|
فتوى المغراوي وسؤال الإصلاح الديني في المغرب
حميد باجو
الحوار المتمدن-العدد: 2442 - 2008 / 10 / 22 - 08:45
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أثارت فتوى المغراوي حول تزويج بنت التسع سنوات كثيرا من الجدل. وبغض النظر عن ردود الأفعال الفورية، فإن الفتوى تطرح في الحقيقة نقاشا أعمق يهم المسألة الدينية في جوهرها وكل السياسة المتبعة في هذا المجال. فقد أدان المجلس العلمي هذه الفتوى، وهو انطلق في ذلك من هوامش الاجتهاد التي تركها المذهب المالكي المعمول به في بلادنا مفتوحة، وخاصة من فكرة المقاصدية القائمة على مبدأ جلب المصلحة ودرأ المفسدة. لكن حين طرح السؤال على بعض فقهائنا للتعمق في هذا الموقف أكثر والتأصيل له نظريا من داخل المرجعية الإسلامية، بقوا في جلهم عاجزين ومترددين في الإجابة. وبالفعل فإن القضية فيها كثير من الإحراج لهم، فالمغراوي قد استند في فتواه على حادثة تاريخية لا أحد ينكرها، وهي زواج عائشة بالرسول في نفس هذه السن، وكان منطقيا مع نفسه على هذا المستوى. وكل من يعتبر نفسه سنيا فعلا، لا يمكن إلا أن يتفهم موقف المغراوي. فالتبرير الذي استند إليه المجلس العلمي لا يتجاوز فكرة أن كثير من الفقهاء السابقين اعتبروا أن عائشة هي حالة خاصة يحضر فيها ما هو مقدس وغيبي، وبالتالي لا يمكن القياس عليها. غير أن هذا التبرير لا يصمد كثيرا، لا في وجه المدافعين المستميتين عن السنة من السلفيين، ولا في وجه العقلانيين الذين لا تقنعهم المحاججة باسم الغيبي أو المقدس في مثل هذه النازلة. فالفريق الأول إذ يضع السنة تقريبا في مرتبة القرآن، ويعتبر أن كل ما صدر عن الرسول إنما جاء بوحي إلهي، وبالتالي وجب على المسلمين إتباعه حرفيا، وأن لا مجال للإجتهاد في هذا المجال ما دامت الحجة ثابتة في السنة. وهذا يطرح النقاش القديم حول كيفية التعامل مع السنة بين أهل الرأي من حنفيين ومعتزلة وجزء من الشيعة من جهة، وأهل النقل من الفقهاء بما فيهم الإمام مالك نفسه. فهذا الأخير قد وضع الحديث في المرتبة الثانية من مصادر التشريع بعد القرآن، متبوعة بإجماع الصحابة والتابعين ثم القياس، ولم يعط للرأي إلا حيزا ضيقا عبر عنه بمبدأ الاستحسان وبالمصالح المسترسلة، ووضعه في المرتبة الأخيرة. فكيف إذن سيسمح الفقهاء الذين يحسبون أنفسهم على المالكية، أن يتجاوزوا إمامهم ويمارسون الرأي والاجتهاد في قضية ثابتة بمقتضى السنة؟ إنها إشكالية معرفية حقيقية تواجه هؤلاء، حيث لا مفر لهم على هذا المستوى، إما إعادة التأكيد على أسبقية مصدر السنة، وبالتالي موافقة السلفيين والمغراوي في فتواه، أو الخروج من العباءة الضيقة للمالكية والالتحاق بالمعتزلة في هذا المجال وبكل التنويريين الذين عرفهم الإسلام لاحقا. الفريق الثاني الذي لن يقنعه تبرير المجلس العلمي، هم العقلانيون. فعائشة حين زوجت كانت بنت تسع سنين، وبالتالي فهي من الناحية البيولوجية غير مؤهلة للزواج. وهي بالضرورة لا تختلف في هذا المجال عن أي فتاة أخرى من نفس السن، ولن ينفع في هذا الشأن إدخال ما هو إلهي أو مقدس للتغطية على ذلك. لأنه حتى لو ذهبنا في هذا الاتجاه، وأعطينا للمقدس مكانته في التحليل، فإن القرآن نفسه ينزع هذه الخاصية حتى عن الرسول، حين يعتبره مجرد بشر مثل الآخرين، وهو يمكن له أن يخطأ كما في قصته مع الأعمى، فبالأحرى أن يمتد التقديس حتى عائشة. هذا التفاوت أو التعارض بشأن تبريرات المجلس العلمي، يقودنا مباشرة إلى عمق المسألة الدينية ومساءلة ما يجري في بلادنا فيما يسمى بسياسة الإصلاح الديني. إن هذه الأخيرة تقوم في أساسها على فكرة تحصين الحقل الديني من الوافد