|
الانحطاط الفكري لدى شيوعيي انحطاط الإشتراكية
فؤاد النمري
الحوار المتمدن-العدد: 2435 - 2008 / 10 / 15 - 09:47
المحور:
ملف ذكرى ثورة أكتوبر الاشتراكية... الانهيار وأفاق الاشتراكية في عالم اليوم
أخطأت إذ اعتقدت أنني إنما أساهم في فتح منفذ صغير للعمل الشيوعي لو استنهضت الشيوعيين إلى البحث في أسباب انهيار المشروع اللينيني بعد أن كان قد اجتاز أصعب الاختبارات وأثبت نجاحه . لكنني وبعد أن اطلعت على آراء العديدين منهم، ولا أقول أبحاثهم، أصبت بالغثيان الشديد إذ تحققت من أن " الشيوعيين " أنفسهم هم من تسبب بانهيار مشروع لينين التاريخي العظيم وليس أعداءه الرسميين . كنت أعلم هذه الحقيقة لكنني قلت في نفسي لعلهم تعلموا شيئاً من كارثة الإنهيار وإذ بهم ما زالوا يسدون بقوة كل منفذ للعمل الشيوعي وآراؤهم خير دليل على ذلك . وما أضاف إلى الغثيان كثيراً من السخط والاستنكار هو أن قادة الأحزاب الشيوعية ما زالوا يمتنعون عن البحث في أسباب الانهيار، وهم يدركون جيداً أن امتناعهم وتلهيهم بالعمل الوطني إنما هو دعوة قوية لتناسي العمل الشيوعي جملة وتفصيلاً وهو ما يدل على أنهم ليسوا أكثر من مخادعين وأفاقين ليس بعد الانهيار فقط بل وقبله أيضاً .
كنت أستهجن العدمية في الفكر وفي الفلسفة لدى القوميين بمختلف أطيافهم، لكنني اليوم، وبعد استعراض آراء " الشيوعيين " الذين تحدثوا عن المشروع اللينيني وعوامل انهياره أجدني غثيت من الانحطاط الفكري الذي يغمر من يصفون أنفسهم بالشيوعيين والماركسيين سابقاً أو حالياً . هل كان علي أن أختبر مرة أخرى القانون الماركسي في الديالكتيك الذي يقول أن الواقع يعكس صورته في الفكر، والتراجع الذي دهم المشروع اللينيني لا بد وأن دهم أيضاً الفكر المرافق وأدى به إلى الإنحطاط . باستعراض أسباب انهيار المشروع اللينيني بنظر كافة الذين بحثوا في الموضوع، وهم إما من الشيوعيين السابقين أو الحاليين، يتبين أنها تنحصر في الأسباب الأربعة التالية .. 1. البنية السياسية للدولة السوفياتية والتي تميّزت بجرائم ستالين وبغياب الحريات والديموقراطية . 2. رأسمالية الدولة . 3. الأخطاء في التطبيق والانحراف عن مبادئ الماركسية . 4. فلسفة لينين في القفز عن المراحل .
القول بكل هذه الأسباب أو بأيٍ منها يكشف عن انحطاط فكري غير مسبوق ولعل العدمية الفكرية لدى القوميين تتميز عليه، فأن لا يفكر المرء على الإطلاق يظل أقرب إلى الحقيقة من أن يسلك الطريق الخطأ في التفكير . ولإيضاح ذلك يترتب أن نقول كلمة حول كل سبب من هذه الأسباب ..
