|
هل يخمد عطر الدين عفونة فساد الحكم الحلقة الأخيرة
سعيد مضيه
الحوار المتمدن-العدد: 2429 - 2008 / 10 / 9 - 09:30
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
4- أنتم أدرى بشئون دنياكم شهد زمن ابن تيمية مقاومة غزو الفرنجة وغزو التتار، وتذرع فقه " طاعة السلطان طوعا أو كرها " بذريعة التصدي للغزو الخارجي. وفي العصر الحديث تذرع الحكم بنفس الحجة لدى فرض التسلط ومنع الحريات العامة. حفر فقه السلاطين عميقا في الوجدان الجمعي، وجنى على حاضرنان وقد يضيع مستقبلنا؛ وكما هو متبع لدى الحركات السلفية يتم إغفال القضايا الاجتماعية من برامجها، وهي ما يطلق عليها شرعا " المقاصد العامة للشريعة". وسواء كانت شيعية أم سنية فالحركة السلفية تغيب قضايا الجماهير المحرومة والمسحوقة, و لا تولي الاهتمام بإحداث التقدم الاجتماعي. ومثال الثورة الإيرانية وحركة الإنقاذ في السودان واضح. حتى أن حزب الله الذي قدم للنضال المناهض للعدوان الإسرائيلي مثالا ملهما ونقطة تحول في مجرى الصراع، فأثار تقدير القاصي والداني، أصر على الحفاظ على النظام الطائفي في لبنان، وتعاون مع أمراء الطوائف في إقرار قانون انتخابي متخلف يحافظ على الطائفية. ويستحيل إنجاز مهمة التحرر بدون اقترانها بإشاعة الديمقراطية .
نجحت أنظمة الطغيان في العصر الوسيط في صد الغزوات ؛ لكن الأنظمة أفضت إلى تدهور مضطرد، اجتماعي وثقافي وسياسي، انتهى على مشارف العصر الحديث بعلاقة دونية تابعة مع الدول الأوروبية التي ظفرت بالديمقراطية وإمكانات التقدم. أورث الابتعاد عن مقاصد الشريعة مظاهر تخلف اعتاد عليها الوعي العام، حتى غدت مسلمات لا تناقش. وهذا أخطر ما في القضية. ونظرا لأنها لا تستفز الجمهور فهي تعمل كألغام تتفجر في الحياة الاجتماعية وتمزق النسيج الاجتماعي. ومن هذه المظاهر – الألغام احتكار الأصوليين حق التصرف بالشأن العام وتطاولهم على مخالفيهم بالتكفير، إي حكم الإعدام المعنوي أو المادي؛ ومنها أيضا تبخيس الفرد والمجموع، بما يناقض قوله تعالى " ولقد كرمنا الإنسان" ؛ تبخيس الأقليات الطائفية والعرقية ، وهو ما تنفذ منه القوى المعادية لخلق مراكز تخريب داخل المجتمعات العربية؛ غياب القوانين والمؤسسات المانعة للقهر الاجتماعي، الإبهام والتمويه في حق المواطنة؛ نظرة مشوهة تشيد بالتاريخ خالية من النقد أو المراجعة؛ نزعة قوية للتميز والتقوقع ضمن منطق القوانين والشرائع الخصوصية؛ إعفاء الحكم من رعاية شئون المجتمع ، وتوجه الناس إلى " أصحاب الكرامات" لقضاء حاجة حيوية أو رد مكروه؛ اللجوء إلى الأصول المنقولة عن السلف بحثا عن حلول لمشاكل الواقع ، رغم ان هذه الأصول مجربة ، وهي التي أوصلتنا إلى حالة التخلف والاغتراب عن العصر؛ أزمة في الهوية والعداء المستحكم بين الطوائف بتحريض من أمراء الطوائف، ما يفتح المجتمعات للفتن الطائفية؛ وأخيرا، وإجمالا لكل ما سبق منع تحديث المجتمعات العربية. هنا يكمن منبع التعارض، ثم الصراع بين دعاة التحديث ودعاة السلفية. ويتوتر الصراع حين يتمترس الكل خلف اتهامات جاهزة للخصم: علمانية "ملحدة" وظلامية تقبع في كهوف التاريخ. والعلمانية ليست ملحدة بالضرورة ، ولا الأصولية، بفصائلها كافة، تقبع في ظلام التاريخ . ويحفظ التاريخ أصولا يمكن الاسترشاد بهم؛ رغم أن الأصولية لا تحمل مشروعا استراتيجيا بقدر ما تنطوي على مواقف متبدلة