حمزة رستناوي
الحوار المتمدن-العدد: 2430 - 2008 / 10 / 10 - 05:52
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بداية سوف أقف في ورقتي هذه عند ثلاث محطات:
أولا ً: مفهوم الشكل
نحن البشر ننظر إلى الكائن – أي كائن- بوصفه شكلا ً , أي إن الكائن هو شكل الكائن
فالكتاب هو كتاب لأن له شكل كتاب,و كلمة كتاب باللغة العربية هي شكل, و يختلف عن شكل كلمة كتابbook باللغة الانكليزية مثلا ً , و الشجرة هي شجرة لأن لها شكل شجرة, و كلمة الشجرة هي شكل مؤلف من وحدات أصغر هي الحروف و هي كذلك شكل , و كلمة الشجرة – في اللغة العربية و أي لغة و أي كلمة - هي شكل كذلك
و الحصان هو حصان لأن له شكل حصان, و الإنسان هو إنسان, لأن له شكل إنسان,و زيد من الناس هو زيد نفسه لأن له شكل خاص به يختلف عن بقية أشكال غيره من الناس
و حرف الحاء هو حاء و ليس غيره, لأن له شكل خاص به
فالكائنات تتماثل في كونها شكل/ أشكال , و هذا هو الجزء الأول من عرضنا لمفهوم الشكل,و الذي لا يتكامل بدون القول أن تتماثل الكائنات في كونها أشكالا ً, و تختلف في طريقة تشكلها:
فالأشجار تتماثل في كونها أشجارا ً أي شكلا ً شجريا ً , و لكن لا يوجد أي شجرة تماثل – تطابق –شجرة أخرى في الوجود ؟
فلا بد من وجود اختلاف, فارق ما, بين شجرة و شجرة أخرى , مثلما لا بد من وجود اختلاف فارق ما, بين إنسان و آخر , فلا يوجد إنسانين متماثلين متطابقين, فحتى التوائم الحقيقية لا نعدم وجود اختلاف / اختلافات كثيرة بينها , اختلاف في الاسم و في التوقيت الزمني للولادة..الخ
فالتطابق بين الكائنات مجرد وهم , و الاختلاف هو بداهة وجودها كأشكال , لا نقصد بالشكل هنا نقيض المضمون أو الجوهر أو المادة, بل نقصد مفهوم الشكل
فحتى الجوهر أو المضمون أو المادة هي شكل بمعنى شكل/ طريقة تشكل
لنفترض – مؤقتا- أن الكرسي الخشبي هو كرسي لأن له شكل كرسي, و هو خشبي : لأن المادة المصنوع منها هي الخشب
المناقشة : الخشب الذي لا يتحوَّى في شكل معين, ليس بخشب , أي لا يمكن البرهنة على وجوده ,كمادة موجودة أو موجود , فلا يوجد خشب غير متحوَّى في شكل
فوجود الخشب مرتبط بوجود شكل " خارجي" خشبي , يتحوَّى في طاولة, كرسي, نشارة خشب , عمود كهرباء, جذع شجرة, طائرة خشبية..الخ
ثم إن الخشب كعمران كيميائي , يتألف من ألياف السيلوز , فالخشب هو طريقة تشكل معينة لألياف السيلوز,و السيلوز هو طريقة تشكل معينة لجزيئات الغلوكوز" عديد سكريد", و الغلوكوز هو طريقة تشكل معينة لذرات الكربون و الهيدروجين.., و الذرات هي طريقة تشكل معينة لوحدات أصغر منها..لا بل إن المادة – كما أثبت اينشتاين- ليست سوى طريقة تشكل للطاقة أي طاقة مكثفة
و نعود لمثالنا عن الخشب, يختلف نوع خشب عن نوع خشب آخر, باختلاف طريقة تشكل الألياف السيلوزية, و بالمشاركة مع مواد و عناصر أخرى
فالخشب هو طريقة تشكل للألياف السيلوزية, تختلف عن طريقة التشكل الموجودة في منديل المحارم مثلا ً
إذا فالجوهر أو المضمون أو المادة, ليست سوى طرائق تشكل " أشكال" , تتماثل في كونها أشكال, و تختلف في كونها طرائق تشكل.
