رئاسة ثلاثية:
خطت سلطات الاحتلال الأمريكية خطوة كبيرة على طريق إقامة الدولة الطائفية العرقية في العراق من خلال الإعلان عن (أن آلية الحكم المقترحة بعد نقل السيادة إلى العراق المتوقع في 30 حزيران تتمثل في هيئة رئاسية من ثلاثة أعضاء). صرح بهذه الكلمات عدنان الباججي الرئيس السابق لمجلس الحكم المعين من قبل سلطات الاحتلال خلال لقاء جمعه مع شخصيات دينية وعشائرية ممثلة في المجالس المحلية في بغداد مؤخرا. صحيح أن الباججي لم يصرح بأن تلك الرئاسة الثلاثية ستشكل من الأطراف الطائفية والإثنية الأكبر في العراق وهي العرب الشيعة والأكراد السنة والعرب السنة غير أن الأمر لا يخرج عن هذا النطاق خصوصا بعد أن تم تشكيل ما يسمى بمجلس الحكم والوزارة التي انبثقت عنه وقائمة وكلاء الوزارات التي أعلنت قبل أيام على أساس المحصاصة الطائفية القومية إضافة إلى توفير الأساس "التشريعي " لتشييد البنية التحتية القضائية الطائفية بإصدار القانون 137 الذي ألغيت بموجبه قوانين الأحوال الشخصية المدنية وتم استبدالها بالمحاكم الطائفية الدينية والمذهبية، أما قول منظم اللقاء أرشد علي <<إن تشكيلة هيئة الرئاسة الثلاثية لن تعكس بالضرورة المجموعات الإثنية والدينية المختلفة>> فيمكن أن يفهم بطريقتين مختلفتين: الأولى تعني أن التمثيل سيقتصر على الأقانيم المجتمعية الكبيرة الثلاثة ولن يشمل جميع الأقليات الطائفية والإثنية الأخرى. كما يمكن أن يفهم هذا النفي على أنه الاستثناء الذي يؤكد القاعدة أو النفي الذي يفيد الإيجاب في العرف الدبلوماسي السائد عالميا.
التفسير المجتمعي:
أيا يكن التفسير المطروح، فإن المخطط الأمريكي الذي شرعت سلطات الاحتلال في تطبيقه باندفاع منذ سقوط بغداد لن يجعل هيئة الرئاسة الثلاثية معاكسة للتوجهات والأسس الطائفية والعرقية العامة التي يتكئ عليها المخطط المذكور. وعلى هذا فلن ينجح الأمريكيون وحلفاؤهم المحليون في إخفاء هذا الجوهر الرجعي تاريخيا والتفتيتي مجتمعيا تحت قشرة "الصراخ الديموقراطي" الزائف والهادف لتركيب تجربة "ديموقراطية!" جديدة كل الجدة في العراق تقوم على منهجية التعيين حسب الوزن الطائفي والعرقي والعودة بالعراق وشعبه إلى الوراء الحضاري حيث ديناميكات الاندماج المجتمعي معطلة والمجتمع برمته خارج التاريخ الحي، أي داخل الأوهام والخرافات.
الثورة الثلاثية سنة 1778 :
لقد كرر عدد ممن رصدوا التركيبة المجتمعية العراقية ومن بينهم كاتب هذه السطور أن الانقسام المجتمعي الطائفي والإثني في العراق له خصوصياته التي تجعله مختلفا عن أي حالة انقسام مجتمعي مماثلة شكلا كالحالة اللبنانية. ففي العراق ينحو الانقسام المجتمعي الطائفي منحى فوقيا وأفقيا، بمعنى أنه لم يكن في يوم ما انقساما نوعيا وعموديا أو منتجا لماهيات كيانية طائفية أو إثنية متكاملة لها ممثلوها وبرامجها. إنها بكلمات أخرى تشكلات مؤقتة أملتها ظواهر خاصة كظاهرة تشيع القبائل العربية العراقية في القرون الماضية أو ظاهرة انطلاق حركة استقلالية فاعلة ومتقطعة في وسط وجنوب العراق خلال الحقبة العثمانية. ويمكننا هنا الإشارة الخاطفة إلى الثورة الثلاثية التي قادها سنة 1778 شيخ تحالف عشائر "المنتفك " ثويني العبد الله وشيخ عشائر "العُبيد " الشاعر سليمان الشاوي وشيخ تحالف عشائر "الخزاعل" حمد آل حمود، وشهدت هذه الثورة أول مطالبة بقيام دولة عراقية عربية مستقلة، وكانت التحالفات العشائرية الثائرة خليطا من السنة والشيعة.