عند كل منعطف. يتغذى الفصام بين الطرفين من المسبقات والأفكار المشوشة المشتركة والهيجانات النفسية والاحتقانات السياسية الناجمة عن الانغماس في نزاعات لا أمل بكسبها من قبل أحد، أكثر مما يستند إلى مقاربات عقلية وموضوعية. وغياب العقلانية في إدارة الصراع يولد قطيعة متزايدة بين الأطراف لا مخرج منها. ولذا يفضل الاحتكام إلى الحديث الشريف، وهو قاعدة فقهية علمانية بالمناسبة، " أنتم أدرى بشئون دنياكم" . الثابت في مسلك الأصولية أنها تكفر كل فتوى تخالف ما تذهب إليه، حتى لو استندت الفتوى إلى مقصد الشريعة الأساس، وهو مصلحة المجموع؛ بينما حيال فتاوى الإبقاء على التخلف يرفع الأصوليون قاعدة الفقهية الذهبية " للمجتهد إذا أصاب حسنتان ، وإذا أخطا حسنة". وكم من فتاوى مما "يثاب عليها بحسنة" مهلكة في بابها ، وهي مهلكة في مجالين : تزرع في جمهور المسلمين وهما بأننا نعيش في عالم معاد، خاصة بعد سقوط الإدارة الأميركية بأيدي المحافظين الجدد ، الأصوليين المسيحيين. ومن ثم يسهل تكريس الاغتراب عن هذا العالم وحضارته، حضارة الصناعة والعلم والديمقراطية، ثم الابتعاد عن القوى الإنسانية الحية داخل هذه المجتمعات والمستعدة للتضامن مع قضايانا العادلة. وثانيا تضع المسلم بين خيارين كلاهما مرير، حيث ساد وهم لدى الكثرة بأن الحفاظ على التخلف حفاظ على الدين. أما القضايا الحيوية والملحة لتعزيز القدرة الذاتية، مثل التقدم والحرية والتحرر والعدالة والالتحاق بالعصر ومكافحة الفقر والتخلص من البطالة والعنصرية وظلم النساء وانتهاك الطفولة وتدمير البيئة فلا تلقى الاهتمام من جانب التيار السلفي. تنطلق الحداثة بنوابض الحرية الفكرية والسياسية والاجتماعية؛ فهي الأساس الذي يقوم عليه بناء الفرد كمواطن مستقل ومسؤول، ومبدأ تربيته كمصدر وعي وصاحب إرادة ومبادرة، وضرورة ارتقاء انتمائه لرابطة حداثية تسمو على رابطة العشيرة أو الطائفة. أما مصادرة الحريات فهو المنطلق لإجهاض الحداثة وقطع الطريق على أي تقدم آخر، في الاقتصاد والسياسة والعلم والتقنية والإدارة والأمن الوطني والقومي على حد سواء.الحداثة تحكّم العقل في مختلف الأمور؛ ويحتل الإنسان موقع المركز في المجتمع الحداثي والفكر الحداثي، ويحل العقل بدل الخرافة ، والعلم بدل الوهم. ومن ثم فإن العقلنة، التي هي السمة الأبرز للحداثة، لا تنفصل عن الأنسنة وعن العلمنة. بل لعله من الممكن تحديد الحداثة بهذه المحددات الثلاث ـ العلمنة والأنسنة والعقلنة. في الوقت الراهن ينتصب خياران أمام المجتمعات العربية : فإما التقدم بإنجاز تنمية شاملة، بشرية ومادية وروحية ، وإما الخروج من التاريخ. فاستمرار العيش في هذا العالم لا يضمنه غير استثمار مدخلات العلم ، ليس استهلاكها وحسب ، بل المساهمة في إنتاج العلوم والتقاني. وهذا يتطلب إحداث ثورة في نظم التعليم وبرامجه ومناهجه، في المدرسة والجامعة. العالم يعيش ثورة معلوماتية بقيت المجتمعات العربية بمنأى عنها. والثورة العلمية التقنية تحدث تحولا نوعيا شاملا على العمل البشري. وكل ثورة في العلم تصطحب معها تطورا في حرية الإنسان وتزيد من سيطرته على بيئته الطبيعية والاجتماعية. وباتت العلاقة جدلية بين القوة المادية للدولة ومنتجاتها من العلوم والتقاني. وحين توفرت للولايات المتحدة فرصة احتكار تسعين بالمائة من الاكتشافات العلمية وجدت الفرصة مواتية