ليس من السهل الحديث عن قضية أعمار العراق . من اليسر التنظير لها والتبشير بها لكن الواقع الذي تؤشره الحياة اليومية للشعب العراقي تعترف عمليا بأن جميع الآراء متضاربة حول كيفية إنقاذ الاقتصاد العراقي من الحفرة العميقة التي وجد نفسه فيها بعد سلسلة طويلة من إرهاق الحروب وتكاليفها . رغم كل ما قيل عن مؤتمر الدول المانحة في مدريد فأن ميلاد اقتصاد عراقي معولم أو مزدهر لا يستطيع أحد أن يتكهن بموعده حتى الآن :
الآراء متضاربة :
الآراء الوطنية في داخل العراق متضاربة .
الآراء الأمريكية ــ الأوربية متضاربة .
الآراء العربية متضاربة .
حتى في منظمة الأمم المتحدة نجد الكثير من تضارب الآراء والمصالح التي تعكس صورة العجز عن أية محاولة حقيقية جادة وسريعة لرسم ملامح العراق حاضرا ومستقبلا لتخليص شعبه من الفوضى ونقله إلى صف المجتمع الحضاري . كل يوم يمر على شعبنا يدفعنا إلى رؤية انتشار " حضارة الفوضى " بكل ملامحها و باستمرار وجود الصورة القاتمة في غالبية المشاهد العراقية حيث نسبة البطالة أكثر من 50% وحيث انعدام الأمن آخرها الجريمة الجماعية في اربيل بتفجير مقري الحزبين الكرديين الرئيسيين ، وحيث تدهور الوضع المعاشي رغم زيادة الرواتب ، وحيث تفشي الأمراض المعدية والمستعصية بسبب استمرار تدهور البيئة ، وحيث انتشار الرشوة والفساد والمحسوبية ، وحيث المنافسات والصراعات الأثنية والطائفية والحزبية . كل هذا يؤدي إلى تشظي المجتمع العراقي تحت ظل الاحتلال الأمريكي البريطاني والقوات العسكرية المتعددة الجنسية التي لا تفقه غير تقنية الدبابة والمروحية قاصرة عن فهم حقائق الحياة اليومية للشعب العراقي وسيكولوجيته وتطلعاته لاستعادة حريته الكاملة بعد 35 عاما من التسلط الفاشي الذي حاصرته خلالها عيون سرية رصدت تحركه في البيت والشارع والمدرسة في المدينة والريف وحرمته من الصلة بالعالم الخارجي بحرمانه من وسائل الاتصالات الحديثة .
أسماء كثيرة ومشاريع كثيرة صاحبت حرب الخليج الثالثة وأعقبت سقوط نظام التخلف بسقوط صدام حسين ، منها :
ــ مـَن حمل اسم جي جارنر ( مجلس الأعمار العراقي ) برئاسة عماد ضياء الخرسان .
ــ و من حمل أسم بول بريمر ( أمر حول الاستثمار الأجنبي في العراق ) ..
ــ و من حمل صيغة ( منحة أمريكية ) بمبلغ يزيد على 18 مليار دولار ..
ــ منها حمل أسم ( المانحون في مؤتمر مدريد ) بمبلغ قدره 15 مليار دولار .
ــ مشاريع عربية وخليجية كثيرة .
ــ أفكار عن مشاريع فرنسية ـ ألمانية ـ روسية كثيرة .
لكن أية خطوة عملية لهذه الأفكار والمشاريع لم تجد طريقها الى العراق ، بعد. خاصة وأن الكثير من اللقاءات والمؤتمرات انعقدت خلال الشهور الأربعة الماضية في الأردن والقاهرة والكويت وابو ظبي وغيرها بدون القدرة على الدخول المباشر لتنفيذ أفكار معينة أو خطط معينة .
الكثير من المختصين بشؤون الاقتصاد والتنمية والأعمار والسياسة يعتقدون ان الثقل الأكبر في قضايا أعمار العراق يلقى على عاتق الولايات المتحدة ليس فقط لأنها تحتل العراق وتريد تخطيط مستقبله بل لأنها كانت وراء اغلب التشكيلات الرئيسية الدولية في العصر الراهن فهي التي كانت وراء تشكيل منظمة الأمم المتحدة بمبادرة من الرئيس هاري ترومان وقبلها عصبة الأمم بمبادرة من الرئيس توماس ولسن .
انضمت أمريكا لمنظمة الأمم المتحدة لكنها لم تكن منتمية للعصبة التي قبلها لعدة أسباب :
· قيام ثورة أكتوبر في روسيا وانسلاخها عن الجسد الرأسمالي العالمي ومن بعد ذلك ظهور الاتحاد السوفييتي كقوة اقتصادية سياسية عسكرية عظمى ..