" و هكذا فالكينونة شكل .. طريقة , و ليس لها وجود عيني جوهري , و لذلك فإنه لا يوجد مادة لها وجود عيني , و ذلك لأن المادة يمكن أن تصبح لا مادية , و يمكن أن يصبح اللامادي ماديا .. يمكن أن تصبح الكتلة طاقة و الطاقة كتلة وفق قانون النسبية لاينشتاين" "12"
- إن الشكل صيرورة حركية احتمالية نسبية:
- الشكل صيرورة حركية : فلا وجود لشكل ثابت, بل هناك شكل يخضع لفعل الزمن و تأثيره
فالشكل الإنساني يخضع لفعل الزمن , فشكل الطفل غير شكل الشاب ,غير شكل الكهل , و شكل الإنسان بعد ثانية مختلف عن شكله الآن
و يمكن إثبات ذلك بمقايسات مخبريه دقيقة , حيث تموت خلايا و تولد خلايا, و تجري مليارات التفاعلات الكيماوية ..الخ
و الجدار الذي تراه أمامك كان قبل آلاف السنوات رمال وتراب و صخور, ثم سوِّيَ لبنات ٍ
و من ثم جدار, ثم خضع لأعمال مختلفة, ليكون مناسبا للغرض الذي صنع من أجله,
و من ثم سيتأثر بفعل عوامل الزمن من حتّ ٍ و تعرية و هدم و تشويه و تحسين ...الخ
فالجدار هو صيرورة, و طريقة تشكل حركية, و لا وجود لجدار ثابت لا يتغير
2- الشكل احتمالي : حيث توجد إمكانات مختلفة لطرق تشكل الكائن, و باتجاهات مختلفة أقل أو أكثر حيوية , حيث يتعرض الإنسان- على سبيل المثال- لتأثير طفرات في شريط DNA تغيِّر من طريقة تشكله باتجاه عاهة جسمية أو نفسية أو قدرات متفوقة, أو حتى طرائق تشكل تتنافى مع الحياة نفسها , حيث قد يولد ميتا , و قد يتعرض الإنسان لإصابة – احتمال إصابة -بأذية فيزيائية أو مرضية ما, تغيِّر في شكل و طريقة تشكل الكائن الإنسان,
و احتمال هجرة إنسان أو عيشه في بيئة , أو تأثره لموقف معين, هذه كلها احتمالات تنعكس بالضرورة في طريقة /طرائق تشكله
و كذلك الجدار الذي تراه أمامكَ , يوجد احتمالات لا نهائية لوجوده, أو عدم وجوده, بأشكال مختلفة, فيمكن أن يكون جدارا ً معدنيا ً , أو إسمنتيا ً, أو معنويا ً , أو سميكا ً, أو رفيعا ً, أو مثقوبا ً أو كاملا ً , أو موجودا ً في مكان آخر, أو زمن آخر...الخ
3- الشكل نسبي : إن الكائن لا يوجد وجودا ً مجردا ً, ولكنه شكل /طريقة تشكل, ضمن البعد الزمكاني, و كما أنه لا وجود لزمان و مكان مطلقين, بل يوجد زمان و مكان نسبيان مرتبطين بالكائن , و هما ليسا ببعدين مستقلين عنه.
فلا يوجد أرض بالمطلق, و لا يوجد إنسان بالمطلق, و لا يوجد طفل بالمطلق, و لا وجود لجدار بالمطلق إلا بشكل افتراضي و رمزي , و هو افتراضي- رمز- ضمن سياق, و طريقة تشكل معينة , فالتعبير عن الكائن يتم عبر لغة رمزية, تقترب أو تبتعد كثيرا ً, أم قليلا ً عن المعايشة و التجربة الشعورية المرتبطة به .
