ماذا تعني ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الأمازيغية؟ ولماذا ترجم القرآن إلى معظم لغات الشعوب والأمم باستثناء الأمازيغية؟ وما موقف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ورابطة علماء المغرب والمجالس العلمية.. من مؤلف حسين جهادي؟ وما هي
الدلالات السياسية والثقافية لهذا المؤلف؟ هذه الأسئلة وغيرها تمثل أهم المحاور التي سنحاول ملامسة الإجابة عنها في سياق هذه الورقة.
تعرف أول ترجمة لـ"معاني القرآن الكريم باللغة الأمازيغية" لصاحبها جهادي الحسين الباعمراني الصادرة في الآونة الأخيرة نقاشا هاما هذه الأيام، إذ انتقل في مستوياته من الجمعيات الثقافية الأمازيغية وصفحات المنابر الإعلامية ومواقع الأنترنيت إلى مدرجات الجامعة.. وقد يعرف هذا النقاش تطورا خاصة في ظل الصمت الذي تلزمه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وكذا المجالس العملية ورابطة علماء المغرب والذي لن يطول أيضا نظرا إلى طبيعة صاحب هذه الترجمة والذي ليس محسوبا على الحركة الإسلامية، إذ نجده فاعلا داخل الحركة الثقافية الأمازيغية، عضوا للمجلس الوطني للجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي والتي يعد فقيهها..
ـ السياق العام
تأتي مبادرة جهادي في سياق عرفت فيه المسألة الأمازيغية تطورات نوعية بعد خطابي العرش وأجدير 2001 تتمثل في إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية واختيار الأبجدية الرسمية (تيفيناغ) لكتابة اللغة الأمازيغية والشروع في عملية إدماج الأمازيغية في المنظومة التعليمية علما في هذا الباب بأن المقرر المدرسي للسنة الأولى قد رأى النور في الأيام الأخيرة.. بمعنى أن السياق العام بالمغرب يتسم بتطور الوعي الفكري والثقافي لدى الدولة، مما يجعلها على قناعة وعلى استعداد تام لإعادة الاعتبار إلى الأمازيغية لغة وثقافة في اتجاه إقرار المغرب للمصالحة مع أصوله والوعي بذاته في شقها الثقافي، الاجتماعي والتاريخي والتحرر نسبيا من كل ما هو أجنبي والاهتمام بكل ما هو عريق لشعب وبلد ينتميان إلى شمال إفريقيا ولهما حضارة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ.
ويجب التذكير هنا بأن الحركة الثقافية الأمازيغية لعبت دورا هاما في هذا التحول السياسي ضد الإيديولوجية السائدة التي لم تكن تسمح للأمازيغية بالبروز إلى جانبها كمكون ثقافي ولغوي قائم بذاته..
تأتي هذه المبادرة أيضا في سياق أقدم فيه الحكم على اتخاذ تدابير هامة تسير في اتجاه تحصين الجانب العقدي وضمان الأمن الروحي للمملكة بعد الأحداث الإرهابية التي عاشها المغرب في منتصف شهر ماي من السنة الماضية، ذلك أن "ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الأمازيغية" من شأنها أن تساهم في ترسيخ التعايش المطلوب بين الثقافة العربية وشقيقتها الأمازيغية وفي تصالح المغاربة مع ذاوتهم في ظل هذا السياق السوسيوـ ثقافي المتميز بالانفتاح وبالتالي في تعميق الاستقرار السياسي. فماهي إذن، أسباب خروج هذا الكتاب إلى حيز الوجود؟
في مقدمة كتابه، ذكر جهادي الحسين بأن المغاربة قاموا بترجمة القرآن منذ القرن الثاني الهجري، وبأن الوثائق التاريخية نصت على أن الشيخ الحسين بن مسعود اليوسي، المتوفي سنة 1102هـ، قد أفتى لعالم سوسي بجواز ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الأمازيغية، وذلك في عهد السلطان الأعظم مولاي إسماعيل العلوي، المتوفي سنة 1139هـ، مضيفا أن معاني القرآن قد ترجمت إلى أكثر من ست مائة لغة في العام ومستغربا أن تستفيد الأمم المسلمة وغير المسلمة من تراجم معاني القرآن بينما تتقاعس بعض الشعوب ودون مبرر عن القيام بهذا العمل المفيد لا سيما إذا كانت هذه الشعوب مسلمة.
وأشار المترجم بقوة إلى قرار مجلس علماء الإسلام بالقاهرة بجواز ترجمة القرآن إلى جميع لغات الشعوب، مضيفا أن علماء من المغرب كانوا من بين الحاضرين في المؤتمر المذكور.