· التوسع الاستعماري في تلك الفترة الذي أدى الى قوة استعمارية كبيرة تحت رعاية ألمانيا وإيطاليا .
· التوسع الإمبراطوري الياباني في جنوب شرق آسيا .
إلا ان الدور الأمريكي في منظمة الأمم المتحدة كان أوسع وأقوى لمواجهة الاتحاد السوفيتي الذي بلغت قوته الدولية الذروة تحت قيادة ستالين بعد انتصاراته الكبرى على النازية بقيادة هتلر وقد توجهت الولايات المتحدة نحو تحقيق خطة سيطرتها على المنظمة الدولية منذ البداية مستهدفة تحقيق ما يلي :
· إبعاد الدول المهزومة في الحرب العالمية الثانية ( ألمانيا واليابان خصوصا) عن المنظمة الدولية ..
· تطويق الاتحاد السوفيتي سياسياً واقتصادياً بعد ان اخذ نفوذه يمتد الى القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوربا .
· تشجيع حق تقرير المصير لشعوب المستعمرات( رغم أن أمريكا دولة استعمارية ) بهدف خفي هو إضعاف نفوذ فرنسا وبريطانيا سياسيا واقتصاديا وهما الدولتان اللتان كانتا تملكان اكبر مساحة من الأراضي المستعمرة .
· الاستفادة الى أقصى حد من نفوذها بعد الحرب الثانية لفرض هيمنتها الاقتصادية على أوربا مهد الثورة الصناعية فكان تبنيها لمشروع اعماري ضخم حمل اسم الجنرال جورج مارشال القائد العام للقوات الأمريكية فور عودته من زيارته للاتحاد السوفيتي عام 1947 حيث اكتشف احتمالات سيطرة الاتحاد السوفيتي على عدد من دول أوربا الغربية الجائعة والمدمرة بالحرب بصورة تكاد تكون كلية وضمها الى نفوذه الممتد الى عدد من دول أوربا الشرقية التي تحررت من السيطرة النازية ومن حكوماتها البورجوازية وتحولها إلى الاشتراكية . ولاحظ ثيودور هوايت الذي وصل إلى أوروبا لإعداد تقرير عن مشروع مارشال سنة 1948( أن الأوروبيين وهم يتحدثون مع الصحفيين أو المسئولين الأمريكيين كانوا مثل قبائل ضربتها المجاعة فأخذت تتصارع للحصول على قطعة من اللحم ) .
في ظل هذه الظروف الأوربية القاسية والظروف الدولية المتحركة باتجاهات مختلفة ولد مشروع مارشال بسرعة فائقة لتحقيق أهداف أمريكية عديدة هي من معطيات جديدة أفرزتها الحرب العالمية
فقد كانت الأهداف الخفية ترمي الى ما يلي :
1) كان مشروع مارشال يحمل قدراته الاقتصادية المفتوحة لاعادة أعمار أوربا المدمرة بقصد ضمان سلامتها من نفوذ الأفكار الاشتراكية المتعاظمة آنذاك .
2) إحكام الطوق الاقتصادي الحديدي حول الاقتصاد السوفيتي .
3) إبقاء الدول الأوربية في حالة المديونية للولايات المتحدة الأمريكية .
4) الهدف السياسي الرئيسي من مشروع مارشال هو إشراك الولايات المتحدة في صياغة النظم السياسية في أوربا الغربية وإحكام علاقاته بها وابعادها عن الكتلة الاشتراكية الدولية .
5) في نفس الفترة تم تأسيس حلف شمالي الأطلسي عام 1947 الذي اسهم بشكل معلن وغير معلن منذ بدء تشكيله على تفكيك الاتحاد السوفيتي تدريجياً وعلى المدى الستراتيجي فنجح في بداية التسعينات في تحقيق هدفه و ضم غالبية الدول الاشتراكية السابقة الى عضويته ..
مثل هذه الظروف غير موجودة في الزمن الحاضر بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ونظرا لوجود العراق دولة غير فاعلة على المستوى السياسي ولا على المستوى الاقتصادي بعد ان دمر صدام حسين كل إمكانياته في حروبه الخارجية والداخلية . كما حاول الخبير الأمريكي جوردون جونسون أن يصور الأمر مختصرا في مقاله "الدروس المستفادة من مشروع مارشال " بـالإجابة على سؤال هام لم تتواجد الإجابة له حتى الآن وهو لماذا نجحت المعونة الأجنبية المتمثلة في مشروع مارشال في بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية بينما أخفقت المحاولات الموجودة على الساحة الدولية الآن ( أفغانستان والعراق مثلاً ) .. كما أخفقت من قبل وخلال النصف ا الثاني كله من القرن العشرين في إنجاح مشاريع التنمية في البلدان النامية وانتشالها من الفقر والمجاعة بواسطة نفس الأداة وهى المعونة الأجنبية.