كي تطالب العالم بالرضوخ لهيمنتها . الثورة العلمية الأولى ألغت الرق والقنانة ، ولم تعد الفتاوى تناقش موضوع العبودية. والثورة التقانية الجديدة تحل الأجهزة محل العمل العضلي وتقوم بوظائف العقل البشري؛ حلت الآلات محل عقل الإنسان . اذ أنها تستطيع القيام بعدد كبير من الأعمال الذهنية للإنسان وتؤديها بكفاءة اكبر في بعض الأحيان، رغم أنها لا تشتغل إلا بواسطة العقل البشري. ومن طرف مقابل أتيح لدولة من العالم الثالث ، ماليزيا، أن تحدث تحولا ثقافيا واقتصاديا أساسه ثورة في التعليم المدرسي والجامعي. الثورة العلمية التقنية المعاصرة لا يمكن أن يوجد فيها العامل المناسب الا باستيعاب قدر هائل من العلم والمهارات المكتسبة عن طريق التعليم والثقافة والتدريب. وقدمت مالاييزيا مثالا ملهما لثورة في التعليم تطورت معها القدرات المهنية والخبرات العملية للقوى البشرية، وتخلصت من التفاوت الذي كان قائما بين القوميات والجهات، و التي كانت تثير الحزازات العرقية والجهوية. كما أن ثورة الاتصالات تمخضت عن اتصال جماهيري يزود بالمعلومة والخبر والتعليق وفتح مغاليق الندوات والمؤتمرات أمام الناس العاديين، فتشركهم بذاك في تقرير الشئون العامة ، الأمر الذي يبطل مفعول الكبت السياسي. كما أن العرف لم يعد يقر ب"عقد نكاح الطفلة الرضيع شريطة وطئها وهي في التاسعة" ، كما تفتي الأصولية. فالزواج شراكة في تحمل أعباء البيت الجديد، أساسها القبول الطوعي الواعي والتكافؤ. والأعباء الأسرية تفضل خروج المرأة للعمل ؛ كما أن مهمات التربية البيتية للأطفال والصبيان تحتم أن تحظى الأم بقدر من التعليم والمعرفة والخبرة في شئون الحياة. ودحضت الأبحاث الفيزيولوجية في الدماغ البشري الفكرة الأزلية حول دونية المرأة بالنسبة للرجل. فقد تبين أن الطرق العصبية التي تربط أجزاء الدماغ لدى المرأة هي أطول وأكثر تعقيدا وتداخلا. وهذا يثبت تفوق المرأة في القدرة على الدخول في تفاصيل أي حدث وتسجيلها في ذاكرتها خلافا للرجل. لكن المعاملة التي تتلقاها منذ الطفولة تنظم عقلها وتبرمجه وفقا للتقاليد . وفي مجال الإدارة، يتجلى تخلف المجتمعات العربية، خاصة فيما يتعلق بإدارة الصراع مع إسرائيل. فالنزق والانفعالية والعفوية توهن من قدرة العقل على التحكم في الاستجابة للطوارئ والتحديات، وتخل بعلاقات الأفراد ضمن المجموع، وهو ما يتجلى في الفلتان ونزوية التصرف والأنانية والتشبث حول الذات. التشبث حول الذات self affirmation)) ، يعزل الفرد عن بيئته الاجتماعية؛ ومصدره ضعف في ما أطلق عليه "الذكاء العاطفي". إن مستوى الذكاء العاطفي عند المرأة أعلى منه عند الرجل، ولقد خصتها الطبيعة بذلك المستوى لأنها تحتاج إليه من أجل إنجاب إنسان جديد وإرضاعه وتربيته. وبات علم تشريح فيسيولوجيا الدماغ على بينة من أن معدل ذكاء الإنسان لا يُقاس من خلال قدراته العقلية لوحدها؛ إنما يقاس بمجموع القدرة العقلية والقدرة العاطفية. عندما يفقد الإنسان قدرته على التعبير عن مشاعره أو الإحساس بمشاعر الآخرين يعجز عن إقامة علاقات إنسانية ناجحة مثمرة مع الناس الذين يتعامل معهم. فقد يتمتع بعض الأشخاص بذكاء عقلي خارق لكنهم يفشلون على الصعيد العملي. ومؤخرا جرى فك اللغز. يعمل الذكاء العاطفي بانسجام مع الذكاء العقلي، والمتفوقون على الصعيد العملي يملكون معدلات عالية من كلا النوعين. وتؤكد الدراسات