|
العلمانية وحقوق الإنسان
محمد الحنفي
الحوار المتمدن-العدد: 2447 - 2008 / 10 / 27 - 07:33
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
تقديم: تحية نضالية لجميع الإخوان في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان.
تحية إلى الإخوان في المكتب المركزي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان.
إننا ونحن نناضل داخل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، نعتبر أن النضال الحقوقي هو نضال علماني بالدرجة الأولى؛ لأن مرجعية الجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي هي المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، هي مواثيق علمانية بدون منازع، وتاريخ الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، هو تاريخ علماني، وارتباطات الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، هي ارتباطات علمانية، وخاصة منها الأحزاب الديمقراطية، والتقدمية، واليسارية، والعمالية، وهي ارتباطات علمانية، وبدون التصريح بلفظ العلمانية. ولذلك لا نرى في طرح مفهوم العلمانية للنقاش إلا إبرازا لعلمانية حقوق الإنسان، المنتجة لعلمانية الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، المنتجة بدورها لعلمانية العلاقة مع الأحزاب الديمقراطية، والتقدمية، واليسارية، والعمالية، المنتجة بدورها لعلمانية النضال الديمقراطي الهادف إلى علمانية العلاقات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، التي بدونها لا يمكن السعي الى علمنة الدولة المغربية.
مفهوم العلمانية:
فما هو مفهوم العلمانية؟
إن مفهوم العلمانية هو مفهوم يفرض التدقيق في التعبير، حتى يكتسب طابعا شموليا، حتى لا نقف في معالجته عند حدود الإثارة، دون النفاذ الى العمق، وحتى لا نتيه في التعاريف الكثيرة، والمتعددة، ومنها التاريخية، والفلسفية، نكتفي بإيراد ما وثقناه في الموضوع المنشور في العديد من المواقع الإليكترونية، والذي يحمل عنوان: "العلاقة المتبادلة بين العلمانية، والدولة، والدين، والمجتمع." وما وثقناه فيما يخص تعريف العلمانية "بفتح العين" يقول:
"العلمانية توجه فكرى علمي سياسي يهدف إلى اعتماد القيم الاجتماعية، والسياسية، والفكرية، والمسلكية، على أنها من إنتاج الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والعلمي، والمعرفي، والحقوقي، والإنساني، والسياسي، وأن الغيب غير منتج لها، وغير متحكم فيها، أو موجه للقيام بها، إلا من وجهة نظر إيديولوجية تسعى إلى تضليل جميع أفراد المجتمع، حتى لا يقوموا على مواجهة ما يمارس عليهم.
وهذا التوجه يعمل على أن يعي الناس جميعا بدورهم في تقرير مصيرهم الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، انطلاقا من مستوى التطور الذي وصلوا إليه، سواء تعلق المر بالتشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية الرأسمالية، أو بالتشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية الاشتراكية، حتى لا نقول التشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية الإقطاعية، لأن هذه التشكيلة، ونظرا لعمق تخلفها، لا يمكن أن تسود فيها العلمانية، لتناقضها مع مصالح الإقطاعيين"...انتهى.
وهذا التعريف يحيلنا على شمولية الممارسة العلمانية، فقبل أن نذهب مباشرة إلى القول بأنها تعني فصل الدين عن الدولة، علينا أن نلح على ضرورة الفصل بين:
1) الديني والاقتصادي، لأن الدين، وانطلاقا من نصوصه المختلفة، يعتبر أن ما ينتجه الإنسان من خيرات مادية، من خلال ممارسة الزراعة، والصناعة، والتجارة، وتقديم مختلف الخدمات، هو رزق من عند الله، ليصير المحرومون من حقوقهم في ذلك الإنتاج، تحت طائلة القدر، فكأن القدر هو الذي يعطي، وهو الذي يأخذ. ولذلك فالفصل بين الديني، والاقتصادي يعتبر مسالة علمانية بالدرجة الأولى.