ويقع الكتاب الذي استغرق إنجازه مدة تزيد عن 12 سنة، في 426 صفحة من القطع الكبير. وقد أوضح صاحبه أنه اعتمد في هذه الترجمة على رواية ورش عن نافع، مستعينا بطريقة الترجمات من بعض اللغات، ومركزا على التفاسير المشهورة وعلى أمهات مراجع اللغة العربية. كما أن اختيار الحرف العربي بدل حرف تيفيناغ (الحرف الطبيعي للأمازيغية) جاء بخلفية أن يصل عمله إلى عموم المغاربة، الشيء الذي ربما لا يستطيع حرف تيفيناغ كفالته على الأقل في الوقت الراهن نظرا لعدم شيوعه بحكم أنه لم يقرر كأبجدية رسمية لكتابة اللغة الأمازيغية إلا في أعقاب إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية والذي تفصلنا عنه فترة يسيرة فقط لا تسمح بحال لهذا الحرف بالذيوع، ومعنى هذا من جهة أخرى أن جهادي الحسين لم يجد أمامه ساعة بدأ بإنجاز مؤلفه غير الحرف العربي لسبب بسيط للغاية هو أن حرف تيفيناغ لم يكن قد اختير ساعتها رسميا للكتابة الأمازيغية، ومع كل هذا فقد أبرز جهادي الحسين استعداده للكتابة بحرف تيفيناغ إذا توفرت له شروط ذلك. ولا يستبعد أن يكون جهادي قد اختار الحرف العربي تفاديا للاصطدام بخصوم الأمازيغية سواء داخل الحكم، وكلنا يتذكر كتابات عبد الحق المريني .. أو داخل المجالس العلمية (عبد الحي العمراني..) وبعض الجماعات الإسلامية، هذه الأخيرة التي اعتبرت أثناء النقاش الذي أثير حول مسألة اختيار الحرف أن أقل الضرر كتاباتها بالحرف العربي!!
لقد فضل المترجم نشر كتابه تحت لوائه الخاص، ذلك أن أول صدور له كان خلال الجامعة الصيفية بأكادير للسنة الماضية، إذ حمل معه 150 نسخة اختفت جميعها في أقل من ساعة بعد عرضها هناك. وكانت المحطة الثانية هي التظاهرة التي نظمتها الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي بالرباط، والثالثة هي المعرض الدولي للكتاب والنشر.. ويذكر أن الإقبال عليه في ارتفاع متزايد.
ـ جذور الفكرة
ينطلق إبراهيم أخياط، رئيس الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، في قراءته للعمل الذي أنجزه جهادي من كون هذا العمل يدخل ضمن مشروع "تمزيغ" الفكر الإسلامي. وقد أشار أخياط في إحدى كتاباته بعد صدور "ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الأمازيغية" إلى كون هذه الفكرة (أي الترجمة) راودت الجمعية منذ سنوات، وقد جاءت ترجمتها بالملموس كتتويج لمسار طويل، مذكرا في هذا الباب بكتاب الحوض في الفقه المالكي للشيخ سيدي امحمد أوعلي أوزال سنة 1977، والذي كلف بترجمته المرحوم عبد الرحمان الجشتيمي باعتباره واحدا من خريجي القرويين.. هذا الأخير كلف أيضا بتهييء كتاب العمل السوسي في جزأين، صدر الأول منه عام 1984 في حين وافته المنية قبل إصدار الجزء الثاني. ولم يفت أخياط الحديث عن المعاناة التي عرفتها الجمعية بعد تدخل المرحوم المكي الناصري والذي كان يشغل آنذاك منصب رئيس المجلس العلمي للرباط وسلا لدى العديد من المسؤولين بطلب منع هذا الكتاب، بل أكثر من ذلك طالب بحرقه ومحاكمة صاحبه.. الشيء الذي جعل الجمعية تقوم باتصالات بلغت حد طرح الموضوع على الجنرال مولاي حفيظ العلوي مدير التشريفات الملكية الذي حسم الأمر في نهاية المطاف بعد أن تأكد له أن الكتاب لا يمس بالمقدسات ورأى أن على مجلس العلماء أن يرد كتابة على الأفكار الواردة في الكتاب إن كان محقا في ما يدعي، يؤكد دائما أخياط.