والتجارب أنه كلما ازداد العمل تعقيدا كلما تطلب إمكانيات عاطفية أعلى. وبدون الذكاء العاطفي يفشل الإداريون في مهامهم. يصعب استثمار المواهب والقوى الموجودة لدى الناس العاملين تحت الإدارة إلا إذا امتلكت الإدارة ذكاءً عاطفيا يؤثر فيهم وتتأثر بهم. والدرسات العلمية، وكما أشير سابقا، أكدت على أنه كلّما ازداد العمل تعقيدا وصعوبة كلما تطلب إنجازه مستوى أعلى من الذكاء العاطفي. لم يعد هناك شكّ في أنّ البنية التشريحية والكيميائية للدماغ عند المرأة تتفوق على ما عند الرجل. هكذا فالعلم يحسم الكثير من مقولات الفكر الأصولي. إن صناعة الحياة وبناء المجتمعات، لا يتمان بتقليد الآخر، ولا بتقليد السلف، بل بالخلق والابتكار للعناوين والصيغ والنماذج والوسائل التي نشارك فيها العالم المعاصر تقدمه عن طريق تنمية القوى المنتجة البشرية وإدخال الإنسان عضوا فاعلا في مجتمعه. ." أنتم أدرى بشئون دنياكم", هذا هو المبدأ الإسلامي الذي يتغافل عنه معظم رجال الدين، فيقحمون أنفسهم في أمور لا علم لهم بها, ويصدرون الفتاوى في قضايا هي من اختصاص علماء في تخصصات وباحثين منكبين على المختبرات العلمية ومراكز البحث. فمن سمات التخلف أن الجاهل لا يقر باختصاص ولا يحترم رأيا علميا، ويتجاسر من يطلع على كتابات قديمة بتنصيب نفسه أميرا يتوجب الانقياد له. الأستاذ الدكتور حسين مطاوع الترتوري ، أستاذ الشريعة والدراسات العليا بجامعة الخليل يقتبس في كتابه " وسطية الإسلام وواقعيته" مقتطفات من كتاب " الموافقات " للشاطبي. وهذا الفقيه المجدد الذي سبق زمنه ، هو الذي أقام اجتهاده الفلسفي عوداً إلى فكرة المقاصد الكلية للشريعة، فقام يستخرج من الشريعة مقاصدها بنوداً واضحات، التي هي مصالح العباد دنيا و آخرة، و أخضع هذا المستخرج لمقدرات واقع زمانه و لعاداته ، طالباً التبديل و التعديل وفق متغيرات الزمان و تقاليده و بشروط زمانه و مكانه. وكان أول من نبه إلى قيمة كتاب "الموافقات" الإمام محمد عبده، وأشار على أحد تلاميذه تحقيق الكتاب وإخراجه للدارسين. اشترط الشاطبي علي الفقيه أن يكون عارفا بعلوم عصره و متصلاً بواقعه، حتى ينزل مصلحة العباد، أي المقاصد الكلية للشريعة على هذا الواقع. ينقل الباحث عن الشاطبي قوله ،" المتأمل في سنة الرسول يجد أنه يراعي الواقع فيما يسأل عنه، مما يؤكد أن مراعاة الواقع عند الإفتاء شرط من شروط الاجتهاد، " (ص13 من مؤلف الأستاذ الدكتور.) وفي باب التيسير ينقل قول الشاطبي "وجب على الخائف من الموت سد رمقه بكل حلال وحرام من الميتة والدم ولحم الخنزير".(ص86) فليس هناك تحريم مطلق ولا إباحة مطلقة، والضرورات تبيح المحظورات. وهو يقترب من أبو حنيفة في الاستحسان العقلي: "وحفظت الشريعة أيضا أمور الناس التحسينية، وهي الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق" (119). وإلى جانب الشاطبي برز في ظلام العصر الوسيط المعز بن عبد السلام ينعي خلو الشريعة من العدالة الإجتماعية التي نادي بها القرآن وأحاديث الرسول. ومرق كالسهم في كبد السماء الإمام نجم الدين الطوفي، الذي اعتمد العقل والمصلحة العامة معيارا لصحة الإفتاء. وفي هذا يقول الإمام الطوفي "حيث تتحقق مصلحة الناس فثمة شرع الله"؛ ومن ثم فإن علي المفتي ألا يكتفي بنقل بعض مما قرأ في هذا الكتاب أو ذاك وإنما عليه أن يعمل العقل والمصلحة قبل أن يصدر