1 . البنية السياسية للدولة .. يغرق الذين يستنكرون البنية السياسية للدولة السوفياتية وينسبون إلى ستالين جرائم اغتيالات وقتل وتصفية، يغرقون في مثالية خالصة دون وعي منهم . فالدولة، أية دولة، إنما هي الإبنة الشرعية للنظام الإقتصادي القائم . لا يجوز لهم أن يستنكروا البنية السياسية للدولة دون أن يستنكروا البنية الإقتصادية التي أفرزت تلك الدولة المستنكرة . لكن هؤلاء لم يقولوا كلمة واحدة عن النظام الإقتصادي السوفياتي . هل كان الإقتصاد السوفياتي اشتراكياً أم غير اشتراكي . لئن كان اشتراكياً فلماذا أفرز دولة إرهابية وقامعة للحريات ؟ وما هي طبيعة الدولة الإشتراكية ؟ وهل يتوجب أن تكون الدولة الإشتراكية هي دولة دكتاتورية البروليتاريا كما اشترط كارل ماركس في نقده لبرنامج غوتا ؟ وهل الدولة الديموقراطية الليبرالية البرلمانية تستطيع أن تنفذ الخطة الإقتصادية الإشتراكية ؟ وسؤال آخر يثيره الإنحطاط الفكري وهو .. لماذا جنح ستالين لأن يكون مجرماً دموياً كما وصفه أكثر من " شيوعي " ؟
أي واحد من هؤلاء الذين شجبوا بنية الدولة السوفياتية لا يمتلك أدنى خبرة أو معرفة في طبيعة دولة دكتاتورية البروليتاريا . كارل ماركس نفسه لم يفصّل في تشريح دولة دكتاتورية البروليتاريا فكيف لجموع هؤلاء المبتدئين أن يعينوا تفصيل دولة دكتاتورية البروليتاريا ليكون بإمكانهم أن يقولوا أن الدولة السوفياتية لم تكن دولة دكتاتورية البروليتاريا قبل أن يلغيها خروشتشوف رسمياً في المؤتمر الاستثنائي الحادي والعشرين للحزب في العام 1959. الدولة السوفياتية قبلئذٍ كانت دكتاتورية البروليتاريا وهذا حقيقة تفقأ عيون كل أعدائها ومبغضيها ولو لم تكن كذلك لما اضطر خروشتشوف إلى إلغائها .
ولئن كانت الدولة السوفياتية دكتاتورية البروليتاريا فعندئذٍ يمتنع الحديث، أي حديث، عن طغيان ستالين وجرائمه . الذين ما زالوا يتحدثون عن جرائم ستالين إنما ركبوا قارب العداء للإشتراكية وللإنسانية حملته بعيدا رياح الرأسمالية الإمبريالية يحمل علماً كتب عليه .. " إكره ستالين تكره الإشتراكية " . إنهم لم يتعرفوا طيلة حياتهم إلا على الحريات والديموقراطية الليبرالية التي هي أدنى نوعاً من والحقيقة التي تذلق ماء بارداً على وجوه هؤلاء الضالين هي أن ستالين لم يكن في أي منصب حكومي قبل ربيع العام 1941. لم يحاكم أحداً ولم يوقع على حكم إعدام أحد . كان الحزب قد اتخذ سياسة تقضي بعدم التهاون في مقاومة أعداء الإشتراكية في الداخل حين بدا أن الإمبريالية بالإشتراك مع النازية تعد مؤامرة كبرى تستهدف القضاء على الدولة الإشتراكية، وكان لينين قد أوصى ستالين باستخدام كل القوى ومختلف الوسائل للحفاظ على أمن وسلامة أول دولة للعمال . وبذلك ترتب على النائب العام وهو آنذاك القانوني الشهير أندريه فيشنسكي أن يوقع القصاص المناسب بكل الناشطين ضد الإشتراكية . جميع المحاكمات التي جرت في الأعوام 36 و 37 و 38 كانت محاكمات علنية بحضور مراسلي وكالات الأنباء الغربية الذين لم يكن بوسعهم الطعن في مجريات المحاكمة أو بعدالة الأحكام فما كان منهم سوى أن شككوا بشخصية المتهم باعتباره الشبيه للمتهم وليس المتهم نفسه ! وهذا هو بالطبع طعن المفلسين . المحاكمة السرية الوحيدة كانت محاكمة قائد الجيش توخاتشوفسكي وعصابته في القيادات العسكرية الذي تآمروا للقيام بانقلاب عسكري على السلطة وعلى الحزب عام 37 وقد قبض عليهم قبل خمسة دقائق من تنفيذ الإنقلاب كما شهد رئيس الوزراء آنذاك فياتشسلاف مولوتوف، وكانت سريّة المحاكمة من مقتضيات الأمن الوطني . المصادقة على أحكام الإعدام كانت من واجبات وزير العدل ثم رئيس مجلس الوزراء وهو الرجل الطيب كما يصفه معارفه فياتشسلاف مولوتوف (1929- 1941) ورئيس اتحاد الجمهوريات ميخائيل كالينين (1919-1946) . لم يكن من واجبات وظيفة ستالين المصادقة على أحكام المحاكم بمختلف درجاتها . لمرض في نفسه ، وكيما ينجح تماماً في اغتيال " أبيه " بعد مماته، أثار خروشتشوف الشكوك في عدالة تلك الأحكام وشكّل أكثر من لجنة مختصة لتفحص صدقية تلك المحاكمات فلم تجد فيها ما يشوبها . الغرب الرأسمالي الإمبريالي انتهز المناسبة وتناول العلكة الفاسدة من فم خروشتشوف وراح يعلكها دونما ضجر . العلكة الفاسدة ذاتها الملوثة بلعاب التحريفية والإمبريالية يعلكها اليوم بعض المضللين من الشيوعيين الذين سبق وصفقوا لخروشتشوف طويلاً بسبب الإنحطاط الفكري أكثر مما هو الإنحياز الطبقي . ظل ستالين يكرر .. " الحقيقة عصية على الاغتيال إذ تحرسها جيوش لجبة من الأكاذيب " ونحن نقول .. حقيقة ستالين البلشقية المطهرة تتحدى كل الكذبة وأعداء الإنسانية أن يثبتوا عليه جريمة واحدة مهما كانت صغيرة وتافهة . نحن نرى بأم العين الراية التي ترفعها فيالق أعداء البروليتاريا وأعداء الإنسانية وقد نقش عليها شعارهم .. " إكره ستالين تكره الإشتراكية " .
