رحيل الرئيس حافظ الأسد وتسلم بشار الأسد السلطة في سوريا بديا كحدث استثنائي. ولاشك في أن موقع سوريا ودورها الإقليمي، وكذلك سياستها فيما يتعلق بمفاوضات السلام، هو ما أعطى كل هذه الأهمية الاستثنائية للحدث ذاك. وهذا السيل من المقالات والدراسات والتعليقات والتصريحات التي تمجد حيناً، وتنتقد بقسوة حيناً آخر، يلخص كل ذلك، ويوضح أهمية اللحظة تلك. إننا إزاء لحظة تفجرت فيها المواقف لتنشر فيضاً من الآراء المتناقضة وتطرح وضع سوريا على بساط البحث، كما تفتح الأفق على ما يراد من سوريا ولها.
فمن جهة تكثّفت لحظة التمجيد وتوسّع التوكيد على الخسارة الكبيرة، محددة للرئيس الأسد صورة زاهية وإطاراً واسعاً، ملخّصة فيه مشروع نهضة مجهض، ومُكبرة مواقفه الصلبة والمبدئية في إطار عملية السلام. ولقد تأسست هذه الثورة الزاهية على ما هو قومي عموماً، انطلاقا مما آل إليه الوضع العربي، ومما أفضت إليه مفاوضات السلام من اندفاع محموم نحو عقد اتفاقات تنهي الصراع المستمر منذ مائة عام. وكذلك من ميل نحو «التطبيع» انطلاقاً من قناعة بأن هذا الكيان الذي ألغى فلسطين وتأسس على جثّتها، بات جزءاً عضوياً من الشرق الأوسط، ومن الحكمة التعامل معه انطلاقاً من هذه الحقيقة البسيطة. ليبدو ما هو طبيعي «كاستثناء»، والاستثنائي، لكي يصبح كذلك، يؤسس على التضخيم، فيكون التمجيد هنا ضرورياً. ولاشك في أن هذه المواقف القومية أثارت الإعجاب، وأثرت ـ في حدود معينة ـ في الوضع العربي العام، لكن من الضروري أن نلحظ أن آليات التمجيد الداخلية طالت كل شيء وانطلقت من كل شيء.
من جهة أخرى، كان غياب الأسد مناسبة لإعلاء صوت وتأكيد موقف ونقد سياسات، كان بعضها يتعلق بموقف الرئيس الأسد من «عملية السلام»، لكن علا الصوت هذه المرة من الطرف المقابل، من العدو للتأكيد على التشدد وعدم المرونة والتصلب، وهو ما كان يعطي الأسد مصداقية ما، ويؤكد تلك الصورة الزاهية. لكن معظمها انطلق من الوضع السوري الداخلي، مشيراً إلى ما آل إليه الاقتصاد، وما وصل إليه الوضع الشعبي. وبشكل أوسع «انفجرت» الملاحظات حول طبيعة النظام الذي أسسه الرئيس حافظ الأسد، حول الطابق الشمولي للسلطة، وحول الشخصنة التي حكمتها.. وهنا كانت الديمقراطية في أساس كل هذا الانتقاد. وكانت مسألة التوريث في نظام جمهوري مدعاة للرفض والانتقاد، واعتبرت النتيجة المنطقية لشخصنة السلطة، وعودة لأشكال الحكم الملكي. ولقد جاء هذا النقد ـ بالأساس ـ من المتضررين المباشرين من طابع السلطة ذاك.