2) الديني، والاجتماعي، لأن الدين يعتبر العلاقات الاجتماعية صياغة دينية، والحقوق الاجتماعية قدرا دينيا، الأمر الذي يترتب عنه كون الممارسة الاجتماعية على مقاس الدين السائد في المجتمع. وهو ما يعني ضرورة سيادة الفصل في المجتمع، أي مجتمع، بين الديني والاجتماعي، حتى تصير العلاقات والقيم الاجتماعية علمانية، ويصير الدين شأنا فرديا، يساهم في تقويم ممارسة الأفراد، دون أن يؤثر ذلك في علمانية المجتمع ككل.
3) الديني، والثقافي، لأن الدين يعتبر مصدرا لجميع للقيم الثقافية، التي يجب أن تسود في المجتمع المتدين أفراده بدين معين. ولذلك فهو يعتبر العلاقات الثقافية علاقات دينية ،وما تعارض مع تلك العلاقات الدينية تجب محاربته، حتى يخضع لمنظومة القيم الدينية، ويدعها تمر من أجل أن تستمر في التعامل في صفوف أفراد المجتمع، لأن منظومة القيم الثقافية، في تطورها، وتجددها، باستمرار، هي التي توضح:
ما العمل من أجل قيام مجتمع علماني؟
4) الديني، والسياسي، حتى لا يعتبر الدين مصدرا للممارسة السياسية في المجتمع ،لأنه إذا صار الدين كذلك، بسبب أدلجته، يصير وسيلة للتسلط، والقهر، والاستبداد. والفصل بينه، وبين السياسة، يجعل منه شأنا فرديا، لا يتدخل في الأمور الحياتية التي لها علاقة بالأمور السياسية.
وبذلك نصل إلى أن العلمانية ممارسة يومية، تعمل على تحرير الاقتصاد، والاجتماع، والثقافة، والسياسة من أسر الغيب، مهما كان هذا الغيب، وتجعل من كل ذلك شأنا بشريا، واختيارا حرا، ونزيها للإنسان الذي يصير أمره بيده، بسبب علمنة مجمل العلاقات القائمة في المجتمع، التي تصير مفصولة عن الدين، ووسيلة لتطور مختلف المجالات، ليبقى الدين شانا فرديا، ولا شيء آخر، حتى يتم قطع الطريق، وبصفة نهائية، أمام مؤدلجيه الذين يستاسدون بأدلجته في مواجهة الحركة الحقوقية، والتقدمية، واليسارية، والديمقراطية، لصالح دعم الاستبداد القائم، أو من أجل فرض استبداد بديل.
علاقات العلمانية:
وانطلاقا مما ورد في تعريفنا للعلمانية، نجد أنفسنا أمام جملة من الأسئلة التي نوردها كما يلي:
ما هي علاقة العلمانية بالدولة؟
ما هي علاقتها بالدين؟
ما هي علاقتها بالمجتمع؟
وقبل أن نجيب على هذه الأسئلة، يجب أن نسجل أن العلمانية لا يمكن أن تكون إلا منفتحة على الواقع، في تجلياته المختلفة، من منطلق كونها وسيلة لجعل الواقع من إنتاج الإنسان، وفي خدمته. ومن هذا المنطلق نجد:
1) أن علاقة العلمانية بالدولة تتخذ مستويين:
المستوى الأول: علاقتها بالدولة القائمة على أساس أدلجة الدين، التي لا يمكن أن تكون إلا علاقة تناقض. الأمر الذي يقتضي النضال الذي يقوده العلمانيون المنتظمون في الحركات الحقوقية، والديمقراطية، والتقدمية، واليسارية، والعمالية، من أجل نقض الدولة القائمة على أساس أدلجة الدين، والعمل على قيام دولة مدنية ديمقراطية، يسارية، عمالية. ودولة من هذا النوع لا يمكن أن تكون إلا علمانية. والمستوى الثاني: علاقتها بالدولة القائمة على أسس مدنية، ديمقراطية، تقدمية، يسارية، عمالية، التي لا يمكن أن تكون إلا علاقة تطابق، لتصير هذه الدولة بذالك دولة علمانية.
وهذه الثنائية، في العلاقة يفرضها منطق الواقع الذي تقوم فيه الدولة القائمة على أساس أدلجة الدين، كما هو الشأن بالنسبة للبلاد العربية، ولباقي بلدان المسلمين، والدول المتحررة من تلك الأدلجة، كما هو قائم في العديد من بلدان أوروبا وأمريكا.