2. رأسمالية الدولة .. لئن كانت الأسباب الأربعة أعلاه التي سيقت حتى اليوم في تعليل انهيار المشروع اللينيني هي أسباب سخيفة، فسبب رأسمالية الدولة هو أسخفها . كل الذين قالوا برأسمالية الدولة لا يعرفون عمّا يتحدثون . تقوم رأسمالية الدولة فقط عندما لا يتواجد في المجتمع طبقة سائدة يلعب إنتاجها دوراً رئيسياً في تزويد المجتمع بأسباب حياته أو الحد الأدنى منها . عندما تعجز أي طبقة من طبقات المجتمع عن القيام بمثل هذا الدور تقوم عصابة لا تنتمي لأي طبقة من طبقات المجتمع بالاستيلاء على الدولة وعندها لا يكون أمامها من خيار يؤمن استمرار سيادتها سوى امتلاك وتطوير وسائل الإنتاج على الطريق الرأسمالية بالطبع . ومن خصائص دولة العصابة هي أنه كلما تطورت أدوات الإنتاج الرأسمالي لديها كلما تحصنت عزلتها عن المجتمع .
من المعروف تماماً أن روسيا القيصرية كانت دولة استعمارية كولونيالية، وكانت الدولة الثانية بعد بريطانيا في امتلاك المستعمرات بهيمنتها على سدس الكرة الأرضية . أمام هذه الحقيقة لا يجوز في كل الأحوال الإفتراض بأن المجتمع الروسي القيصري لم يكن متبلوراً طبقياً . في نهاية القرن التاسع عشر كانت الطبقة الإقطاعية ذات جذور ضاربة في العمق في المجتمع الروسي عندما بدأ الإنتاج البورجوازي الرأسمالي ينتشر بقوة في المدن الروسية . القرار الخطير الذي اتخذته الأممية الثانية في اجتماعها الدوري في بازل 1912 اعترف بأن الطبقة البورجوازية كانت ما زالت هشة ولا تستطيع القيام بثورتها فطلب من القوى الإشتراكية أن تتولى هي نفسها القيام بالثورة البورجوازية وتطويرها حتى النهاية وهو ما يعني مباشرة أن ثمة قوىً طبقية في روسيا قادرة على القيام بثورة إجتماعية في مواجهة قوى طبقية معادية ليست أقل قوة ؛ وهو ما يعني أيضاً أن التبلور الطبقي قد وصل مداه وأن الصراع الطبقي كان على أشّده . لم يكن ممكناً في مناخ الفوران الطبقي ذاك لأي عصابة مهما كانت قوتها أن تستولي على السلطة . ثورة شباط 1917 قامت بها ثلاث طبقات، البورجوازية والعمال والفلاحون . عجزت البورجوازية عن استكمال ثورتها فنهض البلاشفة يمثلون العمال والفلاحين واستولوا على السلطة بانتفاضة أكتوبر 1917 وكان حزب البلاشفة أكبر الأحزاب ويضم 240,000 عضواً وقد أجمعت الصحف البورجوازية عشية الإنتفاضة على أن البلاشفة هم وحدهم القادرون على ملء الفراغ في السلطة . لم يكن البلاشفة عصابة منفصلة عن طبقة العمال وطبقة الفلاحين الفقراء في روسيا . في آذار 1918 قامت البورجوازية بكل أطيافها بثورة مضادة وأشعلت حرب تصفيات طبقية استمرت أكثر من ثلاث سنوات حقق في نهايتها تحالف العمال والفلاحين بقيادة البلاشفة نصراً حاسماً . ما كان البلاشفة لينتصروا في تلك الحرب المصيرية إلا بسبب إلتفاف العمال والفلاحين حولهم . مثل البلاشفة أكبر طبقتين في المجتمع الروسي هما العمال والفلاحون الفقراء . من يقول بقيام إقتصاد رأسمالي بعد سحق الطبقة الرأسمالية