إننا، بالتالي، إزاء مستويين من تناول الحدث، و إنطلاقاً من موقفين متناقضين، رغم التداخل بينهما أحياناً. وإذا كان الرئيس الجديد قد ميّز، في رؤية الأسد، بين المستويين الخارجي والداخلي، ليؤكد صحة الأول وخلل الثاني، عازياً ذلك «ربما إلى أفراد السلطة الآخرين، الذين لم يطبقوا استراتيجية داخلية مطابقة لاستراتيجية الأسد الخارجية، فسنلاحظ أن رابطاً يقوم بين المستويين، وفي الاتجاهين؛ بمعنى أن الأسد كان هو المركز، وكان هو ذاته الرابط، وبالتالي كان هو المحدد للاستراتيجيين فهو الذي صاغ هذا النظام المشخصن، وأسس ذلك الطابع الشمولي، واختار هؤلاء الأفراد. إنه بالتالي، نظامه بامتياز. وإذا كنا نرى أن في ذلك الموقف القومي من إيجابية، ونشير إلى ما في الوضع الداخلي من مشكلات، فهل من منطقية تربط بين الاستراتيجيتين؟ وبالتالي هل يمكن لسلطة كهذه أن تحقق استراتيجيتها الخارجية؟
لفهم ذلك من الضروري الدخول في العمق، عبر دراسة التكوين كله، حيث لا يمكن تلخيص نظام في فرد، رغم كل الشخصنة التي تحققت، ورغم كل الفردية التي كانت بادية للعيان؛ لأن لكل ذلك مق ـ أساس، ولان كل ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا في إطار تكوين اقتصادي اجتماعي مهيىء، حيث أن الميول الفردية لا تلعب هنا سوى دور معينٍ يمليه هذا التكوين انطلاقاً من هذا الأساس. سأبدي بعض الملاحظات العامة كمدخل ضروري، ربما يمثل أرضية تساعد على الفهم.
إن تناول لحظة حافظ الأسد لا يمكن أن تكون خارج سياق تاريخي، ولا خارج صيرورة واقع محدد، والسياق هو سياق تشكل الحركة القومية العربية، ومن ثم استلامها السلطة في عدد من البلدان العربية، وسنلمس هنا، بالتالي، أوجه التشابه بين دول حكمتها أحزاب قومية (فشلت في توحيدها على الأقل): فلقد تشكلت الحركة القومية العربية في ظرف يحمل سمات ثلاث، أولها: السيطرة الاستعمارية على الوطن العربي، وثانيها: سيادة تكوينات إقطاعية، وثالثها: تبلور ميول مدينية تهدف إلى تحقيق التحديث والتقدم، إضافة إلى تفاقم مشكلات الريف. لهذا هدفت الحركة القومية العربية إلى مواجهة الاستعمار (وبالتالي السعي إلى تحقيق الاستقلال) وتصفية الإقطاع (الإصلاح الزراعي)، وتحقيق التحديث والتقدم (التصنيع والوحدة العربية)، مما جعلها تستقطب قطاعات ريفية و مدينية تطمح ـ بهذا القدر أو ذاك ـ إلى تحقيق ذلك، انطلاقاً من مواقعها الطبقية.. وإذا كان الحزب قد استقطب فئات مدينية وريفية، فإن الجيش كان مجال استقطاب فئات ريفية (في الغالب)، وربما كان فقر الريف وأزماته في أساس هذه الظاهرة، التي سيكون لها دور فاعل، وتكون في أساس تكوين تشكّل منذ استلام الجيش للسلطة، هذه القوة المنظمة والفاعلة التي همشت الحزب وأخضعت السياسية، وعبرها حل الريف ذلك التناقض العميق الذي يسكنه منذ عقود، ولم يتحقق ذلك إلا بعد تصفيات داخلية متتالية.
وإذا كان هدف تحقيق الوحدة العربية أولوية حاسمة مع نشوء الحركة القومية العربية، فقد تراجع إلى الخلف حين طغت مسألة حل التناقضات الداخلية وأصبحت السلطة وسيلة حل هذه التناقضات، ليتحول هذا الهدف إلى «شعار» فارغ.. وغطاء مفقَر، وليتحول العمل القومي إلى ملحق. بمعنى أن السلطة «كيّفت» الشعار والعمل القوميين وأخضعتهما لشروط داخلية.
