لربح الوقت الانتخابي ولتفادي كارثة سياسية تحل بحلفائها في مجلس الحكم في حال إجراء انتخابات عامة في العراق لجأت الإدارة الأمريكية إلى إطلاق آخر أرانبها من القبعة السحرية ألا وهو موفد الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي !
لقد قيل بدايةً بأن الموفد الأممي ذاهب - هو وخبراؤه - لدراسة الأمور على الأرض ليقرر - من ثم - إمكانية أو عدم إمكانية إجراء انتخابات عامة فإذا به يأخذ على عاتقه تسويق المفهوم الأمريكي الرافض للانتخابات والداعي إلى تسليم السيادة الشكلية إلى حلفائه في هيئة تعين أعضاءها سلطات الاحتلال نهاية حزيران القادم .صحيح أن الإبراهيمي لم يدع علنا وصراحة إلى تشكيل حكومة عميلة أو تسليم السيادة الشكلية لمجلس الحكم ولكنه من ناحية أخرى لم يعلن إن كانت الانتخابات العامة ممكنة في العراق بل حاول القيام بقفزة سياسية في الهواء لا تؤدي إلى الانتخابات بل إلى الخيار الآخر ، و جل ما فعله على الأرض هو أنه سوَّق مفهوما عاما مؤيدا للانتخابات كطريقة لتجسيد الديموقراطية وعلى طريقة اذكروا محاسن موتاكم والميت هنا هو " الديموقراطية " ثم خرج من النجف بعد أن انتزع موافقة ضمنية على التسويف الأمريكي التي أطلق عليها اسم ( الإعداد الجيد للانتخابات ) و مهد الأرض لزيارة جلال الطالباني للمرجعية بعد يومين ليعلن هذا الأخير من هناك إن سلطات الاحتلال ستسلم السيادة لمجلس الحكم ما غيره!
وقد استقبلت عدة أطراف عراقية الأخضر الإبراهيمي بمواقف مختلفة فقد صعدت الأحزاب والشخصيات الإسلامية الشيعية من مطالبتها بإجراء الانتخابات فيما عارضت مراجع وشخصيات إسلامية سنية ذلك وتحفظت عليه بل وبادرت إلى التنسيق بهدف التحالف مع بعض الأطراف الكردية المتحالفة بدورها مع الاحتلال ، وقد استمعنا إلى من يخطب من منبر الجمعة ويعلن أن السُنة العراقيين من عرب وكرد وتركمان هم الأغلبية في العراق في رد فعل طائفي على ممارسات الطرف الطائفي المقابل أي الشيعي . ويتساءل المرء عن سبب عصبية الطائفيين السنة ورعبهم من الانتخابات إن كانوا يشكلون فعلا الأغلبية إلى درجة أن بعضهم صرح ولمح إلى أصل المرجع الديني السيستاني الإيراني ( خطبة الشيخ عماش مثلا ) ولعل من أطرف ما قيل بهذا الصدد هو كلام أحد الزملاء الصحافيين عن أغلبية جغرافية للسنة العرب العراقيين فبعد أن جميع مساحة عدد من المحافظات العراقية انتهى الزميل الكاتب إلى الإعلان عما معناه أن السنة يشكلون ثلثي مساحة العراق ! والحقيقة فإن الحركة الإسلامية السُنية الأعرق والأهم أي الفرع العراقي لحركة لإخوان المسلمين داخلة في مجلس الحكم الذي شكله الاحتلال و هم يرأسون حاليا الدورة الشهرية له في شخص محسن عبد الحميد أما الهيئات والجمعيات الإسلامية السنية التي شكلت مؤخرا فتأتي في الغالب كرد فعل طائفي لصعود الإسلاميين الشيعة الذين أسكرتهم روائح الهيمنة الطائفية البديلة السهلة وكأن العراقيين في الجنوب والوسط هم مجرد ألعوبة أو خاتم في إصبعهم وكأن إخوانهم العراقيين السنة لا هَمَّ لهم إلا الاحتكار الطائفي باسمهم لرئاسة الدولة التي لم ترحمهم أبدا ثم إن الواقع الذي يعرفه الجميع يقول إن الطائفيين السنة وزملائهم من الطائفيين الشيعة لا يمثلون إلا نسبة ضئيلة جدا من عموم جمهور الطائفتين المتآخيتين ويمكن لهذه النسبة أن تنتعش كما تنتعش المكروبات المعدية في الجسد الحي بفعل ظروف اجتماعية وسياسية مرضية طارئة لعل من أخطرها ممارسات الاحتلال الأمريكي والقوى السلفية المتسللة من السعودية وإيران .