من خلال أشرس الحروب الأهلية فهو لا يفهم حرفاً واحداً في الإقتصاد السياسي، والأفضل له أن يصمت نهائياً . أحد هؤلاء الذين لم يصمتوا كتب تحت عنوان .. " من رأسمالية الدولة إلى إقتصاد السوق " ؛ مثل هذا الدعيّ الجاهل لا يعرف أن طريق رأسمالية الدولة لا تصل إلى أي مكان . أي عصابة تلك التي تتنازل طوعاً عمّا تملك بحجم الوطن لطبقة تخاصمها في ملكيتها أصلاً ؟! عندما تقوم رأسمالية الدولة فهي لا تنتهي لأي سبب من الأسباب .
بعض الجهلاء يفترض أن قيادة الحزب بعد لينين انفصلت عن طبقتها وانتهجت نهج رأسمالية الدولة . ما يفضح سذاجة مثل هذه الإدعاءات الغبية هو أن قيادة الحزب وعلى رأسها ستالين بدأت في العام 1926 بالتخلي عن السياسة الإقتصادية الجديد (NEP) التي شّرعها لينين وسمح بموجبها للإقتصاد البورجوازي أن يبني سوقاً في المجتمع السوفياتي، والسوق هو القاعدة التي يقوم عليها النظام الرأسمالي . ستالين ألغى النيب وألغى السوق فكيف يمكن الإدعاء بمثل هذا الإدعاء السخيف في مثل هذه الحالة ؟! قبل نهاية ثلاثينيات القرن الماضي لم يتواجد أي سوق في المجتمع السوفياتي وتم فصل السلعة عن قيمتها الرأسمالية، وهذا وذاك من مقتضيات بناء الإشتراكية . الأقانيم الثلاثة لنظام الإنتاج الرأسمالي وهي السوق والبضاعة والعمل المأجور تم تحطيمها وإلغاؤها من المجتمع السوفياتي ؛ فعن أي رأسمالية يتحدث هؤلاء الجهلاء ؟! ثم ما هو غرض ستالين و "عصابته" من انتهاج رأسمالية الدولة طالما أن فائض الإنتاج لم يجلب روبلاً واحداً لجيوبهم ؛ فستالين الدكتاتور الفرد ومن يمارس عبادة الذات، حسب مزاعم خروشتشوف، لم يركب السيارة قبل تعرضه لمحاولة اغتيال عام 1928 واتخاذ قيادة الحزب قراراً يقضي بأن تتم تنقلات ستالين ركوباً في سيارة محروسة وليس مشياً على الأقدام كما في السابق . نحن نعلم تماماً أن مستوى حياة كافة أفراد القيادة في الحزب لم تكن أفضل من حالة فقراء الطبقة الوسطى . فلماذا ينقلبون إلى رأسمالية الدولة ؟؟
3 . الأخطاء في التطبيق والانحراف عن مبادئ الماركسية .. تراجعت المثالية أمام المادية في كل أنحاء العالم إلا في العالم العربي . فما زال حتى العلمانيون أنفسهم يعتقدون أن المجتمعات بشتى تراكيبها إنما تقام من قبل أفراد أو جماعات وفقاً لمعتقداتهم وتصوراتهم المسبقة، وهو ما لم يحدث ولن يحدث في التاريخ . قال ماركس في إحدى حكمه أو قوانينه .. " الناس يصنعون التاريخ ولكن ليس وفق أهوائهم " . البلاشفه لم يبنوا الإشتراكية وفق أهوائهم أو وفق الوصفة الماركسية . أشعلت البورجوازية مدعومة بفلول الإقطاع والقيصرية حرباً ساحقة انتهت إلى سحقها فحالت بذلك دون تطور المشروع البورجوازي الرأسمالي في روسيا . لم يترك ماركس وصفة معينة للثورة الإشتراكية أو لبنية الإشتراكية فقال بالنسبة للثورة في البيان الشيوعي أنها تجري وفق معطيات البلد المعني أما بالنسبة لبنية الإشتراكية فلم يقل أكثر من أنها مرحلة تحضيرية قصيرة