لأننا نعيش الضيم والضنك في العراق ولم يتسنَ لنا ان نحظى بالنعمة التي يرسف فيها شاعرنا الكبير سعدي يوسف مثلما ظهر في الصورة التي نشرها في الانترنت متخندقا حول حاسبه(كومبيوتره) وهو يضحك ملء فيه, وكأنه يضحك علينا نحن ابناء الشعب العراقي البسطاء الكناسين, اقول بسبب ذلك فلقد تأخر اطلاعي على تصريحاته ومقالاته الأخيرة, ولقد حاولت جهدي بعد ان تسنى لي استعمال الانترنت الذي حرمنا منه النظام الدكتاتوري طيلة فترة تسلطه على العراق, إذ سمعت من هنا من أصدقائي بان شاعرنا الذي طالما أحببناه اخذ يقول كلاما غريبا لا يليق به ولا يجانب الحقيقة, فلم اصدق.. ذهبت الى مقهى الانترنت ـ وارجو ان لا يسخر مني الاستاذ سعدي ويعيرني بالأمية الانترنتية كما سخر من وزيرنا الجزائري لأنه لا يمتلك مولدا كهربائيا ـ اقول اعطيت الثلاثة آلاف دينار (وأمري الى الله) لأحظى بوصلة وقت مع ما قاله سعدي فرأيت العجب العجاب, وقبل ان استرسل اود ان اقول مايلي:
اولا: انني سأتكلم باعتباري مواطنا عراقيا عاديا ولن أتكلم بلسان المثقفين وأرجو هنا مرة أخرى ان لا يسخر مني كما سخر من ابنائنا الكناسين الذين ينظفون شوارع بلدنا من القذارة الصدامية والبعثية التي التصقت بها اربعين عاما.
ثانيا: انني كنت من الشغوفين بشعر سعدي يوسف ولقد كنت قرأت أعماله الشعرية الكاملة أكثر من مرة أيام الصبا في السبعينات وان كانت أعماله تلك تجثم الآن في مكتبتي كالجثة الهامدة دون ان يفكر باستعارتها او السؤال عنها احد, كما انني سبق وان أدخلت اسمه في اكثر من مقالة لي واثنيت عليه وعلى جهوده لرعاية الشباب في مرفأه الشعري في زمن غابر.. فهل اندم على ذلك الآن؟.. يبدو ان للشهرة أحكامها وللعمر أحكامه.
ولأننا لا نؤمن بالتابلوات او المحرمات, ونؤمن ان ليس ثمة أنبياء يتعالون على النقد فاننا نود ان نطرح رأينا بصراحة وليعذرنا القراء لان ردي جاء متأخرا حيث لم يتسنى لنا الحصول على خدمة الانترنت في العراق الا في وقت متأخر ـ واكرر خوفي مرة ثالثة من السخرية من أميتنا التكنولوجية ـ.
قرأت مقالة الشاعر المسماة (جنة الكناسين), فوجدتها مليئة بالسخرية المفتعلة التي أساءت للرجل أكثر مما خدمته, يتحدث وكأن الجنة لا تليق إلا بأمثاله (المصطفين) المتوردي الخدود المتدرعين بحواسبهم وكأن العامل الذي يبيع قوة عمله تحت جدارية فائق حسن والذي ذكره سعدي في قصيدة قديمة له أصبح غير جدير بالاحترام, بل انه يسخر من وزير الثقافة المتواضع المثقف لأنه يريد ان يعمل مع المنظفين ـ عفوا الكناسين ـ وفق تعبير سعدي ـ ولعلم سعدي فاننا هنا في بغداد نشهد يوميا بطولة هذا الوزير وشجاعته حيث يحضر الى المسارح في ليل بغداد الخطر او الذي كان خطرا ً وليس معه من أفراد الحماية الا رجل واحد ودون ان يفتش المسرح ولا الداخلين اليه ويجلس وسط الجمهور دون رهبة.
نحن نقول ان سعدي شاعر مشهور وقد نال حظه من الشهرة والمجد وان كان جل الفضل في ذلك يعود الى فئة سياسية معروفة انقلب عليها الآن حيث ان ثمة شعراء عراقيين يبزونه موهبة ومقدرة شعرية لم يستطيعوا ان يحققوا ذلك ا لمجد لعوامل لم تتوفر لهم مثلما توفرت لسعدي يوسف ولكنها ستتوفر لهم الآن في أجواء الحرية المطلقة التي نعيش بظلها والتي لن يبرز فيها إلا من يستحق فعلا ً.