لقد استطاع مشروع مارشال ان يخلص أوربا الغربية من ركام الحرب والخراب و أقام هياكل معمارية جديدة لمراكزها الحضارية والصناعية وبشكل خاص استطاع مارشال ان ينهض بالاقتصاد الفرنسي والألماني وحتى ساهمت الولايات المتحدة بإنقاذ الاقتصاد الياباني وتطويره بعد الخمسينات من القرن الماضي ..
هناك عدد من الدروس التي يمكن استخلاصها بالإشارة الى ضرورة إيجاد حلول سريعة لها في العراق حيث تنعدم كفاءة مشاريع المواد الغذائية وتتحدد كفاءة وكفاية المشاريع الزراعية بالحدود العشوائية الدنيا بعجزها عن تحقيق هدفها الأساسي وهو رفع مستوى معيشة الكادحين العراقيين والتغلب على الأمراض الاجتماعية كالفقر والبطالة والامية وحيث لا توجد قاعدة صناعية تحتية . إضافة الى ذلك فان الشعب العراقي أظهر بعيد سقوط صدام حسين ونظامه اهتماما متزايدا بحقوقه الإنسانية وفي مقدمتها الحرية والديمقراطية حتى غدت اللحظة التاريخية الفاصلة واضحة للعيان في ركيزتين أساسيتين هما : (1) إعادة الأعمار ببرامج تخصصية (2)قائمة على قيمة جوهرية حقيقية من النظام الديمقراطي ..
لم يعد في التفكير الأمريكي حاليا أي مشروع اقتصادي شبيه لمشروع مارشال بل يجري البحث عن صياغة مشاريع جديدة منبثقة من أبعاد اقتصادية ذات صفات معرفية مصاحبة للثورة العلمية والتكنولوجية المتطورة في مشهد دولي جديد امتيازه الأول تنامي ظاهرة العولمة الرأسمالية وفي ظروف يتشدد فيها قادة سياسيون أوربيون كبار ( شرويدر وشيراك وبوتين ) على ضرورة تمييز السياسة الأوربية عن الأمريكية إزاء العراق في ما يتعلق بالسياسة الدولية لاعادة أعماره ..
ما يجب التذكير به ان( مشروع مارشال ) لم يواجه بأية معارضة أوربية بالعكس فقد وجد ترحيبا منقطع النظير من قبل الحكومات الغربية وغالبية شعوبها .. أما اليوم فان مراكز الاقتصاد الأوربي غير موحدة الصفوف إزاء المشروع الأمريكي لاعمار العراق فنراها منقسمة الصفوف كالتالي :
ـ مجموعة مؤيدة للولايات المتحدة تتكون من بريطانيا وأسبانيا والى حد ما إيطاليا .
ـ مجموعة معارضة لانفراد الولايات المتحدة بخطط إعادة الأعمار وهذه المجموعة تقودها ألمانيا شر ويدر وبوتين روسيا وفرنسا شيراك ..
ـ مجموعة صامتة وهي اغلب الدول في اوربا الشرقية او الدول التي انسلخت من الدولة السوفيتية
رغم الوعود الأميركية الوردية بشأن إعادة تعمير العراق وفق اقتصاديات السوق الحرة تبدو تلك المهمة كأمر صعب للغاية ومعقد للغاية في ضوء تهالك البنى التحتية للاقتصاد العراقي لاسيما غياب سلطة وطنية مستقلة وغياب آليات إبرام الصفقات المالية والعمرانية كالجهاز المصرفي والقضائي وارتفاع معدلات البطالة بصورة لم يسبق لها مثيل وتصاعد عمليات المقاومة ليس فقط في مواجهة قوات الاحتلال الأميركية ، بل في بث الرعب في الأوساط التجارية وبين صفوف الوفود الأجنبية وفي تخريب الكثير من المنشآت العامة وقتل العاملين فيها .
هل يدعونا ذلك الى التشاؤم ..!