في سنوات السبعينات توجهت الجمعية إلى المرحوم امحمد العثماني (والد سعد الدين العثماني نائب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية) والذي كان آنذاك قد أنهى رسالته الجامعية في موضوع "ألواح جزولة والتشريع الإسلامي" بدار الحديث الحسنية تحت إشراف المرحوم علال الفاسي عام 1970، وعرضت عليه مشروع ترجمة القرآن، وقد أبدى العثماني لهذه الفكرة واستعدادا لتحويلها إلى واقع شريطة أن يكون إلى جانبه فقيه يساعده في إنجاز العمل. وبعد بضعة أشهر اقترح فقيها من المدرسة العتيقة بناحية تزنيت لكن الموت باغت العثماني فتوفي دون أن ينجز هذا المشروع. وأمام الانفراج السياسي الذي بدأ يعرفه المغرب وقع الاختيار على حسين جهادي، عضو المجلس الوطني للجمعية، لمؤهلاته الفقهية والثقافية واللغوية لإتمام إنجاز إصدارات تسير في اتجاه " تمزيغ" الفكر الإسلامي، وفي هذا السياق ظهرت لجهادي أعمال أولية (ترجمة السيرة النبوية..) قبل أن ينخرط عمليا في ترجمة "معاني القرآن الكريم باللغة الأمازيغية"، حيث لعب الفرسان الثلاثة للجمعية وهم (إبراهيم أخياط، عبد العزيز بوراس وعلي مومن الصافي) دورا في عملية إقناع جهادي وتبديد كل التخوفات التي كانت تسكنه...
ـ التخوفات
لم يكتب لـ "ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الأمازيغية" أن ترى النور في زمن المرحوم الحسن الثاني، وأسباب ذلك متعددة. فقد سبق لصحافي بريطاني أن تناول الموضوع بمناسبة المؤتمر الحادي عشر لجمعية "لامريك"( الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي) عام 1999 ببوزنيقة، وذلك عبر أثير إذاعة الـ "BBC" العربية بلندن ثم نقلته مجلة "المجلة" الصادرة هي الأخرى من نفس المدينة مضمون ما ورد على لسان الصحافي البريطاني تحت عنوان :"البربر والإسلاميون في المغرب، هل بدأت المعركة بسبب مشروع ترجمة القرآن إلى الأمازيغية"؟ وهو الموضوع الذي تضمن آراء مجموعة من المثقفين المغاربة كمحمد عابد الجابري.
وقد خلق هذا المقال ضجة داخل المغرب لكون صاحبه ربط هذه الترجمة بالخطر الذي من شأنه أن يهدد الملكية والعربية بالمغرب وشمال إفريقيا!! ونقلته عنه بعض الجرائد المشرقية والمغربية كأسبوعية مصطفى العلوي، مما حرك أجهزة السلطة للتحري في الموضوع، إذ تم الاتصال بجهادي ولا يستبعد أن يكون قد تم تهديده بشكل من الأشكال، خاصة وأن جهات داخلية تحركت بدورها، كما راسلت بعض البلدان المشرقية (كلبنان) المغرب في هذا الأمر.. الشيء الذي جعل عمل هذا الأخير يختفي عن الأنظار ولا يظهر مرة أخرى إلا حين نضجت الشروط السياسية وأصبحت تسمح له بإصدار عمله هذا.