إن السبب في ذلك التنوع وتلك المطالبة السيادية نجده في قوانين وآليات الظاهرة الزراعية في العراق والتي نجد خلاصتها في التحويل القسري لمجتمع زراعي مشاعي مسلح أسماه الباحث في علم الاجتماع التاريخي حنا بطاطو ذات مرة "مجتمع الديرة المشاعي" إلى مجتمع إقطاعي تقليدي باستعمال وسائل قسرية " قانونية" لتغيير شكل ملكية الأرض والحيازات الزراعية وحركتهما الاجتماعية، تلك العملية التي بدأت بتردد وحذر في العهد العثماني وأكملها بمزيد من العنف والقوة الاستعمار البريطاني وأدت إلى دمار المجتمع المشاعي المسلح ومعه تم تدمير الزراعة العراقية الأمر الذي بلغ ذروته التصحيرية خلال حكم البعث الذي وصل به العبث إلى درجة تغيير مسار الأنهار وتجفيف المسطحات المائية... الخ. ولم تكن كلتا الإدارتين العثمانية فالبريطانية غافلة عن حقيقة أن العراق الحقيقي هو حقل الحبوب والنخيل الممتد من أعالي بغداد إلى البصرة والذي سيتحول في عهد لاحق إلى حقل نفطي يرفده حقل آخر شمال بغداد هو حقل كركوك الأقل أهمية بكثير من جزيرة الجنوب الطافية على بحيرة نفط هائلة.
طائفية المشروع الاحتلالي:
يبدو المشروع الأميركي الحالي يتيما ومأزوما بل مقلوبا من الناحية المضمونية مقارنة بزميليه العثماني والبريطاني، ويبدو المروج له كمن يريد أن يستخرج الذهب من أسنان الموتى! فالمجتمع العراقي الخارج لتوه من أربعة عقود من الحكم الشمولي الدموي أنتج من دون أن يقصد أو يدري برنامجا مضادا لواقع الحال الذي حاول فرضه وهو البرنامج الذي يعيشه ويحلم به ويعمل من أجله الجمهور العراقي الواسع والذي لن تنجح أحزاب "مجلس بريمر" في بلبلته وتضبيب وعيه المعادي تلقائيا وبفعل سنوات الجمرة الماضية لكل ما هو شمولي وطائفي وعنصري والذي نسميه البرنامج الديموقراطي المقاوم للاحتلال وللطائفية معا.
إن التحليل السابق لتاريخية الحالة المجتمعية في العراق لا ينفي قطعا ظاهرة النزوع الطائفي "السُّني" في قمة الدولة العراقية منذ لُفِّقَ الحكم الملكي تلفيقا كحل مستورد لمأزق الوجود الاستعماري البريطاني في أعقاب الثورة العراقية الكبرى سنة 1920.
ولقد أنتج ذلك النزوع الطائفي والإثني ظاهرتي التمييز الطائفي ضد العرب الشيعة والتمييز الشوفيني ضد الأكراد وحتى ضد التركمان والكلدان والآشوريين. إن الحلول التي يقترحها المشروع الاحتلالي الأمريكي هي حلول كارثية تماما لأنها ستنتج مهما علا صراخ المحتلين "الديموقراطي" ظاهرة التمترس والانقسام العمودي الطائفي. صحيح أن ظاهرة "المغبونية الشيعية" ستزول ولكن ذلك سيكون على حساب ظهور مغبونيات جديدة أكثر حدة وسلبية ومحتكمة لأفق الحرب الأهلية.
