دياري صالح مجيد
الحوار المتمدن-العدد: 2425 - 2008 / 10 / 5 - 09:35
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
قامت جورجيا في زمن الاتحاد السوفيتي السابق ببناء نفسها كدولة متكاملة البنيان من وجهة النظر الجغرافية-السياسية وذلك رغم كونها جزء من ذلك الاتحاد الذي ضم العديد من الدول شأنها في ذلك شأن بقية دول جنوبي القوقاز الأخرى.
ولأجل تعزيز هذا البناء قام القادة الجورجيين باستخدام كل السبل الممكنة من أجل المحافظة على أقاليم بلادهم والحيلولة دون تفككها والحاقها بأقاليم أخرى تابعة للاتحاد السوفيتي، لذا عمل هؤلاء القادة على اضطهاد القوميات التي تعيش في أقاليم خاصة ذات نزعة انفصالية كما هو الحال مع أبخازيا، اوسيتيا الجنوبية وأدجاريا، بهدف ضمان وحدة الأراضي الجورجية ولعل ذلك الاتجاه تعززت بوادره بشكل واضح في عهد ستالين الذي مارس سياسة التهجير بحق الأبخاز ليحل محلهم أبناء القومية الجورجية خاصة وان أولئك كانوا في ذلك الحين من المناهضين لسياسات ستالين ذي الأصول الجورجية.
إلا ان المشاكل العديدة التي واجهها الاتحاد السوفيتي وبالتالي الدول المنضوية تحت لواءه كما هو حال جورجيا قد أدى بعد فترة من الزمن إلى إعادة ظهور هذه المشكلات خاصة بعد أن ضعفت قدرة تبليسي في السيطرة على تلك الأقاليم التي ساهمت طبيعتها الجغرافية بشكل واضح في إمكانية ظهور حركات التمرد وفي إمكانية التخلص ولو بشكل نسبي من سطوة تبليسي عليها في ضوء انهاكها بمشاكل اقتصادية وأزمات اجتماعية مختلفة.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1990 حصلت معظم دول جنوبي القوقاز (جورجيا، أذربيجان وأرمينيا) على استقلالها، مما حدا بها إلى التوجه نحو إعادة ترتيب بنائها الداخلي خاصة في ضوء تصاعد حدة الرغبة الأمريكية بشكل خاص في دعم استقلال هذه الدول والترويج لمبادئ الديمقراطية واقتصاد السوق فيها كواحدة من أوائل الخطوات الاستراتيجية لعصر مابعد الزلزال السوفيتي.
اتجهت جورجيا نحو إقامة دولة فيدرالية وتمت مناقشة ذلك في خضم النقاشات التي كانت تدور بين القادة الجورجيين لإعداد دستور للبلاد، إلا أن الخطوات الفعلية نحو تعزيز هذا التوجه لم يتم اتخاذها في حينه. وقد جاء ذلك تلبية لمطالب ورغبات القوميين المتطرفين من ذوي الأصول الجورجية الذين يرغبون في بقاء البلاد موحدة تحت قيادة مركزية قوية من دون إعطاء أي نوع من انواع الحقوق السياسية لأبناء الأقاليم الأخرى وبالذات منها في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.
إزاء تلك التوجهات المتعنتة من قبل المتطرفين الجورجيين برزت إلى الوجود مرة أخرى مطالب الأبخاز بالانفصال عن جورجيا وهو ماقاد إلى حرب مدمرة بين الطرفين خلال 1992-1993 والتي تكبد فيها كلا الطرفين خسائر فادحة رغم ان نهاية تلك الحرب سجلت مكاسب استراتيجية مهمة للأبخاز على حساب الجورجيين.
في ذلك الحين أشار العديد من المهتمين بأن الطريقة التي سيتم بها تسوية الصراع في أبخازيا مع الحكومة الجورجية من الممكن ان يطبق كنموذج لحل الصراع المماثل له في أوسيتيا الجنوبية، حيث يقول في هذا الصدد أحد القادة من أوسيتيا الجنوبية "ان تسوية الصراع مابين جورجيا وأوسيتيا من الصعب له ان يتحقق أو يجد له مكاناً على أرض الواقع مستقبلاً من دون أن يتم التوصل إلى اتفاق بشأن الصراع الجورجي _ الأبخازي، فأوسيتيا الجنوبية لايمكن لها أن توافق على صيغة حكم أقل من تلك التي ستحصل عليها أبخازيا".