فشكل كائن ما , يختلف عن شكل كائن آخر بالنسبة إليه تبعا للمناظير
فلا وجود لجدار مثالي مطلق , و لا وجود لمعرفة و حقيقة مطلقة , و لكن المعرفة هي :
شكل/ طريقة تشكل, وهي معايشة نسبية
فمشهد الجدار من أعلى , يختلف عن مشهد الجدار من أمام...الخ
و جدار السجن , غير جدار القصر , غير جدار حائط المبكى مثلا ً عند المتدين اليهودي, و الجدار يعني أمرا ً مختلفا ً تماما ً بالنسبة لمصممي اللوحات الإعلامية, أو المهندسين, أو السجناء أو الشعراء أو المشتغل في اللسانيات و علوم اللغة !؟
و إذا كان المنهج الأرسطي يقول بوجود جوهر و ماهية ثابتة, و أعراض تتغير"المقولات العشر لأرسطو" فإن المنطق الحيوي لا يرى وجود جواهر و ماهيات ثابتة , فالكون كله أعراض متغيرة أي أن الكون شكل/طريقة تشكل
ثانيا ً: مفهوم المصلحة
يمكن النظر إلى الكائنات كرموز ذات معاني و دلالات, يتم توظيفها في سياقات و تشكيلات , و يمكن قراءتها بوصفها مصالح
و بدلا ً من التركيز على المعاني و الدلالات - و لكونها ملتبسة- فيمكن مقايسة المصالح المرتبطة بهذه الدلالات /الأشكال التعبيرية.
المصلحة من الصلاح-عكس المفسدة- فلكل كائن صلاحية ما ,في زمان ما, في مكان ما, في بيئة ما, لدى إنسان أو مجتمع ما , يقول الشاطبي : " أن المنافع و المضار عامَّتها أن تكون إضافية لا حقيقية , و معنى كونها إضافية , أنها منافع أو مضار في حال دون حال , و بالنسبة إلى شخص دون شخص , أو وقت دون وقت" "13"
و ليس المقصود بالمصلحة هنا, ما يتداوله الناس من كونها تفيد :الأنانية و الأهواء الفاسدة و الرابطة النفعية المؤقتة , فغالبا ً ما تطرح المصلحة كنقيض للمبادئ ,و الإنسان المصلحي كنقيض للإنسان المبدئي , أقول حتى المبادئ في نهاية المطاف هي مجرد مصالح
فالزلاجة التي تجرها الكلاب صالحة كوسيلة نقل لدى سكان المناطق القطبية للإسكيمو و سيبيريا, و الجمال صالحة كوسيلة نقل في عصور ماضية في تضاريس صحراوية, و السيارة
وسيلة نقل صالحة للنقل في المدينة أو لمسافات قصيرة, و لكنها غير صالحة للسفر عبر القارات أو للسفر من الأرض إلى القمر.... و الخ
فالجدار الذي يسور المدن في العصور الماضية كان يتمتع بصلاحية ما, لصد هجمات الغزاة و الدفاع عن المدينة, و نفس الجدار انتقلت صلاحيته في العصور الحديثة بعد استخدام البارود و الأسلحة الحديثة ليكون معلما ً تاريخيا ًو سياحيا ً , يؤدي وظيفة جمالية و اقتصادية , برمزيته و ليس من خلال استعماله التقليدي
ونظام العبودية كان يكتسب صلاحية ما, في زمن مضى , زمن الاعتماد على القوة العضلية , و زمن تخلف المجتمعات عن إدراك مصالحها في تحرير العبيد, و لكنه فقد هذه الصلاحية, وقد تم تجاوزها باتجاه أكثر حيوية , من خلال دخول الآلة و التقنية, و تنظيم عقود العمل لقاء خدمات منزلية أو غيرها لا تتسم بالغبن و الامتهان إلى حد ما.