ويمكن لنا أن نحدد هذا التناقض في مستويين، الأول: يتعلق بالريف، وهو الميل المتعلق بحل التناقض بين الفلاحين والإقطاع، والمحدَّد في حل مسألة الأرض، عبر إعادة توزيع الملكية الريفية بين الفلاحين (وهو ما تحقق عبر ما اسمي بالإصلاح الزراعي)، والمستوى الثاني: مديني، يتعلق بإنهاء الاستغلال الرأسمالي، وكذلك بالميل نحو التحديث والتصنيع.. وكان حل التناقض في الريف يسهم في تحقيق التحديث والتصنيع، لأنه كان يفتح الأفق لتدفق الأيدي العاملة من جهة، ولتشكيل سوق للصناعة من جهة أخرى، كما كان الميل نحو التصنيع يفتح الأفق لإعادة توزيع الثروة عبر دور الدولة الاقتصادي. بمعنى، أن الفئات المدينية كانت تسعى لفتح أفق التطور، بينما كان «هم» الريف يتحدد في إعادة توزيع الثروة العامة (وليس الأرض فقط). وبالتالي، كان مقصد الفئات الريفية التي ستغدو هي السلطة تحقيق مستوى من التطور (التصنيع والتحديث) يفضي إلى هذه النتيجة؛ فكانت سيطرة الفئات الريفية هذه على السلطة مجال الانتقال من حل التناقض في الريف (عبر توزيع الأرض، وهو ما تحقق في مرحلة أولى)، إلى تجاوز القهر التاريخي، الذي كان يتمثل في نهب التراكم المتحقق في الريف، وتحويله إلى المدينة، تجاوزه عبر إعادة توزيع الثروة في المجتمع ككل، وكان ذلك يفترض قهر المدينة، وبالتالي قهر المجتمع عموماً. إنني أتحدث هنا عن الفئات الريفية، التي تحكّمت بالسلطة بعد انقلابات متتابعة، وعن ميلها لإعادة توزيع الثروة، وهنا نلمس أن آليات التوزيع هذه قادت من جهة إلى تحقيق فائدة عامة للمجتمع ككل وللريف خصوصاً (عبر مجانية التعليم، وتوظيف الرأسمال في المناطق الريفية، وفتح مجال العمل في الدولة و في مشاريعها، وتقديم الخدمات العامة..) عن طريق تخصيص كتلة أكبر من الرأسمال للريف.
لكنها قادت، من جهة أخرى، إلى تحقيق «إفادة» خاصة، ابتدأت بالإمتيازات لتصل إلى تحقيق التراكم الرأسمالي الخاص، عبر نهب مؤسسات الدولة، وما توفره السلطة من امتياز يفتح مجالاً للسمسرة والتهريب و«السرقة». في هذه اللحظة تكون الدولة (والمجتمع بالأساس) قد دخلت في مرحلة التخثر، حيث يكون التطور قد توقف، وأصبحت مؤسسات القطاع العام مجال نهب واع ومنظم، ويستمر تكوينها هذا ما دامت تحقق استمرارية النهب، لتتشكل فئة «رأسمالية» تكنز الرأسمال دون أن توظّفه (أو يمكن أن توظفه جزئياً) في الداخل، بل تسعى لتصديره إلى المراكز الرأسمالية. لكن استمرار النهب يوصل الدولة ذاتها إلى مأزق عام، مما يؤسس لنشوء ميل نحو «الانفتاح الاقتصادي» وإلى الخصخصة وحرية السوق ودور القطاع الخاص، و إلى الالتزام بسياسات صندوق النقد الدولي، وبالأساس تحوّل الفئة المسيطرة إلى جزء من طبقة برجوازية، تجمع شتات الطبقة القديمة والأثرياء الجدد.
