|
مرتبات القطط السمينة والأزمة المالية العالمية
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 2432 - 2008 / 10 / 12 - 09:20
المحور:
الادارة و الاقتصاد
غريبٌ أمرُ عالمنا ، وعجيبٌ ما يحدث فيه اليوم ، وبخاصة دول العالم الثالث ، التي تقف على شرفة العالم تنتظر مصيرها المالي الذي سيقرِّرُهُ السادةُ وأباطرة المال والاقتصاد ! هل ما يحدثُ اليوم هو مسرحية هزلية من عدة فصول ، لم يشاهد العالمُ منها سوى فصلٍ واحد فقط ؟ أم أن ما يحدث من اضطرابات مالية واقتصادية ، أمرٌ مخططٌ له منذ زمن ، ليُعيد تذكير الناس بأن هناك سيدا واحدا في العالم ليس غير ؟ أم أن ما يحدث للعالم ، جاء جزاءً وفاقا بما فعل السفهاءُ بالمال، ونتيجة طبيعية لمقدماتٍ وممارسات ، كانت هي السبب فيما وقع من أحداث ؟ فأزمة الغذاء المفاجئة ، وأزمة الوقود المفتعلة ، وأزمة السيولة النقدية ، وجنون البورصات العالمية، كلها بمثابة ستارة المسرح ، التي حركها المخرجُ المسرحي ، ليبدأ عرض مسرحية " رقيق الألفية الثالثة " أو " الأسياد والعبيد " ؟ بسرعة البرق عاد الناس جميعهم عبيدا لما تبثُّهُ الفضائيات من أخبار وتحقيقات وتعليقات ، وبالمناسبة فإن الفضائيات ووسائل الإعلام من أبرز مُسببات الكارثة المالية والاقتصادية، وهي تقوم بعمل بروفة أخيرة لما قبل الانهيار، فاستبدلت وسائلُ الإعلام نجومها المعتادين من المحللين السياسيين، أو قارئي طوالع الرؤساء والأمراء والملوك، وأهل التبرير لما تقوم به بعض الدول من انتهاكات ، استبدلتهم بنجوم آخرين ، وهم المحللون الاقتصاديون ، وشرعوا في قراءة طوالع الاقتصاد العالمي ، ولبس أكثرهم مسوحَ الوعظ والإرشاد ، وصاروا يوجهون (قطيع) المشاهدين إلى قبلة العالم الجديدة ،معبد أصنام البورصات وأسواق المال . وهكذا حمل الأغنياء ثرواتهم فوق أكتافهم ، وشرعوا يجوبون الآفاق بحثا عن مكانٍ مُربحٍ آمن ، وأكبر الظنِّ بأنهم لن يفلحوا في إيجاده ، لأن السيد الأعظم هو واحد فقط ،الحاكم الآمر الناهي المُصرِّف المتحكم القاهرُ الجبار العنيد . هو هارون رشيد الألفية الثالثة الذي يقول لعالم اليوم : ضعوا ثرواتكم ، أنَّى شئتم ، فإن ربحها سيعودُ لي ! على وزن مقولة هارون الرشيد الذي خاطب السحاب قائلا له : أمطر حيث شئت، فخراجك سيعود لي . ما أزال أذكر في أواخر السبعينيات حدثا سيظلُّ يعمرُ ذاكرتي ما حييت ، كنت يومها شاهد عيان . فقد قام الرئيس الليبي معمر القذافي بصنع تجربة ، لا مثيل لها حتى في التاريخ ، فقد أعلن بصورة مفاجئة عبر وسائل الإعلام الوطنية خبرا يقضي بإلغاء النقود الليبية المتداولة من الفئات الكبيرة عشرة دنانير وخمسة دنانير وكانت هي أكبر الفئات ، ومنح المواطنين أسبوعا لاستبدالها بعملة جديدة ، كل فردٍ في مقرِ المصرف في مكان سكنه ، وبعدها ستُلغى النقودُ القديمة . يومها رأيت ما لم أره ، فقد كنت قبل هذا اليوم غير مؤمن بالمقولة التي يرددها كثيرون : المال يعادل الروح ، فاتضح لي بأن المقولة السابقة كانت صحيحة ، فأخرج الناس ما يملكون من النقود في بيوتهم ، كنتُ أرى أكياس النقود على الأكتاف وفي الأيدي تتكوم أمام المصرف الوحيد ، حتى أنني ابتسمتُ يومها حينما سمعتُ تعليقات الساخرين ، الذين أبرزتهم الضائقة فقال واحدٌ منهم مشيرا إلى الجمهور الكبير والحشد الضخم: أين الفقراء؟!! وقال آخر ، وهو يُشير إلى رجل يحمل كيسا منفوخا برزم من أوراق النقد : انظروا ماذا يحمل فلان الذي كان قبل اليوم فقيرا ، يطلبُ الإحسان . وأشار ثالث إلى اثنين كانا قبل اليوم يدّعيان بأنهما غارقان في الديون، وكان يطاردهما الدائنون في كل مكان ، وكانا يهربان من تسديد ما عليهما بادعاء الفقر وضيق ذات اليد وقال مشيرا إلى ما يحملانه من أكياس مملوءة بالنقود : سبحان من