أما الحركة الإسلامية " السنية " الجديدة والهيئات واللجان والمنظمات السياسية السنية التي شكلت بعد سقوط بغداد فعلى الرغم من توجهاتها الوطنية المعادية للاحتلال ولكنها تفتقر إلى وزن سياسي يعتد به فالمعروف أن الحركة القومية العروبية الناصرية والبعثية على اختلاف تلويناتها التنظيمية هي التي تهيمن سياسيا على جمهور العراقيين من العرب السنة خصوصا هيمنةً قديمة وشاملة وتشارك بفعالية في أعمال مقاومة الاحتلال . والواقع فإن التيار القومي العروبي أبعد ما يكون عن الأوهام الطائفية وأقرب إلى المفهوم العلماني المستنير والمحايد طائفيا مع أن الأمر لا يخلو من استثناءات قليلة تتمثل بأولئك " القوميين " المختلفين مع الاحتلال ليس لسبب وطني ومبدئي بل لأنه استبعدهم من عطاياه ومناصبه وقرَّب غيرهم فراحوا يشنعون على " ممثلي السنة " في مجلس "بريمر " مؤكدين بهذا إنهم لا يختلفون عن أولئك " المتمجلسين " سوى في الدرجة وليس في النوع .
إن من أسباب تطويق وخنق مشروع الانتخابات العامة على يد الأمم المتحدة ولصالح الإدارة الأمريكية هو أن هذا المشروع ظل دون سقف سياسي استقلالي يقرنه بجدولة زمنية محددة لانسحاب المحتلين ويرفض رفضا تاما وجود القواعد العسكرية على أرض الرافدين . وقد أشرنا إلى ذلك في أكثر من مناسبة وقلنا إن بقاء شعار الانتخابات دون سقف سياسي يشترط انسحاب المحتل سيسهل خنقه وتصفيته إضافة إلى انه سيثير مخاوف طائفية لدى الجهات الطامحة لاستمرار احتكار رئاسة الدولة والمراكز الأبرز فيها للون طائفي معين منذ قيام الدولة العراقية المعاصرة في العشرينات .أما أطراف الحركة الوطنية العراقية الأخرى الرافضة لاحتلال فقد اتسمت مواقفها بخصوص هذا الشعار " الانتخابات العامة " بالغموض والحيرة والتردد .أما في الجانب الآخر - جانب أصدقاء الاحتلال - فقد برز موقف أحمد الجلبي الذي انتقل بلمح البصر من موقف الدفاع عن بناء القواعد العسكرية الأمريكية وعقد اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني إلى المطالبة بإلحاح بالانتخابات وهو يعلم علم اليقين أنه لن يفوز بأكثر من صوته الشخصي لو أجريت الانتخابات فعلا ! وتفسير ذلك التبدل الانقلابي هو أن هذا الشخص حاول أن يقفز من السفينة الاحتلالية الغارقة والاستظلال بشعار المرجعية عساه يكسب شيئا ..والشيء الوحيد الذي أنجزه الجلبي بحركته هذه هو أنه ألحق ضررا كبير بالمرجعية ذاتها وبسمعة المطالبين بإقامة دولة ديموقراطية لا طائفية في العراق والأكيد أنه سينتهي نهاية الغراب الذي حاول تقليد مشية الحمامة فلا فهو نجح في تقليدها ولا هو حافظ على مشيته الأصلية كغراب أمريكي أصيل !