مما لا شك فيه أن التخوفات التي سادت إثر انبثاق هذا الموضوع تعود إلى عدة عوامل: أولها أن طابع القدسية تجاوز النص القرآني ليشمل اللغة العربية وكل ما هو مكتوب بها، وهذه إحدى سمات الوعي المتواجد داخل المجتمعات التقليدية التي تتميز بتقديس المكتوب على اعتبار أن نسبة القراءة والكتابة بها جد ضعيفة. وثانيها أن هذه الترجمة هي فردية وليست منبثقة عن مؤسسة علمية، بل أكثر من ذلك يعرف صاحبها بقربه من الحركة الثقافية الأمازيغية، كما أنه ليس معروفا بتخصصه في العلوم الشرعية، لكن الذين يعرفونه عن قرب يؤكدون أنه متضلع وعلى واسعة بأمور الدين وأنه من حفظة القرآن بعدة روايات وقام بكتابة السيرة النبوية بالأمازيغية (تكلفت وزارة الثقافة زمن عبد الله الأزماني بطبعها)، وترجم الحديث القدسي باللغة الأمازيغية وأذيعت له حلقات دينية بالأمازيغية في رمضان (30 حلقة)، وقد أتاح له ذلك اطلاعه الواسع ـ كما أسلفنا ـ وتمكنه من ناصية اللغة العربية بكل علومها من نحو وصرف وبلاغة وعروض.. وعلاوة على ذلك فجهادي حاصل على الإجازة في التاريخ وأستاذ قضى في سلك التعليم ما يربو عن 40 سنة، ويشار في هذا السياق إلى أنه أصدر ـ إلى جانب اهتماماته وأعماله الفقهية ـ ديوانا شعريا كما نشر مجموعة من المقالات في العديد من المنابر المغربية.. وهذا ما جعل الدكتور سعد الدين العثماني يقترح تكوين لجنة متعددة الاختصاصات، تضم لغويين ذوي دراية باللغتين العربية والأمازيغية ومتخصصين في التفسير والفقه ومتخصصين آخرين في مختلف فروع المعرفة، وأن تشكل هذه اللجنة فريقا متكاملا يقوم بمراجعة هذه الترجمة ومع الاستعانة في ذلك بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لإصدار ترجمة معتمدة. وثالثها الصمت الذي لازال يخيم على الدوائر الرسمية مع العلم بأنه يجب على كل من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ومجلس العلماء ورابطة العلماء.. إبداء الرأي في مثل هذا الموضوع الحساس، اللهم إذا كان علماؤنا على سبيل الذكر ينتظرون كعادتهم إشارات من السلطة قصد التحرك أو كان العلماء الذين يتقنون الأمازيغية يوجدون على الهامش.. ورابعها أن الترجمة تمت بالأمازيغية التي لازال الاعتراف بها لم يرق بعد إلى مستوى إدراجها في الدستور.
فالتطور الذي عرفته الأمازيغية في السنوات الأخيرة هو الذي جعل النقاش نسبيا يقتصر فقط على مضمون هذه الترجمة. لكن الملاحظات التي قدمت إلى صاحب الكتاب أكدت أن عمله لم يسلم من بعض الهفوات، وهو أمر طبيعي لأن العرب قالت "من ألف استهدف"، وهذا الأمر نجد صاحبنا على وعي تام به، فقد ختم ترجمته بقوله "انتهت ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الأمازيغية، والله أعلم بمراد ذلك" تأكيدا على نسبية عمله التي يطمح إلى تجاوزها في الطبعات القادمة.
وخامسها المكانة التي يحتلها الدين داخل النظام السياسي المغربي خاصة بعد أحداث 16 ماي والعودة القوية للدين من طرف الحكم.. ولعل هذه العوامل مجتمعة وأخرى لم نستعرضها لضيق المجال تفسر التخوفات التي تسود هنا وهناك.
ومعلوم أن الإسلام تواصل مع العديد من اللغات، كما أن موقف الإسلام من مسألة التعدد الثقافي واللغوي واضح وتؤكده العديد من الآيات القرآنية. فالأذان وخطب الجمعة ودروس الوعظ والإرشاد داخل المساجد كانت تتم بالأمازيغية والحسانية والدارجة، ذلك أن الخطيب يبدأ في بعض الأحيان خطبته بالعربية ويتسعين باللغات الأخرى قصد تفسير المعاني وتحقيق تواصل جيد.. لكن سياسة التعريب التي تمت بطرق سلطوية( عبر الظهائر الملكية) منعت استعمال تداول هذه اللغة التي اختفت من الواجهة. وفي هذا السياق سبق للقيادي عمر أمكاسو بالأمانة العامة للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان أن أشار بخصوص هذا الموضوع إلى أنه لاعيب في ترجمة معاني القرآن الكريم بكافة لغات الأرض، ذهب إلى وجوب ذلك حتى يفهم الجميع هذه المعاني. لكن القرآن الكريم المتعبد بتلاوته والذي نصلي به ـ حسب أمكاسو ـ هو القرآن المنزل بالعربية، وهذا أمر معروف منذ انطلاق حركة الترجمة عند المسلمين ولا يطرح أي مشكل.
وتجدر الإشارة إلى أن مواقف جماعة العدل والإحسان من المسألة الأمازيغية متقدمة نسبيا مقارنة بحركة التوحيد والإصلاح، البديل الحضاري.. وكان مرشد الجماعة عبد السلام ياسين قد أصدر شريطا صوتيا باللغة الأمازيغية.
أكيد أن هذا العمل بالرغم من النواقص التي يمكن أن تعتري جوانبه يشكل محطة متقدمة في علاقة الإسلام بالأمازيغية، ومن شأنه أن يساهم في إخراج الأمازيغية من الهامش والدفع بها نحو الاندماج في الحياة العامة بحثا عن مراحل أكثر تقدما.