تعايشَ العراقيون عبر تاريخِهِم وهم يحترمون الحالة العراقية من التعدديةِ وتنوع الأطياف المكوِّنة من قوميات وأديان ومذاهب وطوائف وتيارات سياسية وفكرية وغيرها من فسيفساء حفرت طبيعتها في تلافيف العقل العراقي موجِّهةَ َ إياه نحو مسارات التمدّن والتحضـُّر ومنطق التنوير العلمي. ولم يكنْ غريباَ َ كما في أيّةِ حالةِ ِ من حالاتِ المجتمعِ الإنساني أنْ يشهدَ المجتمعُ العراقي بعضَ التلكؤاتِ وبعضَ التراجعات المؤقتة وبعض العناصر التي وقفت بوجه تقدّمِهِ وتطورِهِ ولكنَّها ظلـَّت لا تشكِّل بأفعالِها أكثر من لحظات طارئة أو عابرة في تاريخِهِ...
وكان العراقيون أصحاب أعرق التشكيلات الحضارية فلقد كانوا من أوائل مَنْ تشكَّلت عندهم حضارة المدينة ودولتها بنظمها المتقدمة اجتماعيا واقتصاديا. وارتقت على أيديهم القوانين وعملوا على وضع الحلول المناسبة لما كان يجابههم دائما من إشكالات بصيغ ليس مستغرباَ َ أنْ نقرأها في أهم النتاجات الفلسفية للبشرية، بعد أنْ انتقلت وتنقـّلت التجاريب الموضوعية لحضارتهم بين التشكيلات الحضرية المقروءة في تاريخ المجتمع الإنساني...
ومن الصحيح القول أيضا بأنَّ العراقيين عاشوا في ظل دول وامبراطوريات ساعدت على دفع حالات الاختلاط بين العناصر المكونة لتلك التشكيلات المتعاقبة في التاريخ العراقي. وحيثما تعزز الاعتراف بتعددية أطياف المجتمع العراقي وصار واقعا مُعاشا كانت استجابة الإنسان وحالات معالجاته وتناوله مشكلاته أكثر تطورا واهتماما بموضوعية الحلول وابتعادها عن العنصرية والشوفينية وضيق الأفق والانغلاق على الجماعات الصغيرة وصار الانفتاح والتفاعل أعمق بين المكونات كافة..
ولم يكن ممكنا على الصـُعـُد كافة السير بمجتمعنا تطوريا من دون عقلية متنورة متفتحة. وقد اتسمت تلك العقلية بروح التسامح وبالابتعاد عن الفرض والإكراه بين الأطراف جميعا ََ مع استثناءات خاصة بالتطرف والمتطرفين وهي استثناءات لم تستطع ْ أنْ توقف مسارات الحركة إلى الأمام وإنْ عرقلتها أحيانا أو شوهتها لمدة من الزمن... ومن هذه التجربة يتذكر العراقيون حجم الآلام التي مروا بها نتيجة تلك الحالات الاستثنائية ولهذا فهم يحجمون عن دعم محاولات تخريبية يائسة لفئات التطرف في يومنا...
والعراقيون يعرفون كيفيات تمظـّهر تلك المحاولات ووسائلها؛ سواء منها تلك المتسترة بالدين وبطقوس بعض الطوائف وممارستها شعائرها أم بتلك الاختراقات والرؤى الفكرية المتحجرة التي ليس من ورائها إلا عمليات تمرير آليات التخلف والرجوع إلى معطيات زمن سطوة قوى الظلام والاستغلال. وعبر هذه المنافذ يتم اللعب على حبال التمزيق والتفرقة والاحتراب بما يسهِّل إمكانات سطوتهم وفرص سرقتهم لحظة من مسار الشعب المتآلف...