لست من المتشائمين فإلى جانب الفوضى والتطرف والعنف في المشهد العراقي هناك أيضا صور كثيرة متنامية في هذا المشهد مرئية حتى من مسافات بعيدة تتمثل أولا وقبل كل شيء باتجاهات رئيسية ثلاثة :
1) الأول : نمو ظاهرة الإرادة الاقتصادية الوطنية في العمل على تسريع عملية المباشرة بالتحولات الاقتصادية باستخدام جميع التجارب الإنسانية في مناهج إعادة الأعمار الاقتصادي بعد الخروج من حفر الحروب المدمرة . ما يثير التفاؤل في العراق الآن ان هذه العملية تبحث وتصنف ليس وفق مبدا الفكر الواحد أو التجربة الواحدة أو الحزب الواحد بل تجري على أساس الظاهرة الأكثر تداولا بين الناس والأحزاب وأجهزة الدولة مع المتخصصين في قضايا الفكر الاقتصادي .
2) الثاني هو التوجه الذي يقوم على تنظيم ظاهرة الرأسمال العالمية الراغبة في المشاركة في أعمار العراق ( في الصناعة والزراعة والنقل ) وضرورة فهمها وتحليلها وتقريب أساليبها ليس فقط الى الواقع العراقي بل تقريبها الى طموحات الشعب العراقي في ملكية إرادته المستقلة بما فيها إرادته الاقتصادية المستقلة في التحكم بثرواته وبأرضه كيقظة مرادفة للاستقلال الوطني..
3 ) إن أمراء الأممية المالية الجديدة سواء من سان فرنسسكو أو نيويورك أو دلهي أو القاهرة واليابان ودول الخليج العربي يحزمون أوراقهم وخططهم التجارية لكي يرتفعوا فوق السحاب وصولا الى بغداد كي تتبعهم في وقت لاحق سفن محملة بأنواع البضائع .
كثيرة هي النظريات والأفكار المطروحة في الساحة الاقتصادية العراقية لاعمار العراق ربما إعادة بنائه من درجة تكون قريبة من الصفر . فالعراق الثري بموجوداته الطبيعية يعيش بلا صناعة حقيقية وبلا زراعة متطورة حديثة وقد اضاع النظام السابق بممارساته الفردية الفاشية ليس فقط حرية الشعب السياسية بل حرم الشعب من التمتع بالسكن الإنساني وحرمانه من التامين الصحي والتعليم المدرسي والجامعي حتى اصبح الفرد العراقي جزءا من الوحدات العسكرية المجحفلة لخدمة النظام الفاشي ورئيسه وقد ظل هذا الفرد يعاني من جحيم ثلاثة حروب مدمرة لا تقل آثارها مما فعلته الحرب العالمية الثانية في اوربا واليابان .
تنطلق في هذه الفترة مدعيات كثيرة في توجهات دولية من سياسيين مسؤولين ومن بعض أصحاب النظريات الاقتصادية المناسبة لاعادة أعمار العراق ، منها وأهمها :
1) أولا هناك الكثير من الأفكار تذكرنا بمشروع مارشال الذي نهض عام 1948 لاعمار البلدان الأوربية المدمرة بالحرب العالمية الثانية بمعنى ان أمريكا وحدها قادرة على أعمار العراق ربما من هذا قرأتُ ما نشر في الصحف العراقية( جريدة الصباح يوم 18/9/2003 ) بعنوان "الأمر الصادر عن سلطة الائتلاف المؤقتة بشأن الاستثمار الأجنبي " وقد انتصب هذا " الأمر ــ المشروع " أمام الرأسمال الأجنبي كما أمام الرأسمال الوطني حاملا جواب وتوقيع بول بريمر :( هذا هو أمر العمل ) جوابا على سؤال كبير ما زال يرن بقوة حتى الآن : ما العمل ..؟ تطرحه النخب الاقتصادية العراقية كل يوم لتحقيق أهداف عملية إعادة أعمار العراق التي تحتاج إلى أموال طائلة لم تحدد بدقة بعد ، غير ان التقديرات الأولية لا تتنازل عن رقم مائة مليار دولار .
2) الفكرة نفسها من وضع الحاكم المدني في العراق لم تتضمن تعليمات أسس العلاقة التي يمكن أن تقوم بين الشركات الأجنبية التي ستدخل إلى العراق بموجب أمره المذكور وبين السلطات العراقية، السياسية والاقتصادية . فلا شك ان الشركات القادمة هي " هيئات خاصة " أجنبية من القطاع الخاص تلتقي بآليات عملها بهيئات من " القطاع العام " وهي هيئات عراقية حكومية كوزارة التخطيط و الصناعة والزراعة والتجارة كما تلتقي بـ" منظمات عراقية عامة " كغرفتي التجارة والصناعة. ان مسالة علاقة راس مال الاستثمار الأجنبي بالحياة الاقتصادية العراقية ستكون الوسيلة الفاعلة التي يبلغ فيها الاقتصاد العراقي والاستثمار الأجنبي مستوى رفيعا من التطور وستكون وسيلة ناجعة في حل مشاكل قد تنتج عن خطين متعارضين ..
