من ضمن أحداث التأريخ في هذا الشهر الحالي ، الانقلاب العسكري الذى قام به حزب البعث عام 1963 على الجنرال عبد الكريم قاسم ، الذى يرى البعض فيه مؤسس الجمهورية العراقية عام 1958 والتى ظهرت في حقبة التحالفات القوية في مطلع المد التحرري الذى بدأ في منطقة الشرق الاوسط للتخلص من وثاق الاستعمارين البريطاني والفرنسى(1) و (2)،فيما يراه البعض الأخر من منظار مختلف ، فهو الشعوبي الذى وقف ندا لحركة القومية العربية والديكتاتور الذى حكم العراق لأربعة أعوام ونصف تخللتها أحداث دموية بسبب عدم استقرار نهجه السياسى وخضوعه لاهواء سياسية مختلفة(3) و (4).
وبين مايعتقده الطرفين تبقى ثمة حقائق ينبغى للموضوعية المنصفة أن تتناولها بشكل جاد وحيادي يحتوى النزاهة التاريخية هي مسألة : من هو الجدير بالكتابة عن هذا الرجل وانصافه تأريخيا؟ ففى مواقع عراقية كثيرة كتب الكثيرون كتابات سطحية عن الرجل هي عبارة عن اجترار وانعكاس عاطفى خاصة الكتابات التى جاءت من شباب ولدوا بعد رحيل عبد الكريم قاسم بعشرات السنين (5) ولم تكن طروحاتهم عبارة عن دراسات موضوعية او اكاديمية بحتة متخصصة والكل يعلم ان مثل مثل هذه الكتابات لا يمكن الاعتماد عليها ابدا.
ان الجيل الذى عاصر عبد الكريم قاسم وعاصر تلك الاحداث هو الاقدر على استيعاب عوامل الكتابة عن الرجل، فكتابة تاتي من الباحث الاستاذ حامد الحمداني او الدكتور عبد الخالق حسين او الدكتور سيار الجميل او غيرهم من الباحثين بالطبع تختلف عن كتابات اخرين لا نعرف أي شىء عن خلفياتهم الثقافية .
وخلال الاربعين عاما الماضية كنت اقرا كل كتاب او دراسة عنه لكي اطلع على معظم الاراء والتحليلات عن شخصيته وانتهيت الى حقيقة موضوعية تغافل عنها الكثير ممن كتبوا عنه ، ان عبد الكريم قاسم لم يكن ليصلح أكثر من معلم رحيم لطلاب صف او مديرا لمدرسة ابتدائية ، بسبب تلك الرحمة التى لم تغادر حناياه حتى بعد ان تطوع للعمل كضابط في الجيش العراقي ،والتى منعته ان يكون سياسيا بعيد النظر ، فالحياة العسكرية الجديدة عليه لم تستطع ان تكيفه وفقا لمبادئها فبقى متأرجحا في سلوك هو مزيج مما ينبغى للمعلم ان يملكه وبين سلوك العسكر الجانح الى الانضباط والالتزام والقسوة وكان عليه ان ينزع احدهما : اما الرحمة من قلبه فالعراقيون ينعتون ( الامام الما يشور ابو الخرك) او ان ينزع عنه الملابس العسكرية ويقيم صرحا مدنيا ديمقراطيا ، ولم يستوعب العراقيين شعاره الرحمة فوق القانون فكان منفذهم للطمع بالرحمة حينما يجتازون الحدود القانونية .
بقى عهده اسير التفكير العسكري الذى نشأ عليه ووجد نفسه فيه بعد ان قاد انقلابا ضد الحكم الملكي كان فاتحة لصراعات دموية قادت العراق نحو الاسوء عاما بعد عاما، فلم يستطع تأسيس ما كان العراق يحتاجه من استقرار سياسى وذلك لخلفيته العسكرية التى كانت تتعارض مع اي انفتاح سياسى ، ولكونه رجلا لم ينتم الى اي حزب ما ، لقد حاول عبد الكريم قاسم بناء وتطوير العراق غافلا التحديات الضخمة التى سوف تكون بانتظاره من بقايا القوى الملكية وفلول القوى المساندة او المستفيدة منها وتكتلات الرجعية من الدول المجاورة ، فلم يهتم ببناء قاعدة سياسية واضحة المعالم تسنده بل راح يتخبط في سياسته ازاء الاحزاب، فمارس بعض السلوك الديمقراطي النسبي مع البعض منها وتصدى بعنف للبعض الاخر، وفي الوقت الذى انغمر فيه بالاصلاحات العمرانية والاسكانية والصناعية والزراعية لم يعالج الموضوع السياسى للعراق وفق منظار ديمقراطي او وطني على الاقل .