إن هناك " أشكالا ً / طرق تشكل" أكثر صلاحية من أشكال أخرى, و لا يوجد كائنات/ أشكال غير صالحة بشكل مطلق, فحتى القرابين البشرية التي كانت تقدم للآلهة , كانت تؤدي صلاحية ما ..صلاحية الاستقرار النفسي و العقائدي الذي يربط المجتمع, و قد تم تجاوزها باتجاه طقوس أكثر حيوية و صلاحية, كاستبدال الأضحية البشرية بأضحية حيوانية , و من ثم صلاحية الأضحية و استثمارها في إطعام الجائعين ومن ثم إشاعة مناخ من المودة و المحبة في الجماعة.
و صلاحية التضحية – وفق الطريقة التقليدية – في باحة الدار و بوجود الجيران تطورت باتجاه صلاحية دفع مبلغ من المال لهيئات خيرية أو ريعية تدير مسالخ وفق شروط صحية أكثر,
و بتنظيم لعملية توزيع الأضحية أكثر.
و حتى الحروب والقتل كانت و ما زالت, تتمتع بصلاحية معينة , صلاحية رد العدوان و الردع و صلاحية لجم بعض الناس عن ارتكاب جرائم شنيعة كالقتل و السلب و النهب.
و كذلك الشهادة و السرقة و الزواج و الكلام و السكوت و بر الوالدين أو عق الوالدين, و العقل و الجنون و الأخلاق كلها مصالح, أقل أو أكثر صلاحية من بعضها البعض؟
قد تكون المصلحة مادية أو معنوية, فالشاعر الذي يصفق له الجمهور, و يحيِّه بحرارة صاحب مصلحة في ذلك , و بل ربما يستغني عن البدل النقدي المخصص له, مقابل عبارات الثناء و المديح؟
و الصديق الذي يفشي بسرِّه لصديق, صاحب مصلحة في إشراك الآخرين همومه, و تخفيف التوتر النفسي الذي يعانيه
فالمصلحة في النهاية هي شكل/ طريقة تشكل , و هي بالتالي صيرورة حركية احتمالية نسبية
فكما أن الكائنات أشكال, كذلك فإن الكائنات يرتبط وجودها بمصالح, قد تكون مصالح أكثر صلاحية أو أقل صلاحية تبعا ً و ربطا ً بتحويات و ظروف تشكل و معايشة الكائن لأبعاد وجودة المختلفة.
فالمصلحة و الصلاحية لا تتجسدان في الفراغ , ولا هما تعبيرين مجردين , و لكن الصلاحية تتجسد في الحياة و التواصل , و بالتالي يتم مقايسة, و تقييم المصالح بناء على صلاحيتها لمعايشة الكائن/ الإنسان, لأبعاد وجوده , و تحسينها باتجاه الأكثر حيوية .
" إن عقلا ً خالصا ً, لا يسعه أن يكتسي بلباس اللغة إلا في وقت لاحق , لا وجود له, إنه , دفعة واحدة يتجسد في شبكات الفعالية التواصلية و في بُنَىْ العالم المعاش " "14"
فالعدل مصلحة و الظلم مصلحة, و لكن العدل أكثر صلاحية, و ليس ثمة فرق جوهري بين العدل و الظلم, فالظلم هي طريقة تشكل مَعيبة للحياة يعاني منه ملايين الناس, و لا يوجد إنسان لم يعاني من الظلم, و لو للحظة أو موقف واحد في حياته ؟
وعندئذ سيعايش و يقتنع بعدم صلاحية الظلم , و إذا كان هذا الإنسان نفسه يمارس الظلم على الآخرين فذلك لكونه يعاني قصور في المنسوب الحيوي لديه , و لأنه لم يتعرف بعد – و قد لا يتعرف – القانون الحيوي للكائن الإنساني, و الآثار المدمرة للجهل و الظلم و ازدواجية المعايير.