2) أن علاقتها بالدين تتخذ كذلك مستويين:
المستوى الأول: علاقتها بالدين القائم على أساس التأويل الإيديولوجي للنص الديني، من قبل مؤدلجي الدين، الذين يجعلون من تأويلاتهم دينا يسعون بكل الوسائل المتوفرة لديهم إلى تسييده في المجتمع، وإلى جعله وسيلة للوصول إلى السلطة، من أجل فرض الاستبداد بالمجتمع، وعلى جميع المستويات، وفي مختلف المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، التي تصير قائمة على أساس التأويل الإيديولوجي للدين، ولنصوصه المتداولة. والعلمانية لا يمكن أن تكون إلا متناقضة مع هذا الدين المؤدلج، مما يطرح على العلمانيين النضال ضد الاستغلال الإيديولوجي للدين، حتى يتحرر الدين من الأدلجة، ويصير شأنا فرديا.
والمستوى الثاني: علاقتها بالدين القائم على أساس اعتباره شأنا فرديا، لا علاقة له لا بالأمور الاقتصادية ولا بالاجتماعية، ولا بالثقافية، ولا بالمدنية، ولا بالسياسية. والعلمانية لا يمكنها أن تدخل في تناقض مع الدين كشأن فردي، وكحق من حقوق الفرد، التي لها علاقة بحرية المعتقدات، ومهما كانت هذه المعتقدات، بل إن العلمانية تحرص على تسييد هذه الحرية، التي تضمن لكل فرد أن يعتقد ما يشاء، ما دام ذلك يخصه.
3) أن علاقتها بالمجتمع تتخذ كذلك مستويين:
المستوى الأول: علاقتها بالمجتمع الذي تسود فيه أدلجة الدين، كما هو الشأن بالنسبة لمعظم المجتمعات العربية، ومجتمعات باقي بلدان المسلمين، حيث نجد أن هذه المجتمعات تشكل قاعدة موضوعية لتكريس الاستبداد القائم في بلدانها، أو للعمل على فرض استبداد بديل. والعلمانية لا يمكن إلا أن تدخل في تناقض صارخ مع هذه المجتمعات، مما يطرح على العلمانيين الموجودين فيها بذل مجهود عظيم، من أجل تفكيك أسس الاستبداد القائم، والعمل، في نفس الوقت، على قطع الطريق أمام إمكانية قيام استبداد بديل، والسعي إلى إقامة الدولة المدنية الديمقراطية التقدمية اليسارية العمالية، التي تتحمل مسؤوليتها التاريخية، في ترسيخ علمنة المجتمع، من خلال علمنة مختلف العلاقات الاجتماعية.
والمستوى الثاني: علاقتها بالمجتمع الذي تنتفي فيه العلاقات القائمة على أساس أدلجة الدين، وتحترم فيه الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية. والعلمانية لا يمكنها إلا أن تعتبر مجتمعا كهذا مجتمعا علمانيا، مما يجعلها في تطابق تام مع هذا المجتمع، الذي يكون مرشحا لإفراز دولة ديمقراطية تقدمية يسارية عمالية، باعتبارها دولة علمانية، ودولة للحق والقانون.
وبذلك نجد أن العلاقة القائمة بين العلمانية، والدولة، والدين، والمجتمع، هي علاقة مزدوجة، مما يجعلنا نسجل أن العلمانية لا تعادى الدولة إلا إذا كانت قائمة على أساس أدلجة الدين، ولا تعادى الدين، إلا إذا تحول إلى إيديولوجية، ولا تعادى المجتمع إذا كانت علاقاته الاجتماعية قائمة على أساس أدلجة الدين.
العلمانية كممارسة سياسية:
ونحن عندما نتعامل مع العلمانية في تجلياتها المختلفة، وفي علاقتها بالدولة، وبالدين، وبالمجتمع، نجد أن الطابع الغالب فيها هو طابع سياسي، لأنها بالدرجة الأولى تستهدف فصل الديني عن السياسي، حتى يصير الدين لله، والوطن للجميع، كما يقولون، أو حتى يصير ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، كما ورد في الأثر، ونحن نقول حتى يصير الدين شأنا فرديا، وما هو مشترك الناس جميعا.