كما ان محاولات تصفيته المبكرة التى قام بها عبد السلام عارف باستخدام مسدسه الشخصى عقب احد الاجتماعات التى ضمتهما أذا صدقت تلك الرواية وهي ليست مستبعدة حين يفقد العسكريين زمام السيطرة على انفعالاتهم ، ومحاولة حزب البعث في ساحة الغريري يوم 7 تشرين الاول 1959 اي بعد حوالي 16 شهرا من قيام الجمهورية العراقية وتلك المحاولة التى وصفها احد المشتركين فيها وهو خالد على الصالح في كتابه ( على طريق النوايا الطيبة ) بانها محاولة مافيا وليس حزبا سياسيا (6).
ولايمكن القياس على مسألة انتخاب الدكتور عبد الجبار عبدالله رئيساً لجامعة بغداد والتى تطرق اليها الكاتب عربي الخميسى(7) في موقع كتابات باعتبار الزعيم عبد الكريم قاسم ديمقراطيا ، فقضية واحدة فقط او أكثر لن تكون حتما المقياس الدقيق لمسالة معقدة.
فيما اوضح الدكتور سيار الجميل رايه بمسالة البرنامج التلفزيوني (بين زمنين) الذى بث من من قناة ابو ظبي الفضائية في مطلع عام 2002 والذى اعده احمد المهنا وفيه تم تقديم مختصر وحوار عن شخصية زعيم العراق ومؤسس جمهوريته عبد الكريم قاسم الذي حكم للفترة بين 1958 ــ 1963في مقالته المنشورة في جريدة الزمان (8).
ولا يرى غضاضة في ان يكون ضيوف بين زمنين وجلهم يعيش في خارج العراق اليوم وقد اقترب عددهم من عشرين شخصا يجمعهم قاسما مشتركا واحدا في خارج الوطن هو عشق العراق مهما كانت فصائلهم وجغرافياتهم ومذاهبهم واعراقهم.. ولكن تناقضا سياسيا حادا يفرقهم هو الذي يفصلهم بين الجغرافيا والتاريخ وبين الايديولوجيا والمعرفة وبين المدينة والريف وبين المواطنة والعروبة وبين الماضي والحاضر. ويعتقد الدكتور سيار الجميل انه ربما لو استضاف البرنامج شخصيات عراقية من نوع آخر لكان اجدي وانفع بدل بعضهم ممن لم تخنه الذاكرة فقط، بل لانه ما زال يعزف معزوفته التي تربي عليها، او انه اراد ان يتأسي باسطوانته المشروخة! ولكن بعضهم لا يدرك بعض الحقائق ولا يعرف التواريخ واغلبهم ليس باستطاعته البتة التحدث بالعربية السليمة المبسطة فمن وزير عتيق ومن ضابط متقاعد ومن سياسي مناضل الي منشق مهاجر الي مستشار خبير الي فنان خطير الي قريب للزعيم الي رجل دين معمم.. الخ.
ويرى ان المشكلة تكمن في اختزال 4 سنوات تاريخية باقل من 5 ساعات تلفزيونية وان يختفي تاريخ غني جدا بالاحداث الساخنة والوقائع المريرة . صحيح ان العراقيين بدأوا بجلي الصدأ عن تاريخ الزعيم عبد الكريم قاسم، وبات الجيل الجديد يسأل عنه اليوم بعد ان بقي الصمت يغلف تاريخه قرابة اربعين سنة.. ولكن المشكلة تكمن في ابناء الجيل السابق الذين ما زالوا حتي يومنا هذا لا يعرفون القطيعة بين التاريخ والسياسة، ولا بين الاكاذيب والمسوغات، ولا بين العقل والمشاعر، ولا بين القياس والتمايز.. الخ ليس عن عبد الكريم قاسم حسب، بل عن اولئك الزعماء الذين سبقوه في حكم العراق، وكلهم اليوم في ذمة التاريخ رحمهم الله.)