فتواه. أما الأئمة مالك وأبو حنيفة والشافعي فقد حذر كل منهم من تقليده في فتاواه. لكن العقل الأصولي الملتحق بالسلاطين والمبرر لجورهم رتب أولوياته على تقديم النقل على العقل، الأمر الذي شكل حاجزا منيعا بوجه التجديد والابتكار واكتشاف الجديد، أو النظر في تغيير الواقع الموروث عن العصر الوسيط. لقد نشر السقم الثقافي الاختلالات في المجتمع العربي .. اختلالات في القيم والمعايير و في الهوية والمكانة الحضارية فاحتل تجار الدين مكانة رفيعة على منابره. فهل نستغرب إذ نجد العرب في مؤخرة المجتمعات البشرية المعاصرة في ميادين التنمية وقراءة الكتب وتأليفها وترجمتها وفي ميدان البحوث العلمية، وكذلك في ميدان الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان ومكانة المرأة ، حتى في مجال المباريات الرياضية؟ ولم يعد لغزا كون المجتمعات العربية هي الأعلى في باب الفساد ونهب المال العام. كيف تنهض المجتمعات العربية؟ هل تتم دفعة واحدة فكفكة جميع الألغام المتنائرة على أديم الحياة المجتمعية وتعطل الحراك التقدمي؟ أم أن هناك حلقة يهيئ حلها فكفكة السلسلة بكاملها ؟ ما هو الهدف الاستراتيجي المباشر؟ فمن أين نبدأ ؟ هل الأسلوب الكلاسيكي للتقدم ونفض القديم المتخلف خيار يمكن أن ينجح في ظروف العصر؟ فقد عبدت الثورة الصناعية دروب التنوير في أوروبا وحرقت الخرافات والأوهام تحت إشعاع العلم ومكتشفات العقول الجسورة؟ أم نشرع بمواجهة السلفية في فقهها المنغلق على "درء المفاسد"، وفتح آفاق جديدة للعمل في ميدان الثقافة بمنهج علماني وعقلاني يعتمد الإبداع والاجتهاد ويبتعد عن التقليد، من منطلق لا يعادي الدين بل يشهر وجهه الإنساني؟ أم نفك اشتباك السياسة بالدين، حيث يتخذ الدين تكئة لتحقيق أغراض دنيوية ومصالح جزئية؟ إن توظيف الدين في السياسة يخلع عنه طابعه الإنساني الشامل ويجرده من وظيفة إتمام مكارم الأخلاق. ونحن شهود السياسية تضطر صاحبها إلى الكذب والاختلاق والتزوير. هل الديمقراطية هي الحل، على غرار الإسلام هو الحل ؟ الديمقراطية كمفهوم لا تختلف عن الإسلام كمفهوم; كلاهما بهتت ملامحهما إثر التشويهات والاختزالات التي أدخلت عليهما. والديمقراطية نكتة سوداء مع وجود الألغام المنبثة في المجتمعات العربية. فلكي تنجح الديمقراطية في تقديم الحلول الناجعة ينبغي ان تقترن حرية الاختيار بوعي الواقع وتكتسب ثقافة تلم بالمشاكل والحلول، وتفك قيود العقد الاجتماعية. الديمقراطية تحقق الهدف منها بالتفاعل مع ثقافة متقدمة وسامية. وإلا فإن مجتمعاتنا الراهنة يندرج عليها ما قاله أبو حيان التوحيدي في خلفاء عصره :" لا المسلمون اختاروهم ولا المسلمون عزلوهم". المهمة المباشرة إذن تقتضي بناء وعي وطني جامع، والتوصل إلى قانون جامع أيضا . فإن آثار التخلف بارزة لدى المثقفين في العجز عن تنظيم حوارات جدية منتجة، بالخروج عن المعازل الثقافية المنطوية على الذات. لم يعد من الممكن بناء أي حياة ثقافية أو كتلة ثقافية حية في البلاد العربية، ما لم ينتزع الناس من قوقعاتهم التاريخية الملِّية وإدراجهم في حركة واحدة، مسلمين ومسيحيين، شيعة وسُنة، عرباً وأكراداً وشراكسة الخ، وما لم يتم التخلص من المفاهيم والمقولات الإيديولوجية المنسوبة للماضي واعتماد منهج التجربة والممارسة العملية والبحث عن شئون الدنيا في الواقع المتعين. على الجميع التحرر من