3) عبّـر المضمون العام للأمر المذكور بصورة " تجريدية " اهتمت كليا بصيغ المنفعة الربحية للشركات القادمة من دون ان يكلفها" الأمر " بمهمة وضرورة ضمان المنفعة الاجتماعية والاقتصادية للجانب العراقي كتدريب العمال والمهندسين العراقيين داخل العراق وخارجه أو ضرورة توفير السكن الصحي لهم ، كما فعلت شركة نفط العراق في كركوك وشركة نفط البصرة في خمسينات القرن الماضي بما حقق شكلا ملموسا في حاجات وتطلعات السكان العراقيين أو بتأسيس معاهد تدريب وإرسال بعثات من الشباب العراقي للتدريب على التكنولوجيا الغربية . لا بد من التذكير أن مشروع مارشال قام بتدريب 24550 شخص من أوربا في مراكز أمريكية التي يتميز عمالها بمستوى عال من الكفاءة والتدريب .
4) إن استخدام مصطلح " المشروع التجاري " يبقى مبهما في المهمات الملحة المطروحة وخاصة ما يتعلق بالبنية التحتية في أغلب أقسام وفقرات أمر بول بريمر فقد زاد من غموض وإبهام الأغراض المتوخاة من دخول الشركات الأجنبية والمتعددة الجنسية للمساهمة في عملية أعمار العراق . لقد حصر القسم رقم 7 مجال الاستثمار الأجنبي بــ" المشروع التجاري " وهو أمر غير معقول لجعل فعاليات الاستثمار الأجنبي بحيز تبادل السلع الاستهلاكية أو المشاريع الصناعية الصغيرة فقط ( إذا كان هذا هو المقصود فعلا بمشروع بريمر ) وحرمان الاقتصاد العراقي من التمتع بقدرات وإمكانيات راس المال الأجنبي وشركاته الكبرى على إجراء التحويلات المرتقبة الاقتصادية والاجتماعية بخصوص المزاوجة بين الزراعة والصناعة في بلد الرافدين الذي يحتاج أول ما يحتاج إليه هو استنهاض قدراته الزراعية بدءا من استصلاح الأراضي الزراعية وتنظيم مواردها المائية ويمكن للاستثمار الأجنبي ان يكون محركا كبيرا بهذا الصدد لتغيير حياة الملايين من الفلاحين وهم أكثرية السكان اعتمادا على خطة واسعة وشاملة تحقق إصلاحا زراعيا حقيقيا لا بد منه كي تتطابق العلاقات الاجتماعية والإنسانية في الريف العراقي مع المرحلة الحالية من تطور العراق ..
5) القسم 12 من مشروع بر يمر " ّاجّـل " النظر بالحاجة العراقية الفعلية للاستفادة عن طريق الضريبة التي ينبغي على الشركات الأجنبية دفعها لتمكين الاقتصاد الوطني من التطور واستخدام العوائد في استراتيجيات مشتركة بما يؤمن مصلحة الطرفين العراقي والأجنبي ..
6) من المعروف ان اشد معاناة اقتصادنا الوطني هو حرمانه من التنمية الاقتصادية طوال عقود من الزمن الماضي حيث لم تتمكن لا الزراعة العراقية ولا الصناعة من تحقيق القيمة المضافة للوحدات الإنتاجية الزراعية والصناعية مما ابرز الرأسمال الوطني بأعلى أشكال ضعفه باعتماده على الفعالية الطفيلية لجني الربح السريع من دون تحقيق التراكم الرأسمالي وقد جاء أمر بول بريمر من دون نصيحة إجرائية بهذا الصدد .. وقد خلا عن كيفية تحويل الأرباح وعلاقته بإمكانات الجهاز المصرفي الحكومي والأهلي كما خلا من كيفية إدخال راس المال الاستثماري الأجنبي وضرورة ان يكون الإدخال بواسطة البنوك العراقية .