والعلمانية باعتبارها ممارسة سياسية تستهدف تفكيك العلاقة القائمة بين الديني، والسياسي، في الممارسة الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، وفي مجمل الممارسات القائمة في الواقع، وعلى مستوى الفكر، وفي أفق الوصول إلى قيام دولة لا علاقة لها بأدلجة الدين. وهو ما يؤكد الطابع السياسي للعلمانية.
وكون العلمانية ممارسة سياسية، لا ينفى كونها، كذلك، ممارسة حقوقية، من خلال مدخل حق تقرير المصير، الوارد في ديباجات المواثيق الدولية. وهذا الحق هو حق سياسي كذلك، لأنه يمكن شعوب الأرض من تقرير مصيرها، من خلال اختيارها الحر، والنزيه، للأنظمة لتي تحكمها، انطلاقا من الشروط القائمة في الواقع الخاص بكل شعب، حتى يتمكن من إقامة الدولة التي يراها مناسبة له، وحتى تصير ذلك الدولة حامية للحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، ومن أجل المحافظة على علمنة العلاقات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية.
والعلمانية، كممارسة سياسية، لا تتناقض مع العلمانية كممارسة حقوقية، كما أن العلمانية كممارسة حقوقية، تعتبر امتداد للعلمانية كممارسة سياسية، مما يفرض حضورها في الممارسة السياسية، وفي الممارسة الحقوقية في نفس الوقت. وهو ما يعني ضرورة حضورها في مجمل الممارسة اليومية لمواجهة أدلجة الدين في مستواها الرسمي، وفي مستوى ممارسة التوجهات المؤدلجة للدين، الداعمة للاستبداد القائم، أو الساعية إلى فرض استبداد بديل.
العلمانية وحقوق الإنسان:
ونحن عندما اعتبرنا حق تقرير المصير مدخلا حقوقيا للعلمانية، فلأننا نرى أن كل المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان العامة، والخاصة، هي مواثيق علمانية بالدرجة الأولى. وعلى أساس مرجعيتها يكون النضال الحقوقي نضالا علمانيا. وما ينتزع من الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، عن طريق ملاءمة القوانين المحلية مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، يعتبر مساهمة في بناء النظام القانوني العلماني، سعيا إلى تربية المجتمع برمته على حقوق الإنسان، تلك التربية التي لا يمكن اعتبارها إلا تربية على العلمانية، ودون تسمية كل ذلك بالعلمانية.
فالعلمانية، وحقوق الإنسان، وجهان لعملة واحدة على المستوى النظري، وعلى مستوى الممارسة اليومية. وإذا كانت هناك خصوصية للعلمانية، فإن هذه الخصوصية تتمثل في كونها ذات طابع سياسي بالدرجة الأولى، والطابع السياسي نفسه يتجلى من خلال العمل على فرض احترام الحقوق السياسية.
ولذلك، فالعلمانية هي الوجه الكاشف عن علاقة السياسي بالحقوقي، كما يتجلى ذلك من خلال المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان العامة، والخاصة.
فاحترام حقوق الإنسان المختلفة قرار سياسي، قبل أي شيء آخر، وهذا القرار السياسي لا يتم إلا في إطار دولة تسعى إلى أن تكون دولة للحق، والقانون، التي تقوم على أساس دستور ديمقراطي. ودولة من هذا النوع، لا يمكن أن تكون إلا دولة علمانية. والدولة العلمانية لابد أن تكون محترمة لحقوق الإنسان الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية. وإلا فإنها ليست كذلك، كما هو الشأن بالنسبة للعديد من الدول الرأسمالية التي لا تحترم حقوق الإنسان، في الوقت الذي تدعي فيه أنها علمانية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تمتد يدها إلى انتهاك حقوق الشعوب، إلى جانب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في بلدها.