يبدو من خلال هذا التصريح وعشرات أخر مشابهة له ان الطريق منذ ذلك الحين كان معبداً لمطالب القوميات الأخرى سواء أكان بدعم خارجي أم من عدمه، نحو إعادة تاريخ جورجيا كدولة مفككة إثنياً وهو التاريخ الذي عاشت مرارته طوال فترة القرن 13-18 وتمكنت من التغلب عليه بعد أن انضمت إلى الإمبراطورية الروسية في نهاية القرن 19.
لقد أكد الأبخاز، سواء أكان ذلك خلال الحرب أو قبلها أو حتى فترة مابعد الحرب، رغبتهم الواضحة والملحة بالانضمام إلى روسيا وهو ماتم تأكيده في مارس/آذار 1993 من خلال البرلمان الأبخازي الذي قال "ان عودة جمهورية أبخازيا سواء إلى روسيا أو تحت حمايتها وفقاً لصيغة قانونية مناسبة، سوف يعمل على تعزيز أمن وسلامة أبخازيا، وإن بقاء أبخازيا ومساهمتها في التوسع الثقافي والاقتصادي الروسي امر لا غنى عنه لاستمرار وجودها". وهو مادعا البرلمان الجورجي في تبليسي إلى الرد بعنف إزاء هذا التوجه مؤكدين رفضهم المطلق له. رافقه من الجانب الآخر استمرار مشاعر العداء الأبخازية لحكومة جورجيا حتى تطور الأمر في عام 1999 إلى تنظيم استفتاء شعبي في أبخازيا أكدت فيه الأغلبية الأبخازية على ضرورة قيام دولة ديمقراطية مستقلة، وهي الصيغة التي لم تحظى بعد بترحيب أو مباركة المجتمع الدولي عليها (حتى يومنا هذا) أمام بقاء أبخازيا إقليم يتمتع بالحكم الذاتي ضمن أراضي جمهورية جورجيا وهي الصيغة الأكثر اعترافاً من الأولى في العالم.
من جانبهم أيضاً في هذه المرة أكد الجورجيون خاصةً بعد أن قويت دولتهم وبناؤهم العسكري والسياسي وحصلوا على أصدقاء وحلفاء جدد في المجتمع الدولي، انهم يرغبون بعودة جميع المواطنين الجورجيين الذين تم طردهم من ابخازيا على يد الأبخاز خلال الحرب. وهو ماعدّ في نظر البعض بداية لتوفير الأرضية القانونية لشن حملة عسكرية ضد الأبخاز خاصةً في ضوء رفضهم لهذا الاقتراح وفي ضوء عدم موافقة الجورجيين على مطالب الانفصال تلك.
يبدو ان موقف الأبخاز قد تعزز بشكل كبير بعد مجيء حكومة الرئيس بوتين إلى السلطة في روسيا فقد بدأ الأخير يعيد النظر في علاقات بلاده الاستراتيجية مع جورجيا التي بدأت تميل أكثر وأكثر نحو الغرب (العدو التقليدي لروسيا السوفيتية)، لذا تم في عام 2000م دعوة رئيس أبخازيا لأول مرة إلى موسكو للمشاركة في مناقشات تتعلق بتعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية مع روسيا وتم التأكيد فيها من قبل الوفد الأبخازي على الآتي "ان القادة الأبخاز يعتبرون التواجد العسكري الروسي في جنوب القوقاز، عنصراً مهماً لاستقرار الأوضاع هناك وبأن تلك القيادات تعارض أي انسحاب للقواعد العسكرية الروسية".
لقد أكد الجورجيون من قبلهم أن وجود القوات العسكرية كقوات حفظ السلام في الأقاليم المتنازع عليها أو من خلال القواعد العسكرية، قد أسهم بشكل فاعل في دعم الجهود الانفصالية لدى سكان تلك الأقاليم. وهو مايعني بالضرورة أن روسيا تقيم علاقات وثيقة مع الأقليات التي تشعر باضطهاد السلطة الجورجية لها من أجل زعزعة أمن واستقرار جورجيا، في محاولة لضرب المصالح الغربية من جهة والعمل على تشظية جورجيا من جهة أخرى للحيلولة دون خروجها من فلك السياسة الروسية لصالح غرماء تقليديين مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
في ضوء ماتقدم نتساءل هل ستقدم القيادة الجورجية على مهاجمة أبخازيا وإشعال نار حرب جديدة في القوقاز كما فعلت مع أوسيتيا الجنوبية ؟ خاصة في ضوء القرارات الأخيرة التي اتخذها الكرملين بإعلان دعمه لاستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في تحدٍ واضح لجورجيا وحلفائها الجدد ممثلة بكل من الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو.
#دياري_صالح_مجيد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