هنا ندخل على أبرز إشكالات حاضرنا ومناقشاته المحتدمة وأولها مفردة العلمانية بوصفها المصطلح الذي يختزل الحوار بين رؤيتين ينبغي اختيار إحداهما لضبط القوانين والأنظمة التي تحكم العراق الجديد. وفي الحقيقة لا يوجد للعراق طريق يحافظ على وجوده إلا النظام الذي خبره عبر تاريخه وهو نظام تبادل الاحترام بين الأطراف المكوِّنة والاعتراف بالحقوق المتساوية للجميع في العيش بسلام وأمان ومن دون شروط مصادرة ووصاية من طرف على آخر.. بمعنى عيش الفرد العراقي (المواطن) متمتعا بكل ما لأيِّ مواطن آخر من حقوق وواجبات ومؤهلات عيش وحياة...
وهكذا فلا ينبغي أنْ نجد أولوية لفكر طرف أو سياسته أو برامجه وفلسفاته ورؤاه؛ ولا أنْ نجدَ سلطة لمعتقدات جهة أو ديانتها أو رؤى مذهبها وطقوس طائفتها بما يلغي روح المساواة والعدالة وبما يخلق التشنجات النفسية والاجتماعية والسياسية بين الأفراد (المواطنين) والجماعات الدينية والمذهبية والعرقية لسبب من تلك الأسباب...
إنَّ مسألة الاحترام وتبادل الاعتراف والمساواة وعدالة التعامل لا يمكنها أنْ تكون موجودة انطلاقا من رؤية أحد أطراف المجتمع العراقي واعتقاده وأية محاولة لفرض مثل هذا التوجه ستعني إلغاء للآخر من جهة، ومصادرة لرؤاه واختزالا لتصوراته وفلسفته بما يلغي الثقة بين مكوِّنات المجتمع ويدفعها لمسيرة أخرى من التحامل واحتدام الاصطراع والتناحر.. وسنتحول لميدان حرب لم يعد بإمكان شعبنا البقاء في مثل هكذا ميدان تخريبي تدميري استنزفه طويلا!
بينما سيكون من الصحيح كما دلَّت التجربة أنْ يكون التوافق على عقد اجتماعي أو قانون أساس أو دستور أو سمِّه ما شئت ولكنه في النهاية عقد توافقي بالتراضي والقبول بقواسم مشتركة تضبط مسارات الحياة العامة في البلاد من دون أنْ يكون لطرف اليد العليا التي تفتح الطريق لديكتاتورية أو لأي شكل من أشكال العنف والمصادرة أو ما يُشعِر طرفا بالغبن وبالتنحي أو بالثانوية والتهميش وبكونه مواطن (يحمي القانون له المساواة شكلا) ولكنّه يظل في حالة من الشعور بالهامشية لأنَّه يرى مواطنا آخر ينتمي للأغلبية صاحبة السطوة والنفوذ وهو من الأقلية التي ليس لها أنْ تذكر في العقد الاجتماعي أو الدستور إلا بوصفها الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو التالية التي تحتمي بقوانين الآخر لأنَّه أغلبية اليوم...
فــمَنْ إذن يحمي المساواة والعدل؟ ومَنْ يمكنه أنْ يشكِّل أساس القوانين المشتركة والعقد الاجتماعي أو القاسم المشترك بينهم؟ ما الفكر أو الفلسفة أو ما الجوهر الذي يمكنه أنْ يجنِّب الجميع مشكلة التمزّق والتناحر والاحتراب أو على أقل تقدير الاختلاف؟ لعلَّ البحث والتقصي سيمنحنا فرصة النظر في روح التسامح والتعايش السلمي القويم عبر تاريخ العراق القديم والحديث..
إنَّ ذلك الجوهر الفكري أو الفلسفي يتمثل في سياقات منظومة تراكم معرفية لقوانين التحضر والتمدن التي توارثتها البشرية من مجتمعات إنسانية مختلفة. ومن الطبيعي أنْ يكونَ مجتمع عراق الحضارة السومرية فالبابلية والآشورية مجتمع تأسيس لتلك المعالم التنويرية وقاعدة متينة لتاريخ وطني عراقي مناسب لكي يؤسِّس عليه العراقيون في يومهم من دون تلك التهم بخيانة الوطن والوطنية وبالتغرّب والتغريب أو الاغتراب وبحسب بعضهم باستيراد خياني للفكر الأجنبي!!
