|
الماضي يسحق مجتمعاتنا !
سيار الجميل
الحوار المتمدن-العدد: 2442 - 2008 / 10 / 22 - 08:46
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مدخل من الاشكاليات الصعبة بادئ ذي بدء ، احب ان اوضح بأنني قلت " الماضي " ، ولم أقل " التاريخ " ، فالبون كبير بين الاثنين .. اذ لا يمكن الاستسلام للماضي بلا تاريخ ، ولا يمكن اعتبار كل ماض مضى هو تاريخ ونسجن انفسنا في خضمه ليلعب بنا كما يشاء ! كّنا نبتعد شيئا فشيئا عن الماضي وسطوته عند منتصف القرن العشرين ، ولكن انهار كل شيئ بفعل عوامل واسباب سياسية وايدلوجية واجتماعية ، فزحف الماضي علينا بكل توحشه ، ولما غاب القرن الماضي ودخلنا هذا القرن الجديد ، غدت مجتمعاتنا تحت بطش الماضي وهي تنسحق يوما بعد آخر .. لماذا نحن متخلفون في مجتمعاتنا التعيسة ؟ لماذا يقهر الاقوياء كل الضعفاء في وحداتنا الاجتماعية المتوحشة ؟ لماذا اختفت كل سمات التمدن وروح التقّبل والتعايش ؟ من الذي يشعل حياتنا اليوم سياسيا وايديولوجيا ؟ من الذي يقف وراء انقساماتنا المريرة ؟ ما حجم الماضي في تفكيرنا مقارنة بحجم التفكير بمستقبلنا ؟ ما وزن التخلف وغيبوبة الوعي في كل اصقاع اوطاننا ؟ من يقف حجر عثرة ازاء التقّدم وبناء العلاقات الجديدة في مجتمعاتنا كلها ؟ لماذا نحن منقسمون حتى ازاء الماضي وتقييمه على اسس مريضة طائفية وجهوية وشوفينية ؟ لماذا نجعل من الاخرين مخالب للنهش والتشويه والتزوير من اجل مصالح لها قذارتها اولا واخيرا ؟ لماذا لم يتزحزح هذا العقل المغلق وتنفتح هذه الذهنيات المركبة ؟ من اصعب ما يمكنني تصّوره انني كنت اجد امامي قبل ربع قرن طلبة يتقبلون مني كل التنوير والفكر الجديد .. وهم اليوم وقد اغرقوا عقولهم وغلقوا على اذهانهم وتفكيرهم .. وباتوا في سجون تعيسة ، وهم يشعرون انهم في الطريق الصحيح ؟ هذه اشكالية اريد ان الفت الانظار اليها ، فما نفع الاستنارة لدى البعض ؟ وماذا كان دور كل استاذ مستنير في الثلاثين سنة الاخيرة من القرن العشرين ؟ ما الذي سحب البساط من تحت ارجل كل اصحاب العقل ، ليذهب المجتمع مذاهب شتى ويدخل ابناء مجتمعاتنا في شرانق الماضي بكل اتعابه ؟ ومتى سيخرج منه هؤلاء ؟ وماذا سنجني من التفسخات التي نعاصرها اليوم تحت مسميات شتى ؟ من يسيطر على مجتمعاتنا اليوم ؟ من يزرع الخلافات المميتة بين اصحاب الاديان السماوية ؟ من يصدر الفتاوى والتصريحات ؟ ما سر الانقسام المريع الذي يعاني منه العالم الاسلامي قاطبة باغلفة مذهبية ولعوامل سياسية فاضحة ؟ من يجني على اجيالنا الجديدة التي تحمل كل يوم يمضي ازدواجية في الولاءات ؟ وتخلفا في الذهنيات ؟ وتصادما في التناقضات ؟ وانغلاقا على النفس ازاء العالم ومتغيرات الحياة ؟ كلها اسئلة بحاجة الى المزيد من الاجوبة .. اولا : انقسام التاريخ يولد انقسامات الحاضر ان ثقافة متناقضة ، مثل هذه ، تحمل سمات احقاب طوال من الثنائيات والصراعات .. وتحمل سجلا بائسا من الدمويات والاندثار ازاء سجل اخر من التقدم والازدهار .. لا يمكن تخّيل ما الذي نستكشفه من احداث ووقائع غاية في الشراسة والعهر على امتداد تاريخ العرب والمسلمين السياسي المضمخ بالدماء والمتشرّب بالترسبّات .. بل وان سمات تلك الاحداث والوقائع ـ مهما كان نوعها ـ تبدو في الذهنية العربية اليوم ، بل وحتى في اللاوعي الجمعي مجرد حالات طبيعية في حين انها تعني حالات مرضّية غاية في البشاعة لا يمكن البقاء في اطار رضاها المقنّع بالاكاذيب والتفاهات والخرافات والاوزار والاساطير والمغلّفة باغلفة هذا المقدّس الذي يرعب الناس دوما .. فمن اجل تطهير الروح تعّذب الاجساد طويلا ، كما في عدة مجتمعات في العالم ، ولكن منها من ترك هذا