العلمانية والديمقراطية:
وبمناقشتنا لعلاقة العلمانية بحقوق الإنسان، نجد أنفسنا أمام علاقة العلمانية بالديمقراطية، التي تعني في العمق حكم الشعب نفسه بنفسه. والديمقراطية في المجتمع المغربي كما هي في غيره من المجتمعات في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، هي نقيض للاستبداد القائم على يد الأنظمة ذات الطبيعة الرأسمالية التابعة، ونقيض للاستبداد البديل، الذي تسعى الأحزاب القائمة على أساس أدلجة الدين إلى فرضه على المجتمعات العربية، وعلى مجتمعات باقي بلدان المسلمين، عن طريق إقامة ما يسمونه ب "الدولة الدينية".
والديمقراطية لا يمكن أن تكون كذلك، إلا إذا كانت ذات مضمون اقتصادي اجتماعي ثقافي سياسي، وإلا فإنها لا تتجاوز أن تكون مجرد ديمقراطية للواجهة، أي أن الديمقراطية لا تكون ديمقراطية إلا إذا كانت بمضمون حقوقي، وهي لذلك لا تكون إلا ذات طابع علماني.
والديمقراطية، وبالمضامين التي ذكرنا، لا يمكن أن تكون إلا على أساس دستور ديمقراطي، يضمن سيادة الشعب على نفسه، ويعتبر مدخلا لإجراء انتخابات حرة، ونزيهة، لإيجاد مؤسسات تمثيلية حقيقة، تعكس احترام إرادة المواطنين، في أفق تحويل الدولة المغربية، من دولة استبدادية، إلى دولة ديمقراطية، والدستور الديمقراطي، هو بالضرورة دستور علماني، وبدون التصريح بالعلمانية، خاصة إذا صار منطلقا لإعادة النظر في القوانين المحلية، حتى تصير متلائمة مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، حتى تصير القوانين ضامنة للتمتع بمختلف الحقوق العامة، والخاصة، وحتى تصير، أيضا، مدخلا لتحويل الدولة المغربية إلى دولة مدنية، ودولة للحق، والقانون. ودولة هذه طبيعتها، لا يمكن أن تكون إلا علمانية.
والخلاصة، أنه لا ديمقراطية بدون علمانية، ولا علمانية بدون ديمقراطية. ولفرض الممارسة الديمقراطية في المجتمع المغربي لا بد أن تلعب الحركة الحقوقية دورها، إلى جانب الحركة الديمقراطية، والتقدمية، واليسارية، والعمالية، حتى تصير الديمقراطية، وبالمضامين المشار إليها، فعل يومي، لجعل الشعب المغربي يتمكن من تقرير مصيره الاقتصادي والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي.
لماذا تعادي الدول المستبدة العلمانية؟
وإذا تبين لنا أن العلمانية هي الوجه الكاشف عن علاقة السياسي بالحقوقي، وانه لا ديمقراطية بدون علمانية، ولا علمانية بدن ديمقراطية، وان الدول القائمة في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين هي دول مستبدة، نصل إلى أن التناقض قائم بين العلمانية، وبين هذه الدول:
1) لأن هذه الدول لا شعبية، ولا ديمقراطية، ولا وطنية.
2) لأنها تستند في استبدادها على أدلجة الدين، بنسبة، أو بأخرى.
3) لأن ممارستها تعطى الشرعية لإمكانية قيام أحزاب سياسية على أساس أدلجة الدين، من اجل العمل على تأبيد الاستبداد القائم، أو من أجل فرض استبداد بديل.
4) لأن الغاية من استبدادها المستند على الدين هي خدمة مصالح الطبقات الحاكمة في مجموع البلدان المذكورة.
5) لأنها تمارس الإرهاب ضد الشعوب المقهورة أصلا، عن طريق اللجوء إلى ممارسة الانتهاكات الجسيمة للحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، كما هي في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
ولذلك، فهذه الدول تعادى العلمانية، كما تعادى حقوق الإنسان، وكما تعادى الديمقراطية. وهذا العداء الذي يصير مطلقا، يتم تكريسه عن طريق:
1) اعتبار هذه الدول نفسها دولا دينية.
2) اعتمادها على دساتير لا ديمقراطية، وغير متلائمة مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
3) تعاملها مع الشعوب المقهورة على أساس علاقة الرعاة بالقطعان من الحيوانات.