قدّر لنا أن نراهما على حقيقتهما ! وقال ساخرٌ آخر : لم أكن أتوقع أن يكون الورم منتشرا إلى هذه الدرجة بين أبناء شعبي ، وهو يشير بالطبع إلى كثيرين ممن خجلوا أن يحملوا ثروتهم في أكياس أو حقائب لكي لا يراها الآخرون ، فقرروا أن يلبسوا أثوابهم الطويلة الفضفاضة ، أي اللباس الوطني (الجرد) في عز الحر ليتمكنوا من إخفائها عن الأنظار ، فكانت كتل النقود كأورام سرطانية فوق أجسادهم . واستعان كثيرٌ من الأغنياء ورجال الأعمال ممن يخزنون النقود في أكياسٍ كثيرة، ولا يثقون في المصارف والبنوك ، استعانوا بمن يعملون عندهم من العاملين الفقراء الذين لا يملكون شروى نقير من الليبيين وغير الليبيين، ليدخلوا النقود القديمة في حساباتهم الشخصية ، بعد أن كان أربابُ عملهم يضنون عليهم بأجرتهم الشهرية ، ويفتشون جيوبهم قبل أن يتركوا مكان عملهم ، وهكذا تذلل أرباب العمل للعاملين عندهم واستعطفوهم ورجَوهم أن يحملوا جزءا من النقود لكي يقوموا بتغييرها إلى العملة الليبية الجديدة ، قبل أن تُلغى ! كنتُ وما أزال أرى بأن ما يحدث اليوم من هزات مالية ، إن هو إلا دليلٌ على قرب حدوث الزلزال الأكبر الذي سيطيح بالأخضر واليابس ، ومن العلامات على الزلزلة ، احتكار الشركات الكبري وتسخيرها لمنفعة رئيسها الأول ، أو بعض المتنفذين فيها فقط ، بدلا من تحويل الشركات إلى شركات وطنية كبيرة تساهم في دعم الاقتصاد الوطني ، وأضربُ مثلا نموذجيا عن شركة كبرى في المجال الإعلامي ، وهي شركة هولينجر الكندية ، التي أسسها الملياردير كونراد بلاك ، فأصبحت شركة كبيرة لها أسهمها في البورصات العالمية ، وهي تملك أكثر من نصف الصحف في إسرائيل ، ولها عام 2001 أربعمائة صحيفة في أمريكا الشمالية ، فيما عدا القنوات والشركات التابعة لهولينجر . لم يكتفِ كونراد بلاك بثروته الطائلة ، بل قام بالاستيلاء على ستين مليون دولار من أسهم الشركة ، فطاردته المحكمة الكندية وحكمت عليه بالسجن ستة أعوام ونصف ، غير أن نفوذه المالي دفعه لأن يتخلى عن جنسيته الكندية ، ويهرب إلى بريطانيا ويصبح فيها اللورد كونراد بلاك في حماية بريطانيا العظمى، بدون أن تتمكن كندا من ملاحقته ، وهكذا أصبح الفردُ الغنيُّ أقوى من دولة كبرى . وبالمناسبة فإن ملف اتهام كونراد بلاك يحتوي على قصة طريفة ، وهي أنه أنفق في حفلٍ أقامه لزوجته في ساعات قليلة أربعين ألف دولار من أموال الشركة . وهذا يقودنا إلى قضية أخرى ذات صلة بهذه القضية ، وهي مرتباتُ مديري البنوك والشركات كما أسمتها صحيفة الديلي ميل البريطانية "مرتبات القطط السمينة" فقالت الصحيفة:" زادت مرتبات القطط السمينة عام 2008 بنسبة الثلث ، فقد وصلتْ معدلات المرتبات إلى تسعة ملايين دولار في العام للفرد الواحد ". وإذا أضفنا إلى قطط المصارف وثعالب المؤسسات التجارية أسودَ الإعلام فإننا نعثرُ على سبب رئيس من أسباب الانهيار ، فأسود الإعلام من أمثال تيد تيرنر ومردوخ وبيرلسكوني، وحتى مقدمي البرامج المشهورين من أمثال دكتور فيل وأوبرا ولاري كنغ وغيرهم ،ممن تبلغ مرتباتهم الشهرية أرقاما فلكية ، يعززون الزلزلة المقبلة. وإذا أضفنا إليهم مرتبات ذئاب صناعة الهايتك والمعلوماتية ، الذين يصل مرتب رئيس الشركة إلى أكثر من ميزانية وزارة في دولة مستقلة ذات سيادة . وإذا أضفنا إلى الأسود والذئاب فهود الإعلام في الفضائيات الصغيرة ، الذين يعملون في القنوات الفضائية ، والذين أصبحوا يهزئون بالوزراء ، لأن ما يتقاضونه من مرتب شهري يبلغ ضعف مرتب وزير في دولة من الدول . أما عن الفنانين والمطربين والممثلين وعارضات الأزياء ومن في حكمهم ، فحدّث ولا حرج ، وإذا رغبنا في إكمال الصورة فإننا نُعرِّجٌ على الرياضيين من أصحاب الأقدام الذهبية ، فنجد أن دولةً من الدول تدفع لصاحب