كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 2423 - 2008 / 10 / 3 - 10:04
المحور:
الادارة و الاقتصاد
لم تكن الأزمة المالية الأمريكية الأخيرة مفاجئة لغالبية الخبراء والعاملين في الشئون الاقتصادية والمالية والسياسية والمتتبعين للسياسات الأمريكية الداخلية والخارجية. لم تكن هذه الأزمة مفاجية لعدة أسباب جوهرية , وهي :
1 . أن الاقتصاد الرأسمالي يشهد باستمرار دورات اقتصادية وأزمات اقتصادية عامة وشاملة على صعيد بلد واحد أو على الصعيد الدولي , وهي جزء من طبيعة هذا النظام الرأسمالي والتجاوزات الفعلية على القوانين الاقتصادية الموضوعية الفاعلة فيه. وكانت الأزمة العامة السابقة قد شملت العالم الرأسمالي كله للفترة 1929-1932.
2 . وأن السياسات الاقتصادية التي مارستها الولايات المتحدة الأمريكية خلال العقدين المنصرمين , وخاصة في عهد حكم جورج بوش الأبن , واعتمدت عملياً وكلياً على نظرية ومبادئ اللبرالية الجديدة الأكثر راديكالية والتي استندت إلى أيديولوجية المحافظين الجدد الأكثر تطرفاً في توحشها لجني أقصى الأرباح والهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية على العالم , والتي كانت , وربما لا تزال , ترى في الولايات المتحدة الأمريكية إمبراطورية القرن الحادي والعشرين الذي كان قد بدأ لتوه هذه المرحلة , كما أشار إلى ذلك أكثر من مرة مستشار الأمن القومي السابق بريجنسكي.
3 . السياسات العسكرية التي مارستها الولايات المتحدة منذ عهد جورج بوش الأب وسلفه رونالد ريگن , ومن ثم جورج بوش الأبن في شن الحروب الاستباقية وفرض سياسة الدولة الأعظم أو القطبية الواحدة على دول العالم وفي الأمم المتحدة. وهذه السياسة تميزت بالتهديد المتواصل بالعقوبات الاقتصادية والمالية والمقاطعات الاقتصادية وشن الحروب الإقليمية , كما حصل في يوغسلافيا السابقة وأفغانستان والعراق , دون بذل الجهود على الصعيد الدولي لحل الخلافات بالطرق التفاوضية والسلمية.
4 . التكلفة المالية الكبيرة لتلك الحروب التي قادت إلى إصدار الولايات المتحدة المزيد من الدولارات الورقية دون غطاء إنتاجي حقيقي قاد إلى مديونية عالية جداً في خزينة الدولة الأمريكية وإلى انخفاض كبير في سعر صرف الدولار الأمريكي وإلى ارتفاعات غير اعتيادية ومقصودة في أسعار النفط الخام على سبيل المثال لا الحصر.
5 . إنعدام الرقابة الحكومية على عمل وآليات عمل البنوك وشركات التأمين وبقية الشركات العملاقة وشركات وبنوك العقار , مما أسهم في بروز ظواهر سلبية شديدة التأثير على حركة وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية للرأسمالية وعلى تحقيق أرباح غير معقولة في فترة الانتعاش الاقتصادي لصالح أصحاب رؤوس الأموال الكبار والشركات العملاقة وعلى حساب الاقتصاد الوطني والفئات الاجتماعية الصغيرة والمتوسطة والفقيرة على نحو خاص , وعلى حساب شعوب الدول النامية والأكثر فقراً وتخلفاً.
6 . الفساد المالي المنتشر على نطاق واسع في الاقتصاد الأمريكي , وخاصة في الأجهزة المصرفية والشركات العملاقة من جهة , وممارسة هذا الفساد على صعيد العلاقات الاقتصادية الدولية من جهة أخرى . وأبرز نموذج لها ما جرى ويدور في العراق من قبل الشركات الأمريكية منذ وجود القوات الأمريكية في العراق وسقوط النظام العراقي.
7 . التوجه صوب تجديد سباق التسلح النووي وإنتاج أجيال جديدة من النظم الهجومية والدفاعية ذات التكلفة المالية العالية على الصعيد العالمي , وخاصة بين الدول الكبر. وهي السياسة التي كانت أحد الأسباب المهمة في تدمير وانهيار الاقتصاد السوفييتي والدولة السوفييتية, وهي التي لعبت دورها الآن مع بقية العوامل في الأزمة المالية الراهنة , والتي يمكن أن تتحول إلى أزمة عامة وشاملة في الاقتصاد الأمريكي وعلى الصعيد العالمي.