ربقة الماضي وإجراء مراجعة نقدية لتجاوزات السلف . وفي زمن الاعتذارات ، ينبغي على ممثلي الطوائف والأعراق، خاصة القومية العربية ودعاة المذهب السني ، باعتبارهم الأكبر عددا ومارسوا لذلك شوفينية القومية الكبرى، تقديم الاعتذار وإبراء الذمة من ممارسات العصر الوسيط وقيمه ومعاييره. ما بين الطوائف والمذاهب أحقاد وعداوات تطمر جمراتها تحت الرماد ولا تكف المؤامرات الخارجية عن النفخ فيها وإثارة المخاوف والشكوك وخلق تناقضات محلية وإقليمية تشغل عن التناقض الرئيس مع الهيمنة الأجنبية والعدوان الإسرائيلي المتواصل. من غير الممكن مغادرة مرحلة " حوار الطرشان " في الداخل من دون "تنكُّب مهمة الغوص في هذا الباطن، المتحكم في اللاوعي الجمعي، لا يرى ولا يسمع، لكنه هو الذي يتكلم في غالب الأحيان من وراء غلالة اللغة الفكرية والأدوات المفهومية الدارجة". يقول علم اجتماع التخلف بلسان الدكتور برهان غليون "مما يزيد من قوة فعل هذا الباطن وشدته، كونه ليس فكرة ولا مفهوماً ولا حجة عقلية وإنما هواجس تكونت بفعل تراكم الحزازات التاريخية، وتحولت إلى كرة من المشاعر الملتهبة التي تسكن الأعماق وتوجه تفكيرنا الباطن، حتى عندما تخفى على الجميع، بما في ذلك على أصحابها أنفسهم، ويصبح من غير الممكن التحكم فيها ولا الكشف عنها." لغم كبير من بين عدة ألغام مهيأ للانفجار في كل لحظة ؛ ولا بد من تفكيكه على غرار تفكيك العقد لدى مريض النفس. الصحوة الثقافية لدى ممثلي مختلف التيارات تتجمع عند مشروع النهوض الوطني الديمقراطي . تطالب دعوات النهوض الوطني الديمقراطي إحداث إصلاح ديني يبدا بإصلاح الأزهر "بتشكيل لجنة عليا تضم أكبر المتخصصين في العلوم الدينية وعلوم النفس والتربية والاجتماع والإعلام والسياسة لوضع خطة للقضاء علي الأمية الدينية يتم تنفيذها وفقا لبرنامج زمني علي بضع سنوات، وتتضمن برنامجا للتربية الدينية للطلاب في مراحل التعليم المختلفة من الحضانة إلي الجامعة ـ بعد ان ثبت قصور وعجز مناهج التربية الدينية الحالية في تحقيق ذلك. " ويتطلب الإصلاح أيضا مراجعة نقدية تنقي الأحاديث النبوية المتداولة مما دسته الأغراض الملتوية والذمم الهشة ، والحكم على الحد يث في ضوء نصوص القرآن والعقل والمقاصد العامة للشريعة.
#سعيد_مضيه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل يخمد عطر الدين عفونة فساد الحكم-3 .... السيف والكتاب
-
فرقة ناجية واحدة أم اكثر؟
-
هل يذهب عطر الدين عفونة فساد الحكم؟
-
يجدفون وسط دوامة العولمة
-
نتظر من عام القدس الثقافي
-
النزاهة وحرية التجمع في فلسطين
-
كبق نستثمر البنية الثقافية لمحمود درويش
-
تصعيد المقاومة مسئولية قوى الديمقرطية
-
الثقافة العربية في فسطين البدايات والإعاقات (4من 4)
-
رفيقنا الذي رحل عنا
-
الثقافة العربية في فلسطين البدايات والإعاقات 3من4)
-
الثقافة العربية في فلسطين( 2من 4) مقدمة جديد الكاتب -رواد ال
...
-
-الثقافة العربية في فلسطين ( 1من 4حلقات) البدايات والإعاقات
-
خنق الماركسية من خلال احتضانها
-
نكبة تفرخ نكبات وكوارث
-
النضال الطبقي في البنية الكولنيالية-3
-
النضال الطبقي في البنيةالكولنيالية
-
من ركام المحنة تنبت العقلانية
-
النضال الطبقي في البنية الكولنيالية
-
خطورة الفساد تتجاوز إهدار المال العام
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|