لم يشهد بلد تدخلا خارجيا في حقبتنا الزمنية هذه ، مثلما شهد العراق من تدخل فضّ ، ومهين لعموم شعبنا ، وبكل أعراقه وأديانه وطوائفه ، وقد بلغ هذه التدخل أحيانا ، ومع بالغ الأسف ، من بشر هم أقرب الى النكرات من المعارف ، ومن دول كانت لوقت قريب تستجدي العراق ، ويأمرها صدام على جبنه فتطيع . فقد زار رئيس أحداها العراق ، وكان هذا الرئيس قد أطال زلفه ، فاستنكر عليه صدام استطالة الزلف ، فقطعه الأخ الرئيس نزولا عند رغبة بطل التحرير القومي ! لكنه عاد وهو يحمل أربعمئة مليون دينار عراقي في حقيبة ، وقد ظلت اذاعة هذا الرئيس تنشد لهذا العرس القومي ! وعلى مدار ساعات الليل والنهار !
والملفت للنظر والمعيب في آن واحد هو أن هناك أعضاء في مجلس الحكم في صيغة رئاسته العجيبة والفريدة ، والتي ما عرف التاريخ قريبه وبعيده مثلا لها ،
راح يطلب العون من هذا النظام او ذلك ، ومن هذا الشخص ، الفرد الذي لايملك حولا ولا قوة في السياسة الاقليمية ، فضلا عن الدولية ، والسبب الذي يدفع بهؤلاء الأعضاء لطلب النجدة واضح وجلي ، وهو الحفاظ على دور منظمته أوحزبه في العملية السياسية الجارية في العراق ألآن ، وليس الحفاظ على دور العراق كوطن وشعب استوطن الأرض قبل شعوب أخرى ، وأقام أروع النظم السياسية في تاريخ البشرية قاطبة .
إن تغليب مصلحة الحزب ، بما يمثله ، على مصلحة الشعب والوطن هو الذي قاد العراق الىهذه الدوامة السياسية ، والتي إن طالت فسيغرق الجميع بنتائجها التي لا ترحم أحدا ، وعلى هذا توجب على العراقيين ، وعلى أعضاء مجلس الحكم على وجه الخصوص أن ينظروا الى العراق وشعبه أولا ثم أولا ، وبعدها لينظر كل واحد الى خصوصياته ، ومصالحه ولا غرو في ذلك .
يخطأ اعضاء مجلس الحكم إن هم قد توهموا أن شخصا مثل احمد بن الحلي سيقدم لهم نفعا ، وهاهم قد جربوه ، تحت ظلال من هول الدعاية العربية السقيمة في شرعية مجلس الحكم من عدمها ، وقد خاب ظنهم ، وما زاد تقريره العراق خردلة نفع بل زاده ضرا . ويخطأ اعضاء مجلس الحكم إن هم تلمسوا حلا لوضع العراق ألأن في ايران أو السعودية أو أمريكا ، فهذه الدول لا يصدها اسلام ولا انسانية عن مصالحها في العراق ، إن الغزل مع هذه الدول سيضعف العراق ، وسيزيد من شرذمة القوى الوطنية والاسلامية العراقية ، وعلى حد علمي أن اعضاء مجلس الحكم لديهم تجربة مريرية مع دول كهذه ، وقد عاشوا هم فصولها أيام النضال السلبي .
إن وحدة العراقيين هي الكفيلة باجبار قوى الاحتلال على الرحيل ، وهي التي ستمنع شرور المتربصين من دول الجوار ، وهي التي ستأتي بحكومة وبرلمان منتخب ، وهي التي ستجعل العراق كدولة تحاور الدول والأطراف الأخرى من موقع الندية ، والاحترام المتبادل التي تجري عليه العلاقات الدولية ، وليس السياسات الخجولة والخنوعة احيانا التي يجري عليها بعض من أعضاء مجلس الحكم في تعامله الدولي .