وبخصوص المرجعية النجفية والمرجع الأبرز علي السيستاني الذي حاول أحد أبواق التحالف مع نظام صدام قبل فترة أن يجعله من أنصار ذلك النظام فالثابت أن المرجع الأول – السيد علي السيستاني – لم يطرح نفسه كسياسي عراقي قط ، ولم يصرح بطموحات سياسية أو رغبة ذاتية بدور أيا كان وعلى هذا الأساس ينبغي التعامل معه أي على أساس أنه مرجع ديني تقلده ( تقتدي به وتستفتيه ) ملايين المسلمين الشيعية في العالم وليس في العراق فقط ، وهو إضافة إلى هذا وذاك مشهور بزهده وابتعاده عن الدنيا وأعراضها الزائلة ولكنه يكمل مشوار أسلافه وزملائه العلماء الأعلام الذين قادوا حرب التصدي ضد الغزاة البريطانيين سنة 1914 وتزعموا الثورة العراقية الكبرى سنة 1920 ضد أولئك الغزاة وقد ذكَّرَ سماحته قبل فترة قريبة بتلك الثورة العظيمة في خطبة في أبناء وأحفاد ثورة العشرين بلهجة فيها من الوعيد والتهديد للغزاة الجدد الشيء الكثير . وعلى هذا فإن تأييد المرجع الأول ، طالما تساوق وأفاد خطه المرجعي الجهد الوطني المناوئ للاحتلال ، هو واجب وطني ، أما حين يطرح المرجع الأول نفسه كمرجع سياسي وحيد أو كزعيم سياسي ذي طموحات معينة تمالئ الاحتلال - الأمور التي نربأ بالمرجعية أن تقارفها - فإن الموقف الوطني سينقلب 180 درجة عندها ويتحول من القبول والتأييد والاقتداء إلى الرفض التام ولنا في دروس التاريخ القريب ومنها موقف العراقيين من المرجع الراحل كاظم اليزدي عبرة ودروس .
إن مطلب إجراء الانتخابات بدون أن تكون مقترنة بسقف سياسي استقلالي يمهد لإنهاء الاحتلال فعلا سهَّل مهمة الإدارة الأمريكية عبر التسويف والمماطلة في تأخير موعد الإنهاء الفعلي للاحتلال كما أن رفع الشعار الانتخابي بتسرع ودون تنسيق أو سقف دفع بعض الفئات ذات الميول الطائفية السنية المرعوبة من فقدان امتيازاتها القديمة إلى التنسيق مع أصدقاء الاحتلال وخصوصا مع بعض الأحزاب القومية الكردية وعلى أساس طائفي ، كما إنه زاد من كثافة الأوهام الطائفية لدى بعض الأحزاب الإسلامية الشيعية والتي راحت تحلم باستبدال هيمنة طائفية حزبية بأخرى من ذات النوع مع اختلاف المسميات . والواقع فإن الخيار المقابل الذي تأخذ به الإدارة الأمريكية كبديل لخيار الانتخابات ليس إلا تسليم السلطة والسيادة إلى مجلس الحكم بعد توسيعه بإضافة عدد من تجار الطائفية والباحثين عن دور أو إلى هيئة مماثلة لمجلس الحكم سيتفتق عنها ذهن سلطات الاحتلال .
بين هذين الخيارين يكتسب البديل المتمثل بعقد مؤتمر تأسيسي عام ومستقل عن سلطات الاحتلال يكون بمثابة جمعية تأسيسية تشرف على إنهاء الاحتلال وعلى إجراء انتخابات عامة أهمية فائقة وراهنية لا تنكر .
وسوف نناقش التطورات الأخيرة لهذا الموضوع في الجزء الثاني من هذه المقالة غدا فللحديث صلة ..