقة وثيقة بالحزب القومي السوري الاجتماعي. وفي نيسان 1949 كان شريك حسني الزعيم في أول انقلاب عسكري عرفته سوريا. ثم اختلف معه بسبب تسليم رئيس الحزب القومي السوري أنطون سعادة إلى السلطات اللبنانية التي أعدمته، وساعد سامي الحناوي في انقلابه على حسني الزعيم الذي لم يحكم سوى أربعة أشهر. ومرة ثانية اختلف الشيشكلي مع الحناوي، فدبر مع أكرم الحوراني الانقلاب الذي أطاح بالحناوي بعد فترة حكم لم تدم، هى الأخرى، سوى أربعة أشهر.
وبعدما ساهم الشيشكلي في انقلابات لصالح الغير، قام بانقلاب لحسابه الشخصي. كان ذلك يوم التاسع والعشرين من تشرين الثاني 1951. وكان الشيشكلي في موقع رئيس الأركان العامة في الجيش. ومارس في البداية هوايته في الحكم من وراء الستار. عيّن ضابطا كبيرا مقربا منه، الزعيم فوزي سلو، رئيسا للدولة ولمجلس الوزراء ووزيرا للدفاع الوطني.
وفي كتاب "الصراع على سوريا" يذكر باتريك سيل: "ولم يستطع الشيشكلي أن يتهرب من الخاتمة، وهى أن عليه أن يحكم بالاسم كما يحكم في الواقع. فكان عليه أن يبني جهازا سياسيا ويقيم نظام حكمه على أساس دستوري ويصبح رئيسا للجمهورية. لكن الطريق إلى الشرعية محفوف بالمخاطر، ولربما كان سقوط الشيشكلي عائد إلى محاولته الانتقال من حاكم عسكري إلى رئيس للجمهورية منتخب، مما أفقده الاتصال بالجيش. وبمحاربته للسياسيين في مواطنهم سمح لهم بالاتجاه ضده".
في الحادي عشر من تموز 1953 انتخب الشيشكلي رئيسا للجمهورية. وكثر خصومه في المجالين العسكري والسياسي. وكان أنشأ "حركة التحرير العربي" ليجعل منها الحزب الحاكم، فاتسعت الهوة بينه ومؤيديه السابقين، كالحزب القومي السوري وحزب البعث، إضافة إلى الخصومة القديمة مع أقطاب الأحزاب التقليدية. وخسر تأييد أكرم الحوراني أقدم الأصدقاء الذي أصبح ألد الأعداء. وإلى الضغط الداخلي المتنامي، كان عليه أن يصمد أمام الضغط العراقي. إذ كان الشيشكلي حليفا للمملكة السعودية وخصما للهاشميين الحاكمين في بغداد وعمان. وإذا به يعتقل عددا كبيرا من أقطاب السياسة، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير. اندلعت شرارات الغضب في عموم البلاد، وانضم الطلبة إلى الثائرين. وأفلت زمام الأمور من يديه، وأدرك أن عهده قد انتهى، فسلك الطريق إلى بيروت.