يؤكد البعض أن التاريخ يعيد نفسه، وما أشبه اليوم بالبارحة...
ويعارض آخرون قائلين أن نفس المياه لا تجري في نفس النهر مرتين ...
بشير يوسف
خلال حرب الخليج الثانية (حرب الكويت) التي تلت تفكك المعسكر الاشتراكي والإتحاد السوفييتي، وقف وزير خارجية إيطاليا آنذاك أمام عدسات الإعلام، نافشاً ريشه كطاووس غر، مسدلاً شعره الطويل على كتفيه، ليعلن أن «بلدان الجنوب كانت قد نالت استقلالها في ظرف دولي شاذ، أما الآن فقد انتهى هذا الظرف !» (كذا بالحرف تقريباً). لم تمض أسابيع قليلة بعد هذا التصريح المتفاصح حتى استغني عن خدمات هذا الذي ليس لديه للسر مطرح. وزير خارجية بلد إمبريالي صغير يفصح - دونما تفويض - عما يجول في خاطر الإمبرياليين الكبار، حقاً ما قالت العرب قديماً: «خذوا أسرارهم من صغارهم»!. أم لعله كان يحلم حين فقع هذا التصريح بإعادة استعمار ليبيا مثلا التي طالما اعتبرها أسلاف له «إيطاليةً»؟. لا يسمح «الكبير» للصغار حتى بالتفكير بذلك بعد أن ورث الأرض وما عليها بنتيجة الحرب الباردة-الحامية التي بات يطلق عليها اسم «الحرب العالمية الثالثة».
قامت بعد الحرب العالمية الأولى أول دولة ثورية للعمال والفلاحين في التاريخ الحديث (للدقة: الثانية بعد «كومونة باريز» العمالية عام 1871 التي أغرقت سريعاً بالدم). وسرعان ما تحولت هذه الدولة، رغم ما شاب التجربة من عيوب خطيرة، إلى نموذج فريد في التاريخ للدولة الكبرى المساندة قولاً وفعلاً للشعوب المقهورة، وما لبثت أن ازدادت قوةً بعد الحرب العالمية الثانية إذ غدت «دولة عظمى» تقود معسكراً اشتراكياً يضم ثلث البشرية يلعب دوراً أساسياً، حاسماً أحيانا، في أحداث العالم. لقد نشأ ظرف دولي جديد غير مسبوق، «ظرف شاذ» من وجهة نظر الإمبرياليين إذ بات عليهم أخذ موازين جديدة للقوى بالاعتبار، الأمر الذي حد من «حريتهم» في الغزو والاستباحة والاحتلال وشكل حماية لكفاح الشعوب المقهورة التي ما لبثت أن نالت نصيبها الطيب من «شذوذ» الظرف، بدءا من العامين 1945-1946 بالجلاء التام غير المشروط للقوات الافرنسية والبريطانية عن سورية ولبنان بدعم سوفييتي قوي وصريح، لتكر السبحة بعدها وتتوالى انتصارات حركة التحرر الوطني وتتم تصفية الاستعمار القديم عملياً خلال عقود قليلة من الزمن، مع استثناءآت قليلة أخطرها قيام وبقاء وتوسع وتنامي قوة الكيان الصهيوني العنصري في فلسطين.