نحن بصدد تجربة الحلِّ العلماني الذي لا نجده جديدا ينتمي إلى اندحار تجربة مجتمع القرون الوسطى وسلطة قوى الاقطاع وأغطيتها التسترية الظلامية، وانتصار قيم عصر التنوير بل نجده ممتدا بجذوره إلى حيث كلّ قيمنا الحضارية السامية التي أسّس لها تاريخنا المشرق العريق منذ سومر وبابل وآشور وأكد ودار السلام والكوفة والبصرة.. والعلمانية بهذا التقويم بنت حضارتنا ووجودنا الوطني. وهي ليست قيمة أجنبية غريبة للاستيراد، كما أنَّها ليست من الخارجي غير المتلائم مع وجودنا وخصائصنا الوطنية المحلية...
وعليه فالعلمانية أداة من أدوات الحلّ السياسي الذي يقطع الطريق على الفردانية أو الإنفراد بالحكم وبوضع قوانينه ورسم مفردات برامجه ومنهاج العمل الوطني العام بما يُخضِع جميع المواطنين وجماعاتهم وفرقهم وطوائفهم لتلك الأحادية في التوجهات ويفرض بالإكراه عليهم توجها بعينه عبر تبريرية وذرائعية وأحيانا عبر بعض تنازلات لا توفر الضمانات الجدية الكافية للعدالة والمساواة ولكنَّها محاولة تمرير وتستر..
والحديث عن العلمانية لا يأتي من فراغ ولكنَّ الأمر يتعلق بسلطة التقاليد والأعراف والتشوّهات الخطيرة للمـُثـُل السلبية المشينة التي تحكم توجهات قوى مصادرة العقل العلمي والفكر الموضوعي التنويري. حيث مثل هذه السلطة لا يمكن محوها أو وقفها بانقلاب عسكري أو بتغيير إدارة أو حكومة أو وجوه وشخصيات ولكنَّها تأتي عن طريق تغييرات عميقة وجوهرية في فلسفة المجتمع وتوجهاته وبرامجه...
العلمانية ستعني عراقيا حريات مفتوحة على أوسع أبوابها ولا تنتهي عند طرف إلا حيث تبدأ حريات الآخرين فتمتنع مسألة التمادي من طرف عراقي على حساب طرف عراقي آخر. بما يعني في نهاية المطاف أفضل حماية دستورية للحريات العامة وأعمق ما يُبعِد الشعور بالتهميش والثانوية والتنحي. ومثل هكذا سياق سيشجع روح المبادرة ويفعِّل بقوة كبيرة قيم التنافس الإيجابي في طريق البناء والعمل على تصدر مواقع الحياة والإعمار بروح المسؤولية والالتزام تجاه وطن الجميع المشترك بينهم، حيث تنتفي قيم "الشعلينة لازم" أو [ماذا يخصنا نحن؟] التي تنمو في إطار من استلاب الفرد من حقوقه وإشْعاره بالهامشية والتنحي...
والعلمانية هي أفضل قيم فلسفية أو مفردات منهجية تمتلئ بها رؤى الديموقراطية وتمنحها الكفاءة الكافية لأفضل ممارسة توفر عميق المساواة ونزعة الالتزام باحترام الآخر النابعة من الذات المهذبة حضاريا والحاملة لقيم تربوية سلوكية صحيحة قويمة ومناسبة للممارسة الديموقراطية الفُضـْلى.. ومن الطبيعي فالإشارة تتجه إلى الفرد والجماعة ومكوِّناتها الفئوية في الوقت ذاته.
ولا يمكن للديموقراطية أنْ تكون تسير في مجتمع في ظلّ ممارسة لا تستند إلى مقومات العلمانية. لأنَّ زعم ممارسة الديموقراطية يمكنه أنْ يتمظهر بأشكال مختلفة ولكنه لا يستطيع أنْ يعلن عن جوهره لأنَّ ذلك سيفضح الخلل الخطير الذي يصيب جوهر الديموقراطية من دون العلمانية...