7) تناولت بنود المشروع حق البيع بالمفرد لمنتجات شركات الاستثمار الأجنبي من دون أي إلزام لها لا جزئيا ولا كليا لضبط الأسعار فلم تنتبه الى ضرورة إدخال ضوابط محددة للتأثير على الأسعار وعلى أساليب البيع بالمفرد كي توفر لمجموع السكان حظهم وخاصة الفقراء منهم للاستفادة على اكمل وجه من المنتجات المختلفة سواء منتجات الاستهلاك اليومي او صناعة الآلات الزراعية أو الأسمدة وغيرها من الصناعات التجميعية التي تنمي الزراعات التصديرية .
لم يركز " أمر بريمر أو مشروعه " على أولويات الاستثمار الأجنبي ولم يمنح امتيازات تشجيعية " ضريبية " أو غيرها للرأسمال الاستثماري في مجال البنية التحتية ( الطاقة والنقل والتكنيك ونقل التكنولوجيا المتطورة والصناعات الثقيلة ..إلخ ).. مثل هذا التمييز ضروري بين مستويات وحجوم ومهمات الشركات الكبرى والمتوسطة والصغرى .
8) أجاز " مشروع بريمر " بوضوح لقاء الوحدات الاستثمارية الأجنبية الكبرى الخاصة بالوحدات العراقية الصغرى التي تحركها جميعا طاقة الربح والتوسع مما قد يسمح بالتقاطع أحيانا وبالنزاع أحيانا أخرى في مجرى الزمن الاقتصادي القادم والضروري للتنمية الاقتصادية لكن " الأمر " أغفل الكيفية التي يمكن فيها تحاشي التقاطع والتنازع بين الرأسمال الأجنبي والرأسمال الوطني .
9) تجاهل " المشروع " أمرا هاما وخطيرا يتعلق بالأرستقراطية المالية العراقية الطفيلية التي ولدتها الطغمة الحاكمة السابقة التي وجدت نفسها في قمة مجتمع ال35 سنة الماضية . ثمة احتمال كبير أن تتسلل هذه الفئة التي قوّمها نظام صدام مهرباً الأموال الطائلة إلى خارج العراق بأسماء مستعارة ، ومنها من تركز اقتصاديا داخل البلد ومنها من انتقل الى خارجه لتنفيذ المتطلبات الخاصة بالتصنيع العسكري السري وغير ذلك من خطط صدام حسين المالية . ان العنصر الهام للغاية هو عدم فسح المجال أمام هؤلاء للعودة الى الساحة الاقتصادية فربما تعود لهم مواقع سياسية من خلال ذلك ..
تتبدى من مبادرة بول بريمر في تسهيل مساهمات الاستثمار الأجنبي في أعمار العراق بما هو جديد ومؤقت من مشاريع صغيرة أو محدودة بقصد خلق بدايات عن ، أشياء وأفكار وأوضاع جديدة تنتج منها علاقات اقتصادية واجتماعية قد تؤدي إلى توليد طموحات شعبية جديدة في صورة المستقبل خاصة إذا ما تمكنت السلطات الدستورية العراقية ، مستقبلاً ، من إنقاذ الاقتصاد الوطني من الطريق العقيم والمسدود و اتباع منهجية جديدة في التعامل تعاملاً استثمارياً مع عوائد النفط ..
ثمة الكثير من الأفكار المتعلقة بهذا الموضوع قابلة للجدل سيجد مجلس الحكم الانتقالي نفسه أول المجادلين إزاء طاهرة اقتصادية كبيرة وعظيمة الشأن وردت في مضمون " أمر بول بريمر " وضرورة تفحص قدرة وظائف التحول في الاقتصاد العراقي من " حالة التخلف " الى " حالة التقدم " لتحويل مطالب الجماهير الشعبية الى إجابات وتحقيق " مرحلة التخبط في الأزمة الاقتصادية " ونقلها الى مرحلة " الخروج من الأزمة " .
الحقيقة ليس هناك ما يشير الى وجود حوار أو تنسيق بين مجلس الحكم ووزاراته بشأن تطبيق مفردات ( مشروع بريمر ) رغم مرور فترة طويلة على صدوره .
يبدو لي أن ( مشروع بريمر ) كان متواضعاً ليس بمستوى ( مشروع مارشال ) الذي تم تكريسه لعدد كبير من البلدان الأوربية ( ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها من الدول الأوربية ) ..
حتى الآن لا يبدو أمر إعادة أعمار العراق جلياً لا في برامجه ولا في الجهات الراغبة في الدخول الى الانتفاع من أهم مواقع السوق الاقتصادية العراقية وبناء الاسس التحتانية لصناعات تشير الكثير من الدراسات الستراتيجية السابقة الى احتمال وامكانية تحويل العراق الى قوة اقتصادية رئيسية في الشرق الأوسط والقارة الإفريقية لما يتمتع به العراق من موقع استراتيجي ومن ثروات طبيعية بعضها مكتشف وبعضها الآخر غير مكتشف إضافة الى تمتعه بنهرين غنيين قابلين لرفع إنتاجية الطاقات الزراعية لاراض ٍ شاسعة بينهما .