4) تسخير الشعوب لخدمة مصالح الحكام.
وكنتيجة لهذا العداء المطلق يتم:
1) قمع الحركات الحقوقية، والديمقراطية، والتقدمية، واليسارية، والعمالية.
2) وضع قوانين تهدف إلى التضييق على الحريات العامة، والخاصة.
3) إقامة أجهزة قمعية، والعمل على تقويتها، حتى تقوم بدورها في قمع الحركات المناضلة.
4) تسييد أدلجة الدين في المجتمع، حتى يكتسب المناعة ضد الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وضد العلمانية، باعتبارها منتوجات الغرب "الكافر"، و"الملحد".
5) تقديم الدعم المباشر، وغير المباشر، للأحزاب المؤدلجة للدين، حتى تقوم بدورها في تأبيد الاستبداد القائم، أو حتى تسعى إلى فرض استبداد بديل.
والغاية من وراء كل ذلك، هي جعل الحركات الحقوقية، والديمقراطية المناضلة، وبحكم طبيعتها العلمانية، غير قادرة على تحقيق أهدافها المتمثلة، بالخصوص، في تحقيق الحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية.
ما العمل من أجل مجتمع علماني؟
ونحن في مستهل هذه الفقرة التي تتوخى البديل المطلوب، لا بد أن نؤكد على:
1) ان الحركة الحقوقية المعتمدة على مرجعية المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، لا بد أن تكون حركة علمانية، وكنتيجة لذلك، فالنضال الحقوقي هو نضال من أجل مجتمع علماني.
2) أن الحركة الديمقراطية التقدمية اليسارية العمالية، هي حركة علمانية بالضرورة، وان النضال الديمقراطي، بأوجهه المختلفة، هو نضال من أجل العلمانية.
وهذا التأكيد، هو الذي يرسم لنا طريق النضال الحقوقي، والنضال الديمقراطي المرير، من أجل تحقيق المجتمع العلماني، الذي لا يتم التوصل إليه إلا عبر تمكن الشعوب من تقرير مصيرها الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي.
وفي هذا الأفق، لا بد من العمل على:
1) تفكيك منظومة القيم الاقتصادية، التي تعتمد المصدر الغيبي في الحصول على الإنتاج الاقتصادي المستجيب لحاجيات الأفراد، والجماعات، والشعوب، والدول، وإقامة منظومة بديلة، تجعل الإنسان هو مصدر ذلك الإنتاج، باعتباره مالكا لوسائل الإنتاج، وباعتباره مشغلا لتلك الوسائل، حتى تزول قيم الغيب، وبصفة نهائية من العلاقات الاقتصادية القائمة في المجتمع.
2) تفكيك منظومة القيم الاجتماعية، التي تحكم العلاقات الاجتماعية، باعتبارها منتوجا غيبيا، ما على الإنسان إلا أن يتقبله، والعمل على تسييد منظومة بديلة، تجعل العلاقات الاجتماعية، علاقات إنسانية بالدرجة الأولى، ومن إنتاج الإنسان الذي يرتبط بمجمل التحولات الاجتماعية، فينتج علاقاته على أساس التطور الذي تعرفه.
3) تفكيك منظومة القيم الثقافية، التي تحكم المسلكية الفردية، والجماعية، باعتبارها قيما ثقافية غيبية، ترتبط بالدين من جهة. وبأدلجة الدين من أخرى، والنضال من أجل تسييد قيم ثقافية بديلة، لا مرجعية فيها إلا للإنسان المنتج لثقافته، التي يراها مناسبة له، ومن أجل قطع الطريق أمام أي مرجعية أخرى للقيم الثقافية المذكورة.
4) استعباد صياغة الغيب للتفاضل بين البشر، والانطلاق من المساواة التي يجب أن تقوم بين النساء، والرجال، وأمام القانون، والعمل على تفعيل تلك المساواة بين الجنسين، وبين الطبقات، والعمل على إلغاء كافة أشكال التمييز الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، بين البشر، كمدخل لتحقيق المساواة المنشودة.