نسبياً يتم خلالها إلغاء تقسيم العمل، وهو ما عبّر عنه لينين بعبارة " محو الطبقات " وقال أن ذلك يتم بإشراف دولة دكتاتورية البروليتاريا حصراً . ثمة دالّتان فقط لا ثالث لهما على الإشتراكية وهما دكتاتورية البروليتاريا ومحو الطبقات وما غير ذلك هو تفاصيل لم تعن ِماركس ولم تشغل فكره . محو الطبقات ودكتاتورية البروليتاريا كانتا أبرز خصيصتين من خصائص الدولة السوفياتية ويذكر في هذا الصدد البحث الجاد والحثيث الذي قامت به الدوائر العليا في الحزب بإشراف ستالين الشخصي ومشاركة ذوي الاختصاص في الإقتصاد الزراعي بشكل خاص في العام 1950-1951 بهدف إلغاء أو محو طبقة الفلاحين التعاونيين بمرسوم رئاسي وهو ما استمهله ستالين لبضع سنوات ريثما يتم إغراق الإنتاج الفلاحي بالسلع الاستهلاكية ـ وقد جاء ذلك في كتاب ستالين القيّم " القضايا الإقتصادية للإشتراكية في الإتحاد السوفياتي ".
كل حديثنا أعلاه ينحصر في التطبيقات الإشتراكية ما بين 1926 حيث بدأت الدولة السوفياتية بالاستغناء عن اقتصاد النيب الذي أخلى مساحة للإقتصاد البورجوازي و 1954 حين اعتلى خروشتشوف سدة السلطة وانحرف انحرافات خطيرة عن المبادئ الأساسية في الماركسية وبدأت الردّة عن الإشتراكية . لم يكن انحراف خروشتشوف بسبب غبائه، وهو غبي في كل الأحوال، أو بسبب جهله في العلوم الماركسية، وهو جاهل لا يستطيع قراءة ماركس أو لينين نظراً لفقره العلمي، لم يكن انحرافه بسبب هذا أو ذاك، بل انحرف ومال مع القوى المتنامية للطبقة الوسطى المتمثلة بالعسكر وبالفلاحين . أيتام خروشتشوف الذين ما زالوا يصبون جام غضبهم وحقدهم على ستالين يتناسون عن سوء قصد الانحرافات الخطيرة عن القواعد الذهبية في الماركسية اللينينية وأهمها .. 1. أنكر خروشتشوف الصراع الطبقي في المجتمع السوفياتي الذي هو المحرك في تطور المجتمع الطبقي والذي ظل المجتمع السوفياتي في أساره. إنكار الصراع الطبقي أمر ترغب فيه الطبقة الوسطى من أجل إخفاء عدائها البنيوي للإشتراكية . ما زال يرن في سمعي هزؤ خروشتشوف بالصراع الطبقي أمام المؤتمر العام للحزب بالقول .. " لماذا يتصارع بعضنا مع البعض الآخر ؟ أليس ذلك في مصلحة الإمبريالية ؟ " ـ هل يصدر مثل هذا اللغو عن رجل له أدنى إلمام بالماركسية ؟! 2. إلغاؤه لدولة دكتاتورية البروليتاريا التي اشترطها ماركس لعبور الإشتراكية باعتبار أنها آخر دولة تقوم في التاريخ حيث تنحل الدولة وتتلاشى في المجتمع الشيوعي . خروشتشوف استبدل دولة دكتاتورية البروليتاريا بدولة هجين وصفها ب " دولة الشعب كله " وهي الدولة التي أنكر وجودها في الحياة كل من ماركس ولينين . حتى الطبقة الرأسمالية بدأت تخجل من الإدعاء بأن دولتها هي دولة الشعب كله بعد أن كانت تدعي بمثل ما ادعى خروشتشوف . 