كانت سورية الفتية قد عانت مفاعيل «إنذار غورو» قبل نشوء «الظرف الدولي الشاذ» إلى أن تحررت من تلك المفاعيل فور نشوئه كما أسلفنا، واليوم تتعرض سورية المعاصرة بعد زوال «الظرف» لما يمكن تسميته «إنذار باول» (بالأصالة عن بوش وبالنيابة عن شارون، يعني بوشارون)، وما أشبه الإنذارين من حيث المضمون رغم الفارق الشكلي في درجة الصلف اللفظي بما لا يخفي حقيقة أن القوة العظمى الوحيدة في العالم قد وجهت بالفعل إنذاراً إلى سورية كما كان يجري زمن الاستعمار القديم. هل هناك من يقنعنا بوجود فارق جوهري مثلا بين «حل الجيش» في الإنذار الافرنسي ونزع «أسلحة الدمار الشامل» و«العسكرة» و«ثقافة الكراهية» (أي ثقافة الكرامة الوطنية والمقاومة وثوابتنا المبدئية) في الإنذار الأمريكو- صهيوني؟، أو بين «مكافحة العصابات المسلحة التي تناويء السلطات الفرنسية» (وكان المقصود بها الثورات الوطنية الممتدة من لواء الاسكندرون إلى جبل عامل مرورا بجبل الزاوية وجبال الساحل، وهي مناطق وقعت تحت الاحتلال الافرنسي قبل سقوط دمشق) وبين «وقف دعم المنظمات الإرهابية» والمقصود بها قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعراقية في المناطق المحتلة من قبل بوشارون راهنا؟، أو حتى بين اشتراط غورو على الحكومة الفيصلية العمل بالأوراق النقدية التي أصدرتها فرنسا (أي قبول التبعية المالية والاقتصادية لها) وبين الضغوط الراهنة متعددة الأطراف على سورية لفرض «الانفتاح» و«الإصلاحات» باتجاه التبعية المسماة تجميلاً «اقتصاد السوق»، أي جوهرياً أن تتخلى سورية عن نهج الاستقلال الاقتصادي (النسبي) وتبدي استعدادها لقبول التبعية الاقتصادية (المطلقة) لأمريكا، ولاحقاً لولايتها المدللة «إسرائيل» في إطار «الشرق الأوسط الجديد»، كما يأملون؟
وما أشبه الظرفين الدوليين للإنذارين: قوة عظمى منتصرة في حرب عالمية ضروس (الحرب العالمية الأولى بالنسبة لفرنسا غورو، والحرب العالمية الثالثة لأمريكا وشريكتها «اسرائيل») تفرض الإذعان على دولة صغيرة ما عاد لها حليف دولي يسندها وقت الشدة.
بل وما أشبه الظرفين العربيين: كانت سورية بعد «الثورة العربية الكبرى» القاعدة الأولى الواعدة لحركة العرب نحو التحرر والتقدم والوحدة، وسورية اليوم هي الحاضنة الأخيرة المرجوة عقب إنحسار حركة التحرر العربية وتفشي الخيانة والهرولة منذ السادات حتى القذافي. سورية في الظرفين شبه وحيدة عربياً، رسمياً على الأقل.
هناك الكثير من أوجه التشابه بين ظروف وشروط الإنذارين، حتى على الصعيد الداخلي لدينا المشككون والإنتهازيون ومن يتطوعون لجر عربة العولمة والأمركة الظافرة إلى ساحة الشهداء «المرجة» كما جر أسلاف من طينتهم عربة غورو «الظافر» حين لم تكن جثامين الإستشهادي الأول يوسف العظمة ورفاقه الأبطال قد ووريت الثرى بعد.
إغضاب الإستعمار أهون من إرضائه!
لذا من الضروري في هذا الظرف الدقيق إستعادة دروس ما جرى عام 1920، ومن أهمها فيما نرى أن «براغماتية» (ذرائعية) الحكومة الفيصلية بقبولها شروط غورو لم تنفعها شيئاً بل أدت فقط إلى إضعاف الموقف السوري في المواجهة. البعض يدعوننا اليوم إلى إعتماد مثل هذه الذرائعية الإنكفائية التفريطية المشؤومة (وهي غير العقلانية السياسية التي نؤيدها)، وقد أطلق بعضهم شعار «سورية أولاً!» نسخاً عن «الأردن أولاً» آخر مبتكرات النظام الهاشمي المكلف منذ وعد بلفور بحماية أمن المشروع الصهيوني. من بين دعاة الذرائعية من يظنون - مخلصين- أن في هذا حكمة إحناء الرأس للعاصفة ودفع الضرر عن الوطن، ذلك أنهم لا يفهمون كفايةً طبيعة «النفس الإمبريالية» الأمّارة