فالإيمان مصلحة و الكفر مصلحة, و كل ما في الأمر أن هناك تحويات للإيمان و الكفر, أكثر صلاحية من بعضها , و لنرى كيف أن الشاطبي ينهى عن التصريح بالإيمان الديني و تعابيرة عند تعارضه مع مصالح أكثر صلاحية منه: " يكون الإيمان – الذي لا أعلى منه في مراتب التكليف – منهيا ً عنه من جهة ما فيه من كسر النفس من إطلاقها , و قطعها عن نيل أغراضها و قهرها تحت سلطان التكليف الذي لا لذة فيه لها , و كان الكفر الذي يقتضي إطلاق النفس من قيد التكليف , و تمتعها بالشهوات من غير خوف , مأمورا ً به أو مأذونا ً فيه" "15"
إن كل نص مكتوب أو كلام أو صورة أو مشهد أو واقعة ...الخ هي علامة – مجموعة علامات - ذات دلالة تتشكل في هيئة مصالح معروضة , و لا يوجد نص /علامة بدون مصالح, فحتى كتابة الهذيان تبطن مصلحة ما , مصلحة تفريغ انفعال, مصلحة تواصل مع الآخرين, مصلحة احتجاج على الواقع و السخرية من نظام عقلي سائد ؟
و بدلا ً من البحث عن دلالات النص/ العلامة , و معانيه القريبة و البعيدة, يمكن أن نكتفي بمقايسة المصالح المعروضة و مقايسة صلاحيتها .
و لكن هناك من سيقول أنك تستخدم مصطلح المصلحة , و لكن مفهوم المصلحة تم استخدامه من قبل الفلاسفة و المتكلمين وبعض الفقهاء المسلمين و تم تفنيد وجهة نظر من يقولون بها "16"
أقول : لننظر إلى تعريف أبو حامد الغزالي الذي يقيِّد معنى المصلحة: " أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة , و لسنا نعني به ذلك, فإن جلب المنفعة و دفع المضرة مقاصد الخلق و صلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم , و لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع , و مقصود الشرع من الخلق خمسة: و هو أن يحفظ عليهم دينهم و نفسهم و عقلهم و نسلهم و مالهم , فكل ما يتضمَّنه حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة, و كل ما يفوِّت هذه الأصول هو مفسدة و دفعها مصلحة " "17"
فأنا لا أستخدم المصلحة هنا بمعنى المنفعة المطلقة على ما ذهب إليه بنتام و ستيوارت
" و لقد قل َّ الطعن على أصل المنفعة فضلا ً على أنه صار معتبرا ً كأنه الرابط الجامع بين الأخلاق و السياسة إلا أن شبه الإجماع هذا ظاهري فقط , فإن الناس اختلفوا اختلافا ً كثيرا ً في فهم المنفعة و تقديرها حق قدرها , و لذلك تشعبت مقدماتهم و تباعدت نتائجهم " "18"
و لا أستخدمها بمعنى " المحافظة على مقصود الشرع" و مقصود الشرع – وفقا لعلماء أصول الدين – هو مقصود يستنبط من النصوص المقدسة, و عبر ما اصطلح عليه بمصادر التشريع عندهم , فالمصالح - و فق ما أعرضها- ليست ايجابية بحد ذاتها أو سلبية, و لكنها تخضع لسياقات و طرائق التشكل المختلفة في المجتمع, بحيث تميل بها باتجاه الايجابية أو السلبية , و من هنا تكمن فائدة المنطق الحيوي و مقايساته, في مقايسة هذه المصالح, و مقايسة صلاحيتها و حيويتها بالاستناد إلى منطق متعدد القيم Multiple-Valued Logic, و مرجعيته البداهة الكلية للمصالح المشتركة
إن مفهوم المصلحة في المنطق الحيوي ليس فقط عكس المفسدة, كما هو عند الشاطبي و من حيث الدلالة اللغوية , بل و يمكن النظر إلى المصلحة – و فق المنطق الحيوي- كصلاحية للكينونة و طرائق تشكل هذه الكينونة و حيوية كل طريقة من هذه الطرق , بحيث تتحواها لتكون احتوائية, تجديدية,توحيدية برهانية بديهة, مستقبلية , و لتبين أوجه قصور هذه المصالح عن بلوغ ذلك!