3. في اجتماع المكتب السياسي للحزب في حزيران 1957 وفي معرض البحث في مشروعه التاريخي " إصلاح الأراضي البكر والبور " خاطب خروشتشوف البلاشفة قبل أن يسحبوا الثقة منه بالقول .. " شبعنا من لينينكم ولم نشبع الخبز "! بعد طرد البلاشفة من القيادة قام خروشتشوف بتنفيذ خطته المثيرة للضحك والسخرية والتي اقتضت زيادة طبقة الفلاحين في المجتمع ورفدها بمائتي ألف شاب من كوادر الحزب وخريجي الجامعات والعودة إلى شعار عرّابه الخائن بوخارين في العام 1925 .. " أيها الفلاحون اغتنوا بأنفسكم " . ومن أهم أعمال خروشتشوف هو نقل زراعة الذرة عن الولايات المتحدة . كان يتصور أنه سيبني الشيوعية بسواعد الفلاحين . لن يتصور مثل هذه الصورة إلاّ غبيٌ مثله . 4. نادى خروشتشوف بسياسة بورجوازية جديدة في الإقتصاد ألا وهي إعتماد المؤسسة الإقتصادية على التمويل الذاتي . ومثل هذه السياسة لو أخذت طريقها إلى التنفيذ لوفرت أساساً مادياً لما يمكن تسميته برأسمالية الدولة . التخطيط المركزي في الإقتصاد السوفياتي الإشتراكي لم يكن يسمح لتلك الهرطقات بالتحقق على أرض الواقع . 5. طالب خروشتشوف في ذلك المؤتمر الحادي والعشرين المغرق في الرجعية أن يتم الفصل القاطع للارتباط العضوي بين الثورة الإشتراكية وثورة التحرر الوطني وقد عزا ذلك إلى حرصه على سلامة ومستقبل الثورة الإشتراكية إلا أن خروشتشوف كان يعرف بأنه يكذب في هذا الشأن . ففي الخمسينيات وما بعدها أخذ يلعب التناقض ما بين المراكز الرأسمالية من جهة ومحيطاتها من جهة أخرى، الذي أطلق حركة التحرر الوطني في العالم، الدور الرئيسي في الصراع المحتدم على المسرح العالمي باتجاه تفكيك النظام الرأسمالي العالمي . كان هدف خروشتشوف هو إبعاد المعسكر الإشتراكي عن ذلك الصراع ونادى عوضاً عن ذلك بسياسة الوفاق الدولي واللقاء مع الإمبريالية في منتصف الطريق، على غير ما تتقدم إليه حركة التحرر الوطني العالمية وهو القضاء على الإمبريالية وتفكيك النظام الرأسمالي بالنتيجة .
على أيتام خروشتشوف أن يبرروا تلك الإنحرافات الخطيرة قبل أن يقولوا كلمة واحدة باتهام ستالين بتقويض الثورة الإشتراكية، وبعضهم يطلق كلاماً أكثر غباءً من انحرافات خروشتشوف . على الأغبياء ألاّ يكونوا شيوعيين !!!
4 . لينين والقفز عن المراحل .. يلزم الإشارة إلى عدد من النقاط حول هذا الموضوع .. النقطة الأولى ـ كتب كارل ماركس وفردريك إنجلز مجتمعين مقدمة الترجمة الروسية للبيان الشيوعي في 21 يناير 1882 يقولان فيها حرفياً .. " إذا ما انطلقت الثورة الروسية كإشارة البدء للثورة البروليتارية في الغرب فتكمل إحداهما الأخرى فإن الملكية العامة القائمة حالياً للأرض يمكن أن تكون نقطة البداية للانطلاقة الشيوعية " . في هذا النص يتنبأ كل من كارل ماركس وفردريك إنجلز بأن تنطلق الثورة الشيوعية العالمية من روسيا وهما بهذه النبوءة يسدان الطريق أمام كل التخرصات حول قفز لينين عن المراحل . صحيح أن ماركس وإنجلز لديهما أسباب أخرى مختلفة لانطلاق الثورة الشيوعية من روسيا لكنهما ولينين متفقون على إمكانية إنطلاق الثورة الشيوعية من روسيا المتخلفة في نمط الإنتاج الرأسمالي .