إن العراقيين كل العراقيين إن هم ظلوا على هذا التصدع سيطمع فيهم الداني والقاصي ، والوضيع والشريف ، وربما سيؤجر لهم ملك على مذهب عصور الظلام الوسطى ليحكمهم ، وها هي الأخبار قد حملت لنا أن الامير الحسن بن طلال سيحط في العراق بعد أيام ملكا عليه ، وهو الذي رفض الغرب تنصيبه ملكا على ألاردن ، حين حمل الملك حسين من أمريكا ، وهو على فراش مرضه، الى عمان ليسلب ولاية العهد منه ، ويعهد بها لابنه عبد الله ، ليتوج فيما بعد ملكا على الاردن .
وعلى الاحباط السياسي الذي تعاني منه الأدارة الأمريكية في العراق يبدو أن أطرافا من هذه الأدارة باتت مقتنعة ، وبتوافق مع ثعالب السياسة في لندن ، بالمخطط الأنجليزي القديم الجديد ألا وهو استئجار ملك للعراق ، يحلّ اشكالية مسألة رئاسة الدولة العراقية ، والتي قد تنقلب بين ليلة وضحاها من جمهورية الى ملكية ، وكأن كل شيء في العراق يعود القهقرى .
ويبدو أن الأمريكان كانوا قد احتفضوا بحل كهذا قبل انعقاد مؤتمر بعض فصائل المعارضة العراقية في لندن ، إذ انهم كانوا على بينة من وضع التركيبة السكانية في العراق ، وقد كانوا يحسبون حساباتهم على توافق عراقي ينسجم مع رؤيتهم ولا يتقاطع مع سياسيتهم في العراق ، مع الاحتفاظ بمشاريع أخرى في أدراج خزاناتهم ، وليس مثلما يحسب بعض السذج من أطراف المعارضة فيما سمعت من أقوالهم : دع أمريكا تسقط صداما ، وإننا سنصل الى الحكم عن طريق الأنتخابات ، وفات هؤلاء إن الديمقراطية التي تؤمن بها أمريكا هي ديمقراطية رأس المال ، وعلى هدى من نظرية البراغماتية، تلك النظرية التي قال صاحبها جون دوي : لا تسلني عن خالق الطاولة ، سلني كم تدر لك من المال !
وألآن هذا هو الأمير الحسن بن طلال قد حزم حقائبه ، وعقد العزم على السير الى العراق ملكا متوجا لثلاث سنوات ، مثلما نقلت عنه بعض وكالات الأنباء ، كي يحلّ اشكالية رئاسة السلطة للامريكان فيه ، فهل سيستقبله أعضاء مجلس الحكم بذات الصفة التي تحدث عنها هو ؟
وماذا سيقول بعض من هؤلاء الاعضاء من أصدقاء أمريكا ، ومن الذين لاذوا بموقف السيد السستاني من الانتخابات أخيرا ، بعد أن لاح خذلان الصديق لهم ؟
لقد استقبل العراقيون من قبل جدا من اجداد الامير الحسن مخذولا من قبل ألانجليز ، وهو الملك فيصل الأول ، الذي كان العراقيون يأمّلون فيه خيرا ، وكان في طليعة هؤلاء المستقبلين شاعرنا الجواهري الذي خاطبه :
صرح لهم بالضد من آمالهم
أولست ممن أفصحوا بالضاد
ومرّ بعض من الوقت ، وحين كان الجواهري يعمل في البلاط الملكي ، أطلعه الملك على أربعمئة مليون دينار عراقي قائلا : هذا كل ما تعطيه لي بريطانية من حصة العراق في نفطه ، فعلى أي وجه استطيع أن انفق هذا المبلغ الضئيل ؟ فعلام تلومني ؟
وما اشبه الليلة بالبارحة ، فهذا هو الحسن بن طلال يأتي به الأمريكان مخذولا ، ملكا للعراق ، فهل يستطيع هو أن يصرح للامريكان على الضد من آمالهم ؟ هذا الضد الذي عجز عنه أسلافه ، فراحوا ضحايا هذا العجز الذي ضاق فيه الشعب العراقي ذرعا .
ونصحا خالصا من كثيرين من العراقيين للامير الحسن بن طلال أن لا يُقدم للعراق ، فجلّ العراقيين لا يريدونه ، وإذا كان الفرزدق الشاعر قد قال للأمام الحسين من قبل عن موقف العراقيين منه : قلوبهم معك وسيوفهم عليك . فهم اليوم على الامير الحسن قلوبا وسيوفا !