المصالح – وفق المنطق الحيوي تتعدى الفهم المباشر لها لتتحوَّى كل ما هو فردي, و اجتماعي سياسي أو اقتصادي, لا بل و كوني , بشري و ما هو غير بشري
فالشكل المناخي أو البيئي له صلاحيات معينة و متعددة تتحوَّى طرائق تشكل تؤثر في طريقة عيش نباتات أو حيوانات بعينها ؟؟
إن المنطق الحيوي قد يستخدم لمقايسة مصالح جمالية, و يستخدم كذلك في مقايسات المصالح الرياضية و الالكترونية كما المصالح, الإعلامية و الاقتصادية و القرآنية أو الإنجيلية ..الخ؟
و لمزيد من الاطلاع يمكم مراجعة موقع مدرسة دمشق للمنطق الحيوي على الرابط
www.damascusschool.com
من هنا تكمن فائدة المنطق الحيوي بكونه يقدم المصالح بوصفها صلاحيات ذات قيم جبرية حيوية متعددة, ويمكن قياس قيم المصالح, و مقايسة صلاحيتها و حيويتها بالاستناد إلى خوارزمية وحدة مربع المصالح, و مرجعية البداهة الكونية للمصالح المشتركة .
..
- ثالثا ً: العقيدة شكل, العقيدة مصلحة
يمكن تعريف العقيدة - الدينية و غير الدينية – بالعودة إلى القانون الحيوي للمجتمع بوصفها بعدا من أبعاد الكينونة الاجتماعية , وهي ليست – فقط- مجرد تصورات و أفكار, تعنى بالإجابة على تساؤلات تتعلق بالحق والخير والجمال, والمقدس, ولكنها و قبل ذلك هي إيمان وولاء, يحدد مصالح عقدية فئوية ذات طابع وجودي و شعوري و حدسي من قبيل : من أين و متى و لماذا أتينا إلى الحياة؟
و إلى ماذا ننتهي؟
و لذلك تشمل العقيدة مجموعة الطقوس و العبادات و السلوكيات و القيم , و ربما الشرائع التي تنظم علاقة الإنسان بالميتافيزيقيا, و علاقته بالإنسان الآخر و المجتمع, و هذا تعريف عام .
فالعقيدة هي شكل / طريقة تشكل للتصورات و الأفكار و الطقوس و العبادات و السلوكيات و القيم و الشرائع, و تختلف العقائد عن بعضها فقط , في اختلاف طرائق و سياقات التشكل, و ينطبق عليها قانون الشكل الحركي الاحتمالي النسبي
فهناك عقائد ترى وجود عدة آلهة متشاركين في عملية الخلق و رعاية الكون و الإنسان , و هناك عقائد ترى وجود خالق واحد متفرد مسئول عن الخلق ورعاية الكون و الإنسان كالديانات التوحيدية , و هناك عقائد الحادية تنفي وجود خالق وعقائد لا أدرية , و هناك من لا يهتم كثيرا ً بهذه القضية.
و هناك عقائد تتبنى تصور للإله متعالي منفصل عن الخلق و متحكم به, كما أن هناك من يتبنى تصوُّر لإله عنصري يُعنى بشأن شعبه أو جماعة المؤمنين به,
و هناك من يتبنى تصور لإله متصل مع الخلق, كالقائلين بوحدة الوجود أو الحلول ...الخ
و ضمن العقيدة الواحدة هناك أشكال/ طرائق تشكل, مختلفة باختلاف المجتمعات و الأفراد و المصالح المرتبطة و المحتواة في العقيدة.
و على مستوى الطقوس هناك اختلافات في طقوس الصلاة بين العقائد , فصلاة المؤمن اليهودي تختلف في تعبيراتها الجسدية و اللغوية و الإيحائية و الوقتية عن صلاة المؤمن المسيحي , و عن صلاة المؤمن المسلم
و ضمن دائرة العقيدة الواحدة تختلف طقوس آداء الصلاة بين السنة و الشيعة مثلا ً, لا بل و ضمن المذهب الواحد و بين فرد و آخر, فلا وجود لصلاة على الإطلاق, و لكن هناك شكل صلاة يتحوى طرائق تشكل مختلفة و متعددة تبعا ً لصلاحيات مختلفة.