الوهابي بالخصوص، وذلك بالتركيز على التقاليد التي قام عليها التدين في المغرب، وذلك منذ المهدي بن تومرت على الأقل، والمتمثلة في الفقه المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف الجنيدي، واستغلال بالخصوص الهامش الذي فتحه فقه المقاصد على يد الإمام الشاطبي وغيره من الفقهاء، للسير خطوة خطوة في طريق الاجتهاد بما لا يصدم التقليد الشعبي في هذا المجال. وهذا الاجتهاد سيتم تغليفه أو تيسير هضمه من طرف المغاربة عبر التركيز على بعد التصوف وتشجيع الطرقية والزوايا في الممارسة الدينية. غير أننا كديمقراطيين وحداثيين قد نكون أمام موقفين متعارضين من هذه السياسة الدينية: فمن جهة، لا أحد يمكن له أن ينكر إيجابية هذه السياسة، خاصة بعد ما جربناه في قضية مدونة الأسرة، حيث ربما لم يكن ليتحقق فيها شيء ، لولا الثغرة التي وفرها لنا فقه المقاصد، والتي سمحت لفقهائنا بالتجرؤ أكثر في الاجتهاد، والانفتاح على المذاهب الأخرى للاقتباس منها، خاصة الحنفية. لكننا من جهة أخرى، نجد أنفسنا أمام احتكار متزايد للحقل الثقافي المغربي من طرف الثقافة الدينية، كما يتجلى ذلك مثلا في الإعلام أو المدرسة، بل كما أشرنا في مقال سابق، إلى حد شبه إلغاء لوزارة الثقافة، بعد حصر مهامها في معالجة بعض القضايا الجزئية كمشاكل الفنانين مثلا. فما نلاحظه على هذا المستوى، هو تغييب للخطاب العقلاني والعلماني في ثقافتنا، مما سيؤدي على المدى المتوسط والبعيد، إلى قولبة كل العقلية المغربية بالقالب الديني الميتافيزيقي كما حدث ذلك في مجموعة من دول الشرق كمصر مثلا، وهو ما سينزع البساط نهائيا من تحت أقدام اليساريين و يقطع الجسر بينهم وبين ثقافة عامة الشعب ، فلا يعود من معنى بعد ذلك للحديث عن أمثال ماركس أو هيجل أو هابرماس وغيرهم من رموز الفكر اليساري. وبعبارة أخرى، أنه إذا كان هناك من فوائد لهذه السياسة الدينية على المدين القريب والمتوسط، بما يوفره هذا التدين المعتدل من جو متسامح ، فإننا لنتساءل إذ لم يكن ذلك يمثل خطرا على المدى البعيد، في حالة ما إذا انقلبت المعطيات العالمية لسبب ما قد لا نتوقعه حاليا، و عادت الثقافة الدينية للوقوع من جديد في أحضان دعاة التزمت والانغلاق؟ قد يستغرب البعض لطرح مثل هذا السؤال، ولكن لنتذكر نحن جيل السبعينات مثلا، من كان يتخيل أن تتحول رموز للثقافة الدينية ممن لم يكن يسمع أحد بها آنذاك، كالقرضاوي أو عمرو خالد .... إلى نجوم ونماذج عالمية يقتدى بها في العالم الإسلامي ككل، وهي المؤطرة لمجمل الوجدان الشعبي للمسلمين حيثما تواجدوا؟ من يضمن ألا تعود الأصولية الإسلامية ربما تحت عوامل عالمية غير متوقعة، للظهور من جديد في صيغة مغايرة ولكنها أقوى مما عرفناه لحد الآن، فتسيطر على كل الحقل الثقافي في البلاد الإسلامية؟ و إذا ما تحقق مثل هذا السيناريو، أين سيجد العقلانيون والعلمانيون أنفسهم أمام أرضية ثقافية قائمة بمجملها على مرجعية دينية ميتافيزيقية؟ إن هذه الاحتمالات لتطور الحقل الديني تحيلنا، إلى النقاش القديم /الحديث بين المثقفين المغاربة والعرب، هل لا يمكن أن نسير نحو الحداثة إلا بممارسة القطيعة الكلية مع تراثنا والارتماء مباشرة في أحضان الثقافة الكونية، أي إتباع ما نسميه بالمدرسة الفكرية التي يمثلها عبد الله العروي، أم أن يمر طريقنا بالضرورة نحو هذه الحداثة ، من داخل التراث الإسلامي نفسه عبر إبراز ما فيه من جوانب عقلانية ومتنورة، أي ما يمكن نعته بمنهج مدرسة الجابري الفكرية؟ ربما ما يجب التذكير به على هذا المستوى، أن ليس هناك في الحقيقة وصفة جاهزة للوصول إلى الحداثة، فالتجربة الأوروبية نفسها تكشف كيف أن كل شعب سار على الطريق الخاص به، وأن الحداثة إن كانت قد نجحت في فرنسا مثلا باعتماد منهج القطيعة والتبني المباشر للعلمانية، فإنها في انجلترا قد أخذت طريق الإصلاح الديني وإتباع تعاليم الكنيسة البروتستانية أو الأنجليكانية. وفي اعتقادي المتواضع أنه ربما نحن محتاجون في المغرب، لسلك الطريقين معا وفي نفس الوقت بما يسمح لهما بأن يتكاملان أو يتنافسان: طريق يمر عبر الدعوة الصريحة للعلمانية موجه بالخصوص للفئات المثقفة من المجتمع، وطريق يمارس التنوير الديني يكون هو الأقرب إلى الوجدان الشعبي. فما هو مؤكد على هذا المستوى، أنه إذا كان الإسلام المتنور يوفر فعلا حماية وأرضية مناسبة لممارسة التفكير العقلاني، كما كان الشأن مثلا مع إسلام المعتزلة إزاء الفلسفة والتراث الإغريقي في العصر العباسي الأول، فإنه في المقابل من دون حضور وازن للفكر العقلاني والعلماني داخل الحقل الثقافي المغربي، لن يستطيع فعل التنوير أن يصمد أمام دعاة التزمت الديني ولا أن يمد جذوره وسط تربة المجتمع المغربي. ولعل النموذج الأبرز لهذا السيناريو هو ما يحدث حاليا في أمريكا اللاتينية، حيث يتعايش العلمانيون من يساريين وغيرهم مع المتدينين المتنوريين من أنصار لاهوت التحرير في انسجام تام، وحيث شي غيفارا مثلا هو رمز عالمي للفئة الأولى، ولكنه في نفس الوقت قديس يبجله المتدينون ويحجون إلى قبره في بوليفيا. وللإشارة، فمثل هذا النقاش هو ما حاولنا نقله إلى داخل الاتحاد الاشتراكي بمناسبة صياغة وثيقة الهوية الحزبية، غير أنه تبين لنا أن أنصار منهج العروي أي المدافعين على فكرة تبني الحزب صراحة للعلمانية أو اللائكية، هم الأقل حضورا داخل هذا الأخير ، بالرغم من بعض المظاهر الخادعة، وأن جل مثقفي الحزب لا زالوا تحت تأثير منهج الجابري في التعامل مع هذه الإشكالية. حميد باجو مقرر لجنة الهوية في مؤتمر الاتحاد الاشتراكي
#حميد_باجو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من أجل إعادة التأسيس المعرفي لفكرة اليسار
-
الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية : من يسار للدولة إلى يسار ل
...
-
اليسار المغربي نداء بوزنيقة للعمل اليساري المشترك.
-
تيار الاشتراكيون الجدد : مسؤولياتنا
-
-رحيل اليازغي عن الاتحاد الاشتراكي... نهاية الأزمة أم بدايته
...
-
تجربة -الاشتراكيون الجدد-
-
الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تيار -الاشتراكيون الجدد-
-
التصورات حول العالم والإنسان في الديانات والمعتقدات القديمة
-
أي مستقبل لليسار المغربي؟
-
اليسار المغربي في الحاجة إلى إعادة التأسيس
-
مشروع أرضية لتيار الاشتراكيون الجدد داخل الاتحاد الاشتراكي ل
...
-
عن مآل الاشتراكية
المزيد.....
-
كلمة قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي بمناسبة
...
-
قائد الثورة الاسلامية: التعبئة لا تقتصر على البعد العسكري رغ
...
-
قائد الثورة الاسلامية: ركيزتان اساسيتان للتعبئة هما الايمان
...
-
قائد الثورة الاسلامية: كل خصوصيات التعبئة تعود الى هاتين الر
...
-
قائد الثورة الاسلامية: شهدنا العون الالهي في القضايا التي تب
...
-
قائد الثورة الاسلامية: تتضائل قوة الاعداء امام قوتنا مع وجود
...
-
قائد الثورة الإسلامية: الثورة الاسلامية جاءت لتعيد الثقة الى
...
-
قائد الثورة الاسلامية: العدو لم ولن ينتصر في غزة ولبنان وما
...
-
قائد الثورة الاسلامية: لا يكفي صدور احكام اعتقال قيادات الكي
...
-
قائد الثورة الاسلامية: ينبغي صدور أحكام الاعدام ضد قيادات ال
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|