ان منطق سعدي شاء ام أبى لا يخرج عن منطق الشامتين بالعراق, ولعل في صورته التي ذكرناها آنفا والتي عممها في شبكة الانترنت مغزىً عميق يتحدى هؤلاء المساكين الكناسين بمن فيهم السيد وزير الثقافة الذي لم تشفع له ثقافته وطيبته وشجاعته ونضاله في ان يحظى بكلمة تقدير من شاعر ربما كان من خطط الوزير ان يحتفي به كرمز من رموز ا لعراق ـ كانه! ـ, ثم يتهكم الشاعر على الوزير لاستخدامه المكنسة في الجهاد؛ نقول: ومتى كان الجهاد مقصورا على البندقية.. ألا يعتبر بناء البلد وخدمة أجياله وتنظيف شوارعه وساحاته بناءً ؟ وهل ان جواد سليم لا يستحق منا ان ننظف ساحته او تمثاله .. انها استهانة برموزنا لا تفصح إلا عن عقد مستعصية غريبة بحاجة الى دراسات مستفيضة. ثم ان سعدي لم يقل لنا ما هي قيمه التي تعلمها في جنته ـ او جنانه ـ الأوربية الذي يبدو انه ركن إليه وغير مستعد لمغادرة فردوسه الى بغداد المتعبة التي خربها صدام والتي ينظر اليها سعدي على انها جنة كناسين لا تستحق الاحترام مثلما تحاول شلة اللص عبد الباري عطوان ومطبلي صحيفة القدس سارقي نفط العراق؛ اشاعتة دون جدوى في تسويق عبارة سقوط بغداد التي نهضت والتي لن تسقط ابدا فيما دكتاتورها البائس هو الساقط والذي سقط.
ها نحن نرى رموز الثقافة العراقية الخيرين الحريصين على بناء الأجيال القادمة يتوافدون علينا ليؤسسوا مؤسساتهم ا لثقافية والإعلامية.. هاهو المناضل فخري كريم ينجح في إصدار صحيفة راقية ودار للنشر ويقوم بدعم حتى الانشطة الرياضية ويكسب حب العراقيين بعيدا عن الخطاب الاعلامي الايديولوجي البليد عن (امجاد يا عرب امجاد)!, وعن الخطاب الغبي المضلل عن سعي الاميركان لسرقة نفطنا الذي لم يدخل درهم واحدا منه في جيوبنا في ظل الحكومات (الوطنية) التي سرقته ولم نحصد منها سوى القتل والتعذيب والحروب والمقابر الجماعية .. وهذا اسماعيل زاير يصدر صحيفة متفوقة ويقيم الدورات الصحفية لأجيال الشباب العراقي الصاعدة .. هاهو شاكر الانباري الدمث الخلق الطيب يصدر مجلة راقية ويرفد شباب العراق بزاده الثقافي , صادق الصائغ يعيد الحياة للمسرح الذي غيبه النظام البائد ويتواصل مع الأجيال العراقية الطالعة .. المناضل الإنسان مهدي الحافظ .. وآخرون كثيرون يتركون بلدان المهجر التي وفرت لهم رغد العيش ليستقروا في بغداد, دافعهم الحرص على البلد والشعب.
ورغم اننا سمعنا أكثر من ذلك فيما يتعلق بمواقف سعدي الغريبة ومنها انه يسمي شذاذ الآفاق من القتلة و المجرمين الذين يستبيحون الدم ا لعراقي ويمارسون عمليات الابادة الجماعية لرجال وأطفال ونساء العراق بأنهم مقاومين وانه يتكئ عليهم.. خونة العراق الذين فروا في مواجهة القوات الاميركية وتركوا مؤسساتهم ودوائرهم لينكفئوا تقتيلا بأبناء شعبنا الأبرياء وشرطتنا الوطنية الشجاعة وجيشنا الجديد الباسل.. جيش الوطن لا جيش الدكتاتورية والطاغية كما كان في السابق وليطلبوا من شعبنا الانتحار في معركة غير متكافئة .. ولكن هيهات لهم ذلك . ولكي لا نطيل نقول ان نعمة الانترنت قد وصلت إلينا وان هذا الشعب العريق الذي يمتد تاريخه لآلاف السنوات سرعان ما سيرتبط بالعلم بقوة وسيكشف المستور والمخفي من حقائق الأشياء والناس ويضع كل شئ في نصابه ويعر ف من هو ابنه المضحي من ا جله ومن هو المتاجر بدمه.. إن جيلا عراقيا جديدا يتكون وان أدبا ً وفنا ً جديدين يصاغان .. من حق سعدي ان يبقى في المكان المريح الذي يؤيه فليس ثمة احد يطالبه بترك جنانه ورخائه, وان كنا فعلنا ذلك في وقت سابق أملا في الاستفادة من خبرات رجالنا في الخارج لتعويض الأجيال القادمة ما فقدوه في ظل دكتاتورية العوجة المتخلفة.. وعلى العموم فاذا كان الشاعر يخشى المجيء الى بلد ـ ه ـ لغرض في نفسه فان عليه على الأقل ان يتوصل الى معرفة رأي أغلبية العراقيين واحتفائهم بحريتهم المكتسبة بنضالهم المدعوم من قبل قوة كبرى التقت مصالحها مع مصالح شعبنا.
ودمتم
صادق الازرقي
بغداد
18 شباط 2004