فالدين شكل/ طريقة تشكل, منها ما هو أقل صلاحية, و منها ما هو أكثر حيوية و صلاحية , أي أكثر معايشة لظروف و تجربة الكائن الإنساني
فالبعد العقائدي للوجود الإنساني هو نتاج معايشة لتجربة الحق و الخير و الجمال, وهو يُعنى أساسا ً بتعويض آلية القصور الذاتي و محدودية التجربة الإنسانية للكائن.
إنه بعد يتجسَّد في التاريخ فهو صيرورة حركية , وهو فاعل و منفعل ضمن حدود تختلف بين دين و آخر, و مجتمع و آخر, و فرد و آخر.
إن أصحاب العقائد و المؤمنين بدين ما, يرون أن شكل/ طريقة تشكلهم للدين, هي الطريقة الصحيحة, و ما عداها باطل خاطئ , أي إن ما عداها طرائق تشكل فاسدة
* و على اعتبار أن الدين كينونة كما ذكرنا فهو شكل و صيرورة حركية , و لبيان ذلك سأفترض مؤمنا ً مسيحيا ً على سبيل المثال:
سأقول له : ما لو ولدت قبل الظهور الجسدي للمسيح, هل سيكون شكل/طريقة تشكل إيمانك مماثل لإيمانك الآن؟ بالتأكيد لا؟
فالإيمان صيرورة حركية
و أقول له: ماذا لو ولدت قبل حركة الإصلاح الديني و ظهور البروتستانتية , هل ستكون بروتستانتيا ً ؟ أو هل يوجد هكذا احتمال على سبيل المثال؟؟
- و على اعتبار أن الدين كائن كما ذكرنا فهو شكل احتمالي
سأفترض هنا مؤمنا ً مسلما ً:
و سأقول له: ماذا لو ولدت في فلندا لعائلة مسيحية محافظة, أو عائلة متحررة من الإيمان الديني, هل احتمالات وجودك على ظهر الأرض كمؤمن مسلم هي نفسها؟
كما لو أنك ولدت و ترعرعت في عائلة مسلمة في مكة المكرمة قريبا ً من الحرم المكي مثلا ؟ هل كنت ستضمن إسلامك و كونك مسلما ؟! "19"
و بالتأكيد الإجابة سوف تكون لا ؟
و في سياق ذات الاحتمالية يمكن طرح تساؤل لمسلم متدين على مذهب الشيعة الإمامية, ماذا لو لم يقتل الحسين في كربلاء , أو أنه انتصر مع جيشه على الأمويين , و هذا احتمال قائم في السياق التاريخي ؟
هل سيكون هناك يوم عاشوراء و الطقوس المرتبطة بهذا الحدث و رمزيته؟؟
- و على اعتبار أن الدين كائن كما ذكرنا فهو شكل نسبي
فلكل إنسان وجهة نظره الخاصة تجاه الإيمان , فلا يوجد إيمان مجرد و مطلق, بل هناك إيمان يُتحوَّى في كائن إنساني , و يُتحوَّى في طرائق تشكل مختلفة بين فرد و آخر... و بين لحظة و أخرى
و سأفترض هنا مؤمنا ً يهوديا ً:
سأقول له : هل يتساوى إيمان اليهودي الصهيوني , مع إيمان اليهودي غير الصهيوني , هل لهما ذات طريقة التشكل؟
و هل يتماثلان في تصوراتهما حول الدولة الموعودة لشعب الله المختار؟؟؟
و موقفهما من قضية الشعب الفلسطيني؟
و هل يتماثل إيمان اليهودي المتدين المحافظ , مع إيمان اليهودي العلماني غير المتقيد بآداء الطقوس مثلا ؟ً
و هل يتساوى إيمان اليهود المهاجرين من أمريكا ذوي المستوى الاجتماعي و الاقتصادي الجيد, مع إيمان اليهود المهاجرين من الحبشة " الفلاشا " ذوي المستوى الاجتماعي و الاقتصادي المنخفض؟
و حتى أكثر من ذلك, هل يتماثل إيمان الشخص المُبتلى بمرض خبيث و ينتظر الموت, مع إيمان الشخص ذاته عندما كان معافا ً و صحيح البدن؟ بالتأكيد لا؟
باختصار الدين أي دين – بما فيها الأديان الوضعية و العلمانوية- هو طريقة تشكل و صيرورة حركية احتمالية نسبية.