قدمٍ ذهبيةٍ في شهر واحد ضعف ما تدفعه لمنظومة من رياض الأطفال في سنة كاملة . وقد تشتري دولةٌ من الدول عضلاتِ أحد الرياضيين بأضعاف ما تشترى حقوق النشر والتأليف لمئات الكتاب والمؤلفات. مُضافا إلى ما سبق ، فإن البنوك الكبرى وفَّرت مظلة حماية لعصابات التهريب والإجرام والاتجار بالممنوعات ، فاستحدثت قوانين لحماية هؤلاء تحت مسمى (غسيل الأموال) فأصبحت معظم الأموال المودعة في البنوك مجهولة المصدر، فالمهم هو جمعها وإيداعها في المصارف والبنوك فقط ، وصارت المصارف تتنافس على استقطابهم وضمهم إلى عملائها . والأغرب أن مرتبات من يعملون في المؤسسات والجمعيات التي ترفع شعارات الديموقراطية ، ومرتبات العاملين في المؤسسات الدولية ذات الصبغة الإنسانية ، تُشعر الفقراء والمساكين في أوطانهم بالذلة والعجز ، لأن مرتباتهم الباهظة لا تتناسب وطبيعة ما يقومون به من أعمال . لقد انقلبتْ الصورة ، فأصبح العاملُ المُنتجُ لا يشتكي من ضآلة المرتب فقط ، بل يعاني من الفقر والفاقة والعوز . فمربي العقول من المدرسين النابغين ، يتقاضى في الشهر الواحد ، أقل من ثمن فاتورة غداء لأربعة أشخاص في مطعم فاخر . وكاتبٌ نحرير ، وعالمٌ قدير ، وناشر كبير، يتقاضى في الشهر الواحد أجرة عن فكره وإبداعه ، أقل بكثير مما يُدفع لمغنٍ يُغني أغنية واحدة فقط في عرس ابن أحد الموسرين . أليست تلك أخطر المؤامرات وأبشعها في الألفية الثالثة؟ وكأن أباطرة المال يقولون للعالم : العمل الوطني المُنتج رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه ، فالمجد كل المجد لمن يتخلصون من وصمة عار المصطلحات البائدة " العمل المنتج ، والثقافة ، والتربية والإبداع " . ويقولون أيضا : خدمة الأوطان وكل التضحيات المخلصة تراثُ بائد ، وهي أحجارُ عثرة في طريق قطار العولمة السريع . ويقولون أيضا : الذَِلة والمهانة لمن يبذلون الجهود من أجل أوطانهم ، هؤلاء سوف يعيشون في عناء ، ويموتون مقهورين . أما من يتبقَّى من سلالة المخلصين ، فسوف تجعلهم العولمةُ عبرةً لمن لا يعتبر .
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تسفي ليفني في الدين اليهودي
-
أسمهان ونابليون الحكيم
-
مزايا وأفضال الهاتف الجوّال
-
هل يُسجن أولمرت كما سُجن أرييه درعي ؟
-
أنواع أقلام الكُتَّاب
-
الرقابة الذاتية عند الصحفيين الفلسطينيين
-
ماذا بقي من اليسار الفلسطيني؟
-
موسم القحط الثقافي
-
بذرة خضراء.. آخر أُمنيات محمود درويش
-
الفضائيات والتلوُّث العقلي
-
هل تبخَّر اليسارُ الإسرائيلي ؟
-
نصائح للراغبين في ركوب قطار العولمة !
-
هل المثقفون هم فقط الأدباء؟
-
أوقفوا (جموح) الصحافة الإلكترونية !
-
الآثارالعربية ... ومحاولة هدم الأهرامات !
-
كتب مدرسية ( مُقرَّرة) في الجامعات !
-
عوالق شبكة الإنترنت !
-
من يوميات صحفي في غزة !
-
الإعلام وصناعة الأزمات !
-
محمود درويش يبحث عن ظله في الذكرى الستين للنكبة !
المزيد.....
-
-خفض التكاليف وتسريح العمال-.. أزمات اقتصادية تضرب شركات الس
...
-
أرامكو السعودية تتجه لزيادة الديون و توزيعات الأرباح
-
أسعار النفط عند أعلى مستوى في نحو 10 أيام
-
قطر تطلق مشروعا سياحيا بـ3 مليارات دولار
-
السودان يعقد أول مؤتمر اقتصادي لزيادة الإيرادات في زمن الحرب
...
-
نائبة رئيس وزراء بلجيكا تدعو الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات
...
-
اقتصادي: التعداد سيؤدي لزيادة حصة بعض المحافظات من تنمية الأ
...
-
تركيا تضخ ملايين إضافية في الاقتصاد المصري
-
للمرة الثانية في يوم واحد.. -البيتكوين- تواصل صعودها وتسجل م
...
-
مصر تخسر 70% من إيرادات قناة السويس بسبب توترات البحر الأحمر
...
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|