8 . التدهور المتفاقم في ممارسة الحياة الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية والتخلي عن الاستفتاءات العامة والاعتماد على الممثلين المنتخبين , والتي نراها أيضاً في واقع الحياة الأوروبية أيضاً , حيث تعيش الديمقراطية فيها في أزمة فعلية.
9. الفجوة الدخلية المتسعة باستمرار بين أغنياء الولايات المتحدة والفقراء والمعوزين والكادحين وصغار المنتجين وتنامي حجم البطالة وتدهور القوة الشرائية بسبب الارتفاع المتواصل في الأسعار ونسب التضخم المرتفعة , مما يزيد من التناقض بين الطبيعة الاجتماعية للعمل والقوى المنتجة والطبيعة الخاصة لملكية وسائل الإنتاج.
10 . الأخطاء الفادحة التي ارتكبها الرئيس الأمريكي الراهن من خلال إدارته البائسة لاستراتيج وتكتيك مكافحة الإرهاب على الصعيد العالمي والمبالغ الطائلة التي صرفت على هذا الطريق دون أن تحقق المردود المطلوب. ويعود هذا بدرجة خاصة إلى انفراد الولايات المتحدة بهذه العملية تقريباً وإلى عجزها عن تعبئة العالم كله خلفها لمواجهة الإرهاب واعتمادها على الجانبين الأمن والعسكري في عملية المكافحة , في حين أن مكافحة الإرهاب عملية معقدة ومتشعبة ومتشابكة , فهي عملية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإعلامية ومن ثم أمنية وعسكرية , وهو ما فشلت في الوصول إليه إدارة بوش حتى الوقت الحاضر. وهي لا تسعى إلى التحري عن الأسباب الكامنة وراء الإرهاب لمكافحته بل تعتمد الظواهر والمظاهر لا غير ولا تغوص في عمق المشكلة لمعالجتها جذرياً.
إن الزلزال المالي وقع في المركز الرئيسي للنظام الرأسمالي العالمي , في الاقتصاد الأمريكي , ولكن موجاته امتدت لتشمل تدريجاً جميع دول العالم , أي بقية المراكز الصناعية والأطراف , دون استثناء , وأن اختلفت في حجم العواقب التي ستنجم عنها وحجم الخسائر المحتملة. وسيكون كبار الرأسماليين المصرفيين والعقاريين والمضاربين بالسواق المالية الرابح الرئيس من هذه الأزمة المالية , في حين سيكون الخاسر الكبير منها هي الفئات الكادحة والفقيرة والصغيرة في سائر أرجاء العالم
لقد كانت لهذه الأزمة مقدمات كثيرة بدأت منذ سنوات وتراكمت عواملها ابتداءً مع بدء تراجع شديد وسريع في سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل اليورو الأوروبي والجنيه الإسترليني والين الياباني ... الخ , والارتفاع الجامح في أسعار النفط الخام عالمياً وتجليات ذلك في ارتفاعات غير مسبوقة لأسعار المنتجات النفطية وأسعار بقية السلع والخدمات , ثم انفجارها الفعلي في أزمة البنوك العقارية وسياسة المضاربات المالية المجنونة الراكضة وراء تحقيق أقصى الأرباح وبأقصر وقت ممكن في أسواق المال الأمريكية وعلى الصعيد العالمي. لقد حققت الاحتكارات الرأسمالية الكبرى والمتعددة الجنسية وكبار المضاربين أرباحاً طائلة وخيالية خلال الأعوام المنصرمة , ولكنها تسببت في إنضاج عوامل الأزمة المالية والتي تهدد اليوم بتحولها إلى أزمة اقتصادية عامة وشاملة للاقتصاد الأمريكي , ثم انتقالها إلى الاقتصاد الدولي في ظل واقع العولمة الجارية والتشابك الشديد بين اقتصاديات الدول المختلفة. وهذه الأزمة تمس بالدرجة الأولى الفئات الكادحة في الولايات المتحدة الأمريكية والفئات الفقيرة والمتوسطة في مجتمعات الدول الأخرى.
إن الأزمة المالية الراهنة ستنعكس سريعاً على مجمل الاقتصاد الأمريكي , على سوق العمل واتساع حجم البطالة وتقلص في قدرة الأسواق الأمريكية على تصريف السلع وتراجع في الإنتاج وانهيارات في مصالح البرجوازية الصغيرة والمتوسطة وإعلان المزيد من حالات الإفلاس وتنامي عدد الذين سيفقدون دور سكنهم وشركاتهم الصغيرة والمتوسطة وعملهم , وسيزداد عدد المشردين والبائسين في قلب النظام الصناعي العالمي. ولكي تتدارك الإدارة الأمريكية هذا الامتداد المتوقع للأزمة قررت اتخاذ جملة من الإجراءات المالية , ولكنها وحيدة الجانب.