ليس الغرض من النقاش السابق رفض الظاهرة الدينية, أو إهمال البعد العقائدي في حياة الفرد و الجماعة, و لكن تقرير بداهة أن الدين يتحوّى طرائق تشكل مختلفة فاعلة و منفعلة و متفاعلة مع الأبعاد الأخرى لوجود الإنسان
طرائق تشكل غير متماثلة تتحوّى في مصالح مادية و معنوية, أقل أو أكثر حيوية
فالإيمان الذي يحث على العدالة و المساواة بين البشر, أكثر حيوية و أكثر صلاحية للفرد و المجتمع من الإيمان الذي يأخذ الشكل العنصري و يبرر الظلم و ازدواجية المعايير.
و الإيمان الذي ييسر و يسهل و يختزل طقوس الصلاة مثلا ً في حالات الحروب و المواجهة إلى مجرد إشارة و لو بالرأس و العين, هو إيمان أكثر صلاحية و حيوية من الإيمان الذي يتشدد في آداء طقوس الصلاة التقليدية في أي ظرف كان؟
و الإيمان في صيغة /طريقة تشكله الإسلامية الذي يكتفي بخمس صلوات في اليوم , أكثر صلاحية و حيوية من الإيمان – الافتراضي- الذي يطالب المؤمنين بخمسين صلاة في اليوم على سبيل المثال...
و السواد الغالب من علماء أصول الفقه من المسلمين بسنتهم و شيعتهم و المعتزلة و غيرهم يرون
أن الشريعة وضعت لمصالح العباد لاحظ قول الشاطبي:" و المعتمد إنَّما هو أنَّا استقرينا من الشريعة, أنها وضعت لمصالح العباد استقراء ً لا ينازع فيه الرازي , و لا غيره , فإن الله تعالى يقول في بعثه الرسل و هو الأصل " رسلا ً مبشرين و منذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل و يقول :" و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " "20"
.....
ملاحظة : هذه المقالة "جزء من كتاب قيد النشر عن دار الفر قد بعنوان
" أضاحي منطق الجوهر"
"تطبيق مقايسات المنطق الحيوي على عينات من الخطاب الإسلامي"
"11" : كتاب المنطق الحيوي :عقل العقل - د رائق النقري ج1 – ص57
"12" القانون الحيوي للكون – 1975 د رائق النقري - مطبعة العلم – دمشق ص55
"13": الموافقات في أصول الشريعة – أبي اسحق الشاطبي – ج2 – ص39 مطبعة الشرق الأدنى بالموسكي
"14": القول الفلسفي للحداثة – هبر ماس – ترجمة فاطمة الجيوشي – إصدار وزارة الثقافة – دمشق
1995- ص 493
"15": الموافقات - مرجع سابق – ص28
"16" : للمزيد راجع كتاب ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية – محمد رمضان البوطي – المكتبة الأموية بدمشق 1967 .
"17" المستصفى في علوم الأصول – الغزالي – ج1- دار الكتب العلمية – بيروت 1983- ص286-287
"18" أصول الشرائع – بنتام- ترجمة أحمد فتحي زغلول – بولاق ج1 ص17
"19" لاحظ : " كل مولود يولد على الفطرة ثم إن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجِّسانه " حديث نبوي متفق عليه للاستئناس
#حمزة_رستناوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