عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 2446 - 2008 / 10 / 26 - 09:56
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
قال محافظ الموصل (نينوى)، دريد كشمولة، إن أعمال العنف ضد المسيحيين أدت إلى ترك نحو ألف عائلة منازلها خلال الأيام القليلة الماضية. وقد توّجهت أعداد من المسيحيين بلغت نحو ثلاثة آلاف شخص إلى كنائس وأديرة ومنازل أقارب لهم في مدن وقرى مجاورة. جاء ذلك في أعقاب مقتل 11 مسيحياً، بينهم طبيب ومهندس وصيدلاني وعمال بناء وأحد المعوّقين. وسبق للشرطة العراقية أن أفادت عن العثور على سبع جثث لمسيحيين قتل أصحابها بالرصاص في هجمات متفرقة في الموصل التي تقع على مسافة 360 كيلومتراً شمال غرب بغداد.
جدير بالذكر أن عدد المسيحيين في العراق بدأ يتناقص حتى بلغ نحو %3، بسبب ازدياد الهجرة منذ أواسط الستينيات من القرن الماضي، وخلال الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، وفيما بعد ارتفعت خلال أعوام الحصار الدولي ضد العراق (1991-2003)، إذ تقلّص عدد المسيحيين بشكل ملحوظ. وبعد احتلال العراق وتعرّض المسيحيين لأعمال عنف وقتل وتفجير للكنائس والأديرة، لاسيما في البصرة وكركوك والموصل وبغداد، غادر نحو ربع مليون مسيحي من مجموع المسيحيين الذي يتراوح بين 800-900 ألف إنسان إلى خارج العراق، وقسم كبير منهم ظل ينتظر الهجرة في عمان أو في اللاذقية أو دمشق أو بيروت أو غيرها.
إن أعمال القتل الغامضة التي استهدفت المسيحيين نشرت حالة من الهلع والرعب بين صفوفهم في جميع أنحاء العراق، خصوصاً وأن أنباءً ترددت عن صلة أشخاص لهم علاقة بجهاز الأمن، يحملون شارات رسمية ويتصرفون باطمئنان وثقة، ويقومون بطرق أبواب المسيحيين! في حين وجهت الحكومة اتهاماتها لتنظيمات القاعدة التي بدورها ادعت أن القوات العراقية والمتعددة الجنسيات هي التي تقوم بذلك منذ أشهر.
لعل هذه إحدى مظاهر أزمة الحكم في العراق. فالحملة منظمة ولديها أهداف محددة، ولا شك أن جهات معينّة هي التي تقوم بها، وثمة جهات مستفيدة منها، فضلاً عن وجود أدوات تقوم بتنفيذها، وهو ما دفع رئيس أساقفة الكلدان، الأسقف لويس ساكا، إلى تذكير المسلمين بوصية النبي محمد «حق الجار على الجار».
ولعل الأمر اللافت للنظر أن الحملة ترافقت مع إلغاء المادة 50 التي تعنى بتمثيل الأقليات في مجالس المحافظات والأقضية والنواحي، وقيام المسيحيين بتنظيم تظاهرات احتجاجية تطالب بإعادتها، الأمر الذي يجعل هناك رابطاً سياسياً قد يكون خلفها. وبإقرار القانون الجديد واستبعاد المادة 50، حصل نوع من التشويه وربما النقص والهضم لحقوق الأقليات في حدّها الأدنى التي تناولها الدستور الدائم، بغض النظر على الملاحظات التي عليه والألغام الكثيرة التي احتواها، والتي تمنح الحق بيد وتسحبه باليد الأخرى.
يسعى الاستهداف السياسي، من خلال البطش والإرهاب والقتل، إلى تهجير المسيحيين، ووراء ذلك الحصول على مكاسب سياسية تقف خلفه، أو إجبارهم على الرضوخ والتعامل مع كيانات ومشاريع لم يرغبوا فيها. ومثل هذا الأمر يثير تداخلات إثنية ودينية، لاسيما الاحتدامات القومية بين عرب الموصل وبعض مراكز التجمع الكردي، وهو تداخل معقّد، خصوصاً وأن هناك سعيا لكسب المسيحيين إلى جانب هذا الفريق أو ذاك بالوعد أو الوعيد. كما أن وجود القاعدة ورؤيتها وأساليبها قد لا تكون بعيدة عن ذلك، الأمر الذي يضع استهدافاتها في إطار ضرب بعض الكيانات الصغيرة لإحداث المزيد من الفتنة والانقسام في إطار المجتمع العراقي بشكل عام والمجتمع الموصلي بشكل خاص، حيث عاش المسيحيون في كنفه دون حدوث مشاكل تذكر أو استهدافات منظمة وجماعية.
وإذا كان المجتمع العراقي، لاسيما منذ تأسيس الدولة العراقية في عام 1921 وحتى انهيارها بفعل الاحتلال 2003، قد شهد نوعاً من التعايش السلمي بين الكيانات والتكوينات المتنوعة، فإنه كان مصدر غنى وإثراء وقوة للمجتمع المتعدد المتنوّع، فلماذا يصبح الآن مصدر نزاع أو صراع أو عنف؟ الأمر الذي يدعو إلى التأمل والتفكير إزاء الجهات المستفيدة.