وهنا لابد من توضيح مسألة هامة ان البرامج التلفزيونية العابرة ايضا لا يمكن الركون اليها او اعتبارها وثيقة تاريخية هامة ، لانها تخضع لمواصفات عديدة وضمن اختيارات محددة وهي تختلف في طريقة اعدادها عن اعداد الدراسة التاريخية الجادة والمنصفة وهي لا يمكن ان تستغرق ساعات طويلة من التحليل والاجابات على اسئلة عديدة ، لان المشاركين فيها سيكون عددهم محدودا واختيارهم قد يرتبط بوجهات نظر موالية لتلك القناة التلفزيونية او هي تحاول التركيز على او تغافل بعض الجوانب الهامة الاخرى.
ويرى الدكتور سيار الجميل وهو محق في وجهة نظره الذكية حول المادة التلفزيونية المذكورة (ان تاريخا متلفزا للعراق بين زمنين يحلل ويؤرشف ويصور الزعيم عبد الكريم قاسم سيكون بارعا جدا لو اختص به المؤرخون الي جانب السياسيين.. وسيكون رائعا جدا لو قدم توظيفا مستقبليا ومعرفيا للاجيال الجديدة بدل العزف علي المشاعر والاحاسيس كم كان حرياً لو افصحت الصور والمشاهد والاراء عن ادوار النخب العراقية اللامعة في الخمسينيات والستينيات بدل هذا التاريخ السياسي والعسكري العقيم الذي قدم صورة مشوهة عن العراق والعراقيين! ما احري بالسادة الكرام الذين تكلموا عن عبد الكريم قاسم ونوري السعيد لو كانوا مجردين من النيات السياسية ليعطوا هذين الرجلين حقهما التاريخي بعد ان طواهما القدر طيا مأساويا؟ انني عندما اتكلم ناقدا في هذا الباب كمؤرخ عراقي متواضع ليس لي غير الحيادية والاستقلالية التي اتمني ان تغدو منهج حياة وعمل وممارسة لكل العراقيين والعراقيات في دراسة تاريخهم والحكم علي رجالهم في توضيح ما لهم وما عليهم بعيدا عن المزايدات السياسية واللعب بعواطف الناس واعصابهم وتشويه قيم الجيل الجديد وتفكيره.. خصوصا ونحن نعرف بان العراقيين من اقوي خلق الله عاطفة وتشببا وسخونة وشاعرية وانفعالات).
الغريب في الامر ان الذين ساهموا في انهاء حكم الجنرال عبد الكريم قاسم وقتله تم تصفية اغلبهم عن طريق القتل والاعدام (9).
ان الانصاف التاريخي يقتضى الكتابة بشكل دقيق موثق عن حياة عبد الكريم قاسم والعودة الى شهادات الذين عاصروه من سياسين وعسكريين، وهو ذات النهج الذى ينبغى اعتماده في الكتابة عن كل الرجال الذين ساهموا ايجابا او سلبا في تاريخ العراق.
References:
1- http://homepages.ihug.com.au/~ruda/issue/z32.htm
2- http://www.iraqipages.com/cgi-bin/csNews/csNews.cgi?command=viewnews&database=February.db
3-http://www.daawaparty.com/lamahat/z1.HTM
4-http://www.alhalem.net/maqalat/saear4.htm
5-http://www.sotaliraq.com/akq-riyadhalhusseini.html
6-http://www.iraqfoundation.org/news/2001/joctober/16_book.html
7-http://www.kitabat.com/r15074.htm
8-http://www.azzaman.com/azzaman/articles/2002/02/02-10/697a.htm
9-http://www.nahrain.com/d/news/03/02/09/nhr0209z.html