الموروث ، ومنها من زاد من ممارسته تحت حجج واهية لا تستقيم والعقل ابدا .. فمن اجل تطهير المجتمع تدّمر الاقليات الدينية ! ومن اجل تطهير النفس من الاثام ومن الشعور بالذنب تضرب الاجساد بالحديد حتى تنّز دما ، بل ويستخدم اللطم على الجسد رمزا لتطهير الذات .. وحتى يصل الى اقصى مدياته بالبكاء الذي لا سبيل لايقافه عندما تتفجر العاطفة لاعلى مدياتها .. ولعل الجسد هو الوحيد الذي تعّرض في الثقافة السياسية العربية الى التعذيب بشتى صنوف الوسائل المؤلمة سواء لانتزاع اعترافات او لأخذ ثارات او لتصفية علاقات او للتلذذ بالمشاهد والالام المبرحة .. ان ثقافة الجسد عند العرب ثقافة متنوعة بين المستويات الاجتماعية ، ولكن بقي من القضايا المسكوت عنها دهرا طويلا.. ان انقسامات التاريخ لا تقف عند الروح والجسد والمبالغة في تصويرهما وتعذيبهما ، بل حتى ازاء الظواهر الكبرى في بنية تواريخ مشتركة وواحدة .. ان التاريخ الاسلامي نفسه منقسم على نفسه في العالم الاسلامي الى قسمين اساسيين قسم يتبناه طرف وقسم آخر يتبناه طرف آخر .. واقسام اخرى تتبناها عدة اطراف تشكل في مجتمعاتنا انقسامات ملل ونحل لا حصر لها ، لكل مجموعة نافذة معينة على التاريخ . ان مشكلات تاريخية لا تزال تعيش وتأكل يوميا في الذاكرة الجمعية لمجتمعاتنا قاطبة .. مشكلات ماضوية لا دخل لنا بها اليوم لا تنفك الالسن تتداولها ، وظواهر مهما كان نوعها وصحتها واخطائها لم نزل نرددها ليل نهار .. وتناقضات سياسية واجتماعية لم نزل نورثها لابنائنا واحفادنا .. وحالات لا يمكن تصديقها او تكذيبها كونها قيل عن قال نصّورها حقائق او اكاذيب ونحن نبني عليها كل حاضرنا ومستقبلنا .. الخ هذه مجرد امثلة لظواهر واضحة في تاريخنا القريب والبعيد .. فما ادراك بالاختلافات والتباينات ومن ثم الانقسامات والصراعات على احداث وشخوص ومواقف ورؤى وافعال .. ؟ ومن فجائع مجتمعاتنا ان اجد من كان يعلن نفسه راديكاليا تقدميا وثوريا سواء كان ماركسيا ام قوميا .. خرج من جلده ليعلن عن انتماءاته لهذا النوع من الماضي او ذاك ، لهذه الطائفة او تلك الملة من دون اي وعي بالتاريخ او قراءة له او تأسيس اي قطيعة معه ! ثانيا : هل من تطهير لثقافتنا العربية ؟ ان ما يهمنا في حقيقة الامر ثقافتنا العربية الى حد كبير ، وكل الثقافات التي تشاركها الحياة وتعايشها الموقف وينتظرها المصير .. واعتقد ان معالجة ثقافتنا العربية هي بحد ذاتها معالجة باسلوب غير مباشر لثقافات اخرى في المنطقة .. علما بأن هناك اليوم حربا خفية غير معلنة على الثقافة العربية التي تتهم دوما من قبل ثقافات اخرى في الشرق الاوسط بالشوفينية والمكابرة والتسلطية والاحادية .. علما بأن الثقافة العربية كانت على مدى الف سنة ماضية المعين الذي نهلت منه كل الثقافات في المنطقة قاطبة : ايرانية وتركمانية وقوقازية وعثمانية وكردية وآرامية وسواحيلية واثيوبية وامازيغية واوردية .. الخ ، ولكن ؟ لقد اصاب العقم ثقافتنا العربية الحديثة التي غدت بعيدة كل البعد عن هذا العصر وكل اتجاهاته ازاء المستقبل .. لم تعد ثقافتنا العربية المعاصرة ثقافة تنويرية تقود غيرها من الثقافات ، وتهدي الاجيال الجديدة بكل ابداعاتها الى مستقبل عظيم .. وبقيت ثقافتنا العربية ولعشرات السنين ولم تزل مزدوجة الولاء بين الماضي باسم " التراث " وبين العصر " الحداثة " ، واستهلك المفكرون العرب انفسهم بهذه الثنائية من دون اي نتائج واقعية ، بل وساهموا في تكريس التناقضات الفاضحة في مجتمعاتنا التي انجرفت نحو الماضي لعبادته كل بطريقته الخاصة وتيبسّت النخب المستنيرة في واقع اجتماعي وسياسي متنوع بين الازدواجية والطفيلية والانشائيات والمكررات