لقد حدد بريمر في مشروعه الأولي مهمة ليبرالية أمام الدولة العراقية الجديدة بأن تكون أبوابها مفتوحة تماما أمام الرأسمال الأجنبي وان يكون العراق مضيفا بصورة خاصة للشركات الأمريكية بما يقترن ذلك بتقديم كل التسهيلات والخدمات اللازمة من اجل جني أعلى أشكال ونسب الأرباح ربما لتسجيل أول رقم قياسي في الألفية الثالثة وفي بلد غني في ثرواته فقير في مستوياته المعيشية ضعيف في مسؤولياته التكنيكية بعد ان أصبحت جميع هياكله الاقتصادية مجرد حطام .
لكن ( مشروع بريمر ) كان اضعف من مقاومة تطلعات أممية رأس المال واندفاعات الشركات المتعددة الجنسية الراغبة في غزو العراق بعد احتلاله في نيسان الماضي . وقد ظهرت تلك الاندفاعات بوضوح في مؤتمر مدريد في أكتوبر الماضي الذي كرس في حواره وقراراته مبالغ كبيرة لتعمير العراق بشكل مباشر ( أي دون انتظار تحسن الظروف الأمنية.. ) .. وقد قدرت تلك المنح ب15 مليار دولار إضافة إلى منحة أمريكية خاصة قدرت بـ18.6 مليار دولار تدفع للعراق عبر صندوقين ماليين الأول مرتبط ومدار من قبل البنك الدولي والثاني مرتبط ومدار من قبل الأمم المتحدة .
غير أنه لحد الآن لم يتحرك في الصندوقين أي مبلغ .
في الحقيقة ان هناك منافسة قوية بين رؤوس الأموال العالمية ورؤوس الأموال الأمريكية المحمولة على رؤوس الشركات المتعددة الجنسية المتأهبة للدخول الى العراق والعمل فيه لكن ليس على الطريقة ذاتها التي عمل بها مشروع مارشال حيث كان هناك طرف واحد بدون منافس هو الرأسمال الأمريكي المتمركز في المصلحة الأمريكية جميعها التي دفعت بثقلها لاعادة أعمار اوربا الغربية بعد ان دمرتها الحرب العالمية الثانية . بينما في حالة العراق نلاحظ عددا هائلا من القوى الاقتصادية تتصارع من اجل الفوز بالسوق العراقي التشييدي والتحويلي والتجاري والصناعي والزراعي والنقلي والاتصالات وغيرها . يمكن الإشارة الى أهم تلك التكتلات المالية المتصارعة ، على النحو التالي :
1) المجموعة الأمريكية وهي المرتبطة بالبنتاغون الذي يتحكم بالعراق بوصفه قوة احتلال مدعومة من المنظمة الدولية ومتحالفة أوربيا مع بريطانيا وأسبانيا .
2) المجموعة الأوربية بقيادة التحالف الألماني الروسي الفرنسي التي تتصارع مع المصالح الأمريكية للفوز بنصيب من السوق العراقية رغم معارضتها الشديدة للحرب على العراق في آذار الماضي .
3) المجموعة الشرق آسيوية ومعها اليابان التي سارعت في بداية العام الحالي الى مشاركة الولايات المتحدة بالوجود العسكري الفني في جنوب العراق
4) المجوعة العربية في الخليج التي قدمت للولايات المتحدة دعما لوجستيا كبيرا خلال الحربين الخليجيتين الأولى والثانية لجيوش الولايات المتحدة الزاحفة ضد نظام صدام حسين
5) مجموعة دول الجوار ( تركيا وإيران والأردن وسوريا ) لوجود حدود مشتركة وتداخلات أثنية وسياسية مشتركة .
6) مجموعة الدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة منذ غزو الكويت عام 1990 ولى رأسها جمهورية مصر العربية التي تحاول الدخول عن طريق منفرد أو عن طريق مشروع عربي تقره أو تتبناه جامعة الدول العربية .