إذ كيف لنا أنْ ندعي الروح الديموقراطي وتوفير الحريات والحقوق ونحن ننفرد بوضع القانون الأساس وتفاصيل القوانين الأخرى والآخر لا يحظى من ذلك إلا على ما هو هامشي وضئيل؟ بل في وقت يمارس طرف التشريع للكافة لا يُسمَح للآخر أنْ يدخل عامل التشريع الوطني إلا في إطار موضعي خاص بمجموعته وبما لا يسمح له أنْ يتعارض مع التشريع الأساس الذي لم يساهم لا في وضعه ولا في رسم أيِّ ِ من مفرداته ولا حتى تفاصيله... وما يحظى منه من [رعاية] يأتي بصفة الصدقة والعطف والتفضل من سلطة أعلى على وجود أدنى.. فأين تكمن ديموقراطية في مثل هكذا حال؟!
ليس من طريق للعراق التعددي صاحب تاريخ التنوع والأطياف الاجتماعية والتيارات الفكرية والسياسية إلا بالتعاطي مع القواسم المشتركة وهي الأرضية الوحيدة التي تنفتح إلى أبعد حدود التسامح والاحترام والتفاعل بين كل تلك التنوعات والأطياف ذات الوجود التاريخي البعيد في عراق الأمس واليوم.. في عراق الأمس حيث الحديث عن سكان البلاد الأصليين ومنجزهم الحضاري وفي عراق اليوم حيث الحديث عن الدور الكبير لهؤلاء الذي يتجاوز الحجم النسبي الأصغر في إطار الإحصاء السكاني والأكبر في إحصاء النتائج الفعلية بشأن بناء البلاد وإشادة وجودها الوطني المخصوص..
إنَّ المشكلة لا توجد إلا حيث قناعات تحاول تمرير الرؤى وفرض سلطتها على الآخر.. ومن الطبيعي ألا يرى أصحاب هذه الرؤية إلا اعتقادهم بأنَّ قراءتهم هي القراءة الوحيدة الصحيحة للنص الديني ومن ثمَّ لتمثيلهم سلطة المقدس والإلهي على الآخرين وهكذا تبدأ المشكلة ونتائجها المعادية للقيم الإنسانية ولفلسفة الديموقراطية. في حين ينبغي لكي نحيا حياتنا الإنسانية ديموقراطيا أنْ نتعاطى مع قيم وقوانين إنسانية محددة بالتوافق والتراضي ولا تعود لطرف وتـُفرض على الطرف الآخر...
هنا بالتحديد لا يملك المجتمع الإنساني التعددي إلا التعاطي مع ما يجنِّبه دكتاتورية طرف ومصادرته حقوق الأطراف الأخرى. ومن الطبيعي أنْ تكون العلمانية هي الطريق إلى الحلّ الأمثل. لماذا؟ لأنَّها ليست موعظة معدة مسبقا وليست دينا لطرف أو اعتقادا طائفيا لجهة أو لفئة والعلمانية ليست فكرا لجهة واحدة أو فسلفتها الخاصة ولكنها جملة توافقات أدواتية أو منهجا وبرنامج عمل تتفاعل فيه وعبره جميع القوى المختلفة فيما بينها لاختيار ما يمكن اختياره من برامج جميع الأطراف لممارستها في ميدان الحياة المشتركة في لحظة تاريخية بخلاف فرض فكر ديني أو غيره وما ينجم عنه من مصادرة واستلاب وقصور...
ومن ناحية المجتمع العراقي فسيجد نفسه أمام مشكلات كثيرة وخطيرة أحيانا فلا يجد العلمانية إلا المساعد الجدي الحقيقي الذي ينقذه من تلك المشكلات ويدعم الحلول الأكيدة من دون فلسفة التعذيب الذاتي والتطهر بالتعرض لتضحيات ودماء ومتاعب وأعباء مكلفة إذ سيكون العراقيون في ظل العلمانية في حال من اللحمة والوحدة والتضامن والتكافل والتعاضد وليس الاختلاف وليس حتى الإهمال والتنحي والعيش على الهامش بعيدا عن تحمل المسؤولية والتقدم للنهوض بالواجبات عندما تنقطع قوى وأطراف عدة عن العمل بسبب شعورها بالغبن والإبعاد وتفرد قوة أو جهة بالسلطة والحكم والتشريع...