والبلادة والاوهام .. بل اكاد اجزم بأن الاوهام تأكل العقول ثقافيا واجتماعيا واعلاميا .. كما اخفقت ثقافتنا العربية اليوم وعند نهايات القرن العشرين بعد ان سادها التوحش ودخلت كما هي الحياة العربية ابواب الماضوية والانغلاق وسجون القهر والامراض ! فمثلا لم نتوقف ابدا سواء في مرحلة الاعلام المرئي والفضائي على دعوات صريحة وقوية تطالب بتطهير ثقافتنا العربية الاثمة من ذلك العهر التاريخي الذي تعّرضت له اجساد مثقفين كبار او سياسيين مناضلين لهم ادوارهم .. او صغار الاطفال بل وغدا مصطلح " التصفية الجسدية " مشاعا في ثقافة الاحزاب الثورية العربية صاحبة مبادئ العنف الثوري من دون أي احساس بالخيبة او بالذنب ومن دون أي وازع اخلاقي يوقف مهزلة التاريخ العفن . ان هذا المصطلح ليس عربيا بحد ذاته ، بل استعير من ثقافات ثورية راديكالية دموية قالت بـ " العنف الثوري " وقالت بـ " التصفية الجسدية " ! لقد عاش عقلاء واحرار في عدة بلدان عربية لا يرضون تلك الممارسات الدموية ضد اجساد البشر، وقد امتلكوا الوعي بما كانت عليه الاحوال ، ولكن الخوف كان يرافق الصوت ليبقيه كتوما حتى الموت .. وبموضوع الجسد ، ومن دون طرحه على أصعدة عدة فى الأدبيات المعاصرة وما نشر من شذرات في هذا الباب فهو قليل جدا مقارنة بما حدث في تاريخنا العربي والاسلامي الطويل .. صحيح ان الجسد لم يكن محورا للتفكير ، ولكنه الوسيلة الاسهل لتبرير كل المصالح الشخصية والفئوية والسياسية .. بل وان ما يتوفر من مراجع لا تعتني بالجسد ابدا في فلسفاتها جعلت الانسان في منطقتنا ( وبالذات مجتمعاتنا ) بعيدا عن التسامي ، انه بدل ان يجعل الجسد اداة حيوية للحياة والابداع والطهر والجمال .. جعله اداة للعهر والسجن والاعتقال والاعدام والقتل والتقطيع والسحل .. ان موجة قهر الصحافيين والاعلاميين العرب والافتاء بقتلهم .. وانعدام الروادع القانونية وانعدام وجود تجمعات للمجتمع المدني وهدر حقوق الانسان وبضمنه المثقف .. جعل اليوم من ثقافتنا مثار اسئلة كثيرة في ثقافات اخرى ؟ لقد اصابت الاوبئة ثقافتنا العربية وثقافات اخرى مجاورة لنا ، فمتى يمكن التخلص من آثارها ؟ متى يتم تطهيرها ؟ ان ايجاد اجوبة نظرية لا ينفع ابدا ، من دون خلق روادع قانونية وتنظيف حقوق الحياة العربية من كل الامراض .. ان جامعاتنا ومؤسساتنا الثقافية العربية اليوم قد اصابتها التعفنات والمخاطر .. ولم يبق من روح العلم الا الاسم فقط . فماذا ننتظر من اجيال قادمة تتربى اليوم في مدارس وجامعات ومؤسسات ونخب وفئات ( وحتى جاليات مصابة باوبئة خطيرة ؟ ) .
#سيار_الجميل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مأساة الاقليات في العراق
-
اضطهاد المثقفين
-
-الاوليغارشية- تهدّد المجتمع العراقي
-
مكابدات الوعي هل يكون العراق او لا يكون ؟
-
بَرويز مُشَّرف : هروبٌ غَير مُشِّرفْ !
-
العراق : مشروع دولة متمدّنة التجربة التكوينية
-
اغتيال كامل شّياع : فجيعة مؤلمة لكلّ المثقفين العراقيين
-
جورجيا : وَرطةٌ جَديدة !!
-
كَثُرَ الراحِلون ... قلّ القادِمون !
-
بازار المخفيّات المتبادلة
-
تكوين العراق المعاصر
-
عولمية عربية بلا تشريعات حيوية
-
الأحْياء يخْسَرَهُم الأمْوات ! رِسالَةٌ عابِرةٌ الى كُلّ الأ
...
-
الصحافة العراقية تاريخ رائع يدخل متاهة الانفلات !
-
المسيري : الرحيل الاخير
-
مبادئ وخطوات لا صناديق وشعارات !
-
مَن يُنقِذُهُنّ مِن أيدِي البَرابِرة الجُددْ ؟
-
هل من ضوابط قانونية للصحافة الالكترونية ؟
-
باراك حسين اوباما : البدل الامريكي الضائع !
-
مسّلة الجوع : أين سلال الغذاء العربية !!
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|