دوماً بالسوء والتي كان الرفيق خالد بكداش قد لخصها أبلغ تلخيص بقوله «إغضاب الإستعمار أهون من إرضائه!». ودعاة آخرون للذرائعية من نصحاء السوء غير المخلصين الذين ينشطون، داخلياً وعربياً، بأشكال مختلفة وبالتناغم مع الضغوط المتصاعدة، لتزيين السير «على الناعم» نحو الإذعان لشروط «الإنذار»، أي بالحقيقة تسهيل السبل أمام العدو الأمريكو-صهيوني لأخذنا بالتدريج ودون شوشرة بعد شل إرادتنا وقدرتنا على المقاومة، تماماً كما يفعل الضبع مع فريسته ... قبل التهامها!. هذا الصنف الثاني يعرف معدن السوريين الصلب في المواجهات المكشوفة (خلافا لتراخيهم الفوضوي المؤسف زمن الحرب المستترة «السلم»)، ولأن هؤلاء أتباع مخلصون لأسيادهم فهم يخشون المواجهة الأمريكو-صهيونية المكشوفة مع سورية، لا خوفاً على سورية -كما يدّعون نفاقاً- بل خوفاً منها !، فلو صمدت سورية وتصدت واستطال أمد المواجهة واتسع مداها الإقليمي، فقد يطاح في المعمعان بمواقع ركائز (شرائح) داخلية «واعدة !»، أو بإستقرار ركائز (أنظمة) عربية معروفة، ما سيفتح الباب لهبوب رياح في المنطقة غير مواتية لا للأسياد ولا للركائز الأتباع. وحتى لو تمكن العدو بعد هذا كله من إسقاط سورية (لا قدّر الله) فستصبح المثل الملهم للمقاومة والنهوض اللاحق، عربياً وعالمثالثياً، أما لو بدت كمن يركع من تلقاء نفسه فستغدو أكبر عامل تحبيط وتيئيس للجماهير. المنغمسون بالخيانة يأملون أن تنتهي الأزمة «سلماً»، ولكن ليس كما نأمل نحن بأن يعقل العدو ويتراجع عن نهجه المتغطرس (ففي هذا نجاح لخط سورية الوطني و خطر بالتالي على مصالحهم)، بل أن تنتهي بانصياع سورية على حساب كرامتها وإستقلالها وإستقرارها، ولسان حالهم يقول: «آن الأوان لينغمس الجميع ولا يبقى أحد رافعاً رأسه... خارج مجرورنا!» (هل ينسى بعضهم الحرج الذي عاناه جرّاء تحرير جنوب لبنان، أو اللا المدوية التي أعلنها الرئيس الراحل حافظ الأسد بعد 15 دقيقة من بدء إجتماعه مع كلينتون في جنيف، أو من خطابات الرئيس بشار الأسد للشارع العربي من على منابر القمم العربية الثلاث الأخيرة؟).
أصحاب الإنذار الثاني أقوى كثيراً ولا شك من أصحاب الأول، لكننا - خلافاً للإنهزاميين والمذعورين والعدميين - نرى أننا أقوى الآن بما لا يقاس مما كان أسلافنا عليه زمن الإنذار الأول، وعلينا العمل على حماية وتعزيز نقاط قوتنا لا تقويضها والتفريط بها كما يأمل العدو وأتباعه والمغرر بهم، كما علينا معالجة نقاط ضعفنا خصوصاً بالإنعطاف الحازم نحو الشعب الكادح ثروة الوطن الحقيقية وقوة بنائه والدفاع عنه. والمطلوب من القوى الوطنية القائمة في الحكم بالأخص مراجعة النهج الإجتصادي اليميني المهيمن منذ أكثر من 15 عاماً والذي أوصل البلاد إلى مأزق تنموي وإجتماعي بات يهدد قدرتها على مواجهة التحديات الوطنية الكبرى القائمة والقادمة.
إنها مواجهة مصيرية، سواء عقل العدو أم لم يعقل، سواء إقتصرت المواجهة على الضغوط و الإبتزازات السياسية والإقتصادية والنفسية أم صعّدها العدو أكثر من ذلك، مواجهة سيتحدد على أساسها ليس مستقبل وكرامة أجيالنا الطالعة وحسب بل ومصير أعز ما حققته سورية إلى الآن: استقلال الوطن والشروع ببنائه، تحرير إرادته وتحقيق وحدته الترابية والمجتمعية ولو على ما تبقى منه بعد سايكس-بيكو وبلفور وسلخ اللواء وإحتلال الجولان، مصير مجمل ما قدّم كل بيت في سورية، من دجلة إلى البحر إلى اليرموك، على مدى القرن الفارط، من أجله ومن أجل فلسطين ولبنان وكل الشام والعرب، شهيد بطل أو أكثر من شهيد. إنها إذن أمانة قرن كامل من قوافل الشهداء في سبيل وطن حر وشعب سعيد.