إن محاولات تقديم الدعم الحكومي الأمريكي بمقدار 700 مليار دولار أمريكي لإنقاذ النظام المالي من الانهيار وإيقاف الأزمة عن التوسع , سيعالج مظاهر الأزمة الراهنة ومؤقتاً , ولكنه لن ينهي تأثيراتها السلبية على الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد العالمي في آن. والضحية الأكبر ستكون الفئات الكادحة في الولايات المتحدة والدول الأوروبية والدول النامية والفقيرة التي ستعاني الأمرين من جراء هذه الأزمة الطاحنة. والدعم المالي الحكومي الذي لجأت إليه الإدارة الأمريكية , رغم تعثره في مجلس النواب , فإنها ستحصل على موافقته بعد موافقة مجلس الشيوخ , ثم مارسته بعض الدول الأوروبية أيضاً , يؤكد بعض الاستنتاجات المهمة :
** إن هذا الدعم يقدم لإنقاذ ومساعدة كبار المؤسسات المالية (البنوك وشركات التأمين العملاقة) وكبار المستثمرين والمضاربين في الأسواق المالية والعقارية في الولايات المتحدة. وهذا الدعم لا يقدم لإنقاذ أصحاب الأسهم والقروض الصغيرة الذين سيعانون الأمرين , بل إلى تلك المؤسسات التي أعلنت إفلاسها , بعد أن التهمت رؤوس الأموال والأرباح في فترة الانتعاش الاقتصادي.
** ويدلل هذا الدعم على أن الرأي الذي كان يدعي بأن الاقتصاد الذي يعتمد على قطاع الدولة بهذا القدر أو ذاك هو اقتصاد فاشل , وأن الاعتماد الكلي على القطاع الخاص هو الذي يحمل معه سر نجاح أي اقتصاد ليس صائباً بالإطلاق بأي حال. أن خبرات الدول الرأسمالية ذاتها لا تدلل على ذلك وبهذا القطع المجحف. وها نحن نلاحظ كيف تُجبر الأدارة الأمريكية وكذلك بعض الدول الأوروبية على تأميم بعض المصارف وشركات التأمين وغيرها لإنقاذها من الانهيار أو لكي تتحمل الدولة خسائر القطاع الخاص والتي تكون على حساب دافعي الضرائب في تلك الدول. إن الإشكالية في سبل الإدارة والتنظيم ومدى الاعتماد على المعايير الاقتصادية والمحاسبة الاقتصادية والمنافسة , وكذلك على مدى الاحترام والتعامل الواعي مع القوانين الاقتصادية الموضوعية وآليات السوق والرقابة الحكومية. كما أن تجربة البلدان الاشتراكية السابقة دللت هي الأخرى بأن وجود قطاع دولة كبير وواسع لا يعني بأي حال نجاح الاقتصاد الوطني أو إزالة الاستغلال من المجتمع , بل يعتمد على جملة من المعايير والسياسات التي بدونها لا نجاح لهذا القطاع أيضاً. لا يمكن أن يكون اقتصاد الحر ناجحاً دون دور مهم للدولة في الشأن الاقتصادي والرقابة الاقتصادية والرقابة على آليات السوق والحياة الديمقراطية في المؤسسات الاقتصادية والمجتمع وزيادة دور تأثير الحركة النقابية على الحياة الاقتصادية.
** إن هذا المبلغ الكبير جداً (700) مليار دولار أمريكي - وربما سيزداد بعدة مئات من المليارات أيضاً - يقتطع من خزينة الدولة , أي من دافعي الضرائب الأمريكيين لصالح البرجوازية المالية والعقارية الكبيرة. ويزيد من مديونية ميزانية الدولة المدينة أصلاً بمبالغ خيالية. وسيكون كل ذلك ليس على حساب الأجيال الحالية , بل وعلى حساب الأجيال القادمة في الولايات المتحدة.
لا شك في أن هذه الأزمة ستنتهي كما انتهت أزمات سابقة , وخاصة أزمة 1929-1932, وستبقى الرأسمالية قائمة , ولكنها لن تكون نهاية التاريخ , أولاً , كما أنها ستفقد الكثير من ثقة الناس بالرأسمالية ذاتها وبالمؤسسات المالية التي تدعي الصدق وهي تسرق المواطن والمواطنة ليل نهار ثانياً , ولكن الاشتراكية غير ناضجة أيضاً وبعيدة المنال ثالثاً , ولكن ستترك هذه الأزمة خلفها الكثير من الأضرار الفادخة بالاقتصادات الوطنية النامية وستترك خلفها الكثير من البطالة والجوع والحرمان في مقابل تنامي ثروة حفنة قليلة من كبار رأسماليي العالم الصناعي المتقدم.
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