لقد لعبت المسيحية العراقية في إطار المسيحية العربية (الشرقية) دوراً مهماً في بناء الدولة العراقية وتعزيز مسيرتها على جميع الصُّعد، كما ساهم المسيحيون بنشاط وحيوية في الحركة الوطنية العراقية، وبرز منهم مثقفون وباحثون ورياضيون ومؤرخون وفنانون.
ما الذي يفعله المسيحيون الآن بعد عمليات القتل والتفجير والاستهداف المنظم والتقليل من كيانيتهم؟ هناك من يريد دفعهم للعزلة، بالمطالبة بجعلهم ضمن «غيتو» تحت مسميات الحكم الذاتي وفي ظرف غير اعتيادي، بحيث يكون خيارهم مرهوناً بالطوارئ، وتتنازع على انضمامه الكيانية الكردية أو العربية الموصلية، أو دفعهم إلى التقاتل بتشكيل ميليشيات مسلحة بحجة الدفاع عن أنفسهم، وبالتالي جعلهم في إطار عمليات الاحتراب، فالمسيحيون ليس لديهم سلاح أو ميليشيات أو قبائل أو قوة خاصة، فهل سيحل تشكيل الميليشيات والتلويح بالسلاح مشكلة المسيحيين في العراق والأقليات بشكل عام؟ أم أنهم سيكونون عبئاً جديداً، مثلما هي الصحوات الآن، التي شكلتها القوات المتعددة الجنسية بقيادة الولايات المتحدة وقامت بتمويلها، ويُراد الآن ضمّها إلى الجيش، الأمر الذي يثير ازدواجية الولاء والانتماء، لاسيما في مقابل الولاءات والانتماءات الأخرى؟ وحتى لو شكل المسيحيون ميليشيات أو صحوات، فإنها لن تكون قادرة على منافسة الآخرين.
إن استهداف المسيحيين يراد به الإخلال بالتركيبة السكانية الديموغرافية الدينية في العراق، وهذا لا يعني سوى التفتيت، وإلاّ بماذا يمكن تفسير نحو 200 تفجير، واغتيال نحو 200 شخص من أبناء الديانة المسيحية؟!
إن استعادة هيبة الدولة العراقية وسيادتها والسعي لإنهاء الاحتلال وفرض سيادة القانون وحماية أرواح وممتلكات جميع المواطنين، لاسيما بحلّ الميليشيات، كفيل بالحفاظ على حقوق المسيحيين وجميع الأقليات والتكوينات في إطار الدستور العراقي، رغم نواقصه وألغامه الكثيرة، وبالأساس في ظل مرجعية حقوق الإنسان المدنية والسياسية، خصوصاً العهد الدولي الأول الصادر عام 1966 والذي دخل حيز التنفيذ عام 1976، إضافة إلى إعلان حقوق الأقليات الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1992، والذي تضمّن الحقوق الثقافية والإدارية واللغوية، وهو ما ورد ذكره في الدستور العراقي، لكنه ظل في كثير من الأحيان حبراً على ورق، إذ شكت الطائفة المسيحية من حرمانها من التصويت خلال الانتخابات السابقة، لاسيما في سهل نينوى (الموصل).
إن محاولة استئصال المسيحيين تعني فيما تعنيه إضعاف الكيان العراقي، ودفعه لابتلاع المجموعات الصغيرة، لاسيما بالتطهير الديني وإجبارهم على الهجرة، وبالتالي حرمان المجتمع العراقي من طاقات وكفاءات وخبرات وطنية يمكنها أن تسهم في إحداث نوع من التوازن، إضافة إلى التنوع والتعددية في إطار الوحدة الوطنية. ولعل في إجراءات مثل تلك ستكون خسارة كبيرة للعراق ومستقبله، إذ سيكون لا معنى لإقرار التعددية في الدستور، وممارسة الاستئصال فعلياً على الأرض، خصوصاً في ظل انعدام الثقة وتهديم جسور العلاقة التاريخية الإسلامية-المسيحية.
إن المستفيد من استئصال المسيحيين هم الذين لا يهمّهم ولا يعنيهم إنهاء الاحتلال، لاسيما قوى التطرف والتعصب والغلو التي تقوم بتأثيم الآخر وتجريمه وتحريمه، وبالتالي لفرض «سيادتها» بالقوة مهما كانت حججها ومزاعمها، ومهما رفعت من شعارات أو ادعت من مسوّغات، والعبرة دائماً ليست بالنصوص، بل بالممارسة والتجربة، فمن يستطيع في نهاية المطاف أن يتجاهل أو يهمل تكوينات عراقية تعتبر من أقدم السلالات في تاريخ العراق، كالصابئة المندائيين أو الكلدان والآشوريين أو الآيزيديين، إضافة إلى المسيحيين؟!
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