النقطة الثانية ـ ليس لينين من قفز عن المراحل بل من قفز عن مرحلة التنمية البورجوازية هو البورجوازية الروسية ومعها كل القوى الرجعية والقيصرية . قام البلاشفة بقيادة لينين بانتفاضة (insurrection)، وليس بثورة(revolution) ، في أكتوبر 1917 من أجل تصحيح مسار الثورة البورجوازية وتحقيق أهدافها الآنية وهي الإنسحاب من الحرب والإصلاح الزراعي ولم يكن من قوة أخرى قادرة على تصحيح المسار غير البلاشفة . بعد أقل من ستة شهور فقط قامت البورجوازية الروسية بكل تنظيماتها من المناشفة إلى الإشتراكيين الثوريين إلى الكاديت، مدعومة من قبل القوى الرجعية والقيصرية بثورة مضادة التي لم تنتهِ قبل سحق سائر القوى البورجوازية والرجعية ولم يتبقّ أمام البلاشفة من خيار آخر غير السير على طريق العبور الإشتراكي .
النقطة الثالثة ـ بدأ الرجوع على طريق العبور الإشتراكي في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي عندما كان الإتحاد السوفياتي الدولة الثانية في العالم من حيث الإنتاج الصناعي والدولة الأولى من حيث التقدم العلمي والتكنولوجي والأولى في الإنتاج الزراعي والحيواني والأولى في الإنتاج الثقافي والأولى في الخدمات الصحية . إزّاء كل هذه الحقائق لم يعد مكان للتقوّل أنه جرى استزراع مشروع لينين الإشتراكي في بلاد متخلفة . جرى الرجوع عن الإشتراكية في بلد متطور ومتقدم في كافة الحقول .
للمرء أن يدهش حقاً بهذا الإنحطاط الفكري الذي دهم الشيوعيين وهم كما يفترض أن يكونوا رواد الفكر السياسي والإقتصادي على الأقل الذي توجب أن يكونوا قد ورثوه عن ماركس ولينين، هذا الإنحطاط الذي بلغ حد إنكار المحرك الوحيد للتاريخ ألا وهو الصراع الطبقي . إن أحداً منهم لم يتطرق لأهم العوامل، بل هو العامل الوحيد الذي عمل على انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي ألا وهو الصراع الطبقي . بقي أن نقول كلمة أخيرة نوجهها إلى سائر الشيوعيين ومنهم بشكل خاص قادة التنظيمات القائمة حالياً وتعلن أنها شيوعية، نقول لهم .. عبثاً تناضلون قبل أن تضعوا أيديكم على الأسباب الحقيقية لانهيار مشروع لينين .
#فؤاد_النمري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القراءة اللينينية لتاريخ الحركة الشيوعية
-
ماذا عن انهيار الإتحاد السوفياتي، مرة أخرى ؟
-
ماذا عن أسباب انهيار الإتحاد السوفياتي العظيم ؟!
-
ما الذي ينهار اليوم في أميركا ؟
-
عجائز الشيوعية يخرفون أيضاً !
-
ما بين الإشتراكية ورأسمالية الدولة
-
عودٌ على بدءٍ مع حسقيل قوجمان
-
الدين عقبة كبرى في وجه التقدم الإجتماعي
-
شيوعيو الأطراف ليسوا ماركسيين وليسوا شيوعيين
-
المسكونون بدحض الماركسية
-
العدالة الإجتماعية والمساواة ليستا من مفردات الشيوعية
-
كتابة تفتقد التوازن العقلي
-
- النظام - العالمي الهجين القائم اليوم
-
دعوى البورجوازية الوضيعة بتقادم الماركسية
-
أيتام خروشتشوف ليسوا مؤهلين للمراجعة وللنقد الماركسي
-
َعَلامَ يختلف الشيوعيون البلاشفة اليوم ؟
-
العمل الشيوعي والمسألة الوطنية (2)
-
العمل الشيوعي والمسألة الوطنية
-
حقائق العصر الكبرى وتقادم الماركسية المزعوم
-
الحزب الشيوعي اللبناني يستعير مكتبه السياسي من مكتب حزب الله
المزيد.....
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
ثورة أكتوبر .. منجزات مذهلة تتحدى النسيان
/ حميد الحلاوي
-
بمناسبة مرور(91) عاما على ثورة اكتوبر ((الاشتراكية)) الروسية
/ حميد الحريزي
-
الرفيق غورباتشوف
/ ميسون البياتي
المزيد.....
|