جمال الهنداوي
الحوار المتمدن-العدد: 2466 - 2008 / 11 / 15 - 03:49
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
منذ الازمة الجورجية العتيدة ,وبعض الكتاب والمفكرين العرب وخصوصاً جيش المحللين السياسيين و الستراتيجيين, بكامل عدتهم وعتادهم من اعلام و صحافة وفضائيات ممولة باسراف, منهمكين بالتبشير بعودة الحرب الباردة من جديد ,والجميع منكبين على استنباط الادلة العقلية والنقلية في اثبات وقوع الحرب فعلاً..و في استكشاف الخنادق الدولية الكبرى التي سوف تخلف القطبيةالأحادية الأميركية، منصرفين إلى دراسة التوجهات السياسية الدولية واحتمالات توزع الاصطفافات والتحالفات على الخارطة الجيوسياسية ...
و ليس هناك دليل اوضح على اطلاق صفارة البدء في الحرب الباردة ودوران عجلة الاستقطاب-حسب رأي قنوات الرأي والرأي الآخر الثورية - من اعلان موسكو اعترافها الكامل والصريح بكل من اوسيتيا الجنوبية وابخاريا وبدون مواربة، وتعليق جميع اشكال تعاونها مع حلف شمال الاطلسي (الناتو) والغاء زيارة بروتوكولية للحلف كانت مقررة لروسيا في تشرين الأول المقبل، وتوجيه اتهام مباشر من موسكو الى الولايات المتحدة بأنها تقوم عبر احدى قطع اسطولها البحري بتوريد الأسلحة الى جورجيا وتحت ستار نقل مواد الإغاثة اليها، الأمر الذي اضطر البحرية الامريكية الى اعلان الغاء مهمة المدمرة المشار اليها تفادياً لحدوث احتكاك او ما شابه قد يؤدي لعواقب لا يحمد عقباها، وكذلك الدعوة التي وجهتها الولايات المتحدة الامريكية الى حلفائها في حلف شمال الاطلسي (الناتو) وفي دول الغرب الاخرى وغيرها من البلدان الجاهزة لتلبية النداءات المدفوعة الثمن الى اقامة “تحالف واسع” ضد روسيا ومن يمكن ان يصطف الى جانبها لمواجهة سياستها الجديدة وطروحاتها واطماعها الإقليمية في منطقة القوقاز تحت شعارات الامن القومي وتأمين حدودها ومجال نفوذها الاقليمي.
واستند المحللون الى شدة و حدة الاحتقان الذي ما فتأ يزداد بين روسيا الاتحادية والدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي السابق منذ أن تفكك الاتحاد سنة 1989 وعدم التفاهم الكامل على تركة المارد الاحمر, وقد أسهم دخول الغرب على خط الصراع لأسباب استراتيجية من أهمها منع نهوض العملاق الروسي من جديد، والتحكم في اقتصاد الطاقة التي تشكل شريان حياة لروسيا عن طريق تهديدها باستمرار بتحريض جوارها الجغرافي عليها وتشجيعهم على الابتعاد عن موسكو.ومحاولة قضم منظمة الدول المستقلة شيئاً فشيئاً ,هذا التدخل الغربي عموما والأميركي تحديدا أسهم في إعطاء الصراع سمة عالمية بدرجة كبيرة.
وجاءت ازمة الرهن العقاري وما تبعها من هزات ارتدادية طالت رموزالاقتصاد الامريكي ووصلت تبعاتها إلى اقتصادات أوروبا وآسيا مطيحة في طريقها بعدد كبير من كبريات البنوك والمؤسسات المالية العالمية التي اخذت تتساقط تباعاً... وعدم نجاح الاستثمارات التي قدرت بمئات مليارات الدولارات والتي ضخت في أسواق المال العالمية في وضع حد لأزمة الائتمانات العقارية التي ظلت تتفاعل و تعتمل تحت السطح حتى تطورت إلى أزمة مالية عالمية غير مسبوقة لعقود طويلة حيث انهارت القطاعات العقارية في فترة قصيرة لا تتعدى الايام ثم تبعتها قطاعات بنوك المال الاستثمارية ثم قطاع التأمين ثم القطاع الإقتصادي وأسواقه المالية بأكمله.
وهذا ما جعل اتجاهات التنظير العربي تتلقف هذه التداعيات تلقف الظمآن للماء الزلال لتتحول من التوقع بفقدان الولايات المتحدة لاحاديتها القطبية الى استنطاق المستقبل والتنبؤ بتدهورمكانتها الاقتصادية والسياسية حتى تصبح من دول العالم الثالث وقد تتوسل لضمها الى مجموعة عدم الانحياز اومجموعة السبعين..وأن الحرب الباردة قد بُعثت من جديد وأن أوان التخندق والاصطفاف وان الاستقطاب قد عاد بكامل قوته ..ولم تألو مراكز التنظير العربي جهدا ًفي الاحتفاء بالعودة الاحتفالية للدب الروسي ومتدافعين بالمناكب في حجز مكان الى جانب القطب الجديد. وكانت سوريا الاسرع بعرض التحالف والولاء قبل ان يتبدد صدى المدافع في القوقاز وان اكتفت باقي الدول بالترقب شامتين بالولايات المتحدة واختيار السلامة بالبقاء على التل بانتظار مستجدات قد لا تأتي بما تشتهي السفن.
يبدو ,وللاسف الشديد ,ان العرب لا يستطيعون العيش الا في ظل مجالات نفوذ دولي وتبعية سياسية وحتى كيانية لهذه الامبراطورية او تلك, حتى الناشئة منها, وفي حالة الدول غير الراغبة في تبوأ هكذا مكان والاكتفاء بتطوير علاقات اقتصادية متقدمة والانكفاء داخلياً على بناء القدرات الانجازية المتقدمة,مثل الصين , يأخذ العرب حينها دور المحرض لنفخ بعض الروح الامبريالية في جسد تلك الدول , فقط حتى يلوذوا بكنف اخ اكبر او فتوة اقليمي او دولي يحميها من حيث لا تعلم وتدفع له كل فوائضها بطيبة خاطر وتدخل معه في مغامرات سياسية او اقتصادية مقابل الرضا فقط, وكناتج قد يبدو ثانوياً, ولكنه شديد الاهمية, هو ضمان استمرار الانظمة على علاتها لتاريخ لايقل عن يوم القيامة وبعدها يمكن للشعوب ان تأخذ المبادرة لفعل كل ما يروق لها ,في حالة توفر الوقت.
قد يكون ذلك بسبب أن المنطقة ظلت لفترة طويلة جزءاً من امبراطورية ما , ولم تتحول الى دول الى ان تعبت تلك الامبراطوريات وتفككت من تلقاء نفسها وقامت بتفاهمات معينة سمحت لتلك الانظمة بالظهور,وكانت الحرب الباردة وغض نظر الدول الكبرى عن ممارسات تلك الانظمة,مقابل ضمان الولاء وعدم التسلل للمعسكر الآخر هو المجال الذي عاشت فيه هذه الانظمة وتنفست ,وكان هذا المجال هوالذي استطاعت من خلاله ترسيخ وجود مفاهيم حكم بوليسية قمعية مشوهة فاقدة للصفة والشرعية والقانونية , يجد المراقب صعوبة بالغة في توصيفها شكلاً او ماهيةً فبعض الانظمة في المنطقة تتداخل الجمهورية فيها بالملكية والعشائرية بالعائلية والكل يدعي شكل مسخ من ديمقراطية يكون رأي الشعب فيها من قبيل فض المجالس او الاستئناس في احسن الاحوال , و لم تستطيع تلك الكيانات من استغلال مرحلة تفكك الاتحاد السوفياتي في تنظيم علاقات طبيعية فيما بينها او مع شعوبها ولم تهتد إلى صيغة حكم تكتسب بعض الشرعية ولو بالتقسيط المريح ,ولم تحس بالحاجة الى ذلك ما دام ولي النعمة ,القطب الاوحد,راضياً. ولكن الحديث الممجوج من الرئيس الامريكي جورج بوش حول الديمقراطية وتغيير الانظمة الدكتاتورية بالقوة , اقض مضاجع الحكام و جعلتهم يتلمسون في افق السياسة الدولية كل من تبدو عليه اعراض التموضع كقوة عظمى لكي يختبئوا خلفه ,وكانت روسيا فلاديمير بوتين خير من تنطبق عليه الشروط, من وجهة نظر الانظمة العربية الراغبة في رؤية اي حرب او ازمة تلهي جورج بوش عن شغفه الممل بالحديث عن الديمقراطية ,وخصوصاً ان كانت الازمة من طراز الحرب الباردة التي تكون برداً وسلاماً على الانظمة واكثر سخونة من نار السعير على الشعوب العربية المستضعفة ,حيث ان التاريخ يبين لنا ان اسوأ الهزائم العربية واكثرها ايلاماً كانت على عهد فترة الاستقطاب الدولي ,وان الملايين التي تبدد الآن في الترويج لعودة روسيا الاتحادية( الشقيقة) لاحتلال مركز القطبية ,صرفت كمليارات سابقاً في محاولات محمومة ولعقود طويلة لاسقاط الاتحاد السوفياتي ومن نفس الجهات بحجة مقاومة انتشار الشيوعية او الافكار الهدامة كما يحلو لاجهزة الانظمة القمعية ان تدعوها ,دون ان تستفيد من المعسكر الغربي شيئاً خصوصاً في القضايا التي تهم شعوب منطقة,فلا دعم ولا تنمية ولا تعاون وخذلان مستمر على مجمل الاستحقاقات المصيرية التي اكتوت ببرودتها الفائقة اقتصاديات ومقدرات الامة. ولكن الكيانات السياسية العربية,وقد اهملت شعوبها وقطعت معها كل امكانيات التواصل,وبعد فشل لجوءها الى الاسلام كاستراتيجية تستر وحماية للانظمة اكثر مما هو ثقافة راسخة وفاعلة في تعزيز هوية الشعوب وكينونتها الوطنية .لم يبق لديها غير اختراع ازمة خارجية او داخلية, او مكان او مدى لها في هذه الازمة او تلك ,او عرض خدمات على هذا الطرف او ذاك ،لتحقيق هدف ما,ومن غير المهم ان يكون ذو جدوى ام لا, ولكن الاساس انه يجب ان يصب في المصلحة العليا المشتركة لكل الانظمة الدكتاتورية في العالم ,الا وهو البقاء الى ما لا نهاية في الحكم.
#جمال_الهنداوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