من السهل ان نطلق على المرحلة الحالية الممتدة لعام واحد ( نيسان 2003 ــ نيسان 2004 )أنها فترة محدودة من الزمن الضائع وقد ضاعت فيها حتى جهود البنتاكون الجزئية التي كان فيها قد تم تشكيل ما يسمى بــ( مجلس أعمار العراق ) وضم مجموعة من العراقيين المقيمين في الخارج تحت مسؤولية عماد ضياء الخرسان ــ الموظف في البنتاكَون والصديق المقرب لجي جارنر الذي جمع على عجل مجموعة عراقية من معارفه ممن يحملون مهارات فردية معينة ومحدودة المهنية والثقافة العلمية والتجربة السياسية لا يمكنها ان تتجمع في مصبات عمل جماعي أو مؤسساتي عمراني حضاري . كان مشروع ( جارنر ــ الخرسان ) فاقداً منذ تأسيسه أية قدرة حقيقية على أية مساهمة بأية خطط عمرانية ذات شأن أو بتهيئة ملفات عمل متسلسلة حسب الأهمية .. وقد تزامن وجود مجموعة الخرسان في العراق مع بروز مستجدات حياتية وسياسية كثيرة حولت إمكانيات أعضاء الفريق الى استخدامات عابرة وسطحية وبعضها مصحوب بأعمال هامشية افقدهم القدرة على احتلال مركز الأعمار والتنمية وهو الهدف الذي تأسس من اجله الفريق( الخرساني ) . فهذا الفريق صار مسؤولاً عن تنظيم مظاهرة بغداد ضد الإرهاب في العاشر كانون أول 2003 ويعملون الآن بجانب هامشي آخر عنوانه ( تأسيس منظمة مكافحة الإرهاب في العراق ) مما ابعد الفريق تماما عن أي فقرة من فقرات العمل الاعماري متجهاً نحو ( العمل السياسي ) الذي كان جميع أعضاء الفريق قد تعهد بعدم ممارسة أي عمل سياسي خلال فترة تعاقدهم مع الببنتاكَون..
لم يحقق فريق( جارنرــ الخرسان ) حتى ولا مهمة مماثلة لما أنجزها بجدارة فريق مماثل كان تابعا لشركة أمريكية هي شركة أكوتي انترناشنال في ( البوسنة و كوسوفو ) حيث ساهم الفريق بإعادة أعمارها على الفور ..
ما العمل ..؟
هو السؤال الكبير في زمن يسرع الخطى في العراق بضياع الكثير من الفرص.. أظن ان الوقت قد اينع الآن بصورة ضاغطة للعمل بالاتجاهات التالية
1) انتفاء الحاجة الى ( مشروع أمريكي وحيد ) ومطالعة وثائق مؤتمر مدريد وما بعده من اللقاءات والاجتماعات الدولية والعربية تشير بإمكانية وضرورة تشغيل الصندوقين الماليين التابعية للبنك الدولي والأمم المتحدة والمخصصين لاعمار العراق
2) ممارسة الضغط على التيارات الاقتصادية الأمريكية المتضاربة والقيام بحملة خاصة على التيارات التوفيقية الوسطية .
3) من الضروري ان يتميز الاقتصاديون العراقيون بقوة الموقف والكفاءة أمام الهيئات الاقتصادية الدولية لممارسة التتنقيبية والانتقائية والتحرر من التبعية في فرض المشروعات والجهات
4) من المهم في اعتقادنا التأكيد انه ليس من المصلحة الاقتصادية في تردد الدول الأوربية الصغيرة كهولندا وبلجيكا والدانمارك وعزل نفسها عن مشكلات وقضايا إعادة أعمار العراق وان الاستقرار الأمني ليس منفصلا عن الاستقرار الاقتصادي ويمكن لهولندا التي يعيش فيها حوالي 40 ألف عراقي فيهم عدد كبير من المهنيين والتكنوقراط يمكنهم ان يساهموا في ترشيد الطريق لعملية دخول الرأسمال الهولندي لمجالات صناعية وزراعية ونفطية وغيرها يمكن ان لا تنافس الخبرة الهولندية .
5) نشير الى ضرورة بدء حوار حي وصريح ومتواصل بين المؤسسات الاقتصادية العراقية مع أوساط الصناعة والزراعة الهولندية كي يبقى الأمل مفتوحا بابه أمام الحصيلة الهولندية كي تمد نفسها داخل العراق بمختلف القطاعات ..
6) أهم خطوة يمكن الانطلاق منها الآن هي خطوة تشكيل مجلس اقتصادي وطني أعلى ليكون المسؤول المباشر عن خطط وعلاقات وبيانات إعادة أعمار العراق .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 7/2/2004
محاضرة ألقيت في قاعة ( مورخينستون ) في مدينة لاهاي حضرها جمع من المختصين العراقيين واختصاصيين هولنديين .