يُجري منذ أواسط هذا الاسبوع وفد أمريكي من قبل ادارة بوش مؤلف من عضوي المجلس القومي الامريكي، ستيف هدلي واليوت ابرهامز، ومساعد وزير الخارجية، وليام بيرنز، محادثات مع المسؤولين في حكومة اليمين الشارونية حول خطة شارون لفك الارتباط من طرف واحد - كما يدّعون.
ويأتي توقيت هذه "المحادثات" في سياق ظروف تعكس وقائعها ومدلولاتها الاهداف الحقيقية التي يتوخاها ويعمل على انجازها التحالف الاستراتيجي العدواني الامريكي - الاسرائيلي. فهذه المحادثات تجري قبل أيام قليلة معدودة من بدء محاكمة المحتل الاسرائيلي في محكمة العدل الدولية في لاهاي التي تبدأ أعمالها يوم الاثنين القادم، 23/2/2004 حول بناء جدار العزل العنصري باعتباره جريمة حرب يرتكبها المحتل الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني. كما تجري هذه المحادثات في ظل مواجهة شارون وولديه التحقيق بتهمة الفساد والرشوة. هذا في وقت تجري فيه هذه المحادثات في ظل أزمة ادارة بوش وقواته المحتلة الغازية في العراق وبدء الحملة الانتخابية الرئاسية، خاصة وانه لم يبق سوى اقل من تسعة أشهر لانعقادها في شهر تشرين الثاني المقبل. ولهذا فنحن على ثقة تامة بأن المحادثات الجارية تندرج في اطار التنسيق الاستراتيجي الذي يخدم اولا واخيرًا تحالف الشر الامريكي - الاسرائيلي ولا يصب ابدًا في خدمة المصالح الوطنية الحقيقية للشعب الفلسطيني وحقه الشرعي بالحرية والاستقلال الوطني. ونبني تقييمنا هذا بناء على العديد من المؤشرات والوقائع التي تكشف مدلولاتها بُعد المؤامرة التي يجري نسج خيوطها في الدهاليز المعتمة الاسرائيلية - الامريكية.
ففي رأينا ان مجرد قبول الادارة الامريكية بالتباحث مع حكومة اليمين الشارونية حول طابع خطة فك الارتباط مع الفلسطينيين من طرف واحد يعني من حيث المدلول السياسي التنسيق معًا لبلورة حل بديل للتسوية السياسية العادلة يجري العمل لاملائه على الطرف الفلسطيني وفي ظل غياب صاحب الشأن، القيادة الشرعية الفلسطينية، وتجاهله وكأنه ليس بذي شأن على ساحة التفاوض حول مصير الشعب العربي الفلسطيني. هذا اولا، وثانيًا، ان الادارة الامريكية بموافقتها على خطة شارون ورهن هذه الموافقة "بخطوط حمراء" لفظية امريكية يعني اختزال حتى "خارطة الطريق" بحلول اسوأ منها من حيث انتقاصها للحقوق الشرعية الفلسطينية السيادية المسنودة بقرارات الشرعية الدولية. ويجري التشاور للتوفيق بين خطة فك الارتباط وخطة خارطة الطريق بحيث يكون تجسيد رؤيا بوش حول الدولة الفلسطينية قيام كيان فلسطيني ممزق الاوصال على أساس بلورة محمية فلسطينية في قطاع غزة وكنتونات فلسطينية في الضفة الغربية يفصل فيما بينها كتل استيطانية وجدار العزل العنصري. ويجري اليوم التركيز والتنسيق الامريكي - الاسرائيلي حول بلورة كيان المحمية في قطاع غزة اولا كوسيلة تخدم المصالح الاستراتيجية الامريكية والاسرائيلية - كما سنرى - ولاضفاء الطابع الكولونيالي على الحل في الضفة الغربية.
ولعلّ ما يكشف أبعاد المؤامرة من وراء خطة فك الارتباط والانسحاب من قطاع غزة وطابع الحل الذي يبلوره تحالف الشر الامريكي - الاسرائيلي هو المدلول الحقيقي لما يلي:
في مقابلة صحفية اجرتها صحيفة "يديعوت احرونوت" يوم 18/2/2004 مع وزير "الامن"، شاؤول موفاز، اكد موفاز ما يلي "لن يبقى اي جندي اسرائيلي في مستوطنات قطاع غزة، ولا بأي شكل من الاشكال، حتى اتمام عملية الانفصال عن الفلسطينيين في غزة"! ماذا يعني هذا التأكيد؟
هذا يعني اولا ان الانسحاب سيكون تدريجيًا، وثانيًا ان التقديرات تشير الى ان بداية تنفيذ خطة فك الارتباط ستبدأ في نهاية العام الجاري او في بداية العام (2005) (انظر: "يديعوت أحرونوت" - 19/2/204).