5) العمل على فرض إقامة دستور ديمقراطي، تكون فيه السيادة للشعب، الذي يتمكن من تقرير مصيره الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، سعيا إلى وضع حد لقيام الحكم على أساس غيبي، ومن أجل الفصل النهائي بين السياسي، والديني، حتى يصير ما لله لله، وما للإنسان للإنسان.
خاتمة:
وهكذا نكون قد تناولنا مفهوم العلمانية، وعلاقتها بالدولة، وبالدين، وبالمجتمع، ووقفنا على الطابع السياسي للعلمانية، الذي لا يلغي الطابع الحقوقي، وعلى علاقة العلمانية بحقوق الإنسان، وبالديمقراطية، وحاولنا بيان: لماذا تعادى الدول المستبدة العلمانية؟ ووقفنا على آفاق العمل من أجل تحقيق المجتمع العلماني، التي تقع على كاهل الحركات الحقوقية، والديمقراطية.
فهل نستطيع استيعاب المفهوم الحقيقي العلمانية؟
وهل نعمل كحقوقيين على تمثل علاقتها بالدولة، وبالدين، وبالمجتمع؟
وهل نستطيع إدراك غلبة الطابع السياسي للعلمانية على الطابع الحقوقي.
وهل نتمثل طبيعة علاقة العلمانية بحقوق الإنسان؟
وهل نستوعب لماذا تعادي الدول المستبدة العلمانية؟
وهل نعمل على إقامة مجتمع علماني؟
إن الأمر رهين بمدى قوة الحركة الحقوقية، وتماسكها، وبمدى قوة الحركة الديمقراطية، والتقدمية، واليسارية، والعمالية، لأنه بتلك القوة وحدها، نستطيع العمل على سيادة حقوق الإنسان، وعلى قيام ديمقراطية حقيقية من الشعب، والى الشعب، لنصل إلى تحقيق العلمانية على أرض الواقع.
#محمد_الحنفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأداء الحزبي / الأداء النقابي، أو العلاقة الجانحة نحو التحر
...
-
الأداء الحزبي / الأداء النقابي، أو العلاقة الجانحة نحو التحر
...
-
الأداء الحزبي / الأداء النقابي، أو العلاقة الجانحة نحو التحر
...
-
الأداء الحزبي / الأداء النقابي، أو العلاقة الجانحة نحو التحر
...
-
الأداء الحزبي / الأداء النقابي، أو العلاقة الجانحة نحو التحر
...
-
الأداء الحزبي / الأداء النقابي، أو العلاقة الجانحة نحو التحر
...
-
الأداء الحزبي / الأداء النقابي، أو العلاقة الجانحة نحو التحر
...
-
الأداء الحزبي / الأداء النقابي، أو العلاقة الجانحة نحو التحر
...
-
الأداء الحزبي / الأداء النقابي، أو العلاقة الجانحة نحو التحر
...
-
الأداء الحزبي / الأداء النقابي، أو العلاقة الجانحة نحو التحر
...
-
الأداء الحزبي / الأداء النقابي، أو العلاقة الجانحة نحو التحر
...
-
دور العمل النقابي في استحضار أهمية المدرسة العمومية...؟.....
...
-
دور العمل النقابي في استحضار أهمية المدرسة العمومية...؟.....
...
-
دور العمل النقابي في استحضار أهمية المدرسة العمومية...؟.....
...
-
الأستاذ فؤاد عالي الهمة والابتلاء بالمنبطحين الانتهازيين....
...
-
الأستاذ فؤاد عالي الهمة والابتلاء بالمنبطحين الانتهازيين....
...
-
الأستاذ فؤاد عالي الهمة والابتلاء بالمنبطحين الانتهازيين....
...
-
الأستاذ فؤاد عالي الهمة والابتلاء بالمنبطحين الانتهازيين....
...
-
الأستاذ فؤاد عالي الهمة والابتلاء بالمنبطحين الانتهازيين....
...
-
الأستاذ فؤاد عالي الهمة والابتلاء بالمنبطحين الانتهازيين....
...
المزيد.....
-
أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن
...
-
-سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا
...
-
-الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل
...
-
صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
-
هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ
...
-
بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
-
مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ
...
-
الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم
...
-
البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
-
قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال
...
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|