وهذا التكوين، من أساسه، يفترض تأسيس نظام سياسي «أبوي»، ينطلق من «مفاهيم تقليدية» تقوم على أساس شمولية السلطة وتحكُّمها بآليات المجتمع، وبالتالي سيادة وحدانية الرأي والتعامل مع الشعب ك«رعايا» ـ من درجة أدنى ـ وتعميم التنكيل بالآراء والأحزاب الأخرى (وبالتالي انتشار ظاهرة القمع والاعتقال وتدخل الأجهزة الأمنية بكل تفاصيل حياة البشر..). وإذا كان تحقيق التطور في مجتمع مخلفّ يفترض «مركزة السلطة» كما يفترض «مركز التراكم».. وأن تلعب الدولة دوراً اقتصادياً محورياً.. فإن هذه الفئات أعطت للسلطة بعدها الأكثر فظاظة، صبغتها بشكل من الحكم استبدادي. وأعتقد أن أولوية إعادة توزيع الثروة لمصلحة الريف ابتداء، ومن ثم ـ وأساساً ـ لمصلحة هذه الفئات الحاكمة، كان يفترض هذا الشكل من النظام السياسي (من هنا تراكب تحقيق التطور ـ في مرحلة أولى ـ وتكوين سياسي «تقليدي»). ولقد أصبح يفترضه أكثر في «مرحلة التخثّر»، لكي يتحقق النهب دون مقاومة أو حتى دون ملاحظة. فضمان «استقرار السلطة» و الشخصنة المعطاة لها، عبر القوة والقهر (بالاستناد إلى قوة عسكرية/ أمنية موالية)، وبالإفادة من (أو الإتكاء على) كل البنى التقليدية (الطائفية والقبلية)، وبإلغاء حرية الرأي والصحافة والأحزاب، وكذلك عبر انتخابات شكلية جداً (ومزورة بالضرورة)، كلها أمر ضروري لتحقيق ذلك. لهذا أصبح القهر أشد ضراوة في مرحلة النهب المنظم، للتغطية على النهب، ولكبت ردود الفعل ومفاعيله شعبياً، فهو يقود ـ بالضرورة ـ إلى انهيار الوضع المعيشي وتضرر قطاعات واسعة.
لكن كل ذلك يعمّق في أزمة السلطة وأزمة المجتمع عموماً، مما يطرح على السلطة ذاتها، ضرورة التغيير في الآليات، آليات الاقتصاد وآليات السياسة، وعادة لا يتحقق ذلك إلا بموت الرئيس، وبالتالي تغيّر موازين القوى في السلطة ذاتها، والاحتمال الممكن هنا ـ في سوريا الآن كما في تجارب سابقة ـ هو العودة إلى حرية السوق والخصخصة، وبالتالي إرتكاس التطور وإعادة ربط الدولة بآليات النمط الرأسمالي العالمي (العولمة اليوم)، وفي الوقت نفسه تحقيق (ديمقراطية) على مقاس رأسماليتنا، أي كاريكاتور ديمقراطية.
لهذا سنلاحظ بأن الخيارات المطروحة اليوم، تتحدد في الميل نحو «الاقتصاد الحر»، والتخلص من القطاع العام ومن دور الدولة الاقتصادي، وهو ما تعبّر عنه الفئات البرجوازية (التي تعمل في التجارة والسمسرة والخدمات غالباً) ولكن أيضاً فئات في السلطة تحلم بأن تصبح جزءاً عضوياً من هذه البرجوازية بعدما راكمت الرأسمال عبر النهب، وهذا يستلزم ـ كما أشرت ـ كاريكاتور ديمقراطية.. والخيار الآخر يتحدد في الديمقراطية وتفكيك آليات النظام الشمولي لمصلحة آلية ديمقراطية، وأعتقد أن حرية السوق تسكن هنا كذلك، وهنا يتوافق الخياران، لتبدو الديمقراطية وكأنها الصنو لحرية السوق ليبدو أن الحل يتحدد فيما هو غير مطروح (مُغْفَل)، وأقصد توافق دور الدولة الاقتصادي والديمقراطية، وهو الحل الذي «يشاع» بأنه وهمي، انطلاقا من تناقض «مركزة الدولة» والديمقراطية.