ولماذا حتى نهاية السنة او بعدها وعدم المباشرة في التنفيذ؟ الجواب ينسجم مع الاهداف التي ترسمها الادارة الامريكية وحكومة شارون. الهدف من الجرجرة لكسب وقت يستثمره شارون اولا لتجميل صورته عالميًا بأنه يجنح للتسوية السياسية مع الفلسطينيين، دون ان يدفع اي ثمن على ارض الواقع. فهو يأمل في حالة عدم ادانته بتهمة الفساد والرشوة أن يجري تعديلاً في بنية حكومته بإدخال حزب "العمل" الذي يزحف بعض قادته على البطون لدخول الائتلاف، وان مثل هذا التعديل ترحب به الادارة الامريكية خاصة وانه يساعد تحالف الشر العدواني الامريكي - الاسرائيلي في تضليل الرأي العام العالمي بأن الحكومة الجديدة التي فيها زعيم حزب "العمل - شمعون بيرس، الحائز على جائزة نوبل للسلام، طابعها "حمامي" ويختلف عن طابع حكومة شارون - ايتام - ليبرمان اليمينية المتطرفة. كما ان الجرجرة لكسب الوقت وتأجيل البدء بالتنفيذ حتى بداية السنة المقبلة، يعني ان الحديث يجري الى ما بعد انتهاء المعركة الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة الامريكية. وسيستثمر بوش وادارته هذه الفسحة من الوقت للسمسرة السياسية بأنه يبلور مع حكومة شارون خطة للتسوية السياسية، وان ادارة بوش ستجري في الاسبوع القادم محادثات مع شمعون بيرس، زعيم حزب العمل الذي سيلتقي كلا من كوندلينا رايس وكولن باول، وفي شهر آذار المقبل سيستقبل البيت الابيض كلا من وزيري الامن والخارجية، شاؤول موفاز وسلفان شالوم. و"تكثيف" هذا النشاط جاء للايحاء، وخاصة لبعض الانظمة العربية، ان الادارة الامريكية معنية بتسوية القضية الفلسطينية. وما يثير الشكوك والقلق، ان الانباء المتسربة من "البيت الأبيض" تشير الى ان ادارة بوش تفكر وتعمل على تنصيب محمد دحلان حاكمًا على قطاع غزة "لحفظ الامن" وردع حركتي "حماس" و"الجهاد الاسلامي"، الامر الذي يعزز التقييم بأن المؤامرة تتجه لجعل قطاع غزة محمية تدور في فلك التبعية للامريكان وللمحتل الاسرائيلي وتضعف وتهمش مكانة ودور السلطة الوطنية الفلسطينية والرئيس ياسر عرفات.
ما يعزز هذه القناعة حول تحويل قطاع غزة الى محمية تبقى تحت رحمة التبعية للمحتل ما يلي:
اولا: انه بالاضافة الى الانسحاب على مراحل من قطاع غزة فإن المحتل الاسرائيلي سيحتفظ بالسيطرة والسيادة العسكرية على المجالين الجوي والبحري في قطاع غزة حتى بعد اتمام الانسحاب على الارض. وان المحتل سيحتفظ بالسيادة العسكرية على طول الحدود القائمة بين القطاع ومصر.
ثانيًا: ان فك الارتباط والانسحاب الاسرائيلي احادي الجانب من القطاع لا يشمل اخلاء المستوطنات الكولونيالية القائمة في شمال قطاع غزة، مستوطنات "دوغيت" و"ايلي - سيناي" و"نتسنيت". فحسب تأكيدات الوزير، شاؤول موفاز "لا يوجد اي سبب لاجلاء المستوطنات القائمة على طول الحدود الشمالية للقطاع، ما دام لا يوجد اتفاق مع السلطة الفلسطينية".
ثالثًا: لا يوجد اي قرار حتى اليوم، حسب اعتراف وزير الامن موفاز، حول مستقبل ومصير المباني التي سيخليها المستوطنون. فتارة يجري الحديث عن اشغالها بمؤسسات عالمية، ولا نستبعد أن تصبح بؤرًا لقوات امريكية تحت يافطة قوات دولية.
رابعًا: ان اشغال الرأي العام بالحديث عن خطة فك الارتباط من طرف واحد، وجرجرة النقاش حول استفتاء عام في اسرائيل حول مصير الارض المحتلة في قطاع غزة، ستستثمره حكومة الكوارث الشارونية كغطاء لتعزيز الوجود الاحتلالي الاستيطاني وتوسيعه في الضفة الغربية المحتلة وبشكل ينسجم مع برنامج شارون الاستيطاني لاقتطاع اكثر من نصف مساحة الضفة الغربية وضمها تحت السيادة الاسرائيلية وتحويل ما تبقى من ارض فلسطينية الى كانتونات، جزر معزولة عن بعض تجعل من الصعوبة بمكان وتعرقل قيام دولة فلسطينية سيادية مستقلة بشكل طبيعي.
ان ما نود تأكيده في نهاية المطاف ان ما يجري تخطيطه في الأٌقبية الاسرائيلية والامريكية المظلمة ليس أبدًا رسم المخرج الواقعي من دائرة دم الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني، بل بلورة خطة تآمرية للانتقاص من الحقوق الوطنية الفلسطينية الشرعية الاساسية، الحق بالدولة والقدس والعودة وفقا لقرارات الشرعية الدولية. فالبمحمية والكنتونات في غزة والضفة لا يمكن بناء قواعد الامن والاستقرار ووقف نزيف دم الصراع في المنطقة. وليكن يوم الاثنين القادم، يوم بدء عمل محكمة العدل الدولية في لاهاي، يوم تضامن عالمي مع حق الشعب الفلسطيني المشروع بالحرية والاستقلال الوطني، يوم رفع صرخة الغضب والاحتجاج الجماهيرية في كل مكان، في اسرائيل وخارجها، لوقف بناء جدار الفصل العنصري والاتجاه لفك ارتباط سياسي من خلال استئناف المفاوضات بين القيادة الشرعية الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات وبين حكومة اسرائيل لانهاء الاحتلال الاستيطاني منذ حزيران 67 واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ولبناء جسور السلام العادل والامن والاستقرار في المنطقة.