يقترح الاحتلال وحلفاؤه المحليون اليوم شكلا طائفيا محضا وتقليديا للدولة العراقية وإن أعلنوا العكس، وقد رأينا تجلياته في عملية تشكيل مجلس الحكم والوزارة التي انبثقت عنه، ويأتي الإعلان اليوم عن عزمهم تطبيق الخطوة الثالثة المتمثلة في تعيين رئاسة ثلاثية، فهل ستكون الطريق سالكة نحو دولة الرئاسات الثلاث كما في النموذج اللبناني؟
الرئاسات الثلاث:
حتى وإن كابر البعض ونفوا جملة وتفصيلا وجود أي مخططات أو نوايا لدى المحتلين أو حلفائهم المحليين والإقليميين لإقامة حكم طائفي، فإن لغة الوقائع تبقى هي الأقوى، وتحديدا الوقائع التي تطرقنا لها واندرجت في خانة الماضي فأصبحت حقائق لا يمكن نكرانها. يمكن لنا أن نستشرف منذ الآن رئاسة ثلاثية كتلك التي استقر عليها رأي بوش الصغير خلال لقائه الأخير بالباججي، مؤلفة من ممثل للشيعة هو عبد العزيز الحكيم مع أن أوساطا مهمة في الإدارة الأمريكية تنظر إليه على أنه ضللها في ما يخص ملف أسلحة الدمار الشامل، وقد ترشح بدلا منه البعثي المنشق أياد علاوي؛ وممثل للسنة العرب سيكون الباججي؛ وممثل عن الأكراد سيكون واحدا من اثنين: البرزاني أو الطالباني. هذا إن مرت الأمور بسلاسة ولم يندلع اقتتال بين الطرفين حول موضوع التمثيل الكردي!
غير أن المفاجأة الكبرى والتي يمكن استشرافها منذ الآن هي أن هذه الرئاسة التي يحلم المحتلون ومعهم بعض الدول المجاورة للعراق، وخصوصا إيران والسعودية، لا مستقبل لها إلا بدمار العراق. ففي هذا النموذج ستوزع الرئاسات على النحو التالي أو ما هو قريب منه: رئاسة الدولة وتكون لممثل الطائفة الشيعية في حال تأكد إحصائيا أنهم يمثلون ستين بالمائة من العديد السكاني، ورئاسة الوزارة لممثل السنة العرب، ورئاسة البرلمان لممثل الأكراد أو العكس. وبما أن النتائج محكومة بمقدماتها صوابا وخطلا فإن كارثة أكيدة تنتظر هذا المخطط الهادف لتحويل العراق إلى محمية نفطية خليجية أخرى، طائفية الإدارة، غربية الولاء، فاقدة السيادة والاستقلال.
الكارثة التي نعنيها هي الفشل التام والانهيار السريع لدولة كتلك لسبب بسيط هو أن الأرض المجتمعية غير الطائفية من حيث الجوهر ستلفظ هذا النموذج وتستبدله بآخر قائم على أسس الديموقراطية ومبادئ المواطنة الحديثة حيث المساواة والعدالة هما المظهر والجوهر. وهذا ليس إسقاطا رغبويا لطموحات ذاتية على واقع معين بل هو ما تشير إليه تفاصيل الأحداث في الأمس البعيد والقريب واليوم الحاضر. ما الذي تفعله أميركا عند فشلها؟ للإجابة عن هذا التساؤل تنبغي قراءة التصريح الذي أطلقه رئيس الوزراء التركي أردوغان وحذر فيه من خطر إقدام الأميركيين على سحب قواتهم بغتة وبسرعة، كما ينبغي فهم تصريح الجنرال الأميركي جون أبي زيد الذي أدلى به في نفس اليوم وحذر فيه من خطر اندلاع حرب أهلية على انه تهديد للعراقيين بأنهم إن لم يخنعوا ويكفوا عن المقاومة فسوف يلقى بهم وببلادهم إلى المصير الصومالي. ولا نعتقد أن مجتمعا صمد أمام غول الحرب الأهلية طوال تسعة أشهر، وفي حالة غياب تام للدولة، وفي ظل الاحتلال الأجنبي الدموي، والتفجيرات والمؤامرات الطائفية المخطط لها بحذق، ستؤول به الحال إلى المصير الصومالي أو اللبناني، بل إن الراجح هو العكس تماما. فإذا ما هُزم الاحتلال وانسحب بغتة وتم عبور مرحلة الفراغ السلطوي بسلام، فستتحرك آليات الكيانية العراقية نحو أفق آخر تكون الديموقراطية فيه هي الحل والعلمانية بوصفها الضامن لحياد الدولة وصمام الأمان الأكيد بين الأديان والطوائف والإثنيات.