عندما نشبت الحرب وسقط النظام السابق في العراق بشكل مفاجىء للجميع ، لم يدرك الناس كم ستكون تداعيات الحرب ثقيلة على العراق ولكن الاصعب منها كم ستكون تبعات تركة ثقيلة جدا ورثها العراقيون بعد زوال دولتهم القديمة التي تأسست في العام 1921 والسلطة المرعبة التي كانت تجثم على كاهلهم لخمس وثلاثين سنة منذ العام 1968 ! والادهى من كل هذا وذاك التشبث بالامل من اجل الخلاص والكل يسمعون بتعبير " العراق الجديد " من دون اي وعي وادراك بمعنى التغيير ! وما الذي يمكن ان يكون عليه تطور العراق من خلال تنفيذ مشروع نهضوي حضاري على ترابه في القرن الواحد والعشرين ؟ كان العراقيون نخبا وساسة ومثقفين وفئات متنوعة تتأمل ان الحدث التاريخي سيمر وان الحرب ستضع اوزارها وتبدأ الحالة الجديدة من دون اي تفكير بما اصاب العراق والعراقيين منذ اربعين سنة حتى اليوم ! لم يدرك العقلاء بأن التفسخ قد بلغ اعلى مداه ليس في الدولة ومؤسساتها حسب ، بل حتى في اوساط المجتمع وشتى صنوف طبقاته وشرائحه . ومع الاسف ، كان العراقيون سواء كانوا من معارضي صدام او من انصاره على حد سواء يشيعون النقيض في اقوالهم ازاء ما يشعر به كل طرف ازاء الماساة في الداخل وما يرضي به عواطفه .. وكنت ابتسم واقول لنفسي : دعهم يشبعون رغباتهم ويطفئون جموحهم ، فانهم لم يعرفوا شيئين اساسيين يدركهما اي قارىء ذكي لتاريخ العراق : اولاهما ما طبيعة العراق وخصوصيات العراقيين ؟؟ وثانيهما انهم لا يدركون حجم التغيير التاريخي ان حدث وحجم تداعياته . ان ما حدث في العراق ولم يزل هو تاريخي كبير اذ لا يقارن ابدا لا بانقلاب عسكري خططت له دائرة اجنبية ونفذته مجموعة ضباط ( احرار ) ! ولا هو بثورة شعبية اعقبت هياج شارع سياسي ( متمرد ) ! ولا هو بحدث سياسي حسم من خلال مساع محلية او اقليمية او قومية ! ولا هو بمثابة انتقال سلطة من معسكر الى آخر او من طرف الى طرف ! ان الذي حدث في العراق تغيير جذري كان ثمنه غاليا جدا من الارواح والنفقات والتداعيات التي لم تزل برغم مرور ما يقرب من العام على الحدث ، فهو لم يزل ينتج افرازات كبيرة ، بل وانه لم يترجم الى استحقاقات على ايدي سياسيين عراقيين ماهرين ازاء الامريكيين بشكل خاص !
ما الذي يتطلبه التغيير ؟
ان العراق قد دخل مرحلة تاريخية صعبة جدا اليوم ولابد له ان يؤسس نفسه من جديد في ظل اوضاع داخلية امنية قاسية لم يكن لأحد ان يدركها او يدرك ما الذي ستؤول اليه الحرب الى مثل هذه النتائج المحزنة التي هي واحدة من اثمان التغيير التاريخي . ولعل اهم ما يتطلبه التغيير : معرفة العراقيين بأنفسهم للوسائل والادوات التي تساعدهم في اعادة البناء السياسي للعراق . فهل باستطاعة العراقيين ان ينجحوا في مساعيهم من اجل ذلك الهدف ؟ هل يمكننا ان نتصوّر ان العراقيين بمقدورهم ان يستجيبوا للتحديات التي يفرضها عليهم الوضع في دواخلهم قبل ان نتحدث عن التحديات التي فرضتها عليهم اجندة الحرب والمحتل ؟ ان ما يأتيني من اخبار عن العراق تكاد تجمع بأن مجلس الحكم الانتقالي لم يحض بشعبية لدى اوساط العراقيين نتيجة اسباب عديدة ، فضلا عن حكومته التي الفّها من خبراء عراقيين يكاد يكون معظمهم من التكنوقراط . وبالرغم من ان الوزارة اكثر قدرة على العمل كونها سلطة تنفيذية مرحلية فان مجلس الحكم الذي يرى الاخ سعادة الاستاذ عدنان الباجه جي ان لا يزيد العراقيون من انتقاداتهم له فليس كل الامور بيده ! ان ما يزعج حقا ، عجز القادة العراقيين الجدد في الاتفاق الا من خلال حل يطلقه الحاكم المدني بول بريمر .. فينفّذ في الحال !
هنا اتساءل : ما معنى ان يصدر مجلس الحكم بقراراته اذا ما مورس ضدها الفيتو الذي يمتلكه سعادة السفير بول بريمر لوحده ؟ وما معنى ان يتصارع الاعضاء داخل مجلس الحكم كالديكة حول جملة قضايا أساسية عن الدستور .. ثم تأتي الالغاءات من الاعلى ؟ ثم ما معنى حدوث خلافات جذرية على مبادىء بين الاعضاء كما نقرأ من حين الى آخر ؟ وانا استفهم من كل العراقيين : عادة ما يتفق ابناء الوطن الواحد على المبادىء ويختلفون في الاليات والتطبيق .. فكيف بالقادة العراقيين الجدد الذين يبدو انهم يختلفون في الاسس والركائز فكيف سيحسمون امرهم في مهمة التغيير ؟ ما هذا الاختلاط الواضح من طرف والتشظي الفاضح في التصريحات والفعل وردود الفعل حول اسس عراقية لا يمكن التغاضي عنها ؟ هل من العقل بمكان ان تبقى كل اساليب العهد السابق سارية المفعول في العديد من المرافق الحيوية في البلاد ؟ هل يمكن ان تبقى سفارات العراق في الخارج تعامل العراقيين كونهم من المنبوذين ولا يتوانى موظفوها من المخابراتيين السابقين بالتبجح ضد التغيير الجديد كما قرأت البارحة في جريدة النهار البيروتية ؟ هل يمكن ان يتلاعب البعض من الموظفين في وزارات عراقية مهمة مثل وزارة الخارجية بتزوير توقيع الاخ الوزير هوشيار ويصدرون تعليمات الى القنصليات من دون علمه ؟ هل من الحياء بمكان ان تبقى امراض المحسوبية والمنسوبية سارية المفعول في العراق لدى اعلى سلطة انتقالية في البلاد بحيث لا تخرج قائمة وكلاء وزارات لسبعين من المرشحين حتى يقال انهم عمك خالك .. ومن اولادك واحبابك ؟
قليل من الحياء !
هل يمكنني ان اجد قليلا من الحياء على وجوه البعض ممن ينادي بالشعارات الجديدة وهو يمارس ميراث الساقطين ؟؟ والتفت الى اولئك الذين يخرجون على الفضائيات صباح مساء من بعض المسؤولين العراقيين الجدد وهم يتبجحون بادوارهم في تحرير العراق باستثناء الاخوة : الباجه جي والجلبي وطالباني وعلاوي الذين اعترفوا بجهد الولايات المتحدة وقدّموا لها الشكر والتقدير .. فكل ما اسمعه من المسؤولين او المتحدثين الجدد لا ينفك يستعرض عضلاته ليوهم الناس انه صاحب فضل ومنّة في ( تحرير) العراقيين ، والدنيا كلها تعرف بمن فيهم اعداء امريكا أنه لولا الجيش الامريكي وقوى التحالف لما استطاع العراقيون ابدا من اسقاط صدام حسين ونظامه ؟ فلماذا يخدع هؤلاء انفسهم ؟ ولولا المستر جيمس بيكر لما اطفئت اغلب ديون العراق ؟ فلماذا تركبون رؤوسكم وتعلنون ما ليس لكم فيه ناقة ولا جمل ؟
وأعود ثانية لمثل ذلك البعض ممن يحمل شعاراته الدينية والسياسية ليهدد بها الاخرين من ابناء جلدته : لماذا لا تقدمون عراقيتكم على اية اجندة اخرى تريدونها او ولاءات وانتماءات اخرى تحملونها ؟؟ هل استطاع العراقيون ان يتنفسوا قليلا وهم في اسوأ حالات الاحباط نظرا لما يصاحب حياتهم اليوم من سلاسل الاحتلال والارهاب والتفجيرات والتفخيخات حتى يلتفتوا الى ما يريده زيد وما يطمح اليه عمرو ؟ هل من العقل بمكان ان يتمزق العراق بايدي العراقيين واختلافاتهم ليصبحوا حديث الموائد والمجالس والفضائيات وخصوصا للاخوة الاعداء ؟ ولابد من القول ان كل مناصري عهد صدام السابق سوف لن تنفعهم الاساليب التي يمارسونها ضد الجدد اذ لا يمكن احياء من مات ابدا، كما اناشد الاحزاب الدينية بكل تياراتها المحترمة ان تترك اختلافاتها اليوم جانبا وتلتفت الى شؤون العراق ، وتترك الساحة الى السياسيين والتكنوقراط لاستعادة البناء .. واعلموا بأن لا حياة للعراق اذا ما تصادمت التوجهات . ان العراق بمكوناته واطيافه ومختلف عناصره لا يمكنه ان يغدو الا صاحب مؤسسات مدنية اهلية تجمعها دولة مدنية تقدم خدماتها الى الجميع وليس الى فئة على حساب اخرى ولا الى دين على حساب آخر ولا الى منطقة على منطقة ولا الى طائفة ضد اخرى !!
اعتقد ان العراق اليوم في وضع لا يحسد عليه ، وكثيرا ما تأتي الصيحات والنقدات من اناس نزيهين ليست لديهم اية مصالح شخصية او عائلية او طائفية او فئوية او سياسية لوضع حد لما يجري عراقيا . كما اعتقد ان العراق الحالي يعاني من ازمة ساسة قياديين يتمتعون بالحكمة والمعرفة والرؤية الثاقبة يمكنهم فرض قناعاتهم على العالم . نعم ، ان العراقيين ليسوا منقسمين على انفسهم حسب ، بل انهم مفتتين الى قطع مجزأة صغيرة لا يمكن جمعها بسهولة ابدا ، وعلى من يتبجح بـ " العراق الجديد " ان يمتلك قدرا من الاخلاص وان يغدو عراقيا حقيقيا مجردا من كل ارتباطاته ، والا يسجل على نفسه وتاريخه ضحكة مقززة !
ما العلاج .. ما المقترحات ؟
لابد ان يفّكر العراقيون بعلاجات واقية اذا كانوا فعلا يقدّسون وطنهم ويريدونه عراقا جديدا له تاريخ من نوع جديد .. عليكم بروح الوطن بحيث لا يمكن لأي عراقي ان يميز هذه الجزء عن ذاك .. وهي علة قديمة ذكرها فيصل الاول – رحمه الله – في مذكرته قبل ان يموت ! من يريد العراق موحدا عليه ان يضع اية انتماءات اخرى الى جانبه تسعفه وتعاونه ولكن لا ان تكون منطلقا واساسا يهدد ويرهب بها ! وانصح كل المسؤولين العراقيين ان تقع اختياراتهم على من هو الافضل من خلال ابداعاته وامكاناته ، وان لا تتحكم امزجتهم وعلاقاتهم وقراباتهم في مثل هذا الموضوع فالقرابة والعشائرية والقبلية والعائلية لب الداء !
ان التغيير القادم لابد ان يشمل كل المؤسسات العراقية ، فلا يحسبن اعضاء مجلس الحكم الانتقالي انهم مخلدون في مناصبهم ، اذ لابد ان يغدو الاكفأ عراقيا على رأس القيادة .. وان تتوزع المسؤوليات بالتساوي على كل ابناء الشعب العراقي بحيث لا يمكن ان اشعر بتظلمات هذه المنطقة او هذا المثلث او هذه المدينة الشمالية او الجنوبية الكبيرتين .. كالذي وجدناه في توزيع حقائب مجلس الحكم ومجلس الوزراء على اسس طائفية او محلية او سياسية .. وكم نادى العقلاء منذ سقوط النظام الجائر بتشكيل طاقم من التكنوقراط العراقيين بدل الساسة الذين لهم ارتباطاتهم المختلفة . ان الوزارة العراقية الانتقالية تضم مجموعة خيّرة من الاخوة الاعضاء الذين يعملون ليل نهار كما نسمع ، ولكن درجت التقاليد الملكية العراقية القديمة ان تتوزع الحقائب الوزارية القليلة بالتساوي بين الشمال والوسط والجنوب وصولا الى وزارة الزعيم عبد الكريم قاسم اثر ثورة 14 تموز 1958 ، فهل من استعادة حقيقية لتلك التقاليد ؟ وهل يمكن لأحد اليوم ان يشكك في عراقية وامكانيات سعيد قزاز او محمد حديد او الجمالي او بابان او مرجان او باش اعيان .. الخ ؟؟ وهذه نقطة مركزية ربما لا يدرك معانيها الناس ، ولكن لها تأثيراتها المباشرة على فهم الشراكة العراقية في الادارة السياسية .
وآخر ما يمكنني التنبيه اليه كما كنا قد توقعناه من حدوث فراغ سياسي اثر سقوط النظام السابق : غياب القادة السياسيين العراقيين من ذوي العقليات الجديدة التي تؤمن بالدور الاداري والتنظيمي للحياة السياسية الجديدة بعيدا عن اية ادوار تقليدية ومؤدلجة او طائفية او بوليسية أو عسكريتارية او حزبية مخابراتية كالتي عاشت في القرن العشرين. ولابد اليوم من استدعاء وبناء طواقم قيادية عراقية جديدة تؤمن بالمؤسسية في كل وزارة وهيئة ولها لغة عمل مشتركة من اجل بناء العراق وتفعيل مشروعه الحضاري بعيدا عن كل المنغصات والمشكلات التي يريد اثارتها كل طرف على حساب الاخر . فهل ستتحقق الامنيات بانطلاق تاريخ جديد للعراق بعد كل هذه المعاناة والضياع والاستبداد والهزائم وتبديد الثروات ؟ هل ستغدو له وجهته الموحدة بعد انتقال السلطات اثر لعبة الاتجاهات ؟ هذا